مصادر القانون الإداري

مصادر القانون الإداري

مصادر القانون الإداري

تمهيد

نظرا لتعدد القواعد القانونية واختلاف التعبير عن إرادة الدولة وأفرادها، فإنه من المؤكد أن تتعدد مصادر قواعد القانون بصفة عامة ومصادر قواعد القانون الإداري بصفة خاصة.
والمقصود بكلمة "مصدر" ذلك الأصل أو الأساس الذي تخرج منه القاعدة القانونية، فالبحث عن مصدر القاعدة القانونية هو البحث عن السبب المنشئ لها في مجتمع معين، إذ أن القاعدة القانونية، كأي شيء آخر في الوجود، لا يمكن أن تنشأ من العدم، بل لا بد لها من سبب.
وتجدر الإشارة أنه في لغة القانون يجب التفرقة بين معنيين مختلفين لمصادر القانون، فقد يقصد بذلك "...مجموعة العوامل التي ساهمت في تكوين القاعدة القانونية وتحديد مضمونها، سواء كانت هذه العوامل طبيعية، أم اقتصادية، أم تاريخية، أم اجتماعية..."، وهذا ما يعرف بالمصادر المادية للقانون.
وقد يقصد بمصادر القانون ،"... الطرق أو الوسائل التي تستخدم في إخراج القواعد القانونية إلى مجال التطبيق والتنفيذ ..."، وتسمى مصادر القانون بهذا المعنى المصادر الشكلية.
وبهذين المعنيين، فإن مصادر القانون الإداري لا تختلف في جوهرها عن مصادر القانون بصفة عامة، وهذا بغض النظر عن فروعه المتعددة. 
وبما أن دراسة المصادر المادية للقانون بوجه عام والقانون الإداري بوجه خاص، عبارة عن دراسة فلسفية بالدرجة الأولى تجد مكانا لها في مقياس "فلسفة القانون"، فسيتم استبعادها من هذه المحاضرة، مع الإبقاء على دراسة المصادر الشكلية والتي تسمى كذلك بالمصادر الرسمية.
على أن المصادر الشكلية (الرسمية) للقانون الإداري، تنقسم إلى مصادر مكتوبة (المطلب الأول) وأخرى غير مكتوبة (المطلب الثاني)

المطلب الأول: المصادر المكتوبة للقانون الإداري

تتمثل المصادر المكتوبة للقانون الإداري في كل من الدستور (الفرع الأول)، والمعاهدات الدولية المصادق عليها (الفرع الثاني)، والتشريع (الفرع الثالث) وأخيرا في التنظيم (الفرع الرابع).

الفرع الأول: الدستور

يعتبر الدستور أو القانون الأساسي أسمى المصادر المكتوبة للقانون عامة وللقانون الإداري خاصة، إذ أنه يوضع عادة وفقا لإجراءات خاصة تختلف من دولة لأخرى ومن نظام سياسي لآخر.
ويتضمن الدستور وضع الدولة، وينظم السلطات المختلفة المشكلة لها، كما يبين شكل الحكومة فيها بما في ذلك اختصاصاتها التنظيمية والوظيفية.
ومن ثم فإن بعض مبادئ القانون الإداري مستمدة من الدستور، كالمبادئ الأساسية للتنظيم الإداري، مبدأ الفصل بين السلطات، ازدواجية القضاء، تنظيم العلاقة داخل السلطة التنفيذية بين رئيس الجمهورية والوزير الأول وتحديد مجال صلاحياتهما، إلى غير ذلك من المسائل ذات الطابع الإداري.
وعلى ذلك، فإن الإدارة مطالبة باحترام الدستور أثناء ممارستها لأعمالها، وٕإلا كانت هذه الأخيرة مشوبة بعدم الدستورية. إلا أنه قد يحدث وأن تستند الإدارة على نص تشريعي لمباشرة أعمالها، ويكون ذلك النص غير دستوري، ففي هذه الحالة يبقى العمل الإداري دون جزاء ،أي ساري المفعول، على الرغم من أنه استند على قانون غير دستوري، لأن القضاء في الجزائر لا يستطيع أن يتعرض له عن طريق ممارسة الرقابة على دستورية القوانين لأن هذه المهمة جعلها الدستور من اختصاص المجلس الدستوري لوحده، بعد إخطاره من طرف الهيئات المخولة دستوريا بذلك.

الفرع الثاني: المعاهدات الدولية

يقصد بالمعاهدات الدولية تلك الاتفاقيات المبرمة بين الدول، أو بين دولة وٕإحدى المنظمات الدولية، بهدف إحداث آثار قانونية في علاقتهم المتبادلة.
والمعاهدات الدولية المصادق عليها من طرف رئيس الجمهورية، حسب الشروط المنصوص عليها في الدستور، تسمو على القانون. ومن ثم فإن الإدارة العامة ملزمة باحترام النصوص الواردة في المعاهدات الدولية وٕإلا كان عملا متسما بعدم المشروعية.

الفرع الثالث: التشريع

يقصد بالتشريع مجموعة القواعد القانونية الصادرة عن السلطة التشريعية، أي تلك القواعد القانونية التي يقوم البرلمان بوضعها في حدود اختصاصه المبين في الدستور.
وتجدر الإشارة إلى أن التشريع ينقسم إلى فئتين اثنتين: فئة القوانين العضوية التي تكون في مسائل محددة حصرا في الدستور. وفئة القوانين العادية.
وبالرغم من أن القانون الإداري غير مقنن، أي ليست له مجموعة قانونية واحدة تتضمن القواعد والأحكام الخاصة به مثل بقية فروع القانون الأخرى، كالقانون المدني والقانون التجاري وقانون العقوبات، فإنه توجد العديد من القوانين التي تنظم الكثير من موضوعاته، كالقانون العضوي المتعلق بمجلس الدولة، القانون المنظم للمحاكم الإدارية، قانون البلدية، قانون الولاية، إلى غير ذلك من الأمثلة.

الفرع الرابع: التنظيم

يقصد بالتنظيم ذلك التصرف القانوني الصادر عن السلطة التنفيذية والمتضمن لقواعد عامة ومجردة. وعلى هذا فإن التنظيم بهذا المعنى الموضوعي لا يختلف عن التشريع (القانون).
أما من الناحية العضوية، فإن التنظيم يختلف عن التشريع (القانون) ذلك أنه يصدر عن السلطة التنفيذية في حين أن الثاني مصدره السلطة التشريعية.
وتجدر الإشارة إلى أن التنظيم ليس على شكل واحد وٕإنما تتعدد أشكاله باختلاف الزوايا التي ينظر إليه منها، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
- التنظيم بحسب الجهة المصدرة له: من هذه الزاوية يمكن أن يكون التنظيم إما مرسوما رئاسيا، أو مرسوما تنفيذيا، أو قرارا وزاريا، أو قرار صادر عن الوالي، أو قرار صادر عن رئيس المجلس الشعبي البلدي.
- التنظيم بحسب موضوعه: من هذه الزاوية قد يكون التنظيم عبارة عن تنظيم مستقل صادر عن رئيس الجمهورية بما يملكه من سلطة تنظيمية مستقلة، وقد يكون تنظيم تنفيذي أو تطبيقي صادر عن الوزير الأول بما يملكه هو الآخر من سلطة تنظيمية مستقلة تبعية.
وبالإضافة إلى هذه الأنواع من التنظيم - والتي يسميها بعض من الفقه العربي باللوائح، يمكن إضافة التنظيمات التفويضية (اللوائح التفويضية)، وتنظيمات الضرورة (لوائح الضرورة)، وتنظيمات الضبط (لوائح الضبط).
وبناء على ما سبق، فإن التنظيم بمختلف صوره له دور هام في تنظيم النشاط الإداري، حيث تعد القرارات الإدارية التنظيمية مصدرا من مصادر مبدأ المشروعية. فالإدارة العامة ليست ملزمة فقط باحترام التشريع، بل ملزمة كذلك باحت ارم القرارات الإدارية التنظيمية الصادرة عن الجهات المختصة.
فالتنظيم أو اللائحة أو التشريع الفرعي يشكل مصدرا هاما، بل أهم مصدر من مصادر القانون الإداري المكتوبة، نظرا لأعداده الهائلة المنشورة في الجريدة الرسمية وفي النشرات المحلية الخاصة بالهيئات المحلية.

المطلب الثاني: المصادر غير المكتوبة للقانون الإداري

تتمثل المصادر غير المكتوبة في الفقه (الفرع الأول)، والعرف الإداري (الفرع الثاني)، والقضاء (الفرع الثالث) والمبادئ العامة للقانون (الفرع الرابع). على أن المصدرين الأخيرين من أهم المصادر سواء المكتوبة منها أو غير المكتوبة، وهذا راجع بالدرجة الأولى لكون القانون الإداري ذو نشأة قضائية بامتياز.

الفرع الأول: الفقه

يقصد بالفقه "... مجموعة القواعد المستنبطة من قبل شراح القانون بعد الدراسة والبحث في مسائل معينة أو نقد نصوص موجودة أو التعليق على أحكام وقرارات قضائية..." ، وبهذا المعنى لا يعد الفقه مصدرا رسميا للقانون الإداري بأتم معنى الكلمة، ذلك أن الآراء الفقهية مهما كانت قيمتها، إلا أنها لا تتمتع بالقوة القانونية الملزمة.
ولكن بالرغم من ذلك، فإن للفقه في القانون الإداري دور كبير قد يتجاوز دوره في باقي فروع القانون الأخرى، وذلك راجع لحداثة نشأة القانون الإداري من جهة، ولعدم تقنينه من جهة أخرى. وهو الأمر الذي يجعله يؤدي مهمة كبيرة في إبراز الأسس والنظريات العامة التي تحكم القانون الإداري، وفي شرح المبادئ والأحكام المتفرعة عنها، وفي دراسة النصوص القانونية الصادرة عن المشرع وتبيان ما تتضمنه هذه الأخيرة من ثغرات قانونية، وكذا في تحليل ونقد الأحكام والقرارات الصادرة عن القضاء الإداري.
كما يقوم فقه القانون الإداري بمقارنة مبادئ وأحكام القانون الإداري مع ما تم التوصل إليه في الدول الأخرى، لكي يصل إلى أفضل الحلول الملائمة.
وعلى ذلك، فإن فقه القانون الإداري يلعب دور المرشد الذي يبين الحلول الملائمة لكل من المشرع والقضاء الإداري.

الفرع الثاني: العرف الإداري

يقصد بالعرف الإداري "... ما يجري عليه العمل من جانب السلطة الإدارية، في مباشرة نشاطها على نحو معين وبشكل مضطرد بحيث يشكل ذلك قاعدة ملزمة واجبة الإتباع ...".
وعلى هذا، لكي يصبح سلوك الإدارة في إنجاز عمل معين عرفا إداريا، يتعين أن يتوافر له ركنان: الركن المادي (أولا)، والركن المعنوي (ثانيا).

أولا: الركن المادي

يتمثل الركن المادي في اعتياد الإدارة العامة على الأخذ بقاعدة متبعة وتكرار تطبيقها بانتظام وبدون انقطاع فيها، متى توافرت شروطها وهي العمومية والقدم والاستقرار.
وهذا يعني أن انقطاع الاعتياد في إتباع سلوك معين من جانب الإدارة يؤدي إلى عدم توافر الركن المادي للعرف.

ثانيا: الركن المعنوي

يتكون الركن المعنوي عندما يتولد الشعور لدى الإدارة العامة والأفراد المتعاملين معها بإلزامية هذه العادة، وأنها صارت قاعدة واجبة الاحترام.
وتجدر الإشارة إلى أنه وللأخذ بالعرف الإداري كمصدر من مصادر القانون الإداري، يجب أن لا يكون مخالفا للنصوص التشريعية أو التنظيمية، لأنه إذا صدر نص قانوني مخالف للعرف الإداري فقد هذا الأخير قيمته القانونية، كما أنه يمكن للإدارة أن تخالف القاعدة العرفية القائمة بإتباع قاعدة عرفية جديدة. ومن ثم فإن العرف بصفة عامة لا يلعب في مجال القانون الإداري نفس الدور الذي بلعبه في القوانين الأخرى، إذ يبقى دوره في الحقيقة ثانويا.

الفرع الثالث: القضاء

يعتبر القضاء أهم مصدر من مصادر القانون الإداري، نظرا للدور الذي يقوم به القاضي الإداري في إنشاء القواعد. ومن ثم يجب التطرق إلى دور القاضي الإداري في خلق القانون الإداري (أولا)، ثم دراسة تقنيات وضع القاعدة القضائية (ثانيا)، وأخيرا البحث في القوة القانونية للقاعدة القضائية (ثالثا).

أولا: دور القاضي في إنشاء القانون الإداري

لا يختلف دور القاضي الإداري عن القاضي المدني، في أن وظيفة كل واحد منهما تنحصر في الفصل في المنازعات المعروضة عليه. وٕإذا كان الدستور لم يشر صراحة إلى إمكانية قيام القاضي بوضع القواعد العامة، فإن هذا يفترض أن تكون أمام القاضي الإداري قواعد قانونية تنطبق على الحالة المعروضة عليه، والتي بواسطتها يستطيع الفصل في النزاع. إلا أن القاضي قد يجد نفسه دون أية قاعدة مكتوبة تنطبق على النزاع المعروض عليه. ويحدث هذا غالبا في القضاء الإداري نظرا لطابعه الخاص. فالقاضي هنا ملزم بالفصل في النزاع المعروض عليه. وهنا قد يجد نفسه مضطرا إلى خلق قواعد عامة تمكنه من حل النزاع. فما هي التقنيات التي يتبعها للقيام بتلك المهمة؟.

ثانيا: تقنيات وضع القاعدة القضائية

إذا كان حل النزاع يستنبط من نص قانوني موجود، فإن القاضي الإداري -شأنه شأن القاضي العادي- يقوم بعملية تفسير ذلك النص من أجل استنباط الحكم. وفي هذه الحالة لا يمكن القول بأن القاضي الإداري أنشأ قاعدة قانونية، ذلك أن سلطته في التفسير تختلط هنا مع النص المفسر. ومع ذلك، فإن القاضي الإداري قد برهن على أن له حرية كبيرة في مجال التفسير لاستنباط الأحكام. أما إذا لم يكن هذا النص الذي ينطبق على النزاع موجودا، فإن القاضي الإداري قد يلجأ إلى البحث عن الحل من خلال القضايا المشابهة للقضية المعروضة عليه والتي تم الفصل فيها سابقا، فيعطي للقضية المعروضة عليه حكما يشابه حكم الحالات السابقة.
ولكن في حالات أخرى، وأمام انعدام النص، أو الحكم السابق، فإن القاضي يقوم بإنشاء القاعدة التي تحكم النزاع بطريقة صريحة، ما دام أنه ملزم بالفصل بالنزاع المعروض عليه.
إن هذا الاجتهاد إذا لم يقصد القاضي التمسك به مستقبلا يعتبر حلا فرديا، قد يغيره القاضي في قضايا أخرى مشابهة للقضية المعروضة عليه. أما إذا قصد القاضي التمسك بهذا الحل مستقبلا في القضايا المشابهة التي ستعرض عليه في المستقبل فيعتبر بمثابة قرار مبدئي arrêt de principe)).
على أن هذا القرار المبدئي ليست له أية ميزة خارجية تميزه عن غيره من الأحكام، بل الذي يجعله معروفا هو مقالات مفوضي الحكومة، وتعاليق الفقهاء عليه.

ثالثا:القوة القانونية للقاعدة القضائية

إذا كان القاضي لا يستطيع من الناحية الشكلية أو العضوية أن ينشئ قواعد قانونية، لأن دوره التقليدي يتمثل فقط في تطبيق القانون، فإنه من خلال القرار المبدئي تجاوز القاضي الإداري مهمته العادية، وتحول إلى مصدر إنشائي للقواعد القانونية. وبالتالي فإن القرار المبدئي باعتباره حكما قضائيا، سيتجاوز حدود الحجية المقررة للأحكام القضائية، ليتحول إلى قاعدة قانونية ذات قوة إلزامية عامة، وواجبة التطبيق مستقبلا على الحالات المشابهة. فالقاضي الإداري عند وضعه للقرار المبدئي، نادرا ما يفكر في تعديله أو الخروج عليه.
ولكن على الرغم من بديهية هذه النتيجة، فقد يُعترض عليها، لأن الدستور لا يتضمن أي نص يسمح للقاضي بوضع قواعد عامة ومجردة تطبق مستقبلا على الحالات المشابهة، شأنها في ذلك شأن القواعد التشريعية فالحكم الذي يضعه القاضي الإداري، لا ينطبق إلا على النزاع المعروض عليه. بل إن القاضي ذاته قد لا يطبق ذلك الحل في نزاع مستقبل مشابه للنزاع المعروض عليه.
إلا أن التحليل الموضوعي لدور القاضي الإداري في وضع القرارات المبدئية يكذب هذا الاعتراض، لأن القرار المبدئي يتميز عن الحلول الفردية (I)، الشيء الذي يترتب عليه أن للقرار المبدئي نفس خصائص القاعدة القانونية (II). مما يتعين وضعه في مكان معين ضمن الهرم القانوني للقواعد القانونية (III).

I) القرار المبدئي يتميز عن الحلول الفردية

إن الحجة الأساسية التي يمكن الاعتماد عليها للقول بأن القرار المبدئي باعتباره حكما قضائيا، لا يعتبر قاعدة قانونية، تتمثل في أن القاضي الذي وضعه، لا يعد من الناحية القانونية مرتبطا به كما هو الشأن بالنسبة لارتباطه بالنص المكتوب. وهذا على خلاف ما يقع في بعض الدول كبريطانيا، التي توجب على القاضي الالتزام بالسوابق القضائية. فالقاضي حر في النزاع الجديد، في عدم التقيد بالحل الذي وضعه في النزاع السابق، ذلك أنه عندما يخلق حلا عادلا للنزاع، في حالة وجود نقص في مصادر القانون الوضعي، فإنه لا يخلق بذلك قاعدة قانونية، ولكنه يخلق حلا فرديا والحكم الذي يصدره، لا تكون له حجية إلا بالنسبة لهذا النزاع بالذات، إذ لا يجوز التمسك به مستقبلا أمام نفس القاضي، أو أمام قاض آخر.
إلا أن هذه الحجة مردود عليها، لأنه فيها خلط بين الحكم القضائي الذي يعتبر حلا فرديا، وبين القرار المبدئي. فمن خصائص القرار المبدئي، هو نية القاضي الإداري في التمسك به مستقبلا في القضايا المشابهة. لذلك سيتجاوز القرار المبدئي حدود الحجية النسبية المقررة للأحكام القضائية، ليكون بمثابة القاعدة القانونية الملزمة والواجبة التطبيق مستقبلا على الحالات المشابهة. فموقف القاضي الإداري إذن تجاه القرار المبدئي، هو نفسه تجاه القواعد التشريعية، إذا توفرت لديه نية الالتزام به لحظة إنشائه. و في هذا ما يضفي عليه صفة القاعدة القانونية.

II) القرار المبدئي يتمتع بخصائص القاعدة القانونية

قد يقال بأن القرار المبدئي لا يتمتع بخصائص القاعدة القانونية، نظرا لعدم ارتباط القاضي الإداري بالقاعدة التي يضعها في القرار المبدئي، وهذا على خلاف القاعدة المكتوبة. إلا أن التحليل المادي يكذب هذه النتيجة.
فمن جهة، حتى  ولو تم التسليم بأن القاضي الإداري غير مرتبط -نظريا- بالقاعدة التي يضعها في القرار المبدئي، على خلاف القاعدة المكتوبة، فإن عدم الارتباط هذا له تبريره. فالقاعدة المكتوبة لا يضعها المشرع بصفة أبدية، إذ هي قابلة للتعديل إذا تغيرت ظروف تطبيقها. فمن خصائص القاعدة القانونية أنها اجتماعية، وهي نفس الخاصية التي تتمتع بها القاعدة القضائية التي جاء بها القرار المبدئي، ذلك أن القاضي الإداري لو خالفها أو أتى بقرار مبدئي جديد، فمعنى ذلك أن القرار المبدئي الأول، أصبح لا يتماشى مع الظروف الاجتماعية الجديدة، الشيء الذي يترتب عليه ضرورة تعديلها أو تغييرها، شأنها في ذلك شأن القاعدة المكتوبة التي يضعها المشرع.
و من جهة أخرى، حتى و لو فكر القاضي الإداري في تعديل القرار المبدئي، فإنه لا يعدله إلا إذا كانت هنالك ضرورة لتعديله. وفي هذا الصدد، فإن القاضي يتخذ سلوكا أكثر تعقلا، و أكثر حذرا من الذي يسلكه عادة تجاه الأحكام التي تعتبر مجرد حلول تطبيقية، إذ لا يقوم بتعديله مباشرة، خاصة إذا علم بأن للقاعدة القضائية في المجال الإداري خاصيتين أساسيتين هما المرونة وصعوبة فهمها. لذلك غالبا ما يتبنى تفسيرا واسعا أو ضيقا للقرار المبدئي القديم المراد تعديله، مع الاحتفاظ بصلب القرار المبدئي. أو أنه يأتي بنص إضافي، يمشي جنبا إلى جنب مع القرار المبدئي القديم.
و ينتج عن كل ما سبق، أن الإدارة و الأفراد ملزمين باحترام القاعدة التي جاء بها القرار المبدئي، ذلك أنهم إذا خالفوها، فسيطبق عليهم القاضي الإداري نفس الجزاءات التي يطبقها على مخالفة القواعد المكتوبة. بل قد يكون أكثر صرامة هنا، طالما أن تلك القواعد قد صدرت عنه، و في مخالفتها زعزعة لمركزه. و من هنا ،سينتج عند الإدارة، و الأفراد، الشعور بإلزامية القرار المبدئي، شأنه في ذلك شأن القاعدة المكتوبة، نظرا للجزاء الذي يتمتع به.
و‌على هذا الأساس يمكن القول بأن القاعدة التي جاء بها القرار المبدئي، تحتوي من وجهة النظر المزدوجة: الموضوعية -وجود جزاء- و الشخصية -الشعور بإلزاميتها - على كل خصائص القاعدة القانونية

III) مكانة القرار المبدئي ضمن الهرم القانوني للقواعد القانونية

لقد ذهب بعض الفقه إلى اعتبار أن القواعد القضائية تحتل مكانة أسمى من التنظيمات، وأدنى من التشريعات، والسبب في ذلك حسب رأيهم، يتمثل في أن القاضي ليس بإمكانه رقابة دستورية القوانين. وبالتالي فإنه لا يستطيع أن يلغي القانون، وعليه، فإن عمله لا يمكن أن يساوي أو يسمو على القانون. وعلى خلاف ذلك، فإن القاضي بإمكانه إلغاء القرارات الإدارية، حتى  ولو كانت صادرة عن أصحاب المجال التنظيمي (رئيس الجمهورية أو الوزير الأول)، وعليه فإن عمله هنا يسمو على التنظيمات. ومن هنا فإن القرارات المبدئية تحتل مكانة وسط بين التشريعات – ما دام أن القاضي الإداري ليس بإمكانه تعديلها أو إلغائها -، والتنظيمات – ما دام أن القاضي الإداري بإمكانه تعديلها أو إلغائها -.
إلا أن فريقا آخر لا يشايع هذا الرأي، ذلك أن القاضي الإداري إذا كان بإمكانه إلغاء القرارات الإدارية حتى التنظيمية منها، فإن ذلك مشروط بأن تكون تلك القرارات غير مشروعة. لذلك لا يمكن اعتبار حقه في إلغاء القرارات الإدارية غير المشروعة سببا في اعتبار عمله يسمو على تلك القرارات.
ومن جهة أخرى – وهو المهم في هذا الصدد -، فإن القرار المبدئي لا يمكن أن ينشأ في حالة وجود القاعدة القانونية المكتوبة التي يمكن تطبيقها على النزاع المعروض عليه. فالقاضي الإداري لا ينشئ القرار المبدئي – كما تم التعرض إليه سابقا – إلا في حالة انعدام النص القانوني المكتوب الذي يحكم النزاع المعروض عليه. أو بتعبير آخر، فإن القاضي الإداري ليس بإمكانه أن ينشئ قرارا مبدئيا، في حين أن النص المكتوب الذي يحكم النزاع يكون موجودا. لهذا فإنه لا يمكن مقارنة القرار المبدئي من حيث مرتبته في الهرم القانوني، مع النصوص القانونية المكتوبة، ما دام أن هذه النصوص غير موجودة أصلا.

الفرع الرابع: المبادئ العامة للقانون

يقصد بالمبادئ العامة للقانون تلك "... المبادئ التي يكشف عنها عقل الإنسان السليم، والتي يمكن استخلاصها من ضرورات الحياة الاجتماعية مثل استمرارية المرافق العامة، أو من مبادئ العدالة، مثل مبدأ الإثراء بلا سبب. ويترتب على مخالفتها من طرف الإدارة تعرضها لتوقيع الجزاء عليها...".
على أن دراسة المبادئ العامة للقانون يقتضي دراسة خصائصها القانونية (أولا)، ثم البحث في قيمتها القانونية (ثانيا).

أولا: الخصائص القانونية للمبادئ العامة للقانون

تتمثل هذه الخصائص فيما يلي:
1- تتمتع المبادئ العامة للقانون بقوة ملزمة لكل من هو مخاطب بها، أي أنها ملزمة للأفراد والإدارة على حد سواء. وعليه فإن أي عمل إداري مخالف لهذه المبادئ يتعرض للبطلان. وفي حالة ما إذا ترتب عليه ضرر للغير، فإن ذلك سيؤدي إلى قيام المسؤولية الإدارية. ومن هنا فإن قيمة المبادئ العامة للقانون هي نفس قيمة القانون الوضعي.
2- إن القوة التي تتمتع بها المبادئ العامة للقانون لا يمكن ربطها بأي عنصر شكلي (مكتوب وغير مكتوب)، فهذه المبادئ تتمتع بقوة ملزمة حتى في حالة عدم وجود نص، لهذا فإنها تستقل عن أي عنصر شكلي.
على أن السؤال الذي يطرح، هل يمكن اعتبار المبادئ العامة للقانون بمثابة قواعد قضائية؟
ذهب البعض إلى القول بأن دور القاضي في المبادئ العامة للقانون دور كاشف، وليس منشئ، أي أنه لم يقم بخلقها أو ابتكارها، وٕإنما قام فقط بالكشف عنها، مما يدل على أنها كانت موجودة قبل أن يشير إليها. إلا أن المتأمل لدور القاضي هنا يلاحظ بأن عمل القاضي في الحقيقة هو دور منشئ، ذلك أنه هو الذي أدخلها في عالم القانون. فالمبدأ العام للقانون الموجود في ضمير الجماعة، لم يكن يتمتع بأي قوة ملزمة إلا بعد أن أدخله القاضي في عالم القانون الوضعي. وهذا هو الدور الخلاق الذي يقوم به القاضي.

ثانيا: القيمة القانونية لمبادئ العامة للقانون

قبل سنة 1958 كان معظم الفقهاء الفرنسيين يقولون بأن المبدأ العام للقانون له نفس قيمة التشريع. أما موقف القضاء الفرنسي قبل سنة 1958، فلم يكن واضحا. ولكن ابتداء من سنة 1958 (صدور الدستور الفرنسي الحالي) اعتبر مجلس الدولة الفرنسي أن المبادئ العامة للقانون لها قوة ملزمة.
إلا أن الإشكال ظل مطروحا إلى أن عرض الأمر على المجلس الدستوري الفرنسي الذي ميز بين نوعين من المبادئ العامة للقانون. المبادئ المستمدة من الدستور وهذه تأخذ مرتبة الدستور، أما المبادئ الأخرى فتأخذ مرتبة التشريع العادي.

المرجع


  1. د. بلماحي زين العابدين، المدخل للقانون الإداري ونظرية التنظيم الإداري، جامعة أبي بكر بلقايد تلمسان، الجزائر، السنة الجامعية: 2015-2016، ص45 إلى ص62.
google-playkhamsatmostaqltradent