مفهوم الالتزام وتقسيماته

مفهوم الالتزام وتقسيماته 

مفهوم الالتزام وتقسيماته

مفهوم الالتزام

الالتزام هو الواجب الذي يقع على عاتق المدين، حيث يتعين عليه إعطاء شيء أو القيام بعمل أو الامتناع عن عمل لمصلحة الدائن، ويعرفه احد الفقهاء على انه "رابطة قانونية بمقتضاها يجب على شخص يسمى "المدين" أن يقوم بأداء مالي لمصلحة آخر معين أو قابل للتعيين يسمى الدائن، ويكون المدين مسؤولا عن دينه في كافة أمواله".

وتختلف نظرة التشريعات إلى الالتزام باختلاف المذهب المتبنى، ذلك انه ظهر مذهبان في تحديد مفهوم الالتزام وهما˸

‌أ. المذهب الشخصي.

‌ب. المذهب المادي.

‌أ) المذهب الشخصي:

يرى أصحاب هذا المذهب أن الالتزام هو رابطة شخصية بين الدائن والمدين، وأشهر من قال بالمذهب الشخصي من فقهاء الالمان "سافيني" الدائن والدين، وأشهر من قال بالمذهب الشخصي من فقهاء الألمان "سافيني" الذي كان يرى الالتزام رابطة شخصية تخضع المدين للدائن، ووفق هذه النظرية قد يصل الدائن إلى غاية استرقاق المدين.[1]

‌ب) المذهب المادي˸

يعطي أنصار المذهب المادي الذي تتزعمه المدرسة الجرمانية، الأولوية في الالتزام للعنصر المالي، لأن العلاقة القانونية هي علاقة بين ذمتين ماليتين قبل أن تكون بين شخصين، فالالتزام يمثل حقا في ذمة الدائن ودينا في ذمة المدين، فهو علاقة مالية مستقلة عن طرفيها.[2]

يرى أنصار هذا المذهب الذي يتزعمه "جييرك" انه لا ينبغي النظر للالتزام من زاوية شخصية، بل وجب النظر إلى محل الالتزام، وهو العنصر الأساسي، حيث أن الالتزام هو عنصر مالي أكثر منه علاقة شخصية.

- موقف المشرع الجزائري من المذهبين˸

جمع المشرع الجزائري بين المذهبين، وان كان هناك من يرى انه غلب المذهب الشخصي، ومن مظاهر المذهب المادي في القانون الجزائري إمكانية حوالة الحق وحوالة الدين، والاشتراط لمصلحة الغير، أما مظاهر الأخذ بالمذهب الشخصي فهي في ضرورة تعيين شخص المدين وقت نشوء الالتزام.

- تقسيمات الالتزام˸

يمكن أن نعطي عدة تقسيمات للالتزام إذا نظرنا إليه من نواحي مختلفة واهم هذه التقسيمات فيما يلي˸

1. تقسيم الالتزام من حيث إمكانية جبر المدين على تنفيذه إلى التزام طبيعي والتزام مدني˸

‌أ. الالتزام الطبيعي˸

هو ذلك الالتزام الذي لا يمكن جبر المدين على أدائه، أو بمعنى آخر لا يمكن فرض جزاء قضائي على عدم تنفيذه، وذلك لافتقاده لعنصر "المسؤولية"، فرغم أن المدين لم يؤدي حق الدائن من الناحية الفعليةّ، إلا أن القانون لا يجبره على هذا الأداء.

والالتزام الطبيعي هو التزام قانوني، وليس التزاما أخلاقيا، ويترتب على تنفيذه كافة الآثار التي تترتب على الوفاء بأي التزام.

والالتزام الطبيعي بالرغم من عدم إمكانية جبر المدين على أدائه، إلا أن الوفاء به طواعية لا يعطيه أحقية استرداد ما وفاه، حيث يفقد صفة الالتزام الطبيعي، ومن أمثلة الالتزام الطبيعي ذلك الذي يترتب بعد انقضاء الالتزام بالتقادم.

‌ب. الالتزام المدني˸

هو ذلك الالتزام الذي يضم عنصر المسؤولية وعنصر المديونية، ومن ثم جاز للدائن أن يجبر المدين على الوفاء به عن طريق الوسائل التي حددها القانون.

2. تقسيم الالتزام من حيث صور محله إلى التزام بإعطاء والتزام بالقيام بعمل والتزام بالامتناع عن عمل˸

‌أ. الالتزام بإعطاء شيء˸

الالتزام بإعطاء هو الذي يرمي تنفيذه إلى نقل حق عيني مثل التزام البائع بنقل ملكية منقول أو عقار، كما يعتبر الالتزام بدفع مبلغ من النقود من ضمن الالتزام بإعطاء.

‌ب. الالتزام بالقيام بعمل˸

يكون هنا محل الالتزام هو عمل يقوم به المدين، وعلى وجه الدقة عمل ايجابي، ومثاله التزام المقاول بانجاز الأعمال المتفق عليها في عقد المقاولةٍّ، والتزام الوكيل بما تتضمنه الوكالة... الخ.

‌ج. التزام بالامتناع عن عمل˸

هنا يكون محل الالتزام عملا سلبيا يقوم به المدين، بمعنى أن هذا الأخير يعتبر مخلا بالتزامه إذا أتى عملا ايجابيا مخالفا، ومثال ذلك التزام بائع المحل التجاري بعدم فتح محل مماثل في المنطقة التي يوجد بها المحل المباع، وكذلك التزام البائع بعدم التعرض الشخصي للمشتري في انتفاعه بالمبيع... الخ.

3. تقسيم الالتزام من حيث وجود غاية وجب تحقيقها إلى التزام بتحقيق نتيجة والتزام ببذل عناية˸

إن كل التزام يرمي الدائن من وراء تنفيذه تحقيق مصلحة معينة، وهذه المصلحة في الغالب نتيجة يراد التوصل إليها، لذلك يفترض أن المدين عليه الوصول إلى نتيجة معينة يكون قد رسمها الدائن منذ البداية، غير أن الواقع اثبت إن هناك من الالتزامات ما يعد إجحافا مطالبة المدين بتحقيق نتيجة من خلاله، وذلك لاعتبارات مرجعها طبيعة العمل المراد القيام به، وكذلك لاشتراك عوامل عدة (خارج إرادة المدين) في صنع النتيجة المرجوة، من أمثلة ذلك التزام الطبيب بمعالجة المريض، حيث لا يطالب الطبيب بتحقيق نتيجة الشفاء، وإنما بذل عناية في العلاج قد يتحقق الشفاء من ورائها وقد لا يتحقق، وكذلك في التزام المحامي بالدفاع عن التهم، حيث لا يكلف المحامي بضرورة الوصول إلى تبرئة المتهم، وإنما بذل عناية في الدفاع عنه، بينما تكون النتيجة التي يرغب المتهم في الوصول إليها (البراءة) أمرا غير مؤكد تحقيقه، هذا الالتزام نسميه "التزام ببذل عناية".

وفي حقيقة الحال (في نظري) إن ما يسمى ببذل العناية هي ذاتها نتيجة قريبة يراد التوصل إليها بينما يكون المدين غير ملزم بالنتيجة البعيدة مادام أن النتيجة الأولى تحققت، ففي مثال الطبيب تكون النتيجة القريبة التي يتعين على الطبيب تحقيقها هي بذل جهد في العلاج وفق معيار الرجل العادي، بينما النتيجة البعيدة وهي الوصول إلى الشفاء، لا تقوم مسؤولية الطبيب عن عدم التوصل إليها مادام انه بذل جهدا معتبرا من الناحية القانونية.

والالتزام بتحقيق نتيجة يجعل من النتيجة هي محل الاعتبار في تنفيذ المدين لالتزامه، فلا يعتبر المدين منفذا لالتزامه إلا بالتوصل للنتيجة المرجوة، ومثال ذلك التزام البائع بنقل الملكية والتزام رب العمل بدفع الأجرة للمقاول، والتزام المستأجر بدفع بدل الإيجار... الخ، فهذه كلها التزامات بتحقيق نتائج، ومن ثم لا يعتبر البائع منفذا لالتزامه إلا بتحقق نقل الملكية إلى المشتري، ولا يعتبر رب العمل منفذا لالتزامه إلا بتحقيق نتيجة دفع الأجرة.

ونطاق تقسيم الالتزامات إلى واحده بتحقيق نتيجة وأخرى ببدل عناية، يكون مقتصرا على الالتزام الذي يكون محله القيام بعمل بينما يكون الالتزام بإعطاء هو دائما التزام بتحقيق  نتيجة، وقد يجد الالتزام بتحقيق نتيجة مصدره في غير العقد، ومثال ذلك التزام من حاز  شيئا بغير حق، برد ما حازه إلى مالكه، فهذا التزام بتحقيق  نتيجة مصدره الإثراء بلا سبب.

والمرجع في وجوب تحقق النتيجة من وراء تنفيذ الالتزام من عدم ذلك، هو إرادة المتعاقدان، إذ يعتبر الالتزام متصفا بوجوب تحقق النتيجة إذا استبعدا المتعاقدان في البداية احتمال”ألا تتحقق النتيجة”،  وبالعكس يكون الالتزام متصفا ببدل العناية إذا وضع المتعاقدان في البداية احتمال ”عدم تحقق النتيجة".

لقد نصت المادة 172 من القانون المدني الجزائري على العناية الواجب بذلها، حددتها بعناية الرجل العادي، ومن ثم يعتبر المدين منفذ لالتزامه إذا بذل مجهودا في حدود هذه العناية، و لو لم تتحقق النتيجة التي يعمل فيها دائن.[3]

4. تقسيم الالتزام من حيث المصدر

هناك تقسيمان: التقسيم الأول من وضع المشرع والتقسيم الثاني من اقتراح الفقه الحديث.

أ. تقسيم المشرع

يستند المشرع في تقسيمه للالتزامات إلى مصدرها، وأما المقصود بالمصدر هو السبب المباشر المنشيء للالتزام، كما يتضح ذلك من المادة 53 مدني: "تسري الالتزامات الناجمة مباشرة عن القانون دون غيرها النصوص القانونية التي قررتها".

ويرجع تصنيف الالتزامات باعتبار مصدرها إلى القانون الروماني، حيث كانت الالتزامات تخضع في تكوينها لأحكام مختلفة، ويقوم هذا التصنيف على الدور الذي تلعبه الإرادة في إنشاء الالتزام، حيث كان القانون الروماني يميز بين الالتزام الناشئ عن العقد، والالتزام الناشئ عن الفعل الشخصي.

إن تطور هذا التقسيم -الذي أصبح فيما بعد ثلاثيا ثم رباعيا- لم يتخل عن دور الإرادة كمعيار للتمييز لأن المصدر الثالث والرابع- وهما على التوالي: شبه العقد والإثراء بلا سبب- ما هما في الحقيقة إلا تقسيمان فرعيان للتقسيم الرئيسي الذي يميز بين الالتزام الناشيء عن العقد والالتزام الناشئ عن الفعل الشخصي، وكل ما في الأمر أن هناك بعض الالتزامات لا يمكن إرجاعها للعقد أو للفعل الشخصي، فقد تكون قريبة من العقد فيطلق عليها تسمية: "شبه العقد" وقد تكون قريبة من الفعل الشخصي فتسمى "بالإثراء بلا سبب".

ولقد اعتمد المشرع الفرنسي نفس المعيار في تصنيفه للالتزامات من حيث مصدرها، فصنفها إلى قسمين رئيسيين: القسم الأول ويتعلق بالعقود والالتزامات التعاقدية، والقسم الثاني خصصه للالتزامات التي تنشأ من غير اتفاق وينقسم هذا الصنف الأخير من الالتزامات إلى التزامات ناشئة عن القانون، والتزامات ناشئة عن الفعل الشخصي.

وبالنسبة للقانون المدني الجزائري، فقد جاء في عرض الأسباب لمشروع الأمر المتضمن القانون المدني أنه بخصوص مصادر الالتزام اعتمدت اللجنة مشروع القانون الفرنسي- الإيطالي، هذا المشروع الذي صدر سنة 1927 – تفاديا للنقائص والانتقادات التي وجهت للقانون المدني الفرنسي والقانون المدني الإيطالي- تجنب حصر مصادر الالتزامات واكتفى بذكر البعض منها في الباب الأول مثل: العقود، والالتزام بالإرادة المنفردة، والفضالة، والدفع غير المستحق والإثراء بلا سبب، والعمل غير المشروع، والالتزام بتقديم الشئ، ويظهر أن هذا المشروع قد تأثر بالقوانين العصرية خاصة تلك المستعملة في القانون الألماني والسويسري والنمساوي، وعند الاطلاع على القانون المدني الجزائري يتضح لنا أن المشرع لم يأخذ بالمشروع الفرنسي- الإيطالي، بل بقي متأثرا بالقانون الفرنسي، فأقر في الصياغة الأولى -1975- المصادر التالية: القانون، والعقد والعمل المستحق للتعويض، وشبه العقود ثم أضاف الالتزام بالإرادة المنفردة في سنة 2005 ، وهكذا فإن كل الانتقادات التي وجهت للقانون المدني الفرنسي تكون وجيهة بالنسبة للقانون المدني الجزائري ونذكر منها على الخصوص:

إن القانون ليس مصدرا مستقلا لبعض الالتزامات فقط، بل هو مصدر غير مباشر لكل الالتزامات، كونه هو الذي يكسب العقود قوتها الإلزامية، وهو الذي يرتب الآثار القانونية على الأفعال المختلفة، كما أنه هو الذي يمنح الصبغة القانونية لبعض الوقائع المادية دون الأخرى.

لا يوجد فرق جذري بين الالتزام الناشئ عن القانون، والالتزام الناشئ عن الفعل المستحق للتعويض، وشبه العقد لأن القانون هو الذي يرتب الآثار القانونية على الواقعة أو الأفعال المادية، وهو الذي يحددها.

يقتصر هذا التقسيم، بالنسبة للالتزامات الناشئة عن الإرادة على العقد فقط دون الإرادة المنفردة، في حين أن المشرع اعتمدها كمصدر للالتزام، فيستحسن حينئذ استعمال مصطلح التصرف القانوني الذي يشمل الحالتين.

استعمال المشرع تعبير "شبه العقود" وهو تعبير غير دقيق المعنى، كما أنه يشمل حالات قانونية مختلفة عن العقود.

ب) تقسيم الفقه الحديث

تفاديا للانتقادات المذكورة أعلاه، اقترح الفقه الحديث تصنيفا ثنائيا للالتزامات، من حيث مصدرها، وهي: "المصادر الإرادية" و"المصادر غير الإرادية".

- المصادر الإرادية:

المصادر الإرادية هي تلك التي تكون فيها الإرادة هي السبب المنشئ سواء أكان ذلك بإرادة منفردة أو باتفاق إرادتين، فالعبرة في هذا التصنيف هي بإرادة الشخص، أو الأشخاص، التي ترمي إلى إنشاء الالتزام، وبعبارة أخرى، يكون المصدر إراديا متى كان الشخص يريد تحمل التزام بمحض إرادته نحو شخص ثان، ويرغب من خلال تصرفه هذا في تحمل واجبات نحو شخص الدائن أو اكتساب حقوق على شخص المدين، ويطلق كذلك على هذه المصادر الإرادية تسمية "الأعمال أو التصرفات القانونية"، والتي تنقسم بدورها إلى قسمين:

1- العمل أو التصرف القانوني من جانب واحد، أو الالتزام بإرادة منفردة: وهو الالتزام الذي ينشأ بإرادة المدين فقط، كالوصية والوعد بالجائزة.

2- العقد وهو تصرف قانوني ينشأ عن إرادتين أو أكثر لأشخاص لهم على العموم مصالح متضاربة.

- المصادر غير الإرادية

تتمثل المصادر غير الإرادية في الأقوال أو الأفعال الإرادية وغير الإرادية المنشئة للالتزام، والتي يرتب عليها القانون آثارا، ففي حالة الفعل الإرادي تنسب الآثار للفعل لا للإرادة، لأن الفاعل لا يرغب في إنشاء الالتزام، كأن يقوم شخص بضرب آخر، فيكون قد أقدم على هذا الفعل بمحض إرادته، إلا أنه لم يكن يقصد ولا يرغب في الالتزام بتعويض الضرر الذي تسبب فيه، أي الالتزام بجبر الضرر، أما بالنسبة للقول فإنه يكون دائما إراديا، غير أن إرادة الشخص لم تنصرف إلى تحمل الالتزام، بل انصرفت إلى التعدي على شخص فقط، كأن يقوم شخص بشتم آخر، فالغرض من هذا القول هو الشتم وليس تحمل التزام، وذلك بجبر الضرر الذي أصاب الضحية من جراء الشتم، بل كل ما كان يريده الفاعل هو التعدي على شخص الضحية.

وقد تكون هذه المصادر غير الإرادية أفعالا أو أقولا غير مشروعة، كما جاء في المثالين السالفي الذكر، وقد تكون أفعالا نافعة، كالفضالة، وقد تكون عن فعل الطبيعة، ويطلق على هذه الأقوال والأفعال تسمية " الوقائع القانونية"، وتتميز عن الوقائع المادية التي لا يرتب عليها القانون آثارا.[4]

المرجع:

  1. د. زكريا سرايش، الوجيز في مصادر الالتزام العقد والإرادة المنفردة، دار هومة، الجزائر.
  2. د. علي فيلالي، الالتزامات النظرية العامة للعقد، موفم للنشر، الطبعة الثالثة 2013، الجزائر.


[1] د. زكريا سرايش، الوجيز في مصادر الالتزام العقد والإرادة المنفردة، دار هومة، الجزائر، ص10 إلى ص10-11.

[2] د. علي فيلالي، الالتزامات النظرية العامة للعقد، موفم للنشر، الطبعة الثالثة 2013، الجزائر، ص 14.

[3] د. زكريا سرايش، نفس المرجع، ص11-16.

[4] د. علي فيلالي، نفس المرجع، ص37-41.

google-playkhamsatmostaqltradent