مصادر القانون التجاري ونطاقه

مصادر القانون التجاري ونطاقه

مصادر القانون التجاري ونطاقه

المبحث الأول : مصادر القانون التجاري

للقانون التجاري كغيره من فروع القانون الخاص أربعة مصادر وهي : التشريع، العرف، القضاء والفقه، ويمكن أن نضيف له بالنسبة للجزائر مصدر خامس وهي مبادئ الشريعة الإسلامية، أما التشريع والعرف ومبادئ الشريعة الإسلامية فهما من المصادر الرسمية المباشرة الملزمة، أي أن القاضي ملزم بتطبيق القواعد المستمدة منها على المنازعات المرفوعة أمامه، وأما القضاء والفقه فهما من قبل المصادر التفسيرية، أي أن القاضي حر في الرجوع إليهما والاستثناس بهما لاستخلاص الحكم الواجب التطبيق على النزاع المطروح أمامه.

المطلب الأول : التشريع

التشريع هو المصدر الأساسي للقانون التجاري، حيث يجيء في المرتبة الأولى بين مختلف المصادر، وهو يتمثل في نصوص التقنين التجاري الجزائري نفسه الصادر بأمر رقم 75-59 مؤرخ في 20 رمضان عام 1395ه،الموافق 26 سبتمبر سنة 1975م والمعدل بالمرسوم التشريعي رقم 93-08 المؤرخ في 25 أبريل من سنة 1993 المتضمن القانون التجاري والمعدل أيضا بالأمر رقم 96-27 المؤرخ في 9 ديسمبر سنة 1996 والمعدل والمتمم كذلك بالقانون رقم 05-02 المؤرخ في 27 ذي الحجة عام 1425 الموافق 6 فبراير 2005، والقانون التجاري هو عبارة عن نصوص مدونة تعالج مختلف موضوعات الحياة التجارية، ولا يعتبر التشريع التجاري المصدر الوحيد للقانون التجاري والتشريعات التجارية اللاحقة، بل يشمل إضافة على ذلك القانون المدني والقوانين المدنية اللاحقة باعتبار أن القانون المدني يمثل الشريعة العامة لكافة فروع القانون الخاص بما فيه القانون التجاري الذي ما هو إلا فرع من هذه الفروع، ولذا يتعين على القاضي في حالة ما إذا وقع نزاع بين شخصين الرجوع إلى أحكامه كلما لم يجد في القانون التجاري أو في العرف التجاري قععدة تجارية تنطبق أحكامها على موضوع النزاع المطروح أمامه، وهذا ما نصت عليه المادة الأولى مكرر من القانون التجاري بقولها: " يسري القانون التجاري على العلاقات بين التجار، وفي حالة عدم وجود نص فيه يطبق القانون المدني وأعراف المهنة عند الاقتضاء" وفي حالة ما إذا وقع نزاع بين القانونين حول مسألة تجارية ما وجب تطبيق القانون التجاري باعتباره قانون خاص بالمعاملات التجارية، وذلك تطبيقا للقاعدة الفقهية التي تقضي بأن النص الخاص يغلب على النص العام، والقانون التجاري خاص بينما القانون المدني ما هو إلا شريعة عامة تنظم جميع العلاقات بين الأفراد، مع العلم أن قواعد القانون المدني لا تطبق كلما خلا القانون التجاري من نصوص خاصة، بل يشترط لتطبيقها أن تكون متفقة مع متطلبات الحياة التجارية وأن يكون القانون التجاري قد أحال إليها، فقواعد الالتزامات مثلا تحكم جميع العقود التجارية إلا ما استثناه القانون التجاري بنصوصه خاصة، وقد صدر القانون المدني الجزائري في ذات التاريخ لصدور القانون التجاري، مع العلم أن التشريع التجاري الجزائري نقلت معظم أحكامه عن القانون التجاري الفرنسي الصادر عام 1807 والمنقول بدوره عن الأمر الملكي الصادر عام 1673 في عهد لويس الرابع عشر الذي قنن العادات والتقاليد التي سادت في القرون الوسطى والمأخوذ بدوره عن لوائح كالي مالا الشهيرة التي وضعت عام 1322 والتي تعد أصال تاريخيا هاما للقانون التجاري، ونقل أيضا عن القوانين التجارية الفرنسية اللاحقة، كما أن المشرع الجزائري تأثر في كثير من الأحيان إلى أخر ما توصل إليه القضاء والفقه الفرنسي، كما يشمل التشريع التجاري الجزائري نصوص المعاهدات الدولية في مجال التجارة والمصادق عليها من قبل السلطات الجزائرية، فتصبح بالتالي جزء من التشريع الداخلي، وقد قسم القانون التجاري الجزائري إلى خمسة كتب :
الكتاب الأول : ويبحث في التجارة على وجه العموم، وقد قسم هذا الكتاب بدوره إلى أربعة أبواب : 1- التجارة، 2- الدفاتر التجارية، 3- السجل التجاري، 4- العقود التجارية.
الكتاب الثاني : المحل التجاري وقد قسم إلى بابين : 1- بيع المحل التجاري ورهنه الحيازي، 2- الإيجارات التجارية.
الكتاب الثالث : يبحث في الإفلاس والتسوية القضائية ورد الاعتبار والتفليس وما عداه من جرائم الإفلاس، وقسم هذا الكتاب إلى بابين : 1- في الإفلاس والتسوية القضائية، 2- رد الاعتبار التجاري.
الكتاب الرابع : ويبحث في السندات التجارية وقسم إلى أربعة أبواب : الباب الأول خاص بالسفتجة والسند لأمر، الباب الثاني خاص بالشيك والباب الثالث بسند الخزن وسند النقل وعقد تحويل الفاتورة، والباب الرابع في بعض وسائل وطرق الدفع.
الكتاب الخامس والأخير : فهو خاص بالشركات التجارية، ويحتوي على فصل تمهيدي خاص بالأحكام العامة وباب أول في قواعد سير مختلف الشركات التجارية وباب ثاني خاص بالأحكام الجزائية في مواد الشركات التجارية.

المطلب الثاني : العرف والعادات التجارية

إن العرف مصدر هام من مصادر القانون التجاري ويأتي في المرتبة الثانية بعد التشريع للدور الرئيسي الذي يلعبه في الحياة التجارية، ذلك أن الأغلبية العظمى من قواعد القانون التجاري هي عبارة عن أعراف تجارية تعارف عليها التجار منذ القدم قبل أن تصبح نصوص قانونية مدونة، ولازال العرف يلعب دورا هاما في تكوين القانون التجاري لا وبل أن بعض الأنظمة التجارية كالبيع البحري باختلاف أنواعه، والحساب الجاري والشيك والاعتماد ألمستندي لازالت تحكمها قواعد عرفية بحتة لا نصوص قانونية مدونة مكتوبة، هذا ويجب التفرقة بين العرف والعادات التجارية، فالعادة التجارية هي أحكام يتبعها التجار في معاملاتهم التجارية دون أن يتوفر لديهم الاعتقاد بالزاميتها وضرورة احترام أحكامها، فهي اتفاق ضمني على حلول معينة خاصة بجهة أو مكان أو سوق معين يحق للمتعاقدين الخروج عنها بنص صريح في العقد ولذلك سميت بالعادة الاتفاقية، وسبب عدم إلزامية العادة التجارية هو كونها تتوفر على الركن المادي دون الركن المعنوي وهذا ما لا يمنحها القوة الإلزامية، ويترتب على ذلك أن العادة الاتفاقية لا تطبق من قبل القاضي إلا إذا تمسك بها الخصم، لأنه لا يفترض من القاضي العلم بها وعلى من يتمسك بها أن يقيم الدليل على وجودها بكافة طرق الإثبات، وكمثال عن العادات الاتفاقية، اتفاق شخصان عن إنقاص ثمن البضاعة بدلا من فسخ العقد في حالة ما إذا تبين أن البضاعة المسلمة أقل جودة من الصنف المتفق عليه، فالعادة ليست إذن مصدر من مصادر القانون التجاري بالمعنى الصحيح إلا إذا ما تعلق الأمر بعادة تجارية أقرها المشرع فأصبحت نصوصا تشريعية مدونة، هذا وتنقلب العادة التجارية إلى عرف تجاري إذا ما استقر التعامل بها، بحيث تصبح أكثر من اتفاق ضمني على أمر معين، وبالنسبة لعلاقة معينة فالعرف التجاري هو قاعدة درج عليها التجار عن طريق تكرار سلوك في مسألة معينة لفترة طويلة من الزمن مع اعتقادهم بالزاميتها، والعرف مصدر أساسي يطبقه القاضي بحيث يجب أن يلجأ إليه مباشرة عند افتقاد النص في التشريع التجاري، ومن خصائص العرف التجاري هو افتراض علم القاضي به دون أن يكلف الخصم بإثباته، ولتكوين العرف لابد من توافر عنصرين، المادي: ويتمثل في وجود عادة عامة قديمة ثابتة لا تخالف قواعده النظام العام والآداب، وعنصر معنوي : وهو الذي يميز قواعد العرف عن قواعد العادات الاتفاقية ويتمثل في شعور الجماعة بأن حكم العادة قد أصبح ملزما كحكم التشريع فتنقلب العادة إلى عرف، ولما كان العرف التجاري كالتشريع التجاري من حيث قوة الإلزام فإنه يفترض علم القاضي به ولا يكلف الخصم بإثبات وجوده وله في سبيل إقامة هذا الدليل أن يسلك كافة طرق الإثبات لتعلق الأمر بمواد تجارية، ويتم عادة هذا الإثبات عن طريق استخراج شهادات من العرف أو المؤسسات التجارية أو من قنصليات الدول في الخارج.

المطلب الثالث : الشريعة الإسلامية

اعتبر القانون المدني الجزائري في مادته الأولى مبادئ الشريعة الإسلامية من المصادر الرسمية حيث جاء نصها كما يلي : "يسري القانون على جميع المسائل التي تتناولها نصوصه في لفظها أو في فحواها، وإذا لم يوجد نص تشريعي، حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم يوجد فبمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة :" إلا أنه يتضح من خلال التعديل الذي طرأ على القانون التجاري بموجب الأمر رقم 96-27 في مادته الأولى مكرر السالفة الذكر قد غير من رتبة الشريعة الإسلامية إذ جعلها المصدر الرسمي الثالث بعد التشريع والعرف بعد أن كانت من قبل تحتل المرتبة الثانية، ومعنى ذلك أن القاضي وهو يفصل في منازعة تجارية إذا لم يجد حكمها في النصوص التشريعية فعليه الرجوع إلى عرف المهنة التجارية فإن لم يجد في هذا الأخير يرجع إلى مبادئ الشريعة الإسلامية، والمقصود بهذه المبادئ القواعد المستقاة من القرآن الكريم والسنة والإجماع والقياس والاجتهاد.

المطلب الرابع : القضاء

بخلاف التشريع والعرف يعتبر القضاء والفقه من المصادر التفسيرية للقانون التجاري، والمقصود بالقضاء هو مجموع المبادئ القانونية التي تستخلص من استقرار أحكام المحاكم واعتياد إتباعها والحكم بها، ويستأنس به القاضي للفصل فيما يعرض عليه في نزاعات، ويعتبر القضاء في البلاد الأنجلوسكسيونية منها إنجلترا مصدرا رسميا للقانون كالتشريع، لأنه يعترف له في خلق القواعد القانونية عن طريق ما يسمى بالسابقة القضائية الملزمة، ومؤداها أنه إذا أصدرت محكمة أعلى درجة حكما فاصلا في مسألة تنازع عليها يتعين على المحكمة الدنيا أن تأخذ بهذا الحل في القضايا المماثلة المعروضة عليها، وبالتالي فلا يحق بعد ذلك مخالفة هذه القاعدة القانونية أو الامتناع عن تطبيقها في نزاع مماثل، لأنها تعتبر سابقة قضائية ملزمة، كما أنه لزاما على المحاكم العليا أن تتقيد بالأحكام التي سبق لها أن نطقت بها، أما القضاء في الدول اللاتينية والعربية ومنها الجزائر فإنه ليس بمصدر ملزم، بل هو مصدر تفسيري، بمعنى أن القاضي يتمتع بكامل الحرية في إصدار أحكامه فهو ملزم بالأحكام التي سبق له أن أصدرها، لا وبل لا يكون ملزما حتى بإتباع قضاء المحاكم الأعلى منه درجة لأن مهمة القضاء في هذه الدول هو تطبيق القانون وليس خلق القانون، ولكنه مع هذا يستأنس عادة من حيث الفعل والواقع بما أصدره غيره من القضاة من أحكام لاسيما إذا ما كانت من قضاء أعلى خشية الطعن في أحكامه عن طريق الاستئناف أو عن طريق التمييز، فإذا ما تعلق الأمر بقضاء صادر من المجلس الأعلى فإن له من حيث الفعل والواقع ذات سلطان النص التشريعي، وبالرغم من أن القضاء في النظرية اللاتينية والتي أخذت بها البلدان العربية دور تفسيري فحسب، إلا أنه يلعب دورا مهما في الحياة التجارية كمصدر للقانون التجاري كما لهذا القانون من صفة حيوية حركية، إذ أنه يتغير ويتطور بتغير متطلبات الحياة التجارية والاقتصادية المتجددة الأمر الذي يفسر لنا المكانة الكبيرة التي يحتلها القضاء في المواد التجارية، ومن أمثلة ذلك أن القضاء هو الذي ابتدع نظرية المنافسة غير المشروعة ونظريات الشركات الفعلية ونظرية الإفلاس ونظم عقد الحساب الجاري.

المطلب الخامس : الفقه

هو مجموعة آراء الفقهاء من أساتذة قانون وقضاة ومحامين وغيرهم ممن يجتهد ويكتب في مؤلفاتهم القانونية العلمية، ومع هذا يبقى الفقه مثله مثل القضاء من المصادر التفسيرية للقانون التجاري، يستأنس به القاضي عند الفصل في المنازعات المطروحة أمامه وفي تفسير القواعد القانونية وتكملة نقص المصادر الرسمية للقانون التجاري، إلا أن للفقه دور هام في التأثير على الاتجاه العام للقضاء بل في كثير من الأحيان هاديا للمشروع ذاته وغالبا ما يستعين المشرع بآراء ونظرية الفقهاء التي يقترحونها عند صياغة مشروعات القوانين المختلفة أو عند إجراء تعديل ما على هذا التشريع، أضف إلى ذلك أن الفقهاء يلعبون دور هام في شرح وتفسير نصوص القانون، كما يتناولون أحكام القضاء بالنقد والتحليل فيبرزون مزاياها وعيوبها وما بها من تناقض مما ساعد على تطوير القانون التجاري فتؤثر آرائهم بفضل هذا النقد والتحليل على أحكام القضاء المستقبلية، وأن الفقهاء من أساتذة القانون خاصة هم الذين يكونون القضاة تكوينا علميا قانونيا بحيث يواصل هؤلاء الإصلاح على مؤلفاتهم الفقهية ويستأنسون بها بعد تخرجهم لمباشرة مهامهم.

المبحث الثاني : تحديد نطاق القانون التجاري

لما كان القانون التجاري هو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم البيئة التجارية من تجار وأعمال تجارية، فإنه بهذا المعنى يضم القواعد التي تتلاءم وطبيعة وظروف النشاط التجاري ويستقل بها عن قانون المعاملات المدنية الذي يعتبر الشريعة العامة للقانون الخاص، ولهذا من الضروري تحديد نطاق تطبيق قواعد القانون التجاري حتى تتضح الحدود الفاصلة بين قواعده وقواعد القانون المدني (المعاملات المدنية)، فمنذ استقلال القانون التجاري بأحكام خاصة مستقلة عن القانون المدني، ظهر اختلاف بين الفقهاء في تحديد نطاق تطبيق أحكام القانون التجاري، ويمكن رد الآراء التي قال بها الفقهاء إلى نظريتين : النظرية الموضوعية Théorie Objective  والنظرية الشخصية أو الذاتية Théorie Subjective .
وسنتناول أولا تحديد نطاق القانون التجاري من حيث الموضوع ثم من حيث تأسيسه على النظرية الموضوعية أو النظرية الذاتية.

المطلب الأول : نطاق القانون التجاري من حيث الموضوع

يتعرض القانون التجاري لتنظيم الظواهر الاقتصادية تنظيما قانونيا يوفر لها ما تحتاجه من سرعة وائتمان، لذلك كانت معظم مواضيع دراسة القانون التجاري والاقتصادي مشتركة، كالشركات والبنوك والنقل إلى غير ذلك من المواضيع، ويرى بعض الفقهاء ضرورة اعتناء القانون التجاري بتنظيم كافة وجوه النشاط التجاري أيا كانت صوره وأشكاله وأيا كان القائمون به، ولذلك فهم يفضلون تسمية هذا القانون بالقانون الاقتصادي عوضا عن القانون التجاري نظرا لضرورة شموله كافة أوجه النشاط الاقتصادي، إلا أن القانون التجاري في وضعه الراهن لا يتعرض إلى كافة أوجه النشاط الاقتصادي الأمر الذي دفع بفقهاء آخرين إلى تفضيل تسمية هذا القانون بقانون الأعمال وأيا كان الحال فلزاما علينا أن نعلم بأن نطاق القانون التجاري في وضعه الراهن يقتصر على التجارة، إلا أن التجارة من الناحية القانونية هي غير مفهوم التجارة في اللغة الجارية أو في علم الاقتصاد، فالتجارة في اللغة الجارية وفي علم الاقتصاد تقتصر على أعمال الوساطة من المنتج إلى المستهلك، أما في لغة القانون فإن نطاق التجارة أوسع منها من علم الاقتصاد فهي تشمل التجارة بالمعنى الاقتصادي الضيق المفهوم، كما أنها تشمل علاوة على ذلك الصناعة التحويلية أي تحويل المواد الأولية إلى سلع صالحة لسد حاجات الناس، فالصناعة تمزج ضمن مفهوم التجارة من الناحية القانونية، ولذلك يعتبر الصانع من التجار، فنطاق التجارة إنما ينصرف لعمليات تحويل الثروات وتداولها على حد سواء، وتخرج عن نطاق التجارة عمليات استخراج الثروات من البحر، كالصيد كما يخرج من نطاقها الزراعة كقاعدة عامة، فالتجارة تهتم أصلا بالأموال المنقولة القابلة للتداول والتحويل السريع سواء تعلق الأمر بالأموال المادية كالبضائع أو منقولات معنوية، كالمحل التجاري والحقوق الثابتة في الأوراق التجارية والمالية، أما العقار فبعد أن كان يخرج من نطاق التجارة لعدم قابليته للتحويل والتداول السريع أصبح يندرج فيها تبعا لأحكام التشريع الفرنسي والجزائري، حيث أقر المشرع حديثا بأن شراء العقار لإعادة بيعه يعتبر من الأعمال التجارية كما هو الحال بالنسبة لشراء المنقول لإعادة بيعه بغية تحقيق الربح، هذا ولا ينظم القانون التجاري العلاقات بين العمال وأرباب العمل، ذلك أن العامل وإن كان يلعب دورا هاما في الحياة التجارية إلا أنه يحكمه قانون خاص به وهو قانون العمل كما نعلم، وكذلك لا يتناول القانون التجاري المهن الحرة حتى ولو تعلق الأمر بمهنة ذات طابع اقتصادي كمهنة المحاسبة، وخلاصة القول أن القانون التجاري يقتصر في وضعه الراهن على التجارة والصناعة التحويلية، أما الصيد والزراعة وكذلك الصناعة الاستخراجية كأصل عام وعلاقات العمل والمهن الحرة تخرج عن نطاق القانون التجاري من حيث تأسيسه على النظرية الذاتية أو النظرية الموضوعية.

المطلب الثاني : النظرية الذاتية والنظرية الموضوعية للقانون التجاري

إما أن يحدد المشرع دائرة القانون التجاري على أنه قانون خاص بطائفة التجار دون سواهم فتؤخذ النظرية الذاتية أو الشخصية، وإما أن يعتمد المشرع النظرية الموضوعية فيحدد دائرة القانون التجاري على أنه قانون خاص بالأعمال التجارية بصرف النظر على صفة القائم بالعمل تاجرا كان أم غير تاجر، فالنظرية الذاتية أو الشخصية التي تبلورت أحكامها في القرون الوسطى بين طوائف التجار تجعل من شخص التاجر معيارا أساسيا للقانون التجاري بحيث لا تنطبق أحكامها إلا على التجار بالنسبة للمعاملات التي تقع بينهم في شؤون التجارة، أما غير التاجر فلا تنطبق أحكام القانون التجاري عليه حتى ولو قام بأعمال تجارية، فشراء سلعة بقصد بيعها وتحقيق الربح من فروق الأسعار يعتبر في ذاته عملا تجاريا موضوعيا، إلا أنه لا يخضع لقواعد القانون التجاري تبعا للمفهوم الذاتي إلا إذا قام به شخص يحترف شراء السلع لإعادة بيعها بقصد تحقيق الربح، فإذا ما قام بذات العمل شخص مدني لا يتخذ من ذلك حرفة معتادة له ظل العمل خاضعا لأحكام القانون المدني رغم طبيعته التجارية، وبكلمة فإن النظرية الذاتية تجعل من القانون التجاري قانون الحرف التجارية لا قانون الأعمال التجارية، أما النظرية الموضوعية فتجعل من الأعمال التجارية في ذاتها وبغض النظر عن صفة القائم بها تاجرا كان أو غير تاجر معيارا أساسيا لتطبيق قواعد القانون التجاري سواء أكان القائم بالعمل تاجرا محترفا أم غير تاجر، بمعنى أن النظرية الموضوعية بخلاف النظرية الذاتية تجعل من القانون التجاري قانون الأعمال التجارية لا قانون المهن أو الحرف التجارية.

المطلب الثالث : موقوف القانون الوضعي من كلا النظريتين

1- موقفه من النظرية الذاتية

رجح القانون الألماني الصادر عام 1897 المذهب الذاتي، فحدد نطاق القانون التجاري على أساس الحرفة التجارية لا على أساس الأعمال التجارية، إذ تنص المادة الأولى منه على أنه "يعتبر تاجرا كل من يمارس حرفة تجارية" بمعنى أن القانون التجاري الألماني هو قانون مهني تنطبق أحكامه كأصل عام على التاجر الذين يباشرون المهن التجارية والتي حددها مسبقا المشرع بتسع حرف، وقد أخذ كذلك القانون الإيطالي الصادر عام 1942 بالنظرية الذاتية، فأوجب القيد في السجل التجاري على كل من يباشر المهن أو الحرف الآتية وهي :
1- إنتاج الأموال أو الخدمات، أي النشاط الصناعي.
2- الوساطة في تداول الأموال.
3- النقل البحري أو النهري أو البري أو الجوي.
4- أعمال البنوك والتأمين.
وكذلك الحال بالنسبة للقانون السويسري، حيث أنه يعتمد أساسا على النظرية الذاتية التي أخذت بها أغلب القوانين التجارية الحديثة.

2- موقفه من النظرية الموضوعية

أخذ المشرع الفرنسي خاصة بالنظرية الموضوعية كأساس للقانون التجاري الصادر عام 1807، واعتناق القانون التجاري الفرنسي للنظرية الموضوعية يفسر أسباب تاريخية، فقد وضع التقنين الفرنسي عقب الثورة الفرنسية والتي أعلنت مبدأ حرية التجارة والمساواة بين المواطنين وألغت نظام الطوائف بما فيه طائفة التجار، وهكذا بعد أن كان القانون التجاري الفرنسي قانونا مهنيا طائفيا، أصبح قانونا موضوعيا هو قانون الأعمال التجارية، بحيث أن كل مواطن يمارس الأعمال التجارية بطبيعتها يخضع لأحكام القانون التجاري تاجرا كان أم غير تاجر، أي أنه إذا كان من الضروري أن يكون للتجار وللنشاط التجاري قانون مختلف ومتميز عن القانون المدني، فإن أحكام القانون التجاري تنطبق على أساس الأعمال التجارية لا على أساس صفة القائم بالأعمال، ولذلك عدد المشرع الفرنسي  الأعمال التجارية في نص المادة 632 بالنسبة للأعمال التجارية البرية كما عدد الأعمال التجارية في المادة 633 بالنسبة للأعمال التجارية البرحية وعرف التاجر في الداة الأولى على "أنه هو الشخص الذي يحترف القيام بالأعمال التجارية"، فاحتراف الأعمال التجارية هو الذي يطرح على القائم بها صفة التاجر، الأمر الذي يفسر لنا عدم تحديد المشرع الفرنسي للحرف التجارية والتي تكسب صاحبها صفة التاجر، أي أن المشرع أخذ بالمذهب الموضوعي لا بالمذهب الذاتي، وهكذا ضمن المشرع الفرنسي التقنين التجاري أحكاما لا تطبق إلا على التجار، كمسك الدفاتر التجارية والقيد في السجل التجاري وقواعد الإفلاس وشهر النظام المالي للزواج وقواعد الشركات التجارية الخ، إن المشرع الفرنسي وكذلك المشرع الجزائري لم يأخذ بالنظرية الموضوعية على إطلاقها، بل أضاف إليها عناصر ذاتية، ويظهر من نواحي ثلاث :
(أ)- من حيث التاجر.
(ب)- من حيث تعريف العمل التجاري عن طريق المقاولة.
(ج)- من حيث الأخذ بنظرية التبعية.
1- عرف المشرع الفرنسي والجزائري التاجر على أنه ذلك الشخص سواء كان طبيعي أو معنوي يباشر عملا تجاريا ويتخذها مهنة معتادة له، ما لم يقض القانون بخلاف ذلك (المادة الأولى من القانون التجاري الجزائري)، ومفهوم المهنة والاعتياد إنما هو مفهوم ذاتي لا موضوعي، وهكذا يكون المشرع قد أدخل المفهوم الذاتي في تعريفه للتاجر إلى جانب المفهوم الموضوعي والذي يتمثل للقيام بالأعمال التجارية الموضوعية والتي وردت في المادة الثانية من القانون التجاري الجزائري.
2- أخذ المشرع الفرنسي والجزائري بمعيار المقاولة لتحديد العمل التجاري، وهكذا جاء في القانون التجاري على أن الأعمال التجارية إما أن تكون أعمال تجارية منفردة وإما أن لا يكون العمل من الأعمال التجارية إلا إذا ما صدر على وجه المقاولة أي الاحتراف، ومفهوم المقاولة والاحتراف كذلك هو مفهوم ذاتي لا موضوعي، فالمقاولة تتطلب قيام مقاول يقوم بالأعمال التجارية لا مرة واحدة ولكن على وجه التكرار والاحتراف، كما أن المقاولة تظهر بمظاهر خارجية تنبه على وجود مقاول في ظل المقاولة، ومفهوم المقاولة هو مفهوم ذاتي شخص لا موضوعي، مادامت المقاولة تحتم وجود مقاول يحترف القيام بالأعمال التجارية عن طريق المضاربة على قوة الآلة والطاقة وعمل العمال، لذلك تسأل بعض الفقهاء وعلى رئسهم الفقيه الفرنسي "جورج ربير"، فيما إذا لم يكن من الأفضل بأن يكون القانون التجاري قانونا مهنيا خاصا بالتجار وحدهم، أي بالأشخاص الذين يمارسون المهن التجارية، كما هو الحال في القانون الألماني لا قانونا للأعمال التجارية كما هو الوضع أساسا في القانون الفرنسي والذي نقل عنه المشرع الجزائري، فيجب إذن أن يقوم القانون التجاري على فكرة الامتهان والاحتراف لا على فكرة العمل التجاري، إلا أن تحديد المهن التجارية الذي تتطلبه النظرية الذاتية أمر صعب المنال، خاصة وأن التجارة في تطور مضطرب بالإضافة أن لكل تاجر حياته المدنية إلى جانب حياته التجارية، ولا حاجة أن يخضع القانون المدني لأحكام القانون التجاري، كما أن غير التاجر قد يقوم ببعض الأعمال التجارية فلابد من أن ينظر في الأعمال التي يقوم بها كل من التاجر وغير التاجر، هل هي من طبيعة مدنية أم من طبيعة تجارية؟، إلى جانب ذلك يؤدي المذهب الذاتي إلى تضييق نطاق القانون التجاري، فلما أصبح هذا القانون قانون المهن التجارية لما استطاع الأشخاص الذين لا يباشرون مهن تجارية أن يستفيدوا من النظم والأساليب التجارية وأن يعتدوا بميزة السرعة ودعم الائتمان والتي تقوم عليها الأمور التجارية.
وخلاصة القول أنه لزاما بأن يقوم القانون التجاري أساسا على المفهوم الموضوعي لا الذاتي، فقد أخذ القضاء الفرنسي بنظرية الأعمال التجارية بالتبعية، وقد نص على هذه النظرية المشرع الجزائري في نص المادة 4 من القانون التجاري، ومؤدى هذه النظرية الذاتية بأن العمل المدني ينقلب إلى عمل تجاري بالتبعية إذا ما قام به تاجر بمناسبة مباشرته لنشاطه التجاري، بحيث يستمد العمل الصفة التجارية من صفة الشخص القائم به، وبذلك يكون المشرع الجزائري خاصة قد أخذ بالنظرية الذاتية ف يميدان الأعمال التجارية بالتبعية بنص القانون، فشراء التاجر الأثاث لمتجره يعتبر من الأعمال التجارية بالتبعية وفقا لنص المادة 4 المذكورة، كما يجب علينا أن نعلم أن المشرع الفرنسي والجزائري لم يأخذ بالنظرية الموضوعية بإطلاقها، بحيث أنه جمع بينها وبين النظرية الذاتية مع ترجيح ملموس للنظرية الموضوعية، وهكذا فعل المشرع في المشرق والمغرب العربي.

المرجع :


  1. أ.عمورة عمار، شرح القانون التجاري الجزائري، دار المعرفة، الجزائر، 2016، من ص 25 إلى ص 35.
google-playkhamsatmostaqltradent