القانون الدولي الإنساني (التعريف، الخصائص والتطور التاريخي)

القانون الدولي الإنساني (التعريف، الخصائص والتطور التاريخي)

القانون الدولي الإنساني (التعريف، الخصائص والتطور التاريخي)

يعتبر القانون الدولي الانساني كمصطلح بديل لمصطلح قانون الحرب، الذي كان مستعملا لغاية ابرام ميثاق منظمة الأمم المتحدة عام 1945، الذي حظر كل أشكال الحروب.

تحول هذا المصطلح تدريجيا مع تغير الخرائط السياسية، وأنظمة قوى التوازن الدولي في العالم الى مصطلح قانون النزاعات المسلحة، وظل هذا المصطلح شائع الاستعمال لفترة زمنية قصيرة ليتم استبداله بمصطلح القانون الدولي الإنساني، وهذا بفعل نشاط حركة الدفاع عن حقوق الانسان في بداية سبعينيات القرن العشرين، وخصوصا بعد انعقاد مؤتمر طهران لحقوق الانسان عام 1968، ليصبح الهدف الذي يسعى اليه القانون الدولي الإنساني هو حماية الشخص الإنساني في حالات النزاعات المسلحة (المطلب الأول).

ليست القواعد الإنسانية حديثة العهد، بل تمتد الى أعماق التاريخ، فقوانين الحرب قديمة قدم الحرب، حيث تنقسم مراحل ظهور القانون الدولي الإنساني الى مرحلة ما قبل التدوين ،وهي مرحلة تنقسم الى ثلاث فترات تتمثل في العصر القديم، والعصر الوسيط ،وعصر النهضة. ومرحلة التدوين التي تنقسم هي أيضا الى ثلاث فترات محورية، كانت هي الأهم في تطور هذا القانون (المطلب الثاني).

إذا كان القانون الدولي الإنساني فرع من فروع القانون الدولي العام، اذن بالضرورة ستكون هناك نقاط التقاء وتداخل بين هذا الفرع والفروع الأخرى المشابهة له وبالخصوص مع القانون الدولي لحقوق الانسان، والقانون الدولي الجنائي (المطلب الثالث). 

المطلب الأول: تعريف القانون الدولي الانساني وخصائصه

يتكون القانون الدولي الإنساني من القواعد الدولية التي تطبق في حالات النزاعات المسلحة بهدف حماية الإنسان باعتباره إنسانا (الفرع الأول)، كما ينفرد القانون الدولي الإنساني بخصائص معينة تجعله مختلفا عن فروع القانون الدولي العام، ويظهر ذلك من خلال أهدافه وتميزه بقواعد خاصة، وكذلك من خلال طبيعته القانونية (الفرع الثاني).

الفرع الأول: تعريف القانون الدولي الإنساني

نشير قبل البدء في تعريف القانون الدولي الإنساني إلى ثلاثة مصطلحات وهي قانون الحرب (أولا)، وقانون النزاعات المسلحة (ثانيا) والقانون الدولي الإنساني (ثالثا).

أولا: قانون الحرب: شهد عصر النهضة الأوروبية الحديثة في بداية القرن الخامس عشر تطورا كبيرا للقانون الدولي العام عموما، واهتماما متزايدا بقانون الحرب على وجه الخصوص الذي يشكل فرعا منه ،وخاصة من طـرف الفقهـاء الاسبان، واستحوذ على اهتمامهم موضوع: حق اللجوء إلى الحرب حيـث نشـر ألبير كاي جنتليـز (Gentilies Albericus)، وارنست نيز (Nyz Arnest)، أولى مؤلفاتهما في قوانين الحرب حيث يقول هذا الأخير: "بأن تاريخ القانون الدولي وجد مع تاريخ قانون الحرب، وأن قانون الحرب يشتمل علـى كـل موضوعات القانون الدولي". 

نشرا الفقيهان فيتوريا (VITORIA) وسواريز (SUAREZ) نظرية الحرب العادلـة وفقـا للقـانون الكنسـي، وتتلخص في أن الحرب ليست حادثا طارئا، أو مجرد واقعة، بل إجراء قضائي حقيقي، وينبغي توافر أربعة شروط لتكون عادلـة:

1- السبب الصحيح: أي أن تعلنها السلطة ذات الاختصاص (وهو الشرط الذي يـؤدي إلـى إدانة الحروب الخاصة التي كانت تجري في القرون الوسطى أي بين العائلات المالكة).

2- القضية العادلة، أي التبرير المبني على العدالة والمتكافئ مع الأضرار التـي تـنجم عـن الحرب.

4- التصرف العادل في الحرب، بحيث يمهد لإعادة حالة النظام والسلم.

وجهت لهذه النظرية عدة انتقادات، أهمها أن كل دولة تقدر عدالة قضـيها، مـن جهة نظرها، بل أن الحرب يمكن أن تكون عادلة في كلا الجانبين المتحاربين في نفس الوقت، ممـا جعـل النظرية لا تحظى بالقبول لدى رجال السياسة والقانون في عصر النهضة.

جاء بعد ذلك الفقيه الهولندي غروسيوس (GROTIUS) الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للقانون الدولي، ونشر كتابه الشهير بعنـوان "قـانون الحرب والسلام "، وتقوم آراؤه على التمييز بين قوانين الحرب وحق اللجـوء إلى الحرب، وتوسيع نطاق التصرفات الأخلاقية أثناء الحرب ومراعـاة الاعتدال في السـلوك أثنـاء الحرب.

ظلت الحرب على مر العصور واقعا مألوفا ومؤلما في نفس الوقت، وتكرسـت فـي القـانون الدولي الكلاسيكي كحق، فلكل دولة الحق في أن تلجأ إليه كلما رأت ضرورة لذلك ،وكانت الـدول كمـا يقـول الفقيـه الروسي تونكين، تجد دائما من الدعاوى، صحيحة كانت أم كاذبة، مـا يبـرر اعتـداءها علـى الـدول الأخرى.

إذا كانت الحرب في القانون الدولي الكلاسيكي كما يرى ذلك الفقيه روني جان ديبوي (R.Jean Dupuy)  تعد فـي الواقع إجراءً ذا نتائج حقوقية ناشئة عن انعدام المؤسسات اللازمة في مجتمع العلاقـات الدوليـة، اذن يعـد الغزو نتيجة الحرب وسيلة مقبولة لاكتساب السيادة الفعلية على الأراضي، بل وقد يؤدي إلـى الاحـتلال الكامل وزوال الدولة المغلوبة، واذا كان الأمر كذلك في بداية العصر الحديث، فإن القانون الدولي عـرف تطورا كبيرا خاصة بعد انشاء عصبة الأمم ومن ثم منظمة الأمم المتحدة ،تمثل في نشوء عدة مبادئ غايتها حفظ السلم والأمن الدوليين والحد من كل أشكال الحروب.

ثانيا: قانون النازعات المسلحة: استبدل مصطلح النزاع المسلح الدولي محل مصطلح الحرب كحالة قانونية، ليصبح هذا الأخير مفهوما فلسفيا تاركا للمصطلح الأول إمكانية تغطية طرق القتال ووسائله بهدف تقليل الخسائر المادية والبشرية الى أدنى حد ممكن، ودون أن يؤثر ذلك في سير العمليات القتالية ومصالح المتحاربين.

يرى "سعيد سالم جويلي" أن المتغيرات الدولية، والتطورات المعاصرة فرضت تطورا في القواعد القانونية المطبقة في الحروب سواء من حيث الشكل، أو من حيث المضمون، فبعد احلال نظرية النزاع المسلح محل النظرية التقليدية للحرب لم يعد مصطلح الحرب مستخدما بمفهومه التقليدي وحل مكانه مصطلح النزاع المسلح.

يشير مصطلح النزاع المسلح الدولي الى أن كل حرب برية أو بحرية أو جوية تتكون من عنصرين اثنين الأول عسكري، والثاني دولي، حيث يعرف النزاع المسلح الدولي بأنه نزاع مسلح يحكمه القانون الدولي يدور بين القوات المسلحة النظامية لدولتين على الأقل (العراق-الكويت 1991)، أو بين جيش نظامي لدولة ومنظمة دولية، أو بين جيش نظامي وقوات مسلحة، تعرف بالميليشيات مستقرة على أراضي دولة أخرى، تستهدف وجهة نظر احدى الجهات المتحاربة على الأخرى (الولايات المتحدة الأمريكية ممثلة في قوات الكونترا-نيكارغوا).

تبدأ النزاعات المسلحة الدولية بإعلان يتزامن مع بدأ العمليات القتالية وفق ما تفتضيه اتفاقية لاهاي الثالثة الموقعة في 18/10/ 1907، مع كل ما ينتجه ذلك من آثار قانونية ،كإعلان بعض الدول حيادها المؤقت، أو انتهاء بعض المعاهدات كالاتفاقيات التجارية التي تكون بين الأطراف المتنازعة، وقطع العلاقات الديبلوماسية بين المتحاربين.

تتوقف النزاعات المسلحة اما بصورة مؤقتة عن طريق وقف القتال، وهو قرار عسكري يتخذ باتفاق الأطراف، يتخذ بغية إغاثة الجرحى والمرضى ودفن الموتى، واما عن طريق الهدنة، وهي قرار سياسي يتم التوصل اليه باتفاق أطراف النزاع توطئة للصلح.

يمكن استئناف العمليات القتالية في حال عدم تمديد مدة المهلة في أي وقت بعد انذار العدو، ويعد أي انتهاك جسيم لبنود الاتفاقية السابقة الذكر مسوغا لاستئناف العمليات العدائية من قبل الطرف الآخر.

اما انهاء الحرب فلا تتم الا بمعاهدة صلح، أو بفناء الأطراف المتحاربة، أو الخضوع التام للطرف المحارب الآخر عن طريق توقيع معاهدة استسلام.

أما بالنسبة للنزاع المسلح غير الدولي، أو مايسمى بالحرب الأهلية، فتعتبر محاولة المعهد الدولي لدراسة الحروب الداخلية، أول محاولة فقهية دولية عامة لدراسة الحروب الأهلية كما كان يطلق عليها آنذاك، حيث أصدر أول قرار فيما يخص الحروب الأهلية وواجبات الدول الأخرى عام 1900، وقد جاء بدون تعريف صريح للحروب الأهلية، وهذا التزاما بمبدأ سيادة الدول، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

بقي الامر على حاله في اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، باستثناء ما ورد في المادة الثالثة المشتركة التي قدمت تعريفا  سلبيا للنزاعات المسلحة غير الدولية، حيث جاءت لتعالج حالة قيام نزاع مسلح ليس له طابع دولي في أراضي أحد الأطراف السامية المتعاقدة

أخذ الفقه الدولي في بداية السبعينيات على عاتقه مسألة تقديم تعريف للنزاعات المسلحة غير الدولية بصورة أفضل، حيث اجتمع في عام 1975 أعضاء معهد القانون الدولي للمرة الثانية لمعالجة مسألة الحروب الأهلية والنزعات المسلحة غير الدولية، وقدم في قراره الخاص بهذا الموضوع تعريفا للنزاعات المسلحة غير الدولية في مادته الأولى والموسومة ب "مفهوم الحرب الأهلية" حيث جاء فيها: "من أجل هذا القرار، نقصد بالحرب الأهلية النزاعات العسكرية التي ليس لها طابع دولي والتي تدور في أراضي دولة واحدة وتكون بين كل من:

1- الحكومة المركزية وبين حركة تمرد أو أكثر، وتهدف الى اما اسقاط الحكومة المركزية، أو تغيير النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم، أو الانفصال، أو الحصول على حكم ذاتي في هذه الدولة.

2- لا تعتبر من الحروب الأهلية في هذا القرار ما يلي:

أ- الاضطرابات الداخلية والمظاهرات.

ب- الاشتباكات بين القوات العسكرية التي يفصل بينها خط دولي.

ج- نزاعات الاستقلال."

كما عرفه البروتوكول الإضافي الثاني لاتفاقيات جنيف لعام 1977 بأنها: "تدور على إقليم أحد الأطراف السامية المتعاقدة بين قواته المسلحة وقوات مسلحة منشقة أو جماعات نظامية مسلحة أخرى وتمارس تحت قيادة مسؤولة على جزء من إقليمه من السيطرة ما يمكنها من القيام بعمليات عسكرية متواصلة ومنسقة".

ثالثا: القانون الدولي الإنساني: بعد التطورات التي تعرضت لها النزاعات المسلحة ،والتي فرضت ضرورة إخضاع كامل النزاعات المسلحة الدولية كانت أم غير دولية للقانون الدولي، أصبح المصطلح الذي يلائم هذه التطورات هو مصطلح القانون الدولي الإنساني. 

حاولت العديد من الجهات تعريف القانون الدولي الإنساني، فقد تولى الفقه الدولي تحديد المقصود من هذا القانون، كما حاولت جهات أخرى تعريف هذا القانون كاللجنة الدولية للصليب الأحمر، وكذا محكمة العدل الدولية من خلال آرائها الاستشارية وخاصة رأيها في قضية مشروعية التهديد بالأسلحة النووية واستخدامها المؤرخة في 08/07/1996.

1- التعريف الفقهي للقانون الدولي الإنساني: 

اختلف الفقه في تحديد المقصود بمصطلح القانون الدولي الانساني، فلا يوجد حتى الآن تعريف واحد لهذا المصطلح، ونظرا للتطورات السريعة التي مر بها، أصبح هناك حالة من الغموض أدت إلى خلط في بعض التعريفات والمفاهيم.

ذهب بعض الفقهاء إلى القول بأنه عبارة عن قانون حقوق الإنسان المطبق في النزاعات المسلحة، أو أنه عبارة عن (قانون جنيف)، واعتبره البعض جزءا من القانون الدولي لحقوق الانسان، في حين ذهب غالبية الفقه بأنه يضم كل القواعد الاتفاقية والعرفية في (قانون لاهاي) و(قانون جنيف)، أو أنه جاء يحل محل (قانون الحرب) والاصطلاح الأكثر استعمالا وشيوعا هو القانون الدولي الإنساني، ومن أجل الوقوف على الحقيقة سوف نستعرض بعض التعريفات التي يرددها الفقه الدولي في شأن القانون الدولي الإنساني.

يقول الفقيه جون بكتيه Pictet Jean)) "إن مصطلح القانون الدولي الإنساني" يمكن أن يدرس من جانبين مختلفين، أحدهما جانب واسع والآخر جانب ضيق:

أ‌- يتكون القانون الدولي الانساني بمعناه الواسع من كافة الأحكام القانونية الدولية سواء في التشريعات أو القوانين العامة التي تكفل احترام الفرد وتعزز ازدهاره.

علاوة على ذلك ،يتكون القانون الدولي الانساني من فرعين: قانون الحرب  وقانون حقوق الإنسان.

ب‌– إن قانون الحرب بالمفهوم الضيق أو (قانون النزاعات المسلحة) يهدف إلى وضع قواعد منظمة للعمليات الحربية وتخفيف الأضرار الناجمة عنها إلى أقصى حد نتيجة الضرورات العسكرية، وهو بدوره ينقسم إلى فرعين: 

قانون لاهاي (تشكل اتفاقية لاهاي لعام 1907 الخاصة باحترام قوانين وأعراف الحرب البرية، والاتفاقيات الخاصة بحظر الأسلحة) أو قانون الحرب على وجه التحديد الذي يحدد حقوق المتحاربين وواجباتهم في إدارة العمليات ويقيد اختيار وسائل القتال، وقانون جنيف (تشكل اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وبروتوكوليها الإضافيين لعام 1977 مصادره الأساسية)، أو القانون الدولي الإنساني على وجه التحديد، وهو يهدف الى حماية العسكريين العاجزين عن القتال  والأشخاص الذين لا يشتركون في العمليات الحربية.

يمكن أن نستخلص من تعريف "جون بكتيه" أنه يفرق بين القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، فعلى الرغم من وجود علاقة وثيقة بينهما، إلا أنهما لا يختلطان، والى جانب ذلك إنه يميز بين القانون الدولي الإنساني في معناه الضيق ومعناه الواسع.

ذهب في نفس الاتجاه الأستاذ عبد الوهاب بياض وعرفه بأنه: "مجموعة القواعد القانونية الدولية الإنسانية العرفية أو الاتفاقية، والتي توضع لمواجهة المشكلات الإنسانية الناجمة مباشرة عن النزاعات المسلحة، هذه القواعد تحد لأسباب إنسانية حق أطراف النزاع في اختيار طرق القتال ووسائله، وهدف هذه القواعد حماية الأشخاص والأموال التي يمكن أن تتعرض للإصابة جراء الن ازع المسلح".

عَرف مستشار القانون للجنة الدولية للصليب الأحمر هانز بيتر جاسر القانون الدولي الإنساني بقوله: "هو القانون المطبق في النزاعات المسلحة، وهو يعني القواعد الدولية الاتفاقية والعرفية، التي تعنى بحل المشاكل الإنسانية، بصورة مباشرة، في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، وتحد قواعد هذا القانون –لاعتبارات إنسانية- من حق الأطراف في النزاع من اختيار طرق ووسائل الحرب وتستهدف حماية الأشخاص والممتلكات التي تتأثر بالنزاع ، ويتم اختصار مصطلح (القانون الدولي المطبق في النزاعات المسلحة) لمصطلح (القانون الدولي الإنساني) أو مصطلح (القانون الإنساني) وفي هذا المعنى يستخدم أيضا مصطلحات أخرى مثل (قانون النزاعات  المسلحة) أو قانون حقوق الإنسان المطبق في النزاعات المسلحة".

2- تعريف اللجنة الدولية للصليب الأحمر للقانون الدولي الإنساني: 

يعتبر قسم الخدمات الاستشارية القانون الدولي الإنساني التابع للجنة الدولية للصليب الأحمر، القانون الدولي الإنساني فرعا من فروع القانون الدولي العام الذي ينظم العلاقات فيما بين الدول في حالة النزاع المسلح، بغض النظر عن مسألة حق لجوء الدولة إلى القوة من عدمه، فهذا أمر ينظمه قانون متميز عن القانون الدولي الإنساني ورد في ميثاق منظمة الأمم المتحدة.

عَرف قسم الخدمات الاستشارية القانون الدولي الإنساني بأنه: "مجموعة من القواعد الدولية الاتفاقية والعرفية التي تستهدف معالجة المشاكل الإنسانية، المتعلقة مباشرة النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، والتي تحد –لأسباب إنسانية- من حق الأطراف في النزاع في اختيار طرق وأساليب الحرب التي يريدونها، وكذلك حماية الأشخاص والأموال التي تتأثر أو يمكن أن تتأثر بالنزاع".

تبعا لما سبق نستخلص أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر في تعريفها لقانون النزاعات المسلحة ذهبت في نفس الاتجاه الفقهي في تعريفه لهذا القانون، وهذا حينما عرفته بالقانون الواجب التطبيق اثناء النزاعات المسلحة، وهو مجموعة القواعد الدولية الاتفاقية والعرفية التي يقصد بها خصيصا تسوية المشكلات الإنسانية الناجمة مباشرة عن النزاعات المسلحة الدولية غير الدولية، والتي تحد لأسباب إنسانية من حق أطراف النزاع من استخدام ما يحلو لها من وسائل القتال وطرقه، وتحمي الأشخاص والأعيان التي يلحق بها الضرر أو تتعرض له من جراء هذا النزاع.

يمكن أن يقسم القانون الدولي الإنساني خلال التعريف السالف إلى قسمين: قانون (جنيف) وقانون (لاهاي).

يسعى الأول إلى حماية ضحايا النزاعات المسلحة وتشكل اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وبروتوكوليها الإضافيين لعام 1949 ومصادره الأساسية، والثاني أي قانون لاهاي الذي ينظم قواعد استخدم القوة المسلحة ووسائل القتال وأساليبه، وتشكل اتفاقية لاهاي لعام 1907 والاتفاقيات الخاصة بحظر الأسلحة من أهم مصادره. 

غير أن الملاحظ هو أنه منذ صدور البروتوكولين الإضافيين لعام 1977 الملحقين باتفاقيات جنيف لعام 1949  والخاصين بحماية ضحايا النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية ،نسجل العديد من القواعد التي تنظم وسائل القتال وأساليبه الواردة في متن البروتوكولين، وهذا ما يؤدي بنا الى القول أنه لم تعد التفرقة بين قانون جنيف ولاهاي قائمة الآن باعتبار أن بروتوكولي 1977 وخاصة الأول منهما، تضمنا قواعد صهرت القانونين

معا، وليس من الوجاهة الحديث عن قانونين منفصلين والحال أن القانون الدولي الإنساني الحالي يشمل الاثنين".

3- تعريف محكمة العدل الدولية للقانون الدولي الإنساني:

أتاحت الظروف التي أحاطت بعمل المحكمة الفرصة لها بأن تبدي رأيها في القانون الدولي الإنساني وذلك في:

 - قرارها الصادر بتاريخ 27 جوان 1986 في نزاع بين دولة نيكاراغوا والولايات المتحدة الأمريكية وتعرف هذه القضية تحت عنوان "الأعمال العسكرية وشبه العسكرية في نيكاراغوا وضدها".

- رأيها الاستشاري الصادر بتاريخ 08 جويلية 1996 بناءً على طلب منظمة الصحة العالمية بتاريخ 14 ديسمبر 1993، ولاحقا بناءً على طلب الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 15 ديسمبر 1994، بخصوص موضوع "مشروعية التهديد باستخدام الأسلحة النووية" .

سنكتفي في هذا السياق بالتعليق على الرأي الاستشاري في قضية "مشروعية التهديد باستخدام الأسلحة النووية أو استخدامها"، وفي هذا السياق لن نقوم بتحليل مضمون الرأي الاستشاري، ولكن سنقف على ما تضمنه الرأي من نتائج هامة عن تعريف القانون الدولي الإنساني.

رأت المحكمة أنه لمعرفة ما إذا كان اللجوء إلى السلاح النووي عملا غير مشروع بالنظر إلى مبادئ وقواعد القانون الدولي الانساني المطبقة في النزاعات المسلحة يجب العودة إلى قوانين وأعراف الحرب التي تستند على قانون لاهاي من جهة والى القواعد الواردة في قانون جنيف الذي يحمي ضحايا الحرب، حيث أكدت المحكمة من أن العلاقة بين القانونين المذكورين أعلاه قد تطورت إلى درجة كبرى حتى أصبح تدريجيا نظاما واحدا يسمى اليوم بالقانون الدولي الإنساني".

ان التفرقة بين قانوني جنيف ولاهاي لم تعد قائمة الآن باعتبار أن بروتوكولي 1977 وخاصة الأول منها المتعلق بضحايا النزاعات المسلحة الدولية والذي يعتبر متمما للاتفاقيات الأربع الصادرة عام 1949، تضمنا قواعد صهرت القانونين معا، وليس من المناسب الحديث عن قانونين منفصلين، والحال أن القانون الدولي الإنساني أو قانون النزاعات المسلحة يشمل اليوم الاثنين.

رأت المحكمة أيضا أن قانون النزاعات المسلحة يقوم على مبدأين رئيسيين، أولهما يتمثل في حماية السكان المدنيين والأعيان المدنية، وأساسه التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين وبالتالي حظر جعل مثل هؤلاء هدفا للهجوم، وكذا حظر استخدام الأسلحة غير القادرة على التمييز بين الأعيان المدنية والأهداف العسكرية.

 يتمثل المبدأ الثاني في حظر إحداث آلام لا مبرر لها للمقاتلين، وبالتالي الحد من حرية الأطراف المتحاربة في اختيار ما يحلو لها من وسائل القتال.

تعدد المحكمة المبادئ الرئيسية المكرسة في النصوص والتي تشكل مضمون القانون الدولي الإنساني كما يلي:

- التمييز بين المقاتل وغير المقاتل على سبيل حماية المدنيين.

- واجب عدم الحاق الضرر والمعاناة غير الضرورية أو غير المبررة.

- ضرورة مواجهة تطورت التقنيات العسكرية لمبدأ النسبية Proportionnalité عند استخدامها.

يتبين أن هذا المنطق قاد المحكمة إلى التأكيد بأن القانون الدولي الإنساني يطبق على الأسلحة النووية  واذا كان من أحد ليقول العكس "...فهو بالتأكيد يجهل الطبيعة الإنسانية الجوهرية التي تتسم بها هذه المبادئ القانونية المراد تطبيقها التي تحكم قانون النزاعات المسلحة واستخدام جميع أنواع الأسلحة، أسلحة الماضي والحاضر والمستقبل".

لهذه الأسباب ليس هناك لمبادئ القانون الدولي الإنساني مساحة تطبيقية مرهونة بالظروف، ولما كانت أحكام القانون الدولي الإنساني تطبق على الأسلحة النووية وبما أن الجذور العميقة لهذه الأحكام تنبع من احترام حياة الإنسان، فهل يكون استخدام هذه الأسلحة مباحا؟

أسفر التصويت عن سبعة أصوات ضد القرار وسبعة أصوات لصالحه إضافة لصوت رئيسها المرجح أجابت المحكمة بأنه "بناءً لما تقدم، تعتبر المحكمة أن التهديد باستخدام أو باستخدام الأسلحة النووية يكون مبدئيا متنافيا مع قواعد القانون الدولي الذي يرعى النزاعات المسلحة الدولية ويكون أيضا منافيا خاصة لمبادئ وقواعد القانون الإنساني".

الفرع الثاني: خصائص القانون الدولي الانساني

يتسم القانون الدولي الإنساني بمجموعة من الخصائص يمكن اجمالها في: 

أ- الصفة الإلزامية (الطبيعة الآمرة) لقواعد القانون الدولي الإنساني: ومفاد هذه الصفة أن الدول تلتزم بمبادئ القانون الدولي الإنساني وقواعده، ولا تستطيع أن تنحرف عنها، كما لا يجوز لها أن تتفاوض على أية موضوعات مخالفة للقواعد الآمرة الواردة في القانون الدولي الإنساني.

أكدت اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 هذه الصفة وذلك حين نصت في المادة 53 منها على أنّ  "المعاهدة المتعارضة مع قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي العام تعتبر باطلة بطلانا مطلقا إذا كانت وقت إبرامها تتعارض مع قاعدة آمرة من قواعد القانون الدولي".

تتميز قواعد القانون الدولي الإنساني بصفتها الآمرة، وهي ملزمة لجميع دول أعضاء المجتمع الدولي، ولا يجوز لأية دولة الاتفاق على ما يخالف هذه القواعد.

تعرضت محكمة نورمبورغ لهذه القضية أثناء محاكمة مجرمي الحرب العالمية الثانية ،وذكرت بلوائح لاهاي التي تناولت تنظيم الحرب البرية "محاولة تنقيح قوانين وأعراف الحرب التي كانت موجودة من قبل"، لذا تعد هذه الاتفاقيات كاشفة لهذه القوانين والأعراف التي كان معترفا بها من قبل الدول المتمدنة، ومن ثم قضت المحكمة بسريانها على كافة الدول، حتى تلك التي لم تكن طرفا في اتفاقيات لاهاي.

كذلك بالرجوع الى ما ذهبت اليه المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة ،فإنها اعتبرت جل أحكام القانون الدولي الإنساني تنشئ التزامات مطلقة، أي التزامات غير مشروطة، ولا تقوم على المعاملة بالمثل.

ترتيبا لذلك فان تطبيق القواعد الواردة في اتفاقيات جنيف لا تخضع لأي شرط، فلا يجوز للدولة أن تعلق تطبيقها على قيام الطرف الآخر ببعض الأعمال، أو ضرورة توافر ظروف معينة، فهي تعتبر من قواعد-jus cogens– قواعد آمرة-والسارية في مواجهة الكافة omnes Erga بمعنى تسري في مواجهة جميع أعضاء المجتمع الدولي، حيث تنص المادة الأولى المشتركة لاتفاقيات جنيف لعام 1949، والفقرة الرابعة من المادة الأولى من البروتوكول الإضافي الأول:" تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تحترم هذه الاتفاقية وتكفل احترامها في جميع الأحوال".

يترتب على تقرير الصفة الإلزامية لقواعد القانون الدولي الإنساني بعض النتائج الهامة يمكن حصرها في:

1- تعد جرائم حرب المخالفات الجسيمة لقواعد القانون الدولي الإنساني.

2- تندرج جرائم الحرب في مصاف الجرائم التي لا تسقط بالتقادم.

3- في حالة حدوث أية أضرار، فإنّ تقرير التعويض المناسب لهذا الضرر يحكمه مبدأي مسؤولية الدولة، جبر الضرر.

4- في حالة ارتكاب مخالفات وانتهاكات لقواعد القانون الدولي الإنساني، فيتم التحقيق فيها بواسطة لجنة تقصي الحقائق.

ب- اعتماد قواعد القانون الدولي الإنساني على القواعد المكتوبة والقواعد العرفية:

أي أن قواعده تشمل إضافة إلى القواعد المكتوبة بعض القواعد العرفية والتي سوف يتم تقنينها في مرحلة ما، ذلك أن القانون الدولي الإنساني ما هو إلا تأكيد جديد لقواعد عرفية قديمة ثم تطويرها وتوسيع نطاقها عند تدوينها.

ج- قواعد القانون الدولي تتسم بصفة العلانية: وهو ما يجعل هذه القواعد ملزمة حتى بالنسبة للدول التي لم تنظم إلى الاتفاقيات المكونة لهذه القواعد.

د- أن قواعد القانون الدولي لا تخضع لمبدأ المعاملة بالمثل: فمن غير المقبول أن يقوم طرف في حرب بإساءة معاملة الأسرى أو يقتلهم، بحجة أن خصمه ارتكب مثل هذه الأفعال، ويعود سبب ذلك إلى أنّ القانون الدولي الإنساني لا يتعلق بمنافع متبادلة، بل بمجموعة من القواعد الموضوعية التي تعلن للعالم ضمانات من حق كل إنسان، وأن كل دولة ملزمة أمام نفسها مثلما تلتزم أمام الدول الأخرى، فالأمر يتعلق بحياة الإنسانية وليس بمكاسب متبادلة.

تطبيقا لذلك فإنّ احجام أحد المحاربين عن تطبيق إحدى اتفاقيات جنيف متذرعا بإهمال من جانب الخصم، يعد مرتكبا لأعمال انتقامية ضد الأشخاص المحميين، وهذه الأعمال الانتقامية تحظرها الاتفاقيات المعنية بالقانون الدولي الانساني حظرا تاما.                          

هـ- يهدف القانون الدولي الإنساني الى حماية الشخص الإنساني في حالات النازعات المسلحة: فهو يسعى الى توفير حماية لضحايا الحرب، سواء الجرحى أو الأسرى أو المرض، وكذلك التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين، وبين السكان المدنيين.

و- لا يخاطب القانون الدولي الإنساني الشخص في النازع المسلح باعتباره عدوا، وانما باعتباره ضحية: وهذا هو الهدف الخاص الذي تسعى اليه اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949، سواء الجرحى أو المرضى أو الأسرى.

أما بالنسبة للاجئين الذين يعتبرون كذلك من ضحايا الحرب، وهم حالة خاصة تم تنظيمها بقانون خاص، والمتمثل في اتفاقية منظمة الأمم المتحدة لعام 1951، واتفاقية عام 1969، ورغم هذا فان القانون الدولي الإنساني اهتم بهذه المجموعة من الضحايا ولم يهملها، فاتفاقيات جنيف الأربعة ،تحوي قواعد تأخذ بعين الاعتبار وضعيتهم الخاصة في النزاعات المسلحة حسب المادة (44) من اتفاقية جنيف الرابعة، والمادة (73) من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977، والتي من خلالها يمنح القانون الدولي الإنساني لهم نفس الحماية المعترف بها للأشخاص المدنيين ضحايا الحرب.

هـ- يتصف القانون الدولي الإنساني بأنه قانون جد دقيق في قواعده: حيث تمت صياغته بطريق واسعة ومفصلة لا تدع أي مجال لتأويله وتفسيره، فنجد مثلا اتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بمعاملة أسرى الحرب التي تحوي على قواعد جد محددة بشأن معاملة أسرى الحرب، ابتداءً من الأسر الى نهايته، مثل الفصل الثاني منها المتعلق بمأوى وغذاء وملبس أسرى الحرب، والفصل الثالث المتعلق بالشروط الصحية والرعاية الطبية الخاصة بالأسير.

المطلب الثاني: التطور التاريخي للقانون الدولي الانساني

لم تكن بداية القانون الدولي الإنساني بالشكل الذي نعرفه اليوم، فلم توضع قواعد دولية للحد من آثار النزاعات المسلحة لأسباب إنسانية إلا منذ 150 عاما تقريباً، إلا أنه كما لم يوجد مجتمع على مَّر التاريخ بدون قواعد خاصة به، كذلك لم توجد حرب بدون قواعد خاصة بها -أياً كانت درجة وضوحها -تغطي اندلاع الأعمال العدائية وانتهائها وكيفية إدارتها، ففي البداية كانت القواعد غير مكتوبة (الفرع الأول).

قدمت الحضارة المصرية (الأعمال السبعة للرحمة الحقيقية) كتعاليم إلهية تلتزم بها الجيوش، ناهيك عن كثير من النصوص القديمة كالمها بهاراته والكتاب المقدس والقرآن الكريم وغيرها، التي وضعت قواعد معينة تدعوا إلى احترام الخصم (الفرع الثاني)، وفي مطلع القرن الثامن عشر وبداية عصر النهضة في أوربا، بدأت معها نهضة في الفكر الإنساني الأوربي، فبدأت الأصوات الرافضة لنظرية الحرب العادلة والحرب الشاملة، فاستنكر العديد من المفكرين هذه الحروب (الفرع الثالث).

صدر عام 1863 كتاب تذكار سولفيرينو لصاحبه هنري دونان، والذي كان نقطة مفصلية لتدوين قواعد القانون الدولي الإنساني، الأمر الذي كان النواة الأولى لتشكيل معاهدة جنيف عام 1864، التي كانت بمثابة تدوين وتعزيز للقوانين والأعراف القديمة، الجزئية والمبعثرة، التي كانت تنظم الحرب وتحمي الجرحى والأشخاص الذين يقومون برعايتهم وذلك في معاهدة متعددة الأطراف (الفرع الرابع)

الفرع الأول: في العصر القديم

تميزت الحروب في بداية التاريخ البشري بالقسوة والوحشية والعمل على افناء العدو ،كما كانت لا تخضع لأية قواعد، مما زاد من وحشيتها، وعليه ظهرت الحاجة لوضع قواعد متبادلة في هذا السياق. 

نجد في الحضارة الصينية الفقيه الصيني "سون تسو" في القرن الخامس قبل الميلاد قد أكد على حماية حقوق أسرى الحرب وحسن رعايتهم، حيث أورد في كتاباته أنه على قائد الجيش مهاجمة جيوش الأعداء فقط لأن مهاجمة المدن هي أسوء سياسة.

عرفت الحضارة الصينية القديمة نظاما قانونيا للحرب لا تقوم إلا به ،فالحرب لا تقوم حسب نظامها إلا بين دولتين متساويتين ولا تقوم بين دولة اقطاعية أو إحدى توابعها، وكذلك بين مجموعة الدول الصينية أو العائلة الصينية، ولذا تعد الإمبراطورية الصينية أول من أرست قواعد قانونية دولية لنزع السلاح في العصور القديمة، حيث أبرمت أول معاهدة لنزع السلاح لمنع الحروب والنزاعات وتحقيق السلام الدائم عام 600 قبل الميلاد.

إن طابع المسالمة والإنسانية التي دعا اليها الفلاسفة الصينيين القدماء أضفت على الحروب الصينية الطابع الانساني، ولقد ذكر أحد الكتاب الصينيين أن العرف السائد آنذاك كان إخلاء سبيل الجرحى والمسنين في الحرب.

كما تميز الصينيون باحترام قواعد إنسانية متعددة من بينها عدم الهجوم على دولة في حداد على حاكمها أو منقسمة على نفسها داخليا، وهو ما يظهر كذلك من خلال كتابات الفقيه "كونفوشيوس" الذي دعا الى تحالف الشعوب عن طريق هيئة تضم مندوبين عنهم.

أما عند السامريين، كانت للحرب أنظمة خاصة، مثل: إعلان الحرب، وتحكيم محتمل، وحصانة للمفاوضين، ومعاهدات صلح، وقد أصدر حمواربي (ملك بابل) القانون الشهير الذي كان يحمل اسمه (قانون حمواربي) الذي وردت في بدايته العبارة الآتية:" إني أقرر هذه القوانين لكي أحول دون ظلم القوي للضعيف".

كما مثلت الحضارة المصرية مثالا رائعا للرحمة واللين في الحرب، حيث كان المصريون القدماء يعتبرون من أعمال الرحمة تحرير الأسرى، اطعام الجائع، وسقاية العطشان، وعيادة المرضى ودفن الموتى.

أما بالنسبة للحيثيين فقد كانت تصرفاتهم في الحرب تتسم بالإنسانية بشكل كبير، فكان لهم قانون يحكم تصرفاتهم في الحرب، يرتكز على العدالة والاستقامة، وكانوا كذلك يعرفون إعلان الحرب ومعاهدات الصلح، ويسجل التاريخ القديم أن المعارك بين المصريين القدماء وملك الحيثيين انتهت بمعاهدة سلام عام 1269 قبل الميلاد، حيث أكدت على الاحترام المتبادل بين الطرفين.

كان للمقاتل في أفريقيا القديمة (ميثاق شرف) الذي يحدد سلوكه أثناء الحرب ويحرم الاعتداء على الغير، ونقض العهد والغدر.

وجد من المفكرين في الحضارة اليونانية، من يدين الحرب، كما أن أغلب حروب المدن اليونانية كانت تتعلق بالدفاع، وكان للتقارب في الثقافة المدنية بين المدن اليونانية أثره في قيام التحكيم بينها، وفي معرفة العديد من معاهدات عدم الاعتداء التي أبرمت بينهم، ولذا يمكن القول أن اليونانيين القدماء قد ساهموا بفكرهم في وضع بذور ما يعرف الآن باسم القانون الدولي الإنساني، كما نشأ عندهم مفهوم العدالة في القانون الطبيعي، أو ما يعرف حاليا بـ حقوق الإنسان

عثر في الهند القديمة على بعض القوانين من (قانون مانوا) أنها نابعة من الاعتبارات الإنسانية التي يتأسس عليها القانون الدولي الإنساني في الوقت الراهن، فقد كانت تحرم على المقاتل أن يقتل عدوه إذا استسلم أو وقع في الأسر، وكذلك من كان نائما، أو مجردا من السلاح ،أو غير المقاتلين من المسالمين، كما توجب إعادة الجرحى إلى ذويهم فور شفائهم، كما تنص على عدم مشروعية الأسلحة المسممة والسهام الحارقة ، كما أمر "أسوكا "ملك الهند باحترام الجرحى الأعداء، والراهبات التي يعتنين بهم.

وفي العهد الروماني القديم كان جميع أهل روما جنودا، إلا أن الأمر تغير بعد ذلك وعرف القانون الروماني تحديدا للطوائف التي لها الحق في الاشتراك في القتال، واقتصر القتال على طائفة من السكان وهم الذين أقسموا اليمين العسكرية، كما عرف الرومان نظاما يقترب من نظام التعبئة العسكرية المعروف اليوم، وعلى الرغم من أن الحرب عند الرومان كانت حربا ضد الملوك وضد الشعوب وعلى السواء، شاملة شعب العدو وأفراده وممتلكاته، إلا أنهم قد فرقوا في الواقع فيما يتعلق بالشعب الروماني بين المقاتلين وغير المقاتلين.

نجد من زاوية أخرى أن بعض الفلاسفة الرومانيين الذين عرفوا بالفلاسفة الرواقيين أمثال (سينكا وتسترون) وغيرهم أخذوا بفكرة الوحدة الإنسانية للجنس البشري، والتنديد بالحروب، بل وصل بهم  الأمر إلى حد اعتبارها جريمة، حيث ندد (سينكا) بالحروب، وهو أول الفلاسفة الذين نادوا بفكرة مجرمي الحرب المعمول به في وقتنا الحالي، ونادوا فضلا عن ذلك بأن الحرب ينبغي أن لا تحطم جميع الروابط الإنسانية والقانونية، واستبدلوا القول (الويل للمهزومين) بحكمة تقول "أنا إنسان وليس أي شيء في الانسان غريب عني" أو "الأعداء متى جرحوا أصبحوا إخوة".

الفرع الثاني: في العصر الوسيط

تميز العصر الوسيط بظهور الديانات السماوية التوحيدية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والاسلام.

لا تعترف الديانة اليهودية المحرفة بأية قواعد للحرب بل تسنها غدرا وتبيحها في أي وقت، وتوصف حربها بالقسوة والشدة وقتل العجائز والأطفال وغير المقاتلين.

يثبت التاريخ أن العهد القديم اليهودي قد أورد بعض مبادئ الإنسانية قبل تحريفه، حيث ورد في "كتاب الملوك الثاني" أنه سأل ملك إسرائيل إيليا: "يا والدي هل أذبحهم؟ فأجاب لن تذبحهم، هل ستذبح من  أَسَرَتهم بسيفك وقوسك؟ ضع الماء والخبز أمامهم حتى يأكلوا ويشربوا ويذهبوا الى سيدهم".

تناول "سفر ثنية الاشتراع" واجبات على المقاتلين أثناء حصار مدينة ما، منها عدم قطع شجرها الا ما زرع لأجل الحرب، وعدم قتل الحيوانات الا لضرورة حربية، وهذا وفق ما ذكره مايمونيدس، والحاخام اشماعيل، بالإضافة الى ذلك كان اليهود القدامى يحترمون يوم الراحة "السبت" والأيام المقدسة الأخرى بأن لا يقاتلوا خلالها على أساس انها هدنة من الله.  

يقوم جوهر المسيحية الحقة على وحدة الجنس البشري القائمة على المحبة والإحسان والأخوة، وبالتالي عدم مشروعية الحرب، ولم تستمر هذه التعاليم السمحة كثيرا ولكن طرأ عليها التحريف عقب دخول الرومان في الديانة المسيحية، فاعتبروا تلك المبادئ بمثابة العقبة التي تقف أمام تطلعاتهم الدنيوية لأنهم متعطشون للحروب والغزوات واخضاع الآخرين لهم، ولذلك وضعوا نظرية الحرب العادلة من طرق القديس "سانت أوغستين" في كتابة مدينة الله ،وتم في هذه الفترة تحديد الأشخاص الذين يحق لهم المشاركة في القتال واقصاء ما عاداهم من المدنيين من أعمال القتال.

تزودت أوربا في نهاية القرون الوسطى بمؤسستين قانونيتين وهذا بفضل الديانة المسيحية حيث ساهمت في تنظيم الحروب (سلم الرب، وهدنة الرب) ففي 1095، تم إقرار "سلم الرب" لحماية طائفة من الأشخاص وهم الرهبان، الشيوخ، النساء، الأطفال، حيث تم إعلان حصانة أعيان بذاتها ،هي المعابد، المدارس، وأملاك الكنيسة، وأقرت الحماية للحيوانات والمحاصيل الزراعية، وفي عام 1096 تم إقرار (هدنة الرب) وتقضي بمنع الحرب في الفترة ما بين مساء الجمعة وصباح الإثنين من كل أسبوع، وخلال فترة الصيام التي تسبق عيدي الميلاد والفصح.

رغم تعاليم المسيحية التي تتميز بالتسامح الكبير عرفت أوروبا في العصور الوسـطى حروبـا دامية تميزت بالقسوة الشديدة بين المسيحيين أنفسهم كنتيجة لتفشي الإقطـاع والمنازعـات بـين الملـوك وتعصب الكنيسة، وقد ظهرت هذه القسوة والتعصب خاصة في الحروب الصليبية التي خاضـتها أوروبـا ضـد المسلمين في القرنين الحادي عشر والثاني عشر للميلاد"، كما أن الأسرة الأوروبية المسيحية كانت لا تعترف للشعوب غير المسيحية بأهليـة العضـوية ضمن أسرة الدول المتحضرة لذا كان القانون الدولي آنذاك قانونا عنصريا طائفيا.

يمكن القول بدون مبالغة إن: "الإسلام هو أول من أرسى قواعد قوانين الحـرب ووضـع مـن الأسس ما يضبط وينظم سلوك المحاربين أثناء عمليات القتال، وذلك بطريقة مفصلة وموضوعية لا تقـل بحال من الأحوال عن مستوى التقنيات الحديثة لقوانين، إن لم تكن تفوقها، دقة وشمولية".

تقوم الشريعة الإسلامية في مجال القانون الدولي الإنساني على المبادئ التالية:

أ- مبادئ الشرعية الإسلامية 

1- شرعية الحرب: الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو السلام، وليست الحرب إلا حالة طارئة لا تجوز إلا في مجال الدفاع، بدليل قوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتـدوا إن الله لا يحـب المعتدين".

2- مبدأ المساواة بين البشر: حيث يقول سبحانه وتعالى: "يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شـعوبا وقبائـل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".

وهذا بغض النظر عن اختلاف الشعوب في ديانتها ،حيث جاء في القرآن الكريم: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". وقال: ".... فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". 

3-احترام المعاهدات: وكانت أول معاهدة في الإسلام هي تلك التي عقدها الرسول صلى الله عليه وسلم مـع يهـود المدينة بعد الهجرة وتضمنت تحالفا عسكريا ومبادئ للتعايش مع احترام ديانة كل طرف والاشـتراك فـي الدفاع عن المدينة، وقد نقضها اليهود فيما بعد.

يأتي مبدأ الالتزام بالمعاهدات من قوله تعالى: "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا".

وتصل قوة الالتزام بالمعاهدات إلى درجة السمو على واجب المساعدة للمسلمين، بحيـث يتعـين الوفاء بالمعاهدة المعقودة مع غير المسلمين على واجب التناصر للمسلمين اعمالا لقوله جل شانه: "وان استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير"

ب- تنظيم السلوك أثناء الحرب: إذا كان لابد من الحرب، فإنها في الإسلام تخضع لقيود كثيرة تمليها الاعتبارات الإنسانية وذلك بهدف الحد من الآلام التي تخلفها والتجاوزات التي قد تصاحبها .واهم هذه القيود:

1- تحريم قتل المدنيين: ومن ذلك الحديث الشريف الذي وجهه الرسول صلى الله عليه وسلم لجيش أرسله: "انطلقوا باسم الله وبالله وعلى بركة رسول الله، لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأة، ولا تغلوا وضعوا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين". " وفي حديث آخر": سيروا باسم الله، في سبيل الله، وقاتلوا أعداء الله، ولا تغلوا ولا تعتدوا ولا تنفروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا".

بعث الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا إلى خالد بن الوليد وكان على رأس الجيش في إحدى الغزوات يقول له: "إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليدا أو امرأة أو عسيفا" ، وأخيرا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع".

إذا عرفنا أن العسيف هو الأجير الذي لا شأن له بالحرب أي الشخص المدني، تأكد لـدينا أن جميع المدنيين الذين لا يشتركون في القتال يتمتعون بحماية قانونية صارمة في الإسلام، وقـد وردت فـي كتب السيرة وقائع كثيرة، وأحاديث استنكر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم قتل من لم يشترك في القتال وخاصة من النسـاء والصبيان، ولا يرد استثناء على هذه القاعدة في الفقه الإسلامي، سوى بالنسبة للمشاركين في القتـال ولو كانوا شيوخا أو نساء.

من أبرز علامات التسامح، عدم قتل رجال الدين بصريح السنة النبوية المطهرة، حيث مع كون الحروب والفتوحات الإسلامية حروبا دعوية دينية، بلا خـلاف، فإنهـا امتـازت بـاحترام الأديان الأخرى وحرية ممارستها وهذا أكبر دليل على فساد وعدم موضوعية ونزاهـة الكتابـات التـي أشارت إلى تعصب الإسلام  وانتشاره بالسيف، فالفتوحات الإسلامية كانت في الحقيقة تهدف الى نشر الإسـلام ولكـن بالإقناع، وعمدت إلى إزالة الحكام المستبدين من طريق الدعوة حيث كانوا يحولـون دون بلوغهـا إلـى الشعوب، ولهذا حافظت الكثير من الأمم على دياناتها القديمة في ظل تسـامح الإسـلام، مثـل الأقبـاط ونصارى الشام والفرس إلى يومنا هذا.

2- أحكام الأسرى في الإسلام: من أهم آثار الحروب وقوع المقاتلين أحيانا في الأسر حيث يصبحون تحت رحمة العدو، وكـان الأسرى في الحروب القديمة يواجهون غالبا: إما القتل بأبشع الطرق، أو الاسـترقاق الـذي كـان واسـع الانتشار في كل الحضارات القديمة ويتمثل في بيع الأسير في سوق العبيد ليفقد حريته إلـى الأبـد، هـذا فضلا عن المعاملة السيئة.

حقق الإسلام في هذا المجال ثورة حقيقية، فعلى الرغم مـن عـدم إلغـاء الإسلام لنظام الرق واقتصاره على تضييق ينابيعه، ومن أهمها الحروب، رغم هـذا، كـان المبـدأ فـي الإسلام بالنسبة للأسرى يتمثل أساسا في الخيار بين المن أي إطلاق سراح الأسرى، أو الفداء ويتمثل فـي تبادل الأسرى أو دفعهم مبالغ لقاء حريتهم، وذلك مصداقا لقوله تعالى: "فإذا لقيتم الذين كفروا فضـرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد واما فداء حتى تضع الحرب أوزارها".

الفرع الثالث: في عصر النهضة الأوروبية

كانت لكتابات فلاسفة عصر التنوير وأرائهم الدافع الأساسي لظهور القانون الدولي الإنساني الحديث ،وخصوصا، أمثال جون جاك روسو وفاتيل كما ذهب إلى ذلك الأستاذ ستانيسلاف انهليك في كتابه عرض موجز للقانون الدولي الإنساني.

ظهرت قواعد هذا القانون ايضا، في مؤلفات الكتاب المسيحيين من دعاة الرحمة وتجنب القسوة في الحروب أمثال (فيتوريا وسواريز) الذين دعوا إلى التخفيف من وحشية الحروب.                                                             

خلال حرب الثلاثين عام التي اجتاحت أوروبا (1618-1648) بين الدول الكاثوليكية والدول البروتستانتية، ظهر الفقيه غروسيوس بمؤلفه المعروف ب (قانون الحرب والسلام)، حيث دعا على إثر هذه الحرب الى ضبط سلوك المتحاربين، منها عدم قتل المهزوم الا في الحالات الاستثنائية، وأنه لا يجوز تدمير الملكية الا لأسباب عسكرية ضرورية.

علاوة على ذلك نجد الفقيه مونتيسكيو Montesquieu الذي أوضح بأنه يجب على الأمم تبادل أكبر قدر من الخير أثناء السلم وأقل قدر من الشر زمن الحرب، واعتبر بأن القتل الذي يلي المعارك محل استنكار من جميع الأمم.

كما عبر الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau في نظريته ”العقد الاجتماعي أو مبادئ القانون السياسي" إلى ضرورة التفرقة بين المقاتل والمسالم، وايجاد تعريفات واضحة للضرورة العسكرية معبرا بذلك بقوله: "ليست الحرب علاقة بين إنسان وانسان، وانما علاقة بين دولة ودولة، والأفراد ليسوا أعداء إلا بصفة عرضية، لا كأفراد أو مواطنين ولكن كجنود، وعداؤهم ليس على أساس أنهم أشخاصا، وطبيعة هذه الخلافات لا يمكن أن تشكل علاقة حقيقية... إن نهاية الحرب تكون بتحطيم الدولة المعادية، مع الحق في قتل المدافعين عنها ما دامت الأسلحة في أيديهم، غير أنه بمجرد إلقاء الأسلحة واستسلامهم ،ينتهي بذلك كونهم أعداء أو أدوات للعداء، فإنهم يعودون من جديد ليصبحوا بشرا لا يحق لأي إنسان الاعتداء على حياتهم…".

الفرع الرابع: في العصر الحديث

 تعد معركة سولفرينو نقطة تحول هامة في مسيرة الحركة الإنسانية، فخلال ست عشرة ساعة من القتال وقع أربعين ألف من القتلى والجرحى.

وصل في ذلك اليوم الى هذه المنطقة المواطن السويسري "هنري دونان " لا كمقاتل بل كمدني جاء في زيارة عمل، وهناك شاهد ما خلفته تلك الحرب من عدد هائل من الجرحى والقتلى، وعند عودته الى سويسرا ألف كتابه المعروف "تذكار سولفرينو"، ونشره عام 1862، ولقد كان لهذا الكتاب دوره الكبير في انماء الحركة الإنسانية، وذلك لأهمية الفكرتين الإنسانيتين التي تقدم بهما في ذلك الوقت للتخفيف من ويلات الحرب والمتمثلتين في:

1- يدعو فيها الى تشكيل جمعيات إغاثة في وقت السلم، تضم ممرضين وممرضات مستعدين لرعاية الجرحى وقت الحرب.

2- يدعو فيه الى الاعتراف بأولئك المتطوعين الذين يتعين عليهم مساعدة أفراد الخدمات الطبية التابعة للجيش وحمايتهم بموجب اتفاق دولي.

عقدت لجنة خاصة عام 1863، عرفت باسم "جمعية جنيف للمنفعة العامة تتألف من الجنرال ديفورGuillaume-Henri Dufour ، وغوستاف مونييه Gustave Monier ، والطبيبين تيودور مونوي Théodore Maunoir  ولويس أبيا Louis Appia ، وهنري دونان Henry Dunant

بالإضافة إلى ممثلي (16) بلداً آخر، لتنظيم مؤتمر في جنيف لمناقشة مقترحات هنري دونان بناءً على أحداث معركة سولفيرينو.

أوصى هذا المؤتمر بإنشاء “جمعيات وطنية للإغاثة” وطلب إلى الحكومات أن تمنح الحماية والمساندة لهذه الجمعيات، كما أعرب المؤتمر علاوة على ذلك عن أمله في أن تعلن الدول المحاربة منذ وقت السلم، حياد المعازل الصحية والمستشفيات الميدانية، أي لا يجوز مهاجمتها، وأن تمتد هذه الحماية لتشمل الموظفين الصحيين بالجيوش والمساعدين الطوعيين والجرحى أنفسهم، وأن تختار الحكومات علامة مميزة مشتركة للأشخاص والأعيان الذين يمنحون الحماية، وبالفعل أنشأت اللجنة السابقة الذكر اللجنة الدولية لإغاثة الجرحى التي تحولت فيما بعد الى اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي.

يعود الفضل في تأسيس هذه اللجنة الى السويسري (هنري دونان) وشعوره الإنساني العميق، وهي مؤسسة إنسانية عير متحيزة، ومحايدة، ومستقلة، ولدت في خضم الحرب منذ أكثر من (140) عاما، تعمل كوسيٌط محايد بين الأطراف المتحاربة، وتسعى إلى تأمين الحماية والمساعدة لضحايا النزاعات المسلحة ،والاضطرابات الداخلية وغيرها من حالات العنف الداخلي.

المطلب الثالث: علاقة القانون الدولي الإنساني بغيره من فروع القانون الدولي

يمكن أن تكون هناك علاقة ونقاط التقاء بين القانون الدولي الإنساني وبعض فروع القانون الدولي الأخرى ،وبالخصوص القانون الدولي لحقوق الإنسان (الفرع الأول)، والقانون الجنائي الدولي (الفرع الثاني).

الفرع الأول: القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان

لكل مصطلح من المصطلحين دلالة تميزه عن الآخر، إلا أن هذا التميّز لا ينف وجود رابطة وعلاقة بين القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.

 إذا كان يراد بمبادئ حقوق الإنسان في الدراسات القانونية والحقوقية الحديثة، حماية الإنسان في وقت السلم من تجاوزات السلطة على رعاياها، سواء في المجالات الأساسية المتعلقة بحق الحياة والكرامة الإنسانية، أو في المجالات السياسية المتعلقة بحقوق الأفراد والجماعات والحريات، فان قواعد القانون الدولي الإنساني تهدف إلى حماية الانسان ورعايا العدو وقت النزاع المسلح.

يعني هذا أن القانون الدولي لحقوق الإنسان يهدف إلى حماية ومنح حقوق لكل الأفراد في زمن السلم والحرب، كما أنّه يعطي عناية خاصة ويكفل حماية إضافية لبعض الفئات الضعيفة مثل النساء والأطفال والمعوقين والسكان الأصليين والنازحين وخلافهم، في حين يهدف القانون الدولي الإنساني إلى حماية الأشخاص دون تمييز الذين يشتركون أو الذين ما عادوا يشتركون بصفة مباشرة في الأعمال العدائية، وهم الجرحى والمرضى والغرقى وأسرى الحرب والمحتجزون والمدنيون خاصة النساء والأطفال، كما أنّه يحمي بعض المنشآت ووسائل النقل.

إذا كان كلا القانونين يهدفان بالدرجة الأولى الى حماية الانسان والحياة الإنسانية، وحظر التعذيب، أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية، أو المهينة، تحظر الأعمال الانتقامية والعقوبات الجماعية، أخذ الرهائن، لكل انسان الحق بالانتفاع بالضمانات القضائية، ومن ثم فان صيانة حرمة الانسان هي القاسم المشترك بين القانونين.

ركز الفقيه جون بيكته على أهمية النظر الى القانون الدولي الإنساني في شموليته، بحيث يشمل كما سبق وأن أشرنا الى هذا على فرعين، قانون النزاعات المسلحة وقانون حقوق الانسان، وبالتالي فهما متداخلان باعتبار أن كلاهما يسعى الى حماية قيم إنسانية سامية، وحماية شخص الانسان دون تفرقة وتمييز في اللون أو الجنس أو المعتقد فهذه القاعدة تتصل بالإنسان أيا كانت هويته.

أما من حيث الوفاء بالالتزامات فإن القانون الدولي الإنساني لا يستثني حالات تعفى فيها الدول من الوفاء بالتزاماتها الواردة في القانون الدولي الإنساني، كما أنّ تلك الالتزامات لا تقيد باعتبارات الأمن القومي وخلافه، وكذلك تطبيق الالتزامات فوار وليس بالتدريج، في حين أنّ القانون الدولي لحقوق الإنسان، يمكن للدول أن تعفي نفسها من الوفاء بالتزاماتها في حالات الطوارئ العامة، ما عدا الالتزامات المتعلقة بالحق في الحياة ومنع التعذيب والمعاملة القاسية وحظر الاسترقاق والعبودية وحظر السجن للعجز عن الوفاء بالتزام تعاقدي، وعدم رجعية القوانين وكفالة الشخصية القانونية وحرية الفكر والوجدان والدين وعدم التمييز، وكذلك فإنّ بعض الحقوق والحريات تقيد لاعتبارات الأمن وخلافه، بالإضافة إلى ذلك فإن الالتزام بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يكون بالتدرج وفقا لإمكانيات الدولة. 

يتفق القانونين في أمور مشتركة، تتمثل في:

- تجريم التعذيب والعقاب غير الإنساني.

- توفير احترام كرامة الإنسان وشرفه وعقيدته وحقوقه العائلية.

- تمتع كل إنسان بحق تبادل الأخبار مع عائلته، وتوفير حق المأوى، ورعاية حالته المعيشية.

- تجريم أعمال الانتقام والعقوبات الجماعية، وأخذ الرهائن، والطرد أو الإبعاد، وبراءة كل إنسان من التهمة أو العمل الذي لم يرتكبه.

الفرع الثاني: القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي

يعتبر القانون الجنائي الدولي فرع من النظام القانوني الدولي يهدف إلى منع الجريمة ومعاقبة المجرمين الدوليين، والحفاظ على سلامة المجتمع الوطني والدولي.

كما يعرف بعض الفقهاء القانون الجنائي الدولي بأنّه ذلك الفرع من النظام القانوني الدولي الذي يمثل أحد السبل المستخدمة لتحقيق درجة عالية من التوافق والانسجام مع أهداف المجتمع الدولي، في منع الجريمة والحفاظ على المجتمع وتقويم المنحرفين لوقايته

وتحقيق المصالح العليا للمجتمع الدولي، ويعتبر القانون الجنائي الدولي ثمرة تقارب الجوانب الدولية في القانون الجنائي الوطني، والجوانب الجنائية في القانون الدولي.

تتمثل العلاقة بين القانونين ترتيبا لما سبق في:

- ان مضمون الحماية في القانون الجنائي الدولي هو حماية شخص الإنسان من الجرائم ذات الطابع الدولي، ولهذا فهي تجد مصدرها في القواعد العرفية، والقواعد التعاهدية ،وهو يلتقي في هذا مع القانون الدولي الإنساني الذي يجد مصدره في ذات القواعد، ويترتب على ذلك أيضا أنّ كلاً من القانونين ينتميان إلى مصدر واحد وهو القانون الدولي العام.

- ان القانون الجنائي الدولي قد نشأ في ظل قانون الحرب، حيث بدأ بوضع قواعد الرقابة على الحرب وتنظيم النزاعات المسلحة، لهذا فإنّ مصادر التجريم في القانون الجنائي تستمد مباشرة من المعاهدات الدولية التي تمثل مصدر القانون الدولي الإنساني، فقد نشأ القانون الجنائي الدولي في بعض جوانبه في كنف القانون الدولي الإنساني، حيث إنّ الإرهاصات الأولى للقانون الجنائي الدولي كانت مع بداية تصور المجتمع الدولي لتجريم صور الانتهاكات الجسيمة لعادات وأعراف الحرب، على الرغم من اتساع نطاق التجريم على المستوى الدولي ليشمل جرائم دولية أخرى (الإرهاب الدولي، التعذيب، الإتجار غير المشروع بالمخدرات، الإتجار بالرقيق... إلخ). 

- تؤكد السوابق القضائية الجنائية الدولية مدى التداخل والتفاعل بين القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي، ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية شكلت دول الحلفاء محكمتين دوليتين لمحاكمة مجرمي الحرب، وقد استند ميثاق المحكمتين على مبادئ القانون الدولي الإنساني التي تمثله في ذلك قانون لاهاي، واستخدمت المحكمة مصطلح جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم ضد السلام.

كما يتبين هذا التداخل والتفاعل بين القانونين من خلال ما قام به مجلس الأمن للأمم المتحدة من إنشاء المحكمة الجنائية المؤقتة لمحاكمة مجرمي حرب يوغسلافيا، حيث اعتمد ميثاق إنشاء المحكمة على اتفاقيات جنيف لعام 1949، والبروتوكولين الملحقين بها، عند وصف جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة لأعراف وقوانين الحرب، وهذا ما حدث بشأن إنشاء محكمة روندا التي تمثل صورة لتفعيل القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي في النزاع المسلح غير الدولي.

تكتمل دائرة التفاعل والتداخل بين القانونين من خلال إنشاء المحكمة الجنائية الدولية بموجب النظام الأساسي في مؤتمر روما الدبلوماسي في عام 1998، إذ جاء في تعريفها لجرائم الحرب، بأنّها الجرائم التي ترتكب مخالفة لأحكام اتفاقيات جنيف لعام 1949، والبروتوكولين الملحقين بها، بمعنى أنّ القانون الدولي الإنساني يعد القانون الموضوعي للقانون الجنائي الدولي.

ان دراسة العلاقة بين القانون الدولي الإنساني والمحكمة الجنائية الدولية تنطلق من النظر الى أن عملية انشاء هذه المحكمة، كانت لضرورة سد نقص في النظام القانوني الدولي عامة، والقانون الدولي الإنساني خاصة، بسبب انعدام مؤسسة جنائية دولية.

تعتبر المحكمة الجنائية الدولية هيئة قضائية جنائية دولية مستقلة ومكملة للولايات القضائية الوطنية، أنشأت بموجب اتفاقية دولية لتمارس سلطتها القضائية على الأشخاص الطبيعيين المسؤولين عن ارتكاب الجرائم الدولية الأشد خطورة والمدرجة في نظامها الأساسي.

نجد من بين هذه الجرائم جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة، التي تشكل في مجملها أهم صور الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، خاصة اتفاقيات جنيف الأربعة لعام 1949 لحماية ضحايا الحرب، والبروتوكولين الملحقان بها لعام 1977، وهذا ما يشكل الجانب الموضوعي لاختصاص المحكمة.

المرجع:

  1. د. لونيسي علي، محاضرات في مادة القانون الدولي الإنساني، مطبوعة موجهة لطلبة السنة الثالثة ليسانس، تخصص قانون عام، جامعة أكلي محند ولحاج -البويرة- كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجزائر، السنة الجامعية 2019/2020، ص6 إلى ص36. 
google-playkhamsatmostaqltradent