علاقة القانون الإداري بفروع القانون الأخرى وأسس تحديده

علاقة القانون الإداري بفروع القانون الأخرى وأسس تحديده

علاقة القانون الإداري بفروع القانون الأخرى وأسس تحديده

تزايد الاهتمام بدراسة القانون الإداري بتزايد تدخل الدولة في شتى الميادين وتطور وظائفها، بالتالي اتساع مجاله وامتداده خاصة بعد ظهور ما يعرف المرافق العامة الاقتصادية والتجارية، ما جعله وثيق الصلة بفروع القانون الأخرى، وعلم الإدارة باعتباره جزءا منه (المطلب الأول).

ارتبط القانون الإداري في بداياته ومراحله الأولى بالمرافق العامة، حتى أن هناك من عرفه أنه قانون المرافق العامة، لاقتصار مفهوم هذه الأخيرة آنذاك على المرافق العامة الإدارية، التي تضطلع بخدمات إدارية بحتة، مثل العدالة، الدفاع، التعليم، رغم أن الوضع لم  يدُمْ بتزايد تدخل الدولة، وظهور أنماط أخرى من المرافق، ومنه، عجز المرفق العام عن إرساء حدود القانون الإداري، وهو ما يثير إشكالية تبني معيار أصيل لتحديد مجال تطبيقه (المطلب الثاني).

المطلب الأول: علاقة القانون الإداري بعلم الإدارة وفروع القانون الأخرى

ارتباط القانون الإداري بالإدارة العامة باعتبارها صاحبة السلطة العامة، تتعاقد أو تتصرف -بصفة عامة- خدمة للصالح العام، يجعله يشترك مع قانون الإدارة في أحد أطراف العلاقة العامة وان اختلفت صفتها (الفرع الأول)، وباعتباره يصب جل اهتمامه على المرفق العام المسخر أساسا لإشباع حاجات الأفراد العامة، تربطه بفروع القانون الأخرى صلة تفرضها طبيعته المتميزة (الفرع الثاني).

الفرع الأول: علاقة القانون الإداري بعلم الإدارة

يمكن تعريف علم الإدارة على أنه: "علم إنساني يعني بوصف وتفسير وبناء نشاط جهاز الدولة القائم على توفير سياستها العامة بقصد اكتشاف القواعد المؤدية إلى أفضل تشغيل لهذا الجهاز".

يدرس علم الإدارة العامة مناهج تنظيم الإدارة والعوامل البشرية التقنية التي تتحكم في هذا التنظيم، وعليه يهتم بالجوانب الفنية التقنية.

في حين يهتم القانون الإداري بالإدارة العامة من عدة جوانب، الجانب التنظيمي من حيث بيان القواعد والأحكام المتعلقة بتركيب وتنظيم الجهاز الإداري، الجانب الوظيفي من حيث التطرق للقواعد المطبقة على الإدارة العامة، وجانب الوسائل من خلال التعرض لمختلف الإمكانيات التي يتطلبها النشاط الإداري، بشرية كانت، أو مادية على غرار القانونية (السلطات)، والجانب القضائي من حيث الاهتمام بالهيآت القضائية المختصة بالمنازعة الإدارية.

يتضح أن العلاقة وثيقة بين العلمين، فبينما يبحث القانون الإداري في البناء القانوني للأنظمة الإدارية، إذ يدرس تفسير النصوص، وشروط تطبيق القواعد القانونية واجراءاتها، والحقوق والالتزامات المترتبة عليها، وصحة العقود والقرارات ونظرية الأشخاص، كما يتناول على وجه الخصوص الاعتداءات التي يمكن أن تقع من الإدارة العامة على حريات وحقوق الأفراد وما يترتب عليها من مسؤوليات، نجد أن علم الإدارة باعتباره علما مستقلا عن القانون الإداري يهتم بالإدارة العامة من حيث تنظيمها الفني لتحقيق فعالية أكبر.

كما تشمل الإدارة العامة على مفهومين، مفهوم عضوي يهتم بدراسة هيكل المنظمات الإدارية وفروعها، دون البحث في طبيعة النشاط الصادر عنها، ومفهوم موضوعي يهتم بدراسة النشاط الإداري لهذه المنظمات بغض النظر عن شكل المنظمة الصادر عنها، وعليه، كلا العلمين يبحثان في موضوع واحد وهو الجهاز الإداري في الدولة، وان كان كل واحد من زاويته، حيث نجد أن الدول التي لا تأخذ بالازدواجية القانونية تشمل دراسة الإدارة العامة على النواحي القانونية، التي يحكمها من حيث الأصل القانون الإداري، كما أن المركزية واللامركزية مثلا، لا تعد ان أصلا  من مفاهيم القانون الإداري، إنما من وسائل الإدارة التي تستعير من القانون الشكل الذي تظهر فيه، ما يجعل العلمين متكاملين لا يمكن الاستغناء عن أحدهما.

الفرع الثاني: علاقة القانون الإداري بفروع القانون الأخرى

تتعزز ذاتية القانون الإداري باعتباره قانونا مستقلا قائما بذاته، من خلال فرض نفسه وتأثيره على مختلف فروع القوانين، العامة منها (أولا)، على غرار الخاصة، نظرا للصلة القائمة بينهما (ثانيا).

أولا: علاقة القانون الإداري بفروع القانون العام

تتعدد جوانب اهتمام القانون الإداري، ما جعله وثيق الصلة بالقانون الدستوري (أ)، وقانون العقوبات (ب)، وقانون المالية (ج)، فضلا عن القانون الدولي العام (د).

أ) علاقة القانون الإداري بالقانون الدستوري

يشترك كل من القانونين الإداري والدستوري، في اعتبارهما فرعان من فروع القانون العام الداخلي، ويهتمان بمسألة واحدة وهي السلطة التنفيذية، فبينما يعالج القانون الدستوري هذه الأخيرة باعتبارها جهة حكومية وسلطة دستورية، يهتم بها القانون الإداري باعتبارها إدارة عامة أي من الناحية الإدارية، ويترتب على هذه العلاقة تعذر الفصل بين القانونين، وفي هذا الشأن قال الفقيه" DUCROQ" أن: "القانون الدستوري يقرر المبادئ الأساسية للقانون العام في الدولة أي المبادئ التي تضمن للأفراد حقوقهم السياسية والمالية والدينية والمدنية. أما القانون الإداري هو الذي يضع هذه المبادئ موضع التنفيذ ويحدد شروط تطبيقها. وبعبارة أخرى فإن القانون الدستوري يحتوي على عناوين وموضوعات القانون الإداري". 

يتعاون القانون الإداري والدستوري في الكثير من الأهداف عن طريق تنظيم بعض المسائل على مستويات مختلفة، إذ يختص القانون الدستوري بالأعلى منها تاركا التنظيم الأدنى للقانون الإداري، حيث يبين القانون الدستوري الخطوط العريضة لتكوين واختصاص السلطة التنفيذية، ويتولى القانون الإداري أمر تقسيمات هذه السلطة وفروعها، وتعيين العاملين فيها، وكيفية إدارة المرافق العامة، والقانون الدستوري يبين الحقوق العامة للأفراد، بينما يضع القانون الإداري الضوابط التي يلتزم بها الأفراد، والحدود التي يتعين على الإدارة احترامها وعدم تجاوزها، ما دفع ببعض الفقهاء إلى القول بأن هناك نوعا  من التداخل بين الفرعين، وأن تحديد القانون الإداري لابد أن يتضمن شيئا من التحكم، وأبعد من ذلك انتقد بعض الفقهاء التفرقة والتمييز بين كل من القانون الإداري والدستوري انتقادا شديدا.

وقد تضمن الدستور الجزائري الكثير من المبادئ ذات ال صلة بالقانون الإداري، منها:

- معاقبة القانون على التعسف في استعمال السلطة حسب ما تضمنته المادة 25 منه،

- ضمان الحصول على خدمات المرافق العامة دون تمييز، وقيام المرافق العامة على مبادئ الاستمرارية والتكيف المستمر، وضمان الحد الأدنى من الخدمة عند الاقتضاء، عملا بالمادة 27 من نفس الدستور،

- التأكيد على قيام العلاقات بين الدولة والجماعات المحلية على مبادئ اللامركزية وعدم التركيز بموجب المادة 18 منه،

- وتحديد الجماعات المحلية في الولاية والبلدية، واعتبار هذه الأخيرة الجماعة القاعدية، حسب المادة 17 منه.

ب) علاقة القانون الإداري بقانون العقوبات

يرتبط القانون الإداري بقانون العقوبات، من خلال تناول هذا الأخير للعقوبات التي لها علاقة مباشرة بالقانون الإداري، كجرائم إهانة موظف عام أو رجال القوة العمومية التي نصت عليها المادة 144 منه، وجرائم التعرض لحرية المزايدات (باعتبارها أحد طرق تعاقد الإدارة العامة) حسب المادة 175 من نفس القانون، بالإضافة للجرائم التي يرتكبها الموظف العمومي في حالة مساسه بالحرية الشخصية للفرد على غرار حقوقه الوطنية، أو اختلاسه لأموال عمومية ...

ج) علاقة القانون الإداري بقانون المالية 

يهتم القانون المالي بال  نشاط المالي للدولة، بجانبيه الإيجابي (الإيرادات العامة) والسلبي (النفقات العامة)، واعتبارا لحاجة الأجهزة الإدارية عامة، مركزية ولامركزية، لنفقات عامة للاضطلاع بمختلف مهامها ونشاطاتها، تظهر العلاقة الوطيدة بين القانونين، من خلال اهتمام القانون الإداري بالمال العام والخاص المملوك للدولة عامة، فضلا عن أن تنفيذ الأحكام الإدارية فيما يتعلق بالجانب المالي تتم عن طريق الخزينة العمومية، حتى وأن كثيرا من مواضيع المالية العامة تدرس في كتب القانون الإداري، كالمال العام، نزع الملكية للمنفعة العمومية.

د) علاقة القانون الإداري بالقانون الدولي العام

يتحد الفرعان في اهتمامهما بالدولة كأحد أهم أشخاص القانون العام، وان كان القانون الإداري يقتصر اهتمامه بالنشاط الداخلي أي الدولة باعتبارها صاحبة السلطة والسيادة، في حين ينصب اهتمام القانون الدولي العام على نشاط الدولة الخارجي مع قريناتها من الدول في المجتمع الدولي، والمنظمات الدولية.

رغم انفصال مجال اهتمام كل الفرعين وتباعدهما، إلا أنه تظل هناك علاقة بينهما، باعتبار نص المادة 154 من الدستور الجزائري، التي تنص على أن المعاهدات التي يصادق عليها رئيس الجمهورية وفقا للأشكال المحددةْ قانونا تسمو على القانون الداخلي، وعليه ،لو كرس نص معاهدة مصادق عليها من قبل رئيس الجمهورية تتعلق بحماية الموظف العام في مجال المساءلة التأديبية إجراء مغايرا ومخالفا لما هو معمول به في ظل القانون الداخلي، يلزم القاضي بتطبيق نص المعاهدة باعتباره يسمو على هذا الأخير ، ومنه تظهر العلاقة ببين القانونين من خلال إمكانية تطبيق أحكام القانون الدولي العام على مواضيع القانون الإداري.

ثانيا: علاقة القانون الإداري بفروع القانون الخاص

اعتبار القانون الإداري قانونا استثنائيا يتعلق بالإدارة العامة باعتبارها سلطة عامة، لم ينفِ علاقته بفروع القانون الخاص التي تهتم أساسا بالأشخاص الخاصة، وهو ما يتجلى بصورة واضحة في صلته الوطيدة بين القانونين المدني (أ)، والأسرة (ب.).

أ) علاقة القانون الإداري بالقانون المدني

يعتبر القانون المدني الشريعة العامة فيما يخص مختلف الروابط والعلاقات بين الأفراد، ويقوم على مبدأ المساواة والتوازن بين أطراف العلاقة، على عكس القانون الإداري الذي يمنح الإدارة مركزا متميزا يخولها فرض سلطاتها على الأفراد، تحقيقا للصالح العام، فلها إصدار القرارات الإدارية وتعديل العقود الإدارية بإرادتها المنفردة، وتوقيع بعض الجزاءات دون حاجة اللجوء للقضاء.

رغم خصوصية كل من القانونين المدني والإداري، واستقلال مجال كل منهما عن الآخر ،إلا أنه لا يمكن إنكار قيام علاقة بينهما خاصة وأن القانون المدني الشريعة العامة، إذ يتولى الإعلان عن الشخصية القانونية للأشخاص المعنوية بموجب المادة 49 منه ، حتى تمكنها من مزاولة نشاطها، وهي الأساس القانوني لنظرية التنظيم الإداري الجزائري.

كما تخضع العقود الإدارية للأركان العامة المعهودة في العقود عامة من رضاء، محل وسبب والتي تناولها القانون المدني في المادة 59 منه وما يليها، كما تناول حق الإدارة في نزع الملكية الخاصة للمنفعة العمومية (باعتبار هذه الأخيرة من أهداف القانون الإداري) في المادة 677 منه، وتعرض للاستيلاء باعتباره طريقة للحصول على الأموال ضمانا للسير الحسن للمرافق العمومية (وهي إحدى مواضيع القانون الإداري) بموجب المواد 697، 698 681، 181 مكرر 1، 681 مكرر 2 681 مكرر 3 منه، كما أشارت المادة 773 إلى بعض أملاك الدولة وهي من مواضيع القانون الإداري... 

ب) علاقة القانون الإداري بقانون الأسرة

رغم استقلال مجالي قانون الأسرة والقانون الإداري واهتمام كل منها بمواضيع مختلفة، إلا أنه تبقى ثمة علاقة تربط الفرعين، إذ تطبق على الهبات والوصايا الممنوحة للأشخاص المعنوية العامة -على سبيل المثال الولاية، المادة 133 من قانون الولاية - الأحكام المتعلقة بالهبات والوصايا المنصوص عليها في أحكام قانون الأسرة.

المطلب الثاني: أسس ومعايير تحديد القانون الإداري

يقوم أساس القانون الإداري على محاولة الفقه والقضاء إيجاد معيار أو نظرية أو مبدأ عام أساسي، يصلح أساسا ودعامة جوهرية لبناء مبادئ وقواعد القانون الإداري، ومنه، تحديد مجال ونطاق تطبيق أحكامه، وهو ما تمخض أساسا من اعتبار القانون الإداري قانونا عرفيا غير مقنن.

أوْلى فقهُ القانون العام اهتماما بالغا لمسألة تحديد أساس القانون الإداري، ومنه، القول بتطبيق جملة المبادئ الاستثنائية والقواعد المتميزة عن قواعد القانون الخاص، وان برزت عدة مدارس نادت بعدة نظريات دون أن يتم الاتفاق على إحداها، أهمها نظريتا المرفق العام (الفرع الأول)، والسلطة العامة (الفرع الثاني).

الفرع الأول: نظرية المرفق العام

يكتسي المرفق العام أهمية بالغة في القانون الإداري، حتى أن هناك من يعرف هذا الأخير على أنه قانون المرافق العامة، وظلت نظرية المرفق العام أساسا عاما للقانون الإداري في بدايات ظهوره (أولا)، قبل أن تتأزم نتيجة تطور نشاط الإدارة العامة عامة (ثانيا).

أولاً: مضمون نظرية المرفق العام

يعتبر كل من ليون دوجي، جيز و بونار رواد هذه النظرية، وما الدولة حسب فلسفتهم إلا مجموعة من المرافق العامة، باعتبارها مشاريع عامة تتكون من أشخاص وأموال تستهدف إشباع حاجات عامة، يعجز الأفراد عن القيام بها، من قبيلها العدالة، الدفاع، الأمن، الصحة، التعليم، النقل الجوي...

كان لحكم بلانكو الشهير سنة 1873، بالغ الأثر في الإعلان وابراز نظرية المرفق العام، حيث أفصحت حيثياته عن أن مسؤولية الدولة التقصيرية تجاه الأفراد، عن الأفعال الضرة التي تصدر عن موظفي وعمال الإدارة في المرافق العامة، لا تخضع لقواعد القانون المدني التي تحكم علاقات الأفراد فيما بينهم، بل تخضع لقواعد متميزة تجد أساسها في فكرة المرفق العام وضرورة حسن سيره.

وان لاقت نظرية المرافق العامة صدى من قبل الفقهاء واعتبارها معيارا عاما لتحديد القانون الإداري، خاصة في ظل اقتصار نشاط الدولة على المرافق الإدارية، إلا أن الأمر لم يبق على حاله بظهور المرافق العامة الصناعية والتجارية نتيجة لتطور وتوسع نشاط الدولة، وهو ما تسبب في تأزم المرفق العام باعتباره أساسا لرسم حدود ولاية القانون الإداري.

ثانيا: أزمة المرفق العام

بعد الحرب العالمية الأولى 1914، اضطرت الدولة إلى الاضطلاع بالمهام الصناعية والتجارية، نتيجة الأزمات التي خلفتها اقتصاديا، اجتماعيا، وتحت وطأة الأفكار والاتجاهات الاشتراكية.

ازداد هذا الاتجاه التدخلي بعد الحرب العالمية الثانية، وبفعل التطورات الحاصلة ومستجدات الحياة عامة، ظهر ما يعرف بالمرافق العامة الصناعية والتجارية إلى جانب المرافق العامة الإدارية، وهي مرافق تزاول نشاطا مماثلا لنشاط الأفراد، وان سلم الفقه بإخضاع المرافق العامة الإدارية للقانون الإداري، فإن الوضع ليس كذلك بالنسبة للمرافق الصناعية والتجارية، خاصة وأن مجلس الدولة أصبح يستثني بعض منازعات الإدارة من اختصاصه واخضاعها للقضاء العادي.

ومنه، لم تعد كل المرافق خدماتية ذات نشاط إداري بحت، وما زاد الأمر تعقيدا ظهور مرافق عامة جديدة  نتيجة للمشاكل الاجتماعية التي أسفرت عنها الحربين العالميين ،وهي مرافق عامة  اجتماعية، من أهمها مرافق التأمينات الاجتماعية لعمال الصناعات والمشروعات الخاصة، ومرافق التأمينات الاجتماعية للأسرة، وكانت خاضعة لرقابة مشدد ة من الدولة، وان كانت إدارتها المباشرة يتولاها الأفراد ممثلوا العمال وأرباب الأعمال، في شكل قانون جديد ينتمي للقانون الخاص.

بالمقابل استقر مجلس الدولة الفرنسي ومحكمة التنازع، على أن هذه المرافق رغم أنها مرافق عامة، إلا أنها تخضع كقاعدة عامة للقانون الخاص ولاختصاص محاكم القضاء العادي، ما شكل مظهرا جديدا لأزمة المرفق العام.

مما يدل أيضا على قصور المرفق العام كما يرى جانب من الفقه، أن هناك أمثلة من المنازعات التي خضعت للقضاء الإداري وطبق عليها القانون الإداري دون أن تتعلق بنشاط مرفق عام، ومثال ذلك حكم قرية مونسجير، الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي بتاريخ 05-10-1921 الذي اعتبر أعمال الصيانة المتعلقة بإحدى الكنائس من قبيل الأشغال العامة، وأن الإدارة تكون مسؤولة عن الحوادث الناجمة عن هذه الأشغال، ويكون القضاء الإداري مختصا بنظر المنازعات المتعلقة بها، على أساس خضوع الأشغال العامة لأحكام القانون الإداري، وذلك على الرغم من صدور قانون 09-12-1905، الذي فصل الكنيسة عن الدولة، مما ترتب عليه خروج ممارسة الشعائر الدينية في الكنائس من نطاق المرافق العامة.

وعليه، بالرغم من الدور الهام والبارز الذي لعبته المرافق العامة في بناء وتأسيس القانون الإداري، إلا أنها أصبحت عاجزة بعد تطورها –على الأقل لوحدها- لأن تكون معيارا جامعا ومانعا لتحديد مجال ونطاق تطبيق القانون الإداري، ومنه، اختصاص القضاء الإداري، ما فرض البحث عن معيار بديل، فكانت نظرية السلطة العامة.

الفرع الثاني: نظرية السلطة العامة

ظهرت نظرية السلطة العامة كبديل لنظرية المرفق العام، تبحث في أساس للتمييز بين القانون الإداري والعادي، ما يفرض الوقوف عند محتواها (أ ولا)، للقول بمدى صلاحيتها عن طريق تقييمها (ثانيا).

أولا: مقتضى النظرية

يقوم المدلول الحديث لفكرة السلطة العامة، على جملة الامتيازات والسلطات الخارقة والمتميزة والاستثنائية، التي تمارسها الإدارة العامة بشكل يجعلها في مركز أسمى وأعلى من مركز الأفراد، فضلا عن مجموعة القيود والالتزامات والحدود التي تلزم بها –بالمقابل- بصورة أثقل وأكثر عبئا من تلك التي تفرض على الأفراد.

يتزعم نظرية السلطة العامة كل من الفقهاء "لافريير، بارتملي، جورج فيدال وموريس هوريو،" وتقوم على أساس التفرقة بين أعمال السلطة العامة وأعمال الإدارة.

تشمل أعمال الإدارة، الأعمال والأنشطة التي تقوم بها الإدارة باعتبارها فردا عاديا، بالتالي اختصاص القضاء العادي في الفصل في منازعاتها، بينما تنحصر أعمال السلطة العامة في الأعمال التي تقوم بها الإدارة كسلطة عامة، عن طريق إصدار الأوامر بإرادتها المنفردة، بما تتمتع به من حقي الأمر والنهي وعليه، كل تصرف تضمَّن إحدى هذه المظاهر عُدَّ عملا إداريا، يدخل في نطاق تطبيق القانون الإداري وولاية اختصاص القضاء الإداري، بالتالي أعمال السلطة وحدها هي التي تحكمها قواعد القانون الإداري.

ثانيا: تقييم النظرية

رغم ما تمتاز به هذه النظرية من البساطة والوضوح، فضلا عن الدقة ومنطق الطرح ،إلا أنها لم تسلم من النقد، على أساس نفيها لمسؤولية الإدارة على الأعمال المادية، واستبعادها لجميع عقود الإدارة من نطاق تطبيق القانون الإداري.

يرى الفقيه "جون ريفيرو"، من جانب آخر أنه لا يمكن الاعتماد على فكرة السلطة العامة لتحديد ولاية واختصاص القانون الإداري، على أساس أن أعمال الإدارة السلطوية قد تفرض التزامات على الأفراد، كما هو الحال في حالة نزع الملكية الخاصة للمنفعة العمومية ،فرض حظر التجول واعلان حالتي الطوارئ والحصار، كما لها أن تفرض على الإدارة الخضوع في حالات فلو أقدمت على التوظيف عليها تنظيم مسابقة وفق شروط محددة، وان عمدت إلى إبرام صفقة ما، عليها الإعلان عنها احتراما لمبادئ الشفافية، والتقيد بالشروط المنصوص عليها في قانون الصفقات العمومية.

كما عيب على هذه النظرية أيضا، أن الأخذ بها يؤدي إلى الإقرار بفكرة ازدواجية الشخصية القانونية للدولة، بينما الحقيقة تقر أن للدولة شخصية قانونية واحدة.

تجدر الإشارة إلى أنه ظهرت عدة معايير تبحث في أساس تطبيق القانون الإداري، إلى جانب معياري المرفق العام والسلطة العامة، وان لم تدم طويلا لهشاشة أساسها في الأصل، لذلك لم نولها أهمية بالدراسة، نذكر منها:

- المعيار الشكلي: القائم على طبيعة القاعدة القانونية، فإن كانت هذه الأخيرة آمرة ،طُبق القانون الإداري، أما إذا كانت مكملة فيُستبعد، وبذلك يصبح الخضوع للقاعدة القانونية مرادفا  للقانون العام، في حين تصبح الحرية مرادفة للقانون الخاص، وهُجِر هذا المعيار لعدم صلاحيته كأساس للتفرقة بين القانون العام والخاص، على أساس احتواء القانون الخاص لقواعد آمرة تتعلق بالنظام العام.

- المعيار الموضوعي: أخذ به الفقيه "فالين"، ومرده أن يكون النشاط إداريا إذا استهدف تحقيق المصلحة العامة، بالتالي، فالقانون الإداري هو قانون المنفعة العامة في وجوده وتطبيقه ومما عِيب على هذا المعيار، عدم وجود حد فاصل بين المصلحة العامة والخاصة، خاصة وأن القواعد القانونية عامة تستهدف المصلحة العامة بشكل أو بآخر، وان كانت قواعد القانون الخاص تسعى لتحقيق مصالح شخصية، فإنها بالتبعية تحقق المصلحة العامة، كما لا يمكن تصور حماية القانون للمصالح الفردية الشخصية إن كانت في مجملها تتعارض والمصلحة العامة الجماعية.

- المعيار الشخصي أو العضوي: يعتمد هذا المعيار أساسا في تحديد نطاق تطبيق القانون الإداري، على العضو الصادر عنه التصرف الإداري بغض النظر عن جوهر وطبيعة العمل ذاته، وبناء على ذلك ،يعد العمل إداريا كلما صدر عن عضو أو هيئة ذات طبيعة إدارية، بالنتيجة يطبق عليه القانون الإداري، وبهذا المعنى فهذا الأخير هو قانون الإدارة باعتبارها تنظيما وجهازا لا نشاطا ووظيفة، وانتقِد هذا المعيار أيضا، وعيب عليه عدم دقته في تحديد نطاق تطبيق القانون الإداري تحديدا، إذ هناك تصرفات تصدر عن الإدارة العامة لكنها تصرفات مدنية.

نظرا لعجز المعايير السابقة عن تحديد مجال تطبيق القانون الإداري، نادى الفقه أمثال موريس هوريو وأندري دي لوبادير، بضرورة الجمع بين معياري السلطة العامة والمرفق العام، وعليه فالقانون الإداري لا يطبق ما لم يتعلق الأمر بمرفق عام، مع استخدام وسائل وأساليب القانون العام، وهو المعيار المعتمد عليه لتحديد نطاق تطبيق القانون الإداري، ومنه، ولاية اختصاص القضاء الإداري.

المرجع:

  1. د. أكلي نعيمة، محاضرات في القانون الإداري، موجهة لطلبة السنة الأولى ليسانس، جامعة أكلي محند أولحاج – البويرة – كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم القانون الخاص، الجزائر، السنة الجامعية: 2020/ 2021، ص28 إلى ص41.

google-playkhamsatmostaqltradent