الخصائص والمبادئ الأساسية للقانون الإداري

الخصائص والمبادئ الأساسية للقانون الإداري

الخصائص والمبادئ الأساسية للقانون الإداري
القانون الإداري عبارة عن قانون أصيل ومستقل بذاته (le droit administratif est un droit original et autonome)، كما أن القواعد القانونية المشكّلة له متميزة عن تلك الموجودة في القانون المدني.
على أن هذه الأصالة والذاتية والتميز التي يتمتع بها القانون الإداري، والتي تبرز مدى الفرق بينه وبين أحكام القانون المدني، لا تظهر إلاّ من خلال التطرق لخصائص القانون الإداري (المطلب الأول)، ثم من خلال دراسة المبادئ الأساسية التي يقوم عليها هذا الفرع من فروع القانون العام (المطلب الثاني). 

المطلب الأول: خصائص القانون الإداري

يتمتع القانون الإداري بجملة من الخصائص تجعله متميزا عن باقي القوانين، خاصة القانون المدني، فهو عبارة عن قانون حديث النشأة نسبيا مقارنة مع الشريعة العامة (الفرع الأول)، كما أنه قانون غير مقنن (الفرع الثاني)، بالإضافة إلى أنه قانون ذو نشأة قضائية أساسا (الفرع الثالث).

الفرع الأول: الحداثة النسبية لنشأة القانون الإداري

تجدر الإشارة بداية إلى أن جذور القانون المدني ضاربة في القدم، ذلك أن أغلب مفاهيمه الأساسية مستمدة من القانون الروماني، وعلى هذا فإن تطور القانون المدني واستقراره على الشكل المتعارف عليه حاليا، كان وليدا لممارسة قديمة جدا وهو الأمر الذي يفسر المنطق الصارم الذي يتميز به القانون المدني، الناتج من وضوح مفاهيمه ومبادئه الأساسية، وكذا من تعريفاته الدقيقة.
أما القانون الإداري فقد ظهرت ملامحه، وبدأ اكتمال شكله بطريقة بطيئة في القرن التاسع عشر ميلادي، (XIXème siècle) خاصة مع بداية الربع الأخير منه، لذلك فإن كثيرا من مبادئه الأساسية بقيت غير مؤكدة (incertaine). وبالإضافة إلى ذلك فإن نشأة القانون الإداري قد اقترنت بتطور سريع للحضارة الشيء الذي ترتب عليه إعادة النظر في بعض مبادئه بدلا من استكمالها.
ومن هنا يمكن القول بأن القانون الإداري في مفهومه الفني الضيق، هو قانون حديث النشأة نسبيا كنظرية قانونية لها أصولها، وأسسها، ونطاقها. فالقانون الإداري لم ينشأ كقانون مستقل ذو أسس ومبادئ، إلا في منتصف القرن التاسع عشر (XIXème) واكتمل نسق بنائه في القرن العشرين (XXème). فالقانون الإداري لم ينشأ كنظرية، بمفهومه الفني الضيق، إلا بنشأة القضاء الإداري.

الفرع الثاني: عدم وجود تقنين للقانون الإداري

بصفة عامة وانطلاقا من نظرة تقليدية لصياغة القوانين، يمكن القول بأن عملية التقنين في أغلب المواد القانونية، تفرض على واضعيها أن تكون لهم نظرة شاملة عن ذلك القانون، وذلك قصد تنظيمه في مواد دقيقة ومنسجمة. ولكن بالرجوع إلى المادة الإدارية، يلاحظ بأن المشرع الفرنسي، عادة ما كان يقتصر على تنظيم المسائل المستعجلة. لذلك ظهرت قوانين متعاقبة وجزئية، مرتبطة عادة بظروف وضرورات معينة، أنشأت هيئات إدارية، وبينت بعض إجراءاتها. إن تلك القوانين نادرا ما قامت بوضع مبادئ عامة، أو قدمت تعاريف دقيقة.
لهذا وبالرغم من دور النصوص التنظيمية التي تتدخل عادة لتوضيح النصوص التشريعية الغامضة، ظهرت العديد من المشاكل الأساسية في أغلبها والتي لم تجد حلا في النصوص المكتوبة.  وٕان كان هناك مجهود مبذول في فرنسا ابتداء من سنة 1948 من أجل تقنين القانون الإداري، إلا أنه اقتصر على تنظيم المواد والنصوص سارية المفعول، دون تعديلها. وهذا العمل لم يؤد إلى إنشاء تقنين إداري
هذا وتجدر الإشارة إلى أن عدم تقنين القانون الإداري لا يرجع إلى حداثة المادة وحدها فحسب، بل إلى طبيعة التشريعات الإدارية بحد ذاتها، إذ لو تمت المقارنة بين قواعد القانون المدني وقواعد القانون الإداري، لتبيّن بأن قواعد القانون المدني تتميز بالثبات، وهذا خلاف قواعد القانون الإداري التي لا تتصف بالثبات بل هي سريعة التطور. ولكن على الرغم من أن القانون الإداري يتميز بخاصية عدم تقنينه في مجموعة واحدة، إلا أن هذا لا يحول دون وجود بعض التقنينات الجُزئية المتعلقة ببعض مواد القانون الإداري، كقانون البلدية، وقانون الولاية، وقانون الانتخابات.

الفرع الثالث: القانون الإداري ذو نشأة قضائية أساسا

إن النشأة الأولى لمعظم نظريات القانون الإداري، ومبادئه، وأسسه، كانت نشأة قضائية، أي لم تكن من صنع أو وضع المشرع، وهنا تكمن أصالة،  وذاتية القانون الإداري. فعندما كانت تعرض المنازعات على القاضي الإداري الفرنسي، لم يكن يلجأ إلى استنباط الحل من قواعد القانون المدني، بل كان يجتهد، أي يأتي بالحلول من عنده. ومجموع هذه الاجتهادات كونت نظرية القانون الإداري. ولكن بعد ذلك، تدخل المشرع وتبنى النظريات القضائية، أي ضمنها في نصوص تشريعية. إلا أن ما قام به المشرع هنا، لا ينزع عن تلك القواعد صفتها القضائية، لأن نشأتها كانت بالأساس نشأة قضائية.
إن هذه الخاصية هي الخاصية الأساسية للقانون الإداري، حتى ولو أنها أصبحت تعرف تراجعا في الوقت الحالي، وذلك بالنظر لكثرة القواعد المكتوبة. فنظرا للالتزام الملقى على عاتق القاضي الإداري، والمتمثل في الفصل في المنازعات المعروضة عليه والتي لم تعالجها النصوص القانونية، فإنه وجد نفسه مضطرا إلى إنشاء القاعدة التي يطبقها على النزاع المعروض عليه. ولقد ترتب على هذه الخاصية الأساسية التي يتمتع بها القانون الإداري نتائج جد هامة تمثلت فيما يلي:
1) من الناحية الشكلية: إن العديد من قواعد القانون الإداري مرتبطة بالقرارات المبدئية (les Arrêts de principes) الصادرة عن مجلس الدولة الفرنسي، وبالتالي فإن معرفة القرارات الكبرى (Les grands Arrêts) تلعب دوار هاما في دراسة القانون الإداري، شأنها في ذلك شأن النصوص الأساسية للقانون المدني التي يتعين على دارس هذا القانون أن  يلّم بها.
2) من الناحية الموضوعية: باعتبار أن القانون الإداري من إنشاء القاضي الإداري، فإن هذا الأخير ينظر إلى المشاكل من وجهة نظره فقط. فمثلا إذا كان القانون المدني يدرس مشكلة بطلان الأعمال القانونية في حد ذاتها، فإن القانون الإداري عالج هذه المشكلة لمدة طويلة بالنظر إلى المنازعات المعروضة عليه، أي ما هي الحالات التي تسمح له بإلغاء الأعمال الإدارية المعروضة عليه؟ وبالمثل فإن كثيرا من النظريات الأساسية للقانون الإداري، لم يكن هدفها سوى معالجة اختصاص القاضي الإداري. فمثلا بمناسبة تحديد ما هي الحالات التي تجعل من القاضي الإداري مختصا بالنظر في نزاع يتعلق بعقد، بدلا من القاضي العادي، تم وضع تعريف للعقد الإداري. إن هذه الهيمنة من وجهة نظر المنازعات، هي خاصية يتميز بها القانون الإداري الفرنسي.
وأخيرا إن الروح العامة لقواعد القانون الإداري تظهر ما مدى أصالة تلك القواعد. فالقاضي الذي وضعها من أجل الفصل في النزاع المعروض عليه، كان يفكّر وهو ينشئها في عدم تضييق معناها، حتى يتمكن من استعمالها في المستقبل بالنظر إلى الظروف الخاصة بكل نزاع. لهذا فإن قواعد القانون الإداري تتميز بخاصية المرونة وعدم التأكد. إن هذه الخاصية تتسع وتكثر نظرا لأن مجلس الدولة الفرنسي جرى عادة على تسبيب قراراته بأسلوب لا يفهمه العامة، لذلك ومن أجل فهمها لابد من الإحاطة بمصطلحات القانون الإداري، وهذا ما يؤدي إلى بناء فكري قانوني متميز.

المطلب الثاني: المبادئ الأساسية للقانون الإداري

نتج عن الخصائص المشار إليها سابقا، وجود تخوف من إمكانية تحول القانون الإداري إلى مجرد قانون ذو قواعد تفصيلية مرنة، ولكن قليلة الفعالية.
لذلك اتجهت الجهود إلى محاولة وضع مبادئ أساسية تمكن من تنظيم هذا القانون، بحيث تكون له فعالية، شأنه في ذلك شأن القانون الخاص. فذهبت الجهود إلى ضرورة إنشاء محاكم إدارية بجانب المحاكم العادية. إلا أن اختصاصات المحاكم الإدارية هذه لم تحدد، الشيء الذي يؤدي حتما إلى تداخل الاختصاص بين القضاء العادي والقضاء الإداري.
انطلاقا من هنا، تباينت رؤى الفقهاء واختلفت جهودهم في محاولة وضع وٕإيجاد معيار محدد يمكن بواسطته معرفة المسائل التي تدخل في اختصاص القاضي العادي، والمسائل التي تدخل في اختصاص القاضي الإداري (الفرع الثاني)، على أنه وقبل التطرق لمختلف المعايير وجب توضيح الغاية أو الهدف من تحديد أساس للقانون الإداري (الفرع أول).

الفرع الأول: الغرض من تحديد أساس للقانون الإداري

إن الغرض الأساسي من وراء إيجاد معيار محدد لمعرفة نطاق تطبيق القانون الإداري وحدوده يتمثل في مسألتين هامتين هما: تحديد الجهة القضائية المختصة (أولا)، ومن ثم تحديد القانون الواجب التطبيق (ثانيا).

أولا: تحديد الجهة القضائية صاحبة الاختصاص

إن الهدف الأول من محاولة وضع أساس للقانون الإداري هو معرفة الجهة القضائية المختصة للفصل في المنازعات التي تكون الإدارة العامة طرفا فيها، أو بمعنى آخر يجب الإجابة على التساؤل التالي: متى تنعقد ولاية الاختصاص للقاضي الإداري؟ ومتى تنعقد للقاضي العادي؟
إن هذا التساؤل فرض نفسه بحدة، خاصة في فرنسا التي كانت السباقة لتبني وتجسيد فكرة وضع قضاء مزدوج، ومن ثم انتقل إلى الدول الأخرى التي سايرتها في نهجها الذي اتبعته، ومن بينها الجزائر.

ثانيا: تحديد القانون الواجب التطبيق

بالإضافة إلى تحديد الجهة القضائية المختصة للفصل في المنازعات التي تكون الإدارة العامة طرفا فيها، تظهر أهمية إيجاد أساس للقانون الإداري في معرفة القانون الواجب التطبيق، أو بمعنى آخر متى نطبق قواعد القانون الإداري؟ ومتى نطبق قواعد القانون الخاص؟
إن هذا التساؤل يفرض نفسه هو الآخر، ذلك أن الإدارة العامة وكما سبقت الإشارة إليه قد تظهر في بعض الحالات بمظهر الأفراد العاديين حين تجردها من امتيازات السلطة العامة.

الفرع الثاني: أهم المعايير المحددة لأساس القانون الإداري

تجدر الإشارة، بأن بروز القانون الإداري في الساحة القانونية، صاحبه جدل كبير حول تحديد الأساس الذي ينبغي أن يبنى عليه، خاصة أن هذا الفرع الجديد من فروع القانون العام، يتضمن قواعد قانونية متميزة عن تلك الموجودة في القانون الخاص.
وعلى ذلك، ظهر معيار السلطة العامة (أولا)، ثم معيار المرفق العام (ثانيا)، إلا أن كلا المعيارين لم يسلما من الانتقادات الفقهية، الشيء الذي ترتب عليه ضرورة البحث عن معايير بديلة (ثالثا).

أولا: معيار السلطة العامة كأساس للقانون الإداري

ظهر هذا المعيار في أواسط القرن التاسع عشر XIXème، حيث حظي باهتمام فقهاء القانون الإداري لذلك العصر، الذين حاولوا التأسيس للقانون الإداري انطلاقا من فكرة السلطة العامة.
ويعتمد هذا المعيار في مجال تحديد نطاق القانون الإداري على ضرورة التركيز على صفة الجهة التي صدر عنها العمل. وتطبيقا لذلك فإن نشاطات الدولة – بصفة عامة - والسلطات العامة، هي التي يطبق عليها القانون الإداري. أما نشاطات الخواص، فيطبق عليها القانون الخاص. وبالتالي إذا كانت الدولة أو السلطة العامة طرفا في النزاع فإن القاضي الإداري هو الذي يكون مختصا بالفصل فيه، وبالتالي يطبق عليه قواعد القانون الإداري. أما إذا كان النزاع بين أشخاص القانون الخاص، فإن القاضي العادي هو الذي يكون مختصا بالفصل فيه.
ورغم بساطة هذا المعيار ووضوحه إلا أنه يشوبه الغموض، وعدم الدقة، ذلك أن هناك العديد من الأعمال التي تقوم بها والدولة ليس بوصفها سلطة عامة، بل بوصفها فردا عاديا، مما يؤدي إلى عدم إمكانية تطبيق قواعد القانون الإداري عليها وبالتالي عدم اختصاص القاضي الإداري بها.
ونتيجة لهذا الانتقاد قام أصحاب المعيار بتعديله، إذ اعتبروا أن القانون الإداري لا يطبق إلا على أعمال الإدارة التي تظهر فيها كسلطة عامة (أعمال السلطة العامة Les actes de puissance publique)، أما أعمال الإدارة العادية (أعمال التسييرLes actes de gestion) فإنها تخضع للقانون الخاص.
ولكن على الرغم من هذا التعديل إلا أن هذا المعيار يبقى ناقصا، ذلك أن كل من أعمال السلطة العامة وأعمال التسيير والإدارة يصدران عن هيئة واحدة، ومن ثم فإن مسألة وضع حد فاصل بينهما، مسألة صعبة للغاية.

ثانيا: معيار المرفق العام كأساس للقانون الإداري

مع بداية القرن العشرين XXème، اهتم جانب من الفقه بمعيار آخر مفاده أن أساس القانون الإداري هو فكرة المرفق العام. ويرجع هذا الاهتمام لصدور بعض القرارات القضائية عن القضاء الإداري الفرنسي - خاصة القرار الصادر عن محكمة التنازع في قضية (Blanco) – التي تؤكد ذلك.
فمن خلال قرار "بلانكو" ذهب بعض الفقه أمثال Jèze و Duguit إلى القول بأن الفرق بين النشاط الخاص والنشاط العام، يكمن في أن هذا الأخير يعتمد أساسا على إشباع الحاجات العامة، وهو الشيء الذي تقوم به المرافق العامة. وعلى هذا الأساس يمكن تعريف القانون الإداري بأنه قانون المرافق العامة. فحسب هذا التصور فإن فكرة المرفق العام هي التي تبين حدود القانون الإداري، وبالتالي اختصاص القاضي الإداري. فكل المسائل المتعلقة بالقانون الإداري لا يمكن فهمها إلا إذا تم ربطها بفكرة المرفق العام.
ولكن ابتداء من سنة 1950، بدأ بعض الفقهاء يشككون في معيار المرفق العام، ذلك أن الميزة التي يتميز بها المرفق العام ليست إلا ميزة ظاهرة لا تتحقق دائما في الواقع. وهنا ظهرت أزمة المرفق العام نتيجة لبعض الحقائق المتمثلة فيما يلي:
1- إن الإدارة لا تهتم فقط بتسيير المرافق العامة، إذ أنها تقوم إلى جانب ذلك بتنظيم النشاط الفردي في إطار البوليس الإداري، والذي يعتبر جزء هاما من نشاط الإدارة. هذا النشاط لا يعد تسييرا لمرفق عام، لذلك فإن موضوع القانون الإداري أوسع من فكرة المرفق العام.
وعلى خلاف ذلك، فإن تسيير المرافق العامة لا يتطلب دائما استعمال وسائل القانون الإداري، ذلك أن الإدارة بإمكانها أن تلجأ إلى وسائل القانون الخاص، خاصة في مجال العقود.
إن هاتين الملاحظتين تؤديان في الحقيقة إلى القضاء على معادلة المرفق العام التي مفادها أن القانون الإداري دائما يساوي اختصاص القاضي الإداري.
2- ابتداء من الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وخاصة بعد التغيير الاقتصادي والاجتماعي،  وبروز فكرة الدولة المتدخلة، ظهرت انعكاسات على فكرة تحديد النشاطات العامة والخاصة، والتي كانت فكرة المرفق العام الأساس في التمييز بينها. فإذا كان هدف النشاط العام -  والذي يختلف عن هدف النشاط الخاص – هو تحقيق المصلحة العامة، فإن تدخل الدولة في النشاطات التي كانت حكرا على الخواص عن طريق المرافق العامة الصناعية والتجارية، أدى إلى استخدام أساليب مختلطة (أساليب الإدارة العامة وأساليب الإدارة الخاصة) في إدارة وتسيير تلك المرافق، وهذا ما جعل فكرة المرفق العام عاجزة عن منع تسرب موضوعات القانون الخاص إلى نطاق القانون الإداري، ومجال اختصاص القاضي الإداري
من خلال ما سبق يتضح بأن المرفق العام لا يستدعي دائما قواعد القانون الإداري، فقد يستعمل في إدارته وسائل التسيير الخاصة، أي القانون المدني والتجاري، وقد يستعمل قواعد القانون الإداري. ومن هنا يستحيل الاعتماد على معيار المرفق العام لوحده لتبيان مجال تطبيق القانون الإداري.

ثالثا: الحلول المقترحة للبحث عن أساس القانون الإداري

نظرا لقصور المعيارين السابقين في بعض الجوانب، تمت محاولة وضع معايير أخرى كبدائل أو حلول، تصلح لكي تكون أساسا للقانون الإداري. على أن أهم هذه المحاولات تمثلت باختصار شديد فيما يلي:

I) معيار المصلحة العامة

على أعقاب انهيار فكرة المرفق العام وظهور الأزمة المشار إليها سابقا، حاول جانب آخر من الفقه الاعتماد على معيار آخر مفاده أن أساس القانون الإداري هو المصلحة العامة أو المنفعة العامة، وبذلك فإن سبب وجود قواعد القانون الإداري الاستثنائية - حسب هذا الاتجاه من الفقه – يدور حول فكرة المصلحة العامة التي تبرر وجود مثل تلك القواعد، وبذلك تنطبق قواعد القانون الإداري عندما يهدف نشاط الإدارة إلى تحقيق المصلحة العامة، أما إذا كان النشاط الإداري يستهدف المصلحة الخاصة فلا مجال لتطبيق القانون الإداري، كما هو الشأن بالنسبة للمرافق العامة ذات الطابع الصناعي والتجاري.
إلا أن نفس الفقيه هجر هذا المعيار لأن فكرة المصلحة العامة مبهمة وغامضة. بل أكثر من ذلك فإن فكرة المصلحة العامة هي التي أدت في الحقيقة إلى الاستعانة بوسائل القانون الخاص لإدارة المرافق العامة ذات الطابع الاقتصادي لكي تحقق أكبر قدر من المردودية والفعالية.

II) معيار السلطة العامة في ثوبه الجديد

حاول بعض الفقهاء العودة إلى فكرة السلطة العامة، وقالوا بأنها هي أصل ومحور القانون الإداري وأساسه ومعياره، إذ هي التي تجعل من الإدارة العامة باعتبارها سلطة عامة في مركز أسمى من الأفراد. وبالتالي تحتّم وجود قواعد القانون الإداري الاستثنائية الخاصة، وغير المألوفة في مجال القانون الخاص. كما أن فكرة السلطة العامة هي التي تحدد مجال تطبيق القانون الإداري، فكل عمل أو تصرف يتضمن مظاهر السلطة العامة يعد عملا إداريا يدخل في نطاق تطبيق القانون الإداري. إلا أن هذه الفكرة لا يمكن الاعتماد عليها، لأنها عاجزة لوحدها عن أن تكون الفكرة الوحيدة لتبرير وتأسيس القانون الإداري.

III) المزج بين معياري المرفق العام والسلطة العامة

لقد حاول بعض الفقهاء من بينهم CHAPUS التوفيق بين معيار المرفق العام ومعيار السلطة العامة. والحقيقة أن المطّلع على قضاء مجلس الدولة الفرنسي وأحكام التشريع الفرنسي لا يمكنه أن يسلم بأن ثمة معيارا واحدا – أيا كانت صياغته – يحكم موضوع الاختصاص، وبالتالي مجال تطبيق القانون الإداري. فالحقيقة أن اختصاص القضاء الإداري الفرنسي يتحدد وفقا لقواعد متنوعة لا يكاد يجمعها أصل واحد. ومن المفيد أن يحيط بها من يتصدى لدراسة القضاء الإداري.

IV ) الاختصاص يتبع الموضوع (La compétence suit le fond)

إن المبدأ الأساسي المتعلق بتحديد الاختصاص، لم يتغير منذ حكم بلانكو. وهنا لا بد من الرجوع إلى التمييز الذي تم ذكره فيما سبق، والمتمثل في التمييز بين الإدارة العامة والإدارة الخاصة، وبناء عليه يمكن القول بأن طبيعة القواعد التي تطبق على الموضوع، هي التي تحدد الاختصاص. ومعنى ذلك أن اختصاص القاضي يتحدد بالنظر إلى طبيعة القواعد التي تطبق على الموضوع.
على أن تطبيق هذا التوجيه العام (الاختصاص يتبع الموضوع) يتطلب استعمال طريقة مختلفة، بحسب ما إذا كان النزاع يتعلق إما بعمل قانوني، أو بعمل مادي، أو بشيء مستعمل من طرف الإدارة. وعلى أساس هذا التمييز يمكن تحديد القواعد المطبقة حاليا فيما:

1) المنازعات المتعلقة بالأعمال القانونية للإدارة

إن الأعمال القانونية للإدارة هي الأعمال التي تقوم بها الإدارة، وتقصد من وارئها تغيير المراكز القانونية. إن هذه الأعمال تنقسم إلى قسمين:
أ‌) أعمال قانونية صادرة بإرادة منفردة: وتتمثل في القرارات الإدارية. وما دام أن هذه الأعمال تصدر عن الإدارة –كقاعدة عامة -، فإن الاختصاص بشأن المنازعات المتعلقة بها يختص بها القاضي الإداري الذي يطبق عليها قواعد القانون الإداري.
ب‌) أعمال قانونية صادرة باتفاق الإرادات : وتتمثل في العقود التي تبرمها الإدارة. على أن هذه العقود تنقسم إلى قسمين:
- عقود خاصة: إن الإدارة في هذه العقود لم تظهر كسلطة عامة، بل تصرفت بنفس الطريقة التي يتصرف فيها الخواص في علاقاتهم الخاصة. ومن هنا فإن الاختصاص بشأن المنازعات المتعلقة بهذه العقود تؤول لاختصاص القاضي العادي.
- عقود إدارية: وهي العقود التي تكون الإدارة طرفا فيها ومتصلة بمرفق عام ذو طابع إداري أو تستعمل الإدارة فيها امتيازات السلطة العامة. إن الاختصاص بشأن المنازعات المتعلقة بهذه العقود تؤول لاختصاص القاضي الإداري.

2) المنازعات المتعلقة بالأعمال المادية

يقصد بالعمل المادي للإدارة، ذلك العمل الذي لا تنوي الإدارة من خلاله إحداث أثر قانوني. إن النزاعات المتعلقة بالنشاط المادي تتعلق فقط بالتعويض. أما الاختصاص فيتحدد بالنظر إلى نوع المرفق العام. فإذا اتصل النشاط المادي بمرفق عام ذو طابع إداري، فإن الاختصاص يؤول للقاضي الإداري الذي يطبق عليه قواعد القانون الإداري. أما إذا اتصل النشاط المادي بمرفق عام ذو طابع صناعي أو تجاري، فإن الاختصاص يؤول للقاضي العادي الذي يطبق عليه قواعد القانون الخاص.

3) المنازعات المتعلقة بفعل الأشياء المستعملة من طرف الإدارة

إن هذه المنازعات تتعلق بالتعويض فقط. وهنا لتحديد الاختصاص القضائي، وبالتالي نوع القواعد القانونية المطبقة لابد من البحث في الطبيعة القانونية للشيء المستعمل. فإن كان ينتمي للملكية العامة للدولة، فتطبق عليه أحكام وقواعد القانون الإداري، ويكون الاختصاص بشأنه للقاضي الإداري. أما إذا كان ينتمي للملكية الخاصة للدولة، فسيطبق عليه القانون الخاص، كما أن النزاع المتعلق به يؤول للقاضي العادي.

المرجع:

  1. د. بلماحي زين العابدين، المدخل للقانون الإداري ونظرية التنظيم الإداري، جامعة أبي بكر بلقايد تلمسان، الجزائر، السنة الجامعية: 2015-2016، ص29 إلى ص44.
google-playkhamsatmostaqltradent