المنهج الاستدلالي

المنهج الاستدلالي

المنهج الاستدلالي

يقصد بالمنهج الاستدلالي المنهج الذي يقارب الحقيقة بالاستدلال، من حيث هو –أي الاستدلال- عملية عقلية ننتقل فيها من قضية، أو من عدة قضايا إلى قضية أخرى تستخلص منها مباشرة دون لجوء إلى التجربة، ويستلزم عادة أن تكون القضايا المستنتجة جديدة بالنسبة إلى القضايا الأصلية، وإلا فقد الاستدلال معناه، لأنه هو للانتقال من أشياء مسلم بصحتها، إلى أشياء أخرى ناتجة عنها بالضرورة، وتكون جديدة بالنسبة للقضايا الأصلية.

وفي التعريف بهذا المنهج فإننا نعرف بمبادئه، وأدواته، وأنواعه، ومجالات تطبيقه، والمعايير التي يتم على هديها اللجوء إلى استخدام هذا المنهج:

‌أ. مبادئ الاستدلال:

1. البديهية: قضية بينة بذاتها، فلا يمكن البرهنة عليها، وهي عامة، وتستند إلى مبدأ الهوية.

2. المصادرة أو المسلمة أو الموضوعة: قضية تركيبية يضعها العقل، ويسلم بها دون برهان، لحاجته إليها في البرهنة، فهي إنشاء عقلي، ولكل علم مصادراته، فهي خاصة وصريحة.

3. التعريف: هو مجموع الصفات التي يتكون منها مفهوم الشيء مميزا عما عداه. والشرط الأساسي لكل تعريف هو أن يكون ما صدق القول المعرف، والشيء المعرف واحدا ومميزا، ولصحة التعريف شروط لابد من التقيد بها وهي:

  • يجب أن يعبر عن ماهية الشيء، أي عن جنسه، وفصله النوعي.
  • أن يكون جامعا مانعا.
  • أن لا يعرف الشيء بما يساويه في المعرفة والجهالة. أي يتجنب السلب إلا الضرورة.
  • الاحتراز عن تعريف الشيء بما لا يعرف إلا به (تجنب ذكر اسم المعرف في التعريف).
  • تجنب استعمال ألفاظ غريبة وحشية غير مفهومة، والتعريف إما تعريف اسم، وإما تعريف شيء.

‌ب. أدوات المنهج الاستدلالي:

1. القياس: وهو قول مؤلف من قضايا اذا سلمت لزم عنها (او عنه ) قول اخر.

2. الجريب العقلي: وهو قيام الانسان، في داخل عقله، بمناقشة الفروض والتحقيقات، ولقد يكون خياليا، او علميا، وفي التجريب العقلي العلمي يناقش الانسان بعقله فقط، الأوضاع، والفروض العقلية الداخلية لاستخلاص النتائج التي تلزم الذهن.

3. التركيب: وهو عملية عقلية تبدا من قضية صحيحة معلومة بقصد استخراج النتائج، ومعرفة مدى صحتها.

ج. أنواع الاستدلال:

والاستدلال إما استنتاج، أو استقراء:

أولا: الاستنتاج: وهو لزوم النتيجة عن المقدمات، وهو إما صوري وإما رياضي.

أ‌) الاستنتاج الصوري: وهو إما مباشر، وإما غير مباشر. ولن نتعرض للرياضي منه.

-1- الاستنتاج المباشر (ويعرف بالاستنباط أيضا): وهو انتقال الفكر من قضية إلى قضية أخرى تلزم عنها مباشرة، (أي دون التوسط بقضية أخرى) وله عدة أنواع، يمكن إيجازها بما يلي: تقابل القضايا، والعكس المستوى، ونقض المحمول، ونقض العكس المستوى، وعكس النقيض، والنقض.

أولا- تقابل القضايا تقابل القضايا علاقة بين قضايا تتفق في الموضوع والمحمول، وتختلف في الكم أو الكيف أو بهما معا. ويقع التقابل في أربع هي التضاد، والتداخل، والتناقض، والدخول تحت التضاد.

وأما التضاد فعلاقة تقابل بين ك.م و: ك س، وهما لا تصدقان معا، وقد تكذبان معا.وأما التداخل فعلاقة تقابل بين ك م و: ج م، وبين ك.س و: ج.س، وهو إذا صدقت الكلية صدقت الجزئية المتداخلة معها، ولا عكس. وإذا كذبت الجزئية كذبت الكلية المتداخلة معها، ولا عكس. وأما حال الدخول تحت التضاد، وهو علاقة تقابل بين ج.م و ج.س وهما لا تكذبان معا وقد تصدقان. في حين ان التناقض، هو علاقة تقابل بين ك م و:ج.س، وبين ك س، و:ج.م، وهما لا تصدقان معا ولا تكذبان معا.

ثانيا- العكس المستوي: وهو تعريفا استنتاج قضية من قضية أخرى عن طريق تحويلها، إلى أخرى، موضوعها محمول الأصل، ومحمولها كموضوع الأصل، مع الإبقاء على الصدق والكيف. ولصحة العكس المستوي يجب أن تتحد الأصلية والمعكوسة في كيف الأصل، وان لا يستغرق حد في المعكوسة لم يكن مستغرقا في الأصل. وعندها فان: ك س تعكس ك.س و:ك م تعكس ج م، ويسمى هذا عكسا بالتحديد أو بالعرض: ج م تعكس ج م. و: ج س لا تعكس.

ثالثا- نقض المحمول: هو عملية تحول فيها قضية معلومة إلى قضية أخرى تساويها في الصدق، موضوعها موضوع الأصل، ومحمولها نقيض محمول الأصل، وله قاعدة واحدة هي: يغير كيف القضية، ويستبدل بالمحمول نقيضه، وبتطبيق هذه القاعدة نحصل على ما يلي:

  • ك.م: كل إنسان فان. تصير: لا إنسان هو لا فان.
  • ج.م: بعض المصريين مسيحي. تصير: ليس بعض المصريين بلا مسيحي.
  • ك.س: لا كذوب مصدق. تصير: كل كذوب هو لا مصدق.
  • ج.س: ليس بعض الورد ابيض. تصير: بعض الورد هو لا ابيض.

رابعا- نقض العكس المستوي: نقض العكس المستوي هو تحويل قضية معلومة إلى أخرى موضوعها محمول الأصل، ومحمولها نقيض موضوع الأصل، مع بقاء الصدق والكيف.

وقاعدته: أن تعكس القضية الأصلية عكسا مستويا أولا، ثم تنقض المعكوسة نقص محمولا ثانيا، وليس للجزئية السالبة نقض عكس مستو، لأنها لا تعكس أصلا.

خامسا- عكس النقيض: هو تحويل القضية إلى أخرى موضوعها نقيض محمول الأصل، ومحمولها نقيض موضوع الأصل، او عين موضوع الأصل، وفي الحال الأول يدعى بعكس النقيض الموافق، وفي الحال الثاني يدعى: عكس النقيض المخالف.

أ‌) عكس النقيض الموافق: هو تحويل قضية إلى أخرى موضوعها نقيض محمول الأولى، ومحمولها نقيض موضوع الأولى، مع بقاء الصدق والكيف.

ب‌) عكس النقيض المخالف: وهو تحويل قضية إلى أخرى موضوعها نقيض محمول الأصل، ومحمولها عين موضوع الأصل، مع بقاء دون الكيف.

سادسا- النقض: النقض عملية استدلال مباشر، تحول فيها قضية إلى أخرى، موضوعها نقيض موضوع الأصل، ومحمولها إما أن يكون عين محمول الأصل، وهذا نقض الموضوع، أو يكون نقيض محمول الأصل، وهذا هو النقض التام، ويكون هذا بعكس الأصل، ثم نقض المحمول، ونستمر في ذلك حتى نصل إلى قضية موضوعها نقيض موضوع الأصل، ومحمولها إما أن يكون عين محمول الأصل، أو نقيض محمول الأصل، أو نصل إلى قضية جزئية سالبة لا تقبل العكس فنتوقف، ثم نقوم بعملية كالسابقة ولكن بالبدء بنقض المحمول حتى نصل إلى قضية موضوعها نقيض موضوع الأصل، ومحمولها إما عين محمول الأصل، أو نقيض محمول الأصل، أو نصل على قضية جزئية سالبة فنتوقف.

-2- الاستنتاج غير المباشر، او نظرية القياس:

والقياس مقدمتان ونتيجة لازمة عنهما، وهو إما حملي، وإما شرطي.

أ‌. القياس الحملي:

وهو قياس مقدمتاه قضيتان حمليتان، وله نتيجة لازمة عنها ولصحته شروط تتعلق بالحدود، وأخرى تتعلق بالقضايا.

. بالنسبة للحدود:

‌أ. يجب أن يكون في القياس الحملي ثلاثة حدود فقط (اكبر، أوسط، اصغر).

‌ب. يجب أن يكون الحد الأوسط مستغرقا مرة واحدة على الأقل في إحدى المقدمتين، وغير مذكور في النتيجة، لان وظيفته هي الربط فقط.

‌ج. يجب أن لا يستغرق حد في النتيجة لم يكن مستغرقا من قبل في المقدمات.

. بالنسبة للقضايا:

  • في القياس الحملي ثلاث قضايا فقط: كبرى، صغرى، ونتيجة.
  • من مقدمتين موجبتين لا نتيجة سالبة.
  • من سالبتين، أو من جزئيتين لا إنتاج.
  • النتيجة تتبع الأخس، أي الأضعف.

أشكال القياس الحملي: للقياس الحملي أربعة اشكال، تبعا لمكان الحد الأوسط في المقدمتين، ففي الشكل الأول يكون الحد الأوسط موضوعا في الكبرى محمولا في الصغرى، وفي الشكل الثاني يكون الحد الأوسط محمولا في المقدمتين، وفي الشكل الثالث يكون موضوعا في المقدمتين، وأما في الشكل الرابع فيكون محمولا في الكبرى، موضوعا في الصغرى.

ولكل شكل اضربه المنتجة، واضربه غير المنتجة، فأما المنتجة فتحدد بالصياغة اللاتينية التالية، التي تشرح أيضا كيفية البرهنة بالأشكال المختلفة عن طريق الرد إلى ضرب الشكل الأول، والصياغة اللاتينية هي:

1.     Barbara, Celarent, Darii, Ferioqueprioris.

2.     Cesare, Camestres, Festino, Baroco, Secundae.

3.     Tertia: Darapti, Disamis, Datisi, Felapton, Bocardo, Ferison.

4.     Baramantip, Camenes, Dimaris, Fesapo, Fresison.

والحرف الأول من ٲضرب الأشكال الثلاثة الأخيرة يبين الضرب من الشكل الأول الذي يرد إليه الضرب الأول المردود بطرائق تجد تفصيلها، في كتب المنطق.

ب‌. القياس الشرطي أو الاستثنائي: والقياس الشرطي، أو الاستثنائي، قياس مقدمته الكبرى قضية شرطية مؤلفة من مقدم وتال، وصغراه قضية حملية تثبت أو تنفي ٲحد طرفي الشرط. وهو إما منفصل، أو متصل.

وبين مقدم وتالي القياس الشرطي المنفصل حال عناد، فلا يجتمعان في صدق أو كذب.

وأما القياس الشرطي المتصل فبين مقدمه وتاليه حال استلزام، وله أربع قواعد تجمع في اثنتينً هما:

1. وضع المقدم يعني وضع التالي، ولا عكس.

2. رفع التالي يعني رفع المقدم، ولا عكس.

ثانيا: الاستقراء: الاستقراء في عرف الأقدمين هم معرفة الشيء الكلي بجميع أشخاصه، وهو ما ندعوه في زماننا بالاستقراء التام، كذلك عرفه الكندي، وقال بعضهم انه، -أي الاستقراء- هو عبارة عن ما يوجب نسبة كلي إلى كلي آخر، بإيجاب أو سلب، لتحقيق نسبة تلك الكيفية إلى ما تحت الكلي المنسوب إليه من الموضوعات، كذلك عرفه سيف الدين الآمدي.

أما في عصرنا فان الاستقراء، هو المحاكمة التي ننطلق بواسطتها من ملاحظة وقائع محددة لاحظناها، إلى قانون عام يشمل مجموع الوقائع المشاهدة وغيرها، أو هو الانتقال من الواقع إلى القانون، أي من الجزيئات إلى كلياتها المعقولة، وهو قائم على الاعتقال بان للطبيعة سننا بسيطة لا تختلف ابدا، اعتقادا قوته متناسبة طردا مع مرات تصديق الحوادث له.

والاستقراء إما تام، أو ناقص، وبناء العلم المعاصر يعتمد على الاستقراء الناقص، أي الذي يدرس بعض الماصدق ليخلص إلى قانون كلي.

‌د. تطبيق المنهج الاستدلالي: المعايير والمجالات:

يتميز المنهج الاستدلالي من بقية المناهج بكونه منهجا عقليا منطقيا صوريا ثابتا وصارما، يقوم على أساس ثبات واطلاقية الأشياء والحقائق والظواهر، لان المنطق علم يبحث في صورة الفكر، وأداة التميزات الغلط والصواب في الفكر، بالانطلاق بتسلسل ينتقل من مبادئ أولية، أو قضايا أولية، إلى قضايا أخرى تستخرج منها بالضرورة، ودون اللجوء إلى التجربة العلمية الميدانية، ذلكم هو المنهج الاستدلالي واقعا، وتلك هي معايير استخدامه لمن رام ذلك، وبالتالي فالمنهج الاستدلالي يصلح للتطبيق حيثما كان المجال مناسبا بخصائصه التي أسلفنا ذكرها.

في العلوم القانونية مثلا: تحليل العمل القانوني، والأبحاث القانونية يرينا مجالات غنية واسعة تتصف بالنظرية ، والفكرية، والصورية، قديما وحديثا بما يتناسب وتطبيق المنهج الاستدلالي فيها، فحينما كان التداخل بين القانون والفلسفة التأملية، وكانت النظرة السائدة للقانون نظرة ثابتة، وجامدة، وعقلانية بحتة، طبق المنهج الاستدلالي في مجالات القانون تطبيقا واسعا لتحليل وتأصيل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والسياسية لاستنباط قوانين وقواعد السببية، واستخدام المنهج الاستدلالي في فلسفة القانون، وعلم الاجتماع القانوني، وتفسير أصل وغاية الدولة، والقانون، والسلطة، والأمة، والديمقراطية، والديكتاتورية، والثورة، والقيادة، والحرب والسلم، وغير ذلك، من مثل النظريات القانونية، والجريمة، وعنى بهذا التطبيق للمنهج الاستدلالي فلاسفة اليونان، والرومان، والإسلام، حتى لقد بني المنطق القانوني كفرع من فروع المنطق الصوري، ومازال هذا المنهج مفيدا- في مجاله – في أيامنا هذه، وبخاصة في مجال تفسير، وتركيب المبادئ، والقواعد، والأحكام القانونية المجردة، الملزمة والنافذة، وفي تحديد مجال سريان الأحكام القانونية.

وبالإضافة إلى ما سبق فان للمنهج الاستدلالي أهميته الكبيرة في العمل القانوني في تدقيق كلام الشهود، والوثائق، لمعرفة مدى صحتها، وفي إعداد الأبحاث والمذكرات القانونية، بحيث تلتزم بالقواعد المنطقية، وتحليل الأفعال والتكييف للقضايا القانونية.

ولكن المنهج الاستدلالي وحده لم يعد كافيا، للبحث في الجوانب الحقوقية أو غيرها، مما لا تتفق خصائصه مع خصائص هذا المنهج، فهو لا يصلح لدراسة الواقع العياني، ولا للبحث التجريبي، ولهذا ففي نهاية القرن السابع عشر، وبداية نضج العقلية العلمية الموضوعية، واكتشاف الناس الحاجة إلى فهم الضرورة والتغير في الوجود بشكل عام، وفي المجتمع بوجه خاص، تبين للجميع جوانب قصور المنهج الاستدلالي، مما يجعل العلوم القانونية تطلب مناهج أخرى للتطبيق، في المجالات التي لا يمكن تطبيق المنهج الاستدلالي فيها، وذلك كان حال العلوم الأخرى... أيضا.

المرجع

  1. د. صلاح الدين شروخ، منهجية البحث العلمي، دار العلوم للنشر والتوزيع، الجزائر، ص101-113.

التحميـل PDF  

google-playkhamsatmostaqltradent