المسؤولية الجزائية لُمرتكب الجريمة

المسؤولية الجزائية لُمرتكب الجريمة

المسؤولية الجزائية لُمرتكب الجريمة

يترتبّ عن اجتماع أركان الجريمة الثلاثة (الشرعي والمادّي والمعنوي) تحمّل تبعاتها القانونية من طرف الشخص الذي ارتكبها، حيث يسُأل هذا الأخير عن الأسباب التي جعلته يتخّذ هذا المسلك الإجرامي ويحُاسَب عن خطئه بتوقيع الجزاء المُستحق.

المسؤولية الجزائية هي الإلتزام بتحمّل النتائج القانونية المُترتبّة عن ارتكاب الجريمة، وموضوع الالتزام هو العقوبة أو التدبير الأمني الذي ينُزله القانون بالمسؤول عن الجريمة.

والمسؤولون جنائيا على نوعين هما الأشخاص الطبيعية، والأشخاص المعنوية، حيث ندرس في هذا المطلب أحكام المسؤولية الجزائية بالنسبة للشخص الطبيعي، والشخص المعنوي.

  • المطلب الأوّل: المسؤولية الجزائية للشخص الطبيعي
  • المطلب الثاني: المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي

المطلب الأول: المسؤولية الجزائية للشخص الطبيعي

ما هي شروط قيام المسؤولية الجزائية للشخص الطبيعي؟ وما هي أسباب انتفائها؟

الفرع الأول: أساس المسؤولية الجزائية وشروطها

أوّلا: أساس المسؤولية الجزائية: 

أ) مذهب الحرّية 

يمُثل الجانب الغالب من الفقه ويرى، أنّ أساس المسؤولية الجزائية هو حرّية الاختيار حيث يسُأل المجرم عن جريمته لأنهّ استعمل حُرّيته على نحو يوجب مُساءلته فاختار طريق مخالفة القانون وكان في وُسعه اختيار الطريق الموافق للقانون، فالمسؤولية لومٌ للإنسان، لأنّ أمامه خيارات أخرى غير خيار الجريمة. أمّا إذا كانت مخالفة القانون مفروضة عليه فلا محلّ للمسؤولية. 

ب) مذهب الجبرية

 ينُكرُ هذا المذهب حرّيةّ الاختيار ويرى أنّ تصرّفات الانسان مُقدّرةٌ عليه، فهو يوجّه إرادته إلى طريق الجريمة لأنهّ ليس باستطاعته أن يفعل غير ذلك. وهذا المذهب يستند إلى فكرة قانون السببية الحتمية المرتبط بالعلوم الطبيعية التجريبية التي تحكم ظواهر الكون، مُعتبرين أنّ الجريمة ظاهرة كونية ليست ثمرة حرية الاختيار ولكن سببها هو عوامل ذاتية نفسية وعوامل اجتماعية بيئية.

ومن ثمّ فأساس المسؤولية هو الدفاع الاجتماعي ضدّ الخطورة الإجرامية الكامنة في الشخص.

ثانيا: شروط قيام المسؤولية الجزائية (الأهلية الجزائية)

لا يتحمّل الشخص المسؤولية إلا إذا كانت له الأهلية الجزائية أي صلاحية الشخص لتحمّل المسؤولية وهي تتكوّن من عنصرين هما القدرة العقلية وحرية الاختيار، وهما شرطا قيامها. 

أ) الإدراك: 

1) مفهوم الإدراك: الإدراك يقُصد به العقل والوعي وقدرة الشخص على فهم أفعاله وتقدير نتائجها ،والتمييز بين المجَّرَّم والمباح. حيثُ يولد الإنسانُ فاقد الإدراك، ثمُّ يبدأ عقله بالنمو تدريجيا حتى يصل مرحلة الإدراك الجزئي ثمّ الإدراك التام.

فالأهلية الجنائية تحققّ ببلوغ الشخص سناّ مُعينّة هي سنّ التمييز أو سن الرشد، وبأنّ يكون صحيحا  وسليما من الناحية العقلية. فالصغير غير المميز والمجنون ومن هو في حالة إغماء والنائم، ليسوا أهلا للمسؤولية الجزائية، لانعدام القدرة لديهم على فهم القانون والأفعال المجرّمة والشعور بها، وعلى التمييز بين الخير والشر.

2) سن الإدراك والأهلية الجنائية: استنادا لتطور الإدراك لدى الإنسان كُلمّا تقدّم في السن، قسّم المُشرّع الأشخاص من حيث الأهلية الجزائية ومقدار المسؤولية الجزائية إلى ثلاث فئات:

ـ القاصر غير المُميز: هو الحدث الذي أتمّ العشر (10) سنوات من عُمره ولم يتمّ الثالثة عشرة (13) يسُأل جزائيا ولا يعُدّ قصره مانعا من موانع العقاب، حيثُ يقُدّمُ أمام محكمة الأحداث ولكن لا تفرض بحقهم أيةّ عقوبة ـ من حيث المبدأ ـ لأنّ مسؤوليته الجزائية مسؤولية ناقصة، يكُتفى فيها بفرض تدابير الحماية أو التهذيب عليه، المادة 49 "لا توقع على القاصر الذي يتراوح سنه من 10 إلى أقل من 13 سنة إلا تدابير الحماية أو التهذيب. ومع ذلك، فإنهّ في مواد المخالفات لا يكون محلا إلا للتوبيخ". 

وهذه التدابير هي المنصوص عليها في المادّة 444 ق إ ج ج كتسليم الحدث إلى أبويه، أو إلى وليهّ الشرعي، أو إلى أحد أفراد أسرته، أو وضعه في مؤسسة عامّة أو خاصّة معدة للتهذيب أو التكوين المهني ،أو وضعه في مدرسة داخلية صالحة لإيواء الأحداث المجرمين في سن الدراسة، أو وضعه في مؤسسة عامة للتهذيب تحت المراقبة أو للتربية الإصلاحية.

ـ القاصر المُميزّ: هو الحدث الذي كان عمره في الثالثة عشرة (13) وأقل من الثامنة عشر (18)، وكانت جريمته جناية أو جنحة، فيعُدُّ  قصره عُذرا  قانونيا مُخففا ، يخضع إمّا لتدابير الحماية والتهذيب أو لعقوبات مُخففّة حسب ما نصّت عليه المادة 49 ق ع ج .وأكّدتها المادّة الثانية من قانون حماية الطفل رقم    15-12 والتي عرّفت الطفل الحدث والجانح. ونصّت المادّة 86 من هذا القانون على إمكانية استبدال التدابير بالعقوبات المُبينّة في المادّة 50 من قانون العقوبات.

ـ الراشد: يبدأ الإدراك التام لدى الإنسان في مرحلة النضج والخبرة اللازمين لإدراك ماهية الأفعال والتفريق بين المباح والممنوع، والإحاطة بالنتائج المادية والمعنوية التي تترتب على مخالفة القوانين. فالراشد في القانون الجزائري مثل أغلب القوانين الوضعية هو البالغ الذي بلغ سنّ الرشد الجزائي المُقدّر بـ 18 سنة. مثلما نصّت عليه المادّة الثانية من قانون حماية الطفل، والعبرة في ذلك بسن الشخص في تاريخ ارتكاب الجريمة. حيثُ يعتبر كامل الأهلية يسُأل مسؤولية كاملة عن جميع السلوكات المجرّمة قانونا.

ب) حرية الاختيار:

يقصد بحرية الاختيار حرّية الإرادة أو القدرة على توجيه السلوك نحو فعل معين أو امتناع عن فعل معين، بعيدا عن وجود أي مؤثرات خارجية تعمل على تحريك الإرادة أو توجيهها خلافا لرغبة أو رضاء صاحبها. فإذا فقد الإنسان حرية الاختيار بسبب الإكراه, وأجُبر على اقتراف فعل إجرامي لا يسأل جزائيا  عن هذا الفعل لفقدانه حرية الاختيار، إذ لولا الإكراه لما أقدم الفاعل على ارتكاب فعله. وهو لا يسلب الإدراك والتمييز مثل الجنون ولكن يسلب حرّيةّ الإرادة والاختيار.

الفرع الثاني: موانع المسؤولية الجزائية

نظّم المشرّع موانع المسؤولية الجزائية في المواد 47 إلى 50 من قانون العقوبات، وحصرها في صغر السن والجنون والإكراه.

أوّلا: صغر السنّ (القصِر): 

إبتداء من سنة 2014 وبموجب القانون 14-01 المُعدّل لقانون العقوبات حدّد المُشرّع السّن الأدنى الذي لا يكون فيه الطفل الصغير محلّ مُتابعة ومسؤولية جزائية، وهو السن دون العشر (10) سنوات، فالأحداث الذين لم يتُمُّوا العاشرة من عمرهم ليسوا أهلا للمسؤولية الجزائية، فلا يستحقون أيةّ عقوبة ولا يلاحقون جزائيا وهذا النوع من القِصَر يعُدّ مانعا من موانع العقاب، لفقدان الإدراك. الم49 "لا يكون محلا للمتابعة الجزائية القاصر الذي لم يكُمل عشر10 سنوات".

ثانيا: الجنون:

نصّت المادة 47 ق ع أنهّ لا عقوبة على من كان في حالة جنون وقت ارتكاب الجريمة وذلك لا يمنع من اتخاذ تدابير ضدّ الشخص طبقا لنصّ المادة 21.

أ) يعُرّف الجنون بأنه إضطرابٌ في القوى العقلية، يفُقد المرء القدرة على التمييز والسيطرة على أفعاله. فهو حالة عقلية تتصف بفقدان ملكة الإدراك (أو العقل أو الوعي)، وما يرافقها من اختلال وضعف في الوظائف الذهنية للدماغ، وزوال القدرة على التحكم وتوجيه الإرادة. 

ومن الجنون ما يكون مُطْبقا، وهو الجنون الكلي الدائم. ومنه ما يكون متقطعا، وهو الجنون الذي يظهر في أوقات متقطعة لساعات أو أيام، ثم يعود المجنون لوعيه ويملك زمام إرادته. ومنه ما يكون جزئيا   يصيب جزءا معينا من دماغ الإنسان فيفقده بعض ملكاته العقلية.

ويلحق بالجنون الأمراض العقلية والعصبية التي تفُقد الإدراك والإرادة. ومنها الصرع، والهستريا ،والذهان، والوسواس الجنوني، وازدواج الشخصية أو انفصام الشخصية (الشيزوفرينيا)، وتسلطّ الأفكار الخبيثة، واليقظة أثناء النوم... الخ.

ب) انعدام المسؤولية الجزائية بالجنون:

ـ العبرة بالحالة العقلية التي يكون عليها المريض أثناء ارتكاب الجريمة.

ـ ولا ينطبق حكم الجنون على حالة السكر أو تناول المُخدّرات، بل أحيانا تعُتبر ظرف تشديد كما في القتل الخطأ والجرح الخطأ (الم 290 ق ع ج، والم 66 من قانون المرور) إلا إذا كان السكر اضطراريا. 

ـ وامتناع المسؤولية الجزائية لسبب الجنون لا يمنع القاض من الحكم على الجاني بالتدابير المنصوص عليها في المادّة 21/2 ق ع ج. وهي الوضع القضائي في مؤسسة استشفائية للأمراض العقلية. ويجب إثبات الخلل العقلي في الحكم الصادر بالحجز القضائي بعد الفحص الطبي. وامتناع المسؤولية الجزائية لسبب الجنون لا يمنع من قيام مسؤوليته المدنية عن الأثار التي خلفّتها الجريمة.

ثالثا: الإكراه:

نصّت المادة 48 ق ع ج  أنهّ لا عقوبة لمن اضطرته إلى ارتكاب الجريمة قوة لا قبل له بدفعها.

والإكراه لا ينفي الجريمة ولكن ينفي المسؤولية الجزائية والعقاب، وهو نوعان إكراه مادّي وإكراه معنوي.

أ) الإكراه المادي:

هو أن تقع على الشخص قوّة مادّية خارجية تجعله مدفوعا بصورة جبرية إلى ارتكاب فعل يعدُّ جريمة، وهذه القوة الخارجية لا يدَ له في حدوثها، ولا يستطيع توقعها قبل حدوثها.

وهذه القوة المادية، قد يكون مصدرُها الطبيعة كالتقلبات المناخية أو الأرضية، أو الحيوانات، وقد يكون مصدرها الإنسان كالتهديد بالسلاح أو كمن يمُسك بيد الشخص ويجُبره على تزوير الوثيقة، أو كالحروب، والفتن والإضطرابات. ولقيام حالة الإكراه المادي لا بدُّ من توافر شروط أربعة وهي:

1) أن يكون الإكراه ماديا: لا يدع للشخص مجالا للاختيار. أمّا مجرد الظروف أو الأسباب النفسية أو المعنوية التي يشعر معها الشخص بالضيق والحرج أو الألم النفسي أو العاطفي، فإنها لا تعُدّ من قبيل الإكراه، وإذا ثبت أن لها دورا في الجريمة، فقد تفُيد تخفيف العقوبة. 

2) عدم إمكان مقاومة القوة: أي أن يكون الفاعل في موقع يستحيل معه التصرّف بغير ارتكاب جريمة، وينبغي تقدير هذا العنصر بدقة. فالسبب يعتبر قاهرا و مبررا لنفي المساءلة إذا لم يكن يمكن تفاديه.

3) عدم توقع القوة: تكون مفاجئة للشخص لا تترك له فرصة التفكير وخيار تفادي الجريمة.

ب) الإكراه المعنوي:

هو الضغط بقوة معنوية على الإرادة والجانب النفسي للشخص لحمله على اقتراف السلوك الإجرامي ،كأن يكون بالتهديد بالقتل أو الاختطاف أو بنشر أخبار أو صور.

المطلب الثاني: المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي

ـ يعُرّف الشخص المعنوي بأنهّ "مجموعة من الأشخاص الطبيعية والأموال يعترف لها القانون بالشخصية القانونية المُستقلةّ فيكون قابلا لاكتساب حقوق وتحمّل التزامات. مثل الدولة، والمؤسسات العمومية، والبلديات، والجمعيات، والنقابات، والشركات. ويترتبّ عن الإعتراف بالشخص المعنوي تمتعُه بالأهلية القانونية وأهلية التقاضي والذمّة المالية والموطن المُستقل حسب المواد 49-52 من القانون المدني. 

ـ أدّت التحوّلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي عرفها العالم إلى انتشار الأشخاص المعنوية بكثرة وهي تقوم بدور كبير في المجتمع في مختلف المجالات وخاصّة المجال الاقتصادي. وقد كان الشخص المعنوي موضع مساءلة مدنية فقط، لكنّ التجربة بينّت أنهّ قد تمُارس الشركة تجارة الممنوعات، أو ترتكب جرائم مالية، أو تهُمل صيانة مُنشآتها فتتسبب في قتل أو جرح شخص. مما جعل بعض الفقه ينادي بضرورة تكريس المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي.

فما الجدل الفقهي الدائر حول المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، وما أحكامها في التشريع؟

الفرع الأول: موقف الفقه والتشريع من المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي

ثارت نقاشات فقهية كثيرة حول إقرار مُسؤولية الشخص المعنوي جنائيا، وانعكس على التشريعات. 

أوّلا: الخلاف الفقهي حول المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي: 

يتلخص الخلاف في اتجاهين فقهيين، اتجاه رافض واتجاه مؤيدّ:

أ) الإتجاه التقليدي المُعارض: 

يرفض هذا المذهب مُساءلة الشخص المعنوي جزائيا عن الجريمة التي يرتكبها باسمه ولحسابه مُمثلوُه أثناء قيامهم بأعماله، ويرون أنّ الشخص المعنوي تتُخذ ضدّه تدابير وليس عقوبات وبرّروا ذلك كالآتي: 

1ـ إستحالة إسناد الجريمة للشخص المعنوي بسبب طبيعته الإفتراضية المجازية: لأنّ الشخص المعنوي مُجرّد افتراض قانوني وليس له كيان مادّي حقيقي. ولأنّ الأهلية الجنائية تفترض وجود الوعي والإرادة المُستقلةّ وهما لا يتوفران إلا للإنسان الطبيعي. 

2ـ تعارض المسؤولية الجزائية مع قاعدة تخصّص الشخص المعنوي: لأنّ منحه الشخصية القانونية يكون في حدود غرض تأسيسه كشركة أو جمعية أو نقابة، فإذا تجاوزه انعدمت الشخصية المعنوية.

3ـ تعارض المسؤولية الجزائية مع مبدأ شخصية العقوبة: لأنّ العقوبة المُطبقّة عليه ستصُيب جميع الأشخاص الطبيعيين المكونين له والعاملين لديه دون أن يسُاهموا في الجريمة. 

4ـ أغلب العقوبات غير قابلة للتطبيق على الشخص المعنوي: لا الإعدام ولا سلب الحرّية ولا التنفيذ بالإكراه البدني.

5ـ مُعاقبة الشخص المعنوي لا تحُقق أغراض العقوبة: وهي إصلاح المحكوم عليه وإعادة تأهيله وإدماجه، والردع الخاص والردع العام، فالإنسان فقط هو الذي يمكن ردعه وتخويفه.

ب) الإتجاه الحديث المُؤيدّ:

يؤيدّ مساءلة الشخص المعنوي جزائيا إلى جانب الشخص الطبيعي استنادا للمُبرّرات التالية:

1ـ الشخص المعنوي له كيان قانوني حقيقي مُستقل بذاته، والقانون لا يعتد بالوجود الفزيولوجي بل بأهلية التمتع بالحقوق وتحمُّل الإلتزامات، بدليل الاعتراف بمُسؤوليته المدنية.

2ـ الشخص المعنوي له إرادة ويمُكن يتُصور توافر الركن المعنوي بإرادة يعُبرّ عنها مُمثلوه وأجهزته الخاصّة وتجُسدها مداولات مجلس الإدارة.

3ـ الشخص المعنوي يرتكب الجرائم بواسطة أعضائه وممثليه فهم شركاؤُه. كجرائم الشركات وجرائم النصب وخيانة الأمانة والتزوير والتهُّرُّب الضريبي وجرائم البيئة وجرائم العمل.

4ـ أغلب العقوبات يمكن تطبيقها على الشخص المعنوي ولها آثارها الغير مُباشرة على الغير مثل عقوبات الشخص الطبيعي. 

5ـ فعالية هذه المسؤولية في مكافحة إجرام الشخص المعنوي، فلا يمُكن مواجهته إلا بعقوبات جزائية.  خاصّة الإجرام الإقتصادي لحماية مواد ووسائل الإنتاج. 

6ـ فكرة الردع والإصلاح تطُبقّ على الشخص المعنوي بعقوبات تتلاءم مع طبيعته تجعله يخشاها فيمتنع عن ارتكاب الجريمة، أو تدفعه إلى الإصلاح الذاتي الداخلي. لأنهّا تسُيئ إلى سمعته فتسُببّ له خسائر كبيرة كالغرامة والمصادرة والمنع المؤقت من مزاولة النشاط، أو عقوبة الحل التي تشُبه الإعدام.

7ـ تحقيق العدالة يقتضي توزيع المسؤولية الجزائية بين الشخص المعنوي والأشخاص الطبيعيين الذين ارتكبوا الجريمة لحسابه.

ثانيا: موقف المشرّع الجزائري من المسؤوليـة الجزائيـة للشخـص المعنوي: 

موقف المُشرّع الجزائري من المسؤوليـة الجزائيـة للشخـص المعنوي جاء مُتدرّجا في مراحل.

أ) مرحلة عدم الإقرار: 

ـ لم يكن المشرع يتبنىّ المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي في قانون العقوبات لسنة 1966 بنصّ  صريح على أفعال أو جزاءات خاصّة به. والنصّ الوحيد الذي ذُكر فيه هو المادة 9 في عبارة "حل الشخص الاعتباري" ضمن العقوبات التكميلية التي يجوز الحكم بها على الشخص الطبيعي مُرتكب الجناية أو الجنحة ،ولم ينص بأنهّا عقوبة ناجمة عن مسؤولية شخص اعتباري، لا في المبادئ العامّة ولا القسم الخاص.

ـ أمّا المواد 646-654 من قانون الإجراءات الإجزائية المتعلقّة بفهرس الشركات في باب صحيفة السوابق العدلية الخاصّة بالشركات المدنية والتجارية ،فقد استبعدت إمكانية توقيع عقوبة على الشخص المعنوي إلاّ بصفة استثنائية وبنصوص خاصّة، وأقرّ إمكانية اتخاذ تدابير ضدّه.

ـ وبسبب غياب النصّ الصريح على المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، والنظام الإجرائي الخاص بمحاكمته وتنفيذ العقوبة عليه، استبعدها القضاء الجزائري في عدة مناسبات، بناء على مبدأ شخصية العقوبة.

ب) مرحلة الإقرار الجزئي:

ظهر إقرار المشرع بالمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي جُزئيا، في بعض القوانين الخاصّة منها:

ـ قانون المالية لسنة 1991 بالمادة 303/9 "عندما ترتكب المخالفة من قبل شركة أو شخص معنوي آخر تابع للقانون الخاص، يصدر الحكم بعقوبات الحبس المستحقة الغرامات الجزائية وبالعقوبات التكميلية ضد المتصرفين، والممثلين الشرعيين، أو القانونيين للمجموعة، وضد الشخص المعنوي...".

ـ قانون الصرف وحركة روس الأموال رقم 96/22 في المادّة 5 "يعتبر الشخص المعنوي الخاضع للقانون الخاص دون المســـاس بالمسؤولية الجزائية لممثليه الشرعيين، مسؤولا عن (مخالفات الصرف) المرتكبة لحسابه، من قبل أجهزته أو ممثليه الشرعيين". وطبقّ هذا القانون عقوبة الغرامة والمصادرة والتدابير الأخرى، لكنهّ لم يستثن الدولة والجماعات المحلية والعمومية، ثمّ استدرك الأمر وبتعديل قانون الصرف بالقانون 03 /01 فحدّد الأشخاص المعنوية الخاصة كمحل للمساءلة الجزائية، واشترط بأن ترتكب الجريمة لحساب الشخص المعنوي، ومن قبل أجهزته أو ممثليه، مع تبيان إجراءات المتابعة والعقوبات.

جـ) مرحلة التكريس الفعلي لمبدأ المسؤولية الجزائية:

استحدث المُشرّع نظام المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، وحدّدها من ناحية طبيعة الأشخـاص والجرائم والشروط، دون أن تنفي مسؤولية الأشخاص الطبيعيين فاعلين كانوا أو شركاء في الجريمة التي يسُأل عنها الشخص المعنوي. وهو ما قرّره بتاريخ 10 نوفمبر2004، في تعديل كل من قانون العقوبات بالقانون 04 /15 وقانون الإجراءات الجزائية بالقانون 04/14 وبعض القوانين الخاصّة. 

1) في قانون العقوبات: 

ـ الباب الأول مكرر من الكتاب الأوّل، تضمّنت المادتان 18 مكرر ،18 مكرر1. العقوبات المطبقـة على الأشخاص المعنوية. 

ـ الباب الثاني من الكتاب الثاني: تضمن الفصل الثاني منه المتعلق بالمسؤولية الجزائية شروط المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي، في المادّة 51 مُكرّر. وتضمّن الفصل الثالث المُتعلقّ بشخصية العقوبة، ظروف تخفيف العقوبة على الشخص المعنوي في المادّة 53 مُكرّر 7، وظروف تشديدها في المواد 53 مُكرّر8، و54 مُكرّر5 إلى 54 مُكرّر9.

ـ الكتاب الثالث المتعلقّ بالجنايات والجنح وعقوباتها: إشتمل على نصوص كثيرة تحُدّد الجرائم المُرتكبة من طرف الشخص المعنوي، أغلبها يتعلقّ بعالم الأعمال، نذكرُ بعضها لاحقا.

2) في قانون الإجراءات الجزائية:

استحدث المُشرّع الجزائري فصلا ثالثا في الباب الثاني الخاص بالتحقيقات تحت عنوان "في المتابعة الجزائية للشخص المعنوي" تضمّنته المواد من 65 مكرر إلى 65 مكرر4. تناولت الاختصاص القضائي المحليّ، وإجراءات المتابعة، التحقيق والمحاكمة، وتمثيل الشخص المعنوي في الدعوى.

الفرع الثاني: شروط إقامة المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي

نصّت المادة 51 مكرر من قانون العقوبات على شروط المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي وهي: 

1ـ ارتكاب الجريمة لحساب الشخص المعنوي ،2 ـ وارتكاب الجريمة من طرف جهاز أو ممثل الشخص المعنوي. 3ـ أن ينصّ القانون على هذه المسؤولية في نصّ التجريم.

أوّلا: شرط ارتكاب الجريمة لحساب الشخص المعنوي:

نصّت على هذا الشرط الفقرة 1 للمادة 51 مكرر من قانون العقوبات الجزائري "...يكون الشخص المعنوي مسؤولا جزائيا عن الجرائم التي ترُتكبُ لحسابه".

أ) مصلحة الشخص المعنوي:

أي أنّ الجريمة تخدم المصالح المادية أو المعنوية للشخص المعنوي، سواء كانت مصلحة حالةّ أو احتمالية مُستقبلية، مثل حصول المؤسسة الاقتصادية على صفقة عن طريق تقديم رشوة. وبالمُقابل لا يسُأل الشخص المعنوي عن الجريمة التي يرتكبها المُدير لحسابه الشخصي أو لفائدة شخص آخر.

وحسب فقرة 2 من المادة 51 مكرر المشرع يأخذ بمبدأ ازدواج المسؤولية الجزائية عن الفعل الواحد ،لإضفاء المزيد من الحماية الجنائية. فكل من الشخص الطبيعي والهيئة المعنوية مسؤولان عن ذات الفعل ويعاقب كل منهما على انفراد، حسب مركزه في ذات الجريمة فاعل أو شريك. 

ب) أنواع الشخص المعنوي الذي ترُتكب الجريمة لحسابه:

ـ إستثنت المادّة 51 مكرر الدولة والجماعات المحلية (البلدية والولاية) والأشخاص الخاضعين للقانون العام (أي المرافق العمومية ذات الصبغة الإدارية كالجامعات والمؤسسات الإستشفائية وغيرها). 

ـ وبقيت المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي مقصورة على الأشخاض الخاضعين للقانون الخاص سواء كانت لكسب الربح كالشركات التجارية، أو لم تكن لكسب الربح كالجمعيات الرياضية والخيرية. 

ـ وبالنسبة للشركات التجارية فهي تسُأل جزائيا بغض النظر عن من يملك رأس المال سواء الخواص أو الدولة أو الأشخاص الخاضعين للقانون العام، كالمؤسسات العمومية الاقتصادية، والمؤسسات المصرفية العمومية والخاصّة الوطنية والأجنبية، وكذلك الشركات التجارية ذات رأس المال المُختلط. 

والشركات التجارية التي تسُأل جزائيا في القانون الجزائري قد تكون شركة تضامن أو توصية بسيطة أو توصية بالأسهم أو شركة مُساهمة أو ذات مسؤولية محدودة، وسواء كانت الشركة تابعة أو مُساهمة. 

ولا تسُأل جزائيا الشركة التي لا تتمتع بالشخصية المعنوية كشركة المحاصّة، أو فقدتها كالشركة الفعلية.

ثانيا: شرط ارتكاب الجريمة من طرف جهاز أو ممثل الشخص المعنوي:  

لا يمُكن تصور ارتكاب الجريمة من طرف الشخص المعنوي بحكم طبيعته، بل يرتكبها شخص طبيعي يشُترط فيه أن يكون له حق التعبير عن إرادة الشخص المعنوي والتصرّف بإسمه، قد يكون المُدير أو أعضاء مجلس الإدارة، أو الجمعية العامّة للشركاء. وقد عبرّت عنهم المادّة 51 مُكرّر بأن يرتكب الجريمة أجهزة الشخص المعنوي أو مُمثلوه الشرعيون وهم الذين يمنحهم القانون الأساسي للشخص المعنوي  تفويضا لتمثيله (الم 65 مُكرر2 ق إ ج) فهو مثلا الرئيس المُدير العام في الشركة التجارية ذات الأسهم (الم 638 ق تج ج) والمُسيرّ في الشركة ذات المسؤولية المحدودة (الم 577 ق تج ج). ولا يسُأل الشخص المعنوي عن الجرائم التي يرتكبها مُجرّد الأجير أو المُفوّض مثل مُدير الوحدة الصناعية أو مدير وكالة بنكية.

ثالثا: شرط وجود نصّ قانوني يقُرّر مسؤولية الشخص المعنوي عن جريمة مُعينّة:

أ) الركن الشرعي لجريمة الشخص المعنوي: 

أشترطت المادّة 51 مُكرّر صراحة لمساءلة الشخص المعنوي جزائيا أن ينصّ القانون على ذلك سواء قانون العقوبات العام أو النصوص العقابية الخاصّة.

ب) أنواع الجرائم الخاصّة بالشخص المعنوي

هناك تشريعات تأخذ بمبدأ العموم، أي مُساءلة الشخص المعنوي مثل الشخص الطبيعي عن كل الجرائم، وهناك تشريعات تأخذ بمبدأ التخصص، فلا يجوز متابعة الشخص المعنوي ومساءلته جزائيا إلا عن جرائم مُعينّة وبنص صريح. ذلك أن مسؤولية الشخص المعنوي خاصة ومتميزة، ومن بين هذه التشريعات التشريع الجزائري. 

I في قانون العقوبات:

1) في الجرائم ضدّ الشئ العمومي: 

ـ الجنايات والجنح ضدّ الأمن العمومي، وهي جريمة جمعية الأشرار (المادّة 177 مُكرّر1)

ـ جرائم التزوير المتعلقّة بالنقود والأختام والمحرّرات وانتحال الصفة المنصوص عليها في المــواد

197 إلى 253 ق ع، وهذا بنصّ المادّة 253 مُكرّر.

2) في الجرائم ضدّ الأفراد:

ـ الجرائم ضدّ الأشخاص وهي: ـ جرائم القتل والجرح الخطأ، وجرائم الاعتداء على الحرّيات الفردية وحرمة المنازل والخطف، وجرائم التمييز العنصري، وجرائم الاعتداء على الشرف والاعتبار وحرمة الحياة الخاصّة والأسرار (المادّة 303 مُكرّر3 ق ع ج).  

ـ الاتجار بالأشخاص (المادّة 303 مُكرّر11 ق ع ج).

ـ الاتجار بالأعضاء البشرية (المادّة 303 مُكرّر26 ق ع ج).

ـ تهريب المهاجرين (المادّة 303 مُكرّر38 ق ع ج).

ـ الجرائم ضدّ الأسرة والأداب العامة: الحيلولة دون تحقيق شخصية الطفل (المادّة 321 ق ع ج). 

3) في جرائم الأموال:

ـ جرائم الإستلاء على الأموال: وهي جرائم السرقة والنصّب وإصدار شيك بدون رصيد وخيانة الأمانة. (المادّة 382 مُكرّر1).

ـ جريمة تبييض الأموال: بموجب المادة 389 مكرر7 يعاقب الشخص المعنوي الذي يرتكب الجريمة المنصوص عليها في المادتين 389 مكرر1 (تبييض الأموال..) 389 مكرر2 (تبييض الأموال على سبيل الاعتياد أو باستعمال التسهيلات التي يمنحها نشاط مهني أو في إطار جماعة إجرامية).

ـ جرائم المساس بأنظمة المعالجة الآلية للمعطيات: وهفي الدخول في منظومة معلوماتية، والمساس بمنظومة معلوماتية المادة (394 مكرر4 ق ع ج).

ـ الجرائم التجارية والإقتصادية: وهي التفليس، والتعدّي على الأموال العقارية ،وإخفاء الأشياء ،وتحويل وسائل النقل (م417 مُكرّر3) والغش في بيع السلع والتدليس في المواد الغذائية والطبية (م435 مُكرّر).

II في القوانين الخاصّة: 

1ـ جرائم الفساد: مثل المادّة 53 من قانون الوقاية من الفساد ومُكافحته رقم 06-01. 

2ـ جرائم المنافسة في المواد 11 و 13 من قانون المنافسة رقم 03-03. 

3ـ جرائم التهريب بموجب المادّة 24 من قانون مكافحة التهريب رقم 05-06.

4ـ الجرائم الضريبية: بموجب المادة 303 مقطع 9 من قانون الضرائب المُباشرة والرسوم المُماثلة ،والمادّة 138 من قانون الرسم على الأعمال.

5ـ جرائم الإتجار بالمُخدرات بموجب المادة 25 من قانون مكافحة المُخدّرات رقم 04-18.

ب) العقوبات المطبقـة على الأشخاص المعنوية (المواد 18 مكرر و18 مكرر1):

1) في مواد الجنايات والجنح: 

ـ العقوبات الأصلية: الغرامة: من مرّة إلى خمس (5) مرّات الحد الأقصى للغرامة المقررة للشخص الطبيعي. وعندما لا ينص القانون على عقوبة الغرامة بالنسبة للأشخاص الطبيعيين سواء في الجنايات أو الجنح، وقامت المسؤولية الجزائية للشخص المعنوي طبقا لأحكام المادّة 51 مُكرّر، فإنّ الحدّ الأقصى للغرامة المحتسب لتطبيق النسبة القانونية المقررة للعقوبة فيما يخص الشخص المعنوي يكون كالآتي: 

2.000.000 دج عندما تكون الجناية معاقبا عليها بالإعدام أو بالسجن المؤبد،

1.000.000 دج عندما تكون الجناية معاقبا عليها بالسجن المؤقت،

500.00 دج بالنسبة للجنحة .

ـ العقوبات التكميلية:

1 ـ المصادرة: عرفتها المادة 15 بأنهّا الأيلولة النهائية إلى الدولة لمال معين أو أكثر

2 ـ حل الشخص المعنوي:

3 ـ غلق المؤسسة أو فرع من فروعها لمدة لا تتجاوز 05 سنوات. 

4ـ الإقصاء من الصفقات العمومية لمدة لا تتجاوز 05 سنوات.

5 ـ المنع من ممارسة نشاط مهني أو اجتماعي نهائيا أو لمدة لا تتجاوز5 سنوات.

6 ـ الوضع تحت الحراسة القضائية لمدة لا تتجاوز 05 سنوات.

7ـ نشر وتعليق حكم الإدانة،

عندما يعاقب شخص معنوي بواحدة أو أكثر من العقوبات التكميلية المنصوص عليها في المادة 18 مُكرّر، فإنّ خرق الالتزامات المترتبة على هذا الحكم من طرف الشخص الطبيعي يعاقب بالحبس والغرامة ويمكن التصريح بالمسؤولية الجزائية للشخص المعنوي عن الجريمة المذكورة ويتعرّض للغرامة المنصوص عليها في المادة 18 مكرر.

2) في مواد المُخالفات:

1ـ الغرامة التي تساوي من مرة واحدة (1) إلى خمس (5) مرات الحد الأقصى للغرامة المقرّرة للشخص الطبيعي في القانون الذي يعاقب على الجريمة.

2ـ مصادرة الشيء الذي استعمل في ارتكاب الجريمة أو نتج عنها.

المرجع:

  1. د. فريد روابح، محاضرات في القانون الجنائي العام، موجهة لسنة الثانية لسانس، جامعة محمد لمين دباغين- سطيف، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم الحقوق، الجزائر، السنة الجامعية 2018-2019، ص115 إلى ص126. 
google-playkhamsatmostaqltradent