تفسیر القاعدة القانونیة

تفسیر القاعدة القانونیة 

تفسیر القاعدة القانونیة

تتحلل القاعدة القانونیة إلى عنصرین: فرض وحكم، وقد یظهر عند التطبیق أن الحكم ناقص یحتاج إلى توضیح أو أنه محل خلاف یتطلب الیقین، وعندئذ یتعین تفسیر القاعدة لیكشف عما شاب حكمها من غموض أو حسم الخلاف على تطبیقها (المبحث الأول).

وقد یكشف التطبیق عن مواجهة فروض ووقائع لم تعالجها القواعد القانونیة المستمدة من مصادرها الرسمیة، وعندئذ یجب الاجتهاد لإیجاد حكم یلائم هذه الفروض لسد الفارغ في القواعد القانونیة حسب فقه مدارس التفسیر الثلاثة (المبحث الثاني).

ویتعین إجراء التفسیر في حالات معینة سواء في حالة النص السلیم أو النص المعیب أو في حالة عدم النص، ووفق طرق التفسیر المعتمدة (المبحث الثالث).

المبحث الأول: ماهیة تفسیر القاعدة القانونیة

یقصد بتفسیر القاعدة القانونیة التعرف على المعنى الذي تحتوي علیه، أو البحث عن قصد المشرع عند إصدارها حتى یمكن إعمال حكمها، على ما یعرض على القاضي من القضایا، والقاعدة التشریعیة هي التي یكون عادة في حاجة إلى تفسیر أكثر من غیرها من القواعد القانونیة الأخرى، ولذاك سوف تنصب الدارسة علي تعریف القاعدة التشریعیة دون غیرها (المطلب الأول)، ثم نتناول أنواع التفسیر (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تعریف تفسیر القاعدة القانونیة

یقصد بالتفسیر تحدید معنى القاعدة القانونیة، حتى یمكن تطبیق حكمها على الحالات التي تتوافر فیها شروط تطبیق الحكم الذي جاءت به القاعدة القانونیة المراد تطبیقها.

كما یمكن تعریف تفسیر القاعدة القانونیة بأنه التعرف على معنى الحكم الذي تتضمنه هذه القاعدة، بحیث تتضح من ألفاظها أو فحواها حدود الحالة الواقعیة التي وضعت القاعدة من أجل تطبیقها.

وقد انقسم الفقه حول  معنى تفسیر القاعدة القانونیة، إلى اتجاهان هما:

1- الإتجاه الأول: المعنى الواسع للتفسیر: یقصد بالتفسیر في معناه الواسع معرفة المعنى الذي تتضمنه القاعدة القانونیة، وبالتالي ینصرف التفسیر إلى كافة القواعد القانونیة أیا كان مصدرها، فینصرف إلى القواعد التشریعیة، والى القواعد المستمدة من كل من الدین والعرف وأحكام القضاء، حیث یعتبر القضاء أحد المصادر الرسمیة للقانون.

2- الاتجاه الثاني: المعنى الضیق للتفسیر: یقصر بعض الفقهاء التفسیر على كل قاعدة وردت في ألفاظ مكتوبة، أي أن التفسیر لا یكون إلا في النصوص المكتوبة حیث تتضمن لفظ ومعنى، ومن ذلك القواعد التشریعیة والقواعد الدینیة، أما القواعد العرفیة فلا تثور مشكلة تفسیرها.

وحسب هذا الاتجاه، یتضمن تفسیر القواعد التشریعیة أمرین هما:

أ/ إزالة الغموض والخلاف في حكم القواعد القانونیة المستقاة من مصادرها الرسمیة.

ب/ الاجتهاد في سد الفارغ في القواعد القانونیة لمواجهة ما تكشف عنه الحیاة من فروض ووقائع.

أما تفسیر القواعد الدینیة فیخضع لأصول معینة تختص بها الكتب المتعلقة بالفقه الإسلامي، وهي أصول مختلفة عما هو متبع في تفسیر القواعد التشریعیة.

ولا تثور مشكلة تفسیر العرف لأن قواعده لیست إلا عادات استقرت في أذهان الناس إلى أن أصبحت ملزمة لهم، فإذا ثار خلاف بشأنها فأن النزاع یكون عادة حول التثبت من وجود القاعدة أو عدمه، فإذا أثبت وجود القاعدة فإن هذا یؤدي إلى حقیقة معناها، وبالتالي لا تثور مشكلة التفسیر بشأنها.

أما بالنسبة إلى أحكام القضاء، فإن مشكلة تفسیرها لا تثار أصلا، ذلك أن القضاء في القانون الجزائري لیس إلا مجرد مصدر تفسیري للقانون، لذا فلا تكتسي أحكامه صفة القواعد القانونیة.

المطلب الثاني: أنواع التفسیر

الأصل أن القاضي هو الذي یفسر التشریع، ویسمى تفسیرا قضائیا، ویعاون القاضي في ذلك الفقیه بما یقدمه في أبحاثه من تفسیرات للقوانین، ویسمى تفسیر الفقیه بالتفسیر الفقهي. وقد یذهب الفقه والقضاء في تفسیر تشریع معین مذهبا یرى المشرع أنه لا یتفق وما قصده من النص محل التفسیر، فعندئذ یتدخل لتفسیر هذا النص بتشریع جدید.

ومن ثمة فإن هناك ثلاث أنواع من التفسیر: التفسیر الفقهي (الفرع الأول)، التفسیر القضائي (الفرع الثاني)، والتفسیر التشریعي (الفرع الثالث).

الفرع الأول: التفسیر الفقهي

هو التفسیر الذي یقوم به شراح القانون والفقهاء بصدد دراستهم للقواعد القانونیة، وشرحها والتعلیق علیها وانتقادها.

والتفسیر الفقهي هو تفسیر نظري، لا یرتبط بنازع أو حالة معینة بل أهم ما یقوم به هو رد الأحكام التفصیلیة إلى أصولها العامة، وتنسیق وترتیب المبادئ القانونیة في طوائف ونظریات، حتى یسهل معرفة حكم القانون، ولذلك یوصف هذا التفسیر بالنظري، ولكن قد یتصف بالعملي حالة قیامه بدراسة أحكام وقرارات المحاكم والتعقیب علیها وابداء الحل الملائم لها، فهو في هذه الحالة یتعرض لحالات واقعیة. وهذا التفسیر غیر ملزم للمشرع والقاضي، ولكن غالبا ما یستعینان به، الأول عند سن القاعدة القانونیة،  والثاني عند تطبیقها.

ویعتبر التفسیر الفقهي غایة في ذاته ولیس وسیلة ولذلك فهو تغلب علیه الصفة النظریة، وان كانت الاتجاهات الحدیثة في الفقه تتجه نحو صیاغة التفسیر صیاغة عملیة، لا یبتعد عن واقع الحیاة الاجتماعیة، سواء كان شهدها أو كما تستخلصها من أحكام القضاء، وذلك بعد أن أدركت ألا جدوى في صیاغة أفكار لا تحتویها نصوص التشریع ولا یستجیب لها القضاء. 

ومن حصیلة جهد الشراح والفقهاء تتكون مجموعة من الاتجاهات الفقهیة التي تكون خیر معین للقاضي في تكوین آرائه أو مراجعتها، وخیر معین للمشرع في تعدیل القواعد التشریعیة وتطویرها بشكل یتماشى مع الظروف.

الفرع الثاني: التفسیر القضائي

هو التفسیر الذي یصدر عن القاضي حین یطبق قواعد القانون على حالة واقعیة تعرض علیه للفصل فیها بحكم وظیفته القضائیة، والتزامه بالحكم فیها.

یقوم القاضي بتفسیر النصوص القانونیة بمناسبة تطبیقها على النزاعات المطروحة علیه للفصل فیها، فهو لا یتطوع بالتفسیر من تلقاء نفسه، بل هو یقوم به حتى ولو لم یطلب الخصوم منه ذلك، لأن مهمته هي بیان حكم التشریع في النزاع المعروض علیه، ومن ثم كان تفسیر القاضي وسیلة للفصل في النزاع المعروض علیه، عكس تفسیر الفقیه الذي یعد غایة في ذاته.

ویكتسي تفسیر القاضي طابعا عملیا، إذ هو یتصل بنزاع معین یعرض علیه، لذا فهو یأتي متأثرا بالظروف الواقعیة المحیطة بهذا النزاع، ولذلك فإن القاضي لا یرى حرجا أن یحید أحیانا عن قواعد المنطق، إذا وجد أن اتباع هذه القواعد یؤدي إلى نتائج عملیة لا تتفق مع العدالة ولا یستریح إلیها ضمیره، وذلك على خلاف تفسیر الفقیه الذي یتخذ طابعا نظریا، لأنه یصدر منه بمناسبة فروض نظریة لا تستند إلى معطیات واقعیة كافیة.

لا یلزم التفسیر القضائي القاضي إلا في الدعوى المعروضة أمامه، ولا یلزم القاضي نفسه في دعوى أخرى، ومن ثم فهو لا یلزم المحاكم الأخرى، وان كانت تتقید به أدبیا المحاكم الأدنى درجة حتى لا تتعرض أحكامها للإلغاء.

الفرع الثالث: التفسیر التشریعي

قد یتولى المشرع نفسه مهمة تفسیر القاعدة التشریعیة الغامضة التي سبق إصدارها، وأثارت إشكالا عند تطبیقها من قبل المحاكم إذا ظهر أن هذه الأخیرة لم تهتد إلى قصد المشرع من التشریع، وهذا التفسیر الذي یقوم به قاصرا على إیضاح ما هو غامض من أحكام، من غیر تعدیل أو إضافة جدیدة، ویكون ملزما للقاضي من تاریخ نفاذ القاعدة القانونیة الأصلیة، ولیس من تاریخ نفاذها بعد تفسیرها. ویطلق على التشریع الذي یصدره المشرع  لتفسیر القاعدة القانونیة الغامضة بالتشریع التفسیري.

وكمثال على ذلك نص المادة 124 من القانون المدني، قبل تعدیل هذا الأخیرالمتعلقة بالمسؤولیة التقصیریة عن الأعمال الشخصیة، كانت تتضمن عبارة "عمل" دون وصف هذا العمل بالخطأ، فأختلف الفقه حول أساس هذه المسؤولیة، هل هو الخطأ، أم یكفي أي فعل ولو لم یكن خاطئا، فتدخل المشرع وأزال هذا اللبس بإضافة عبارة "بخطئه" إلى نص هذه المادة، فیكون المشرع بذلك قد عبر عن نیته الحقیقیة في أنها اتجهت إلى الفعل الخاطئ، ولیس إلى أي فعل كان.

ویعد التشریع التفسیري ملزما للقاضي، فیتقید به عندما یطبق التشریع الأصلي الذي جاء التشریع التفسیري لیفسر غموضا فیه. والأصل أن یصدر التشریع التفسیري من نفس السلطة التي أصدرت التشریع وهي السلطة التشریعیة، ولكنها قد تفوض سلطة أخرى بتفسیر التشریع. وفي حال صدور التفسیر من سلطة إداریة مفوضة من السلطة التشریعیة، یجب احترام أمرین هما:

أ/ لا یجوز للسلطة المفوضة أن تتجاوز حدود التفسیر، والا اعتبرت متجاوزة لحدود التفویض.

ب/ لا یلزم القاضي بالتفسیر الصادر عن السلطة المفوضة، بل بالتفسیر الذي تحتمله النصوص فقط.

یطبق التشریع التفسیري من تاریخ نفاذ التشریع المراد تفسیره ولا یعني هذا تطبیقا للتشریع بأثر رجعي. إذا تضمن التشریع التفسیري قواعد جدیدة، فتطبق هذه القواعد بأثر فوري ومباشر أي لا یعود أثرها إلى الماضي.

المبحث الثاني: مدارس التفسیر

وجدت ثلاثة مدارس بارزة قامت بوضع تقنیات لتفسیر القانون، نبینها من خلال الفروع الثلاثة الأولى من هذا المطلب، لنختم بفرع رابع نبین فیه موقف المشرع الجزائري من هذه المدارس.

المطلب الأول: مدرسة الشرح على المتون

وتسمى هذه المدرسة كذلك بمدرسة التزام النصوص، ظهرت في فرنسا عقب صدور التقنینات الفرنسیة في القرن التاسع عشر، وسمیت بهذا الاسم لأن واضعوها قاموا بشرح هذه التقنینات متنا متنا، أي نصا بنص حسب الترتیب الذي وردت به ، لأنهم نظروا إلیها نظرة إكبار وتقدیس، واعتقدوا أنها كاملة ومنزهة عن أي نقد.

واعتبر أصحاب هذه المدرسة أن النص التشریعي هو المصدر الوحید للقانون، وبذلك یرون أن مهمة الفقیه والقاضي في التفسیر تنحصر في حالة وجود النص التشریعي في الكشف عن إرادة  المشرع الحقیقیة من خلال معاني النص وألفاظه وقت وضع النص، وعن طریق تقریب النصوص ببعضها أو الاستعانة بالأعمال التحضیریة للنص ومصادره التاریخیة، حتى ولو تغیرت الظروف الاجتماعیة وقت تطبیقه، مع التزامهما كذلك بالألفاظ الواردة فیه.

أما عند عدم وجود نص تشریعي لحالة معینة، فإن علیهما البحث عن الإرادة التي یفترض أن المشرع كان سیعبر عنها فیما لو تعرض لتلك الحالة وقت وضعه التشریع، ویتم ذلك عن طریق استعمال القیاس على النصوص الموجودة بالنسبة للمسائل الأخرى وعن طریق الاستنتاج.

ومن مزایا هذه المدرسة أنها تحقق الاستقرار الواجب في العلاقات القانونیة واحترام النصوص القانونیة وتوحیدها.

ومن عیوبها، أنها تؤدي إلى جمود القانون وتوقفه عن التطور، لأن دور كل من القاضي والفقیه محصور في البحث عن إرادة المشرع الحقیقیة والمفترضة وقت وضع النص.

المطلب الثاني: المدرسة التاریخیة

ظهرت المدرسة التاریخیة في ألمانیا، نتیجة للانتقادات الموجهة إلى مدرسة الشرح على المتون على ید الفقیه الألماني Savigny، ویذهب أنصار هذه المدرسة إلى أن تفسیر القانون ینبغي أن یكون تفسیرا موضوعیا، یراعي فیه الحجات والظروف الاجتماعیة والاقتصادیة للمجتمع، ومن ثم فعلى المفسر للقانون أن یبحث عن نیة المشرع في فحوى النص، وهو في ذلك یتبع فقه مدرسة الشرح على المتون، ثم أن القضاء في بعض الأحیان قد یقوم بخلق قواعد قانونیة تحت ستار تفسیر النصوص التشریعیة وهو في ذلك یتبع فقه المدرسة التاریخیة.

من عیوب هذه النظریة أنها لا تسیر في الطریق إلى نهایته للكشف عن أدوات التفسیر اللازمة لمسایرة الاتجاه الجدید. كما یؤخذ علیها أنها تخرج بالتفسیر عن معناه الحقیقي وهو بیان الحكم الذي یتجه إلیه النص وهو تحدید الحكم الذي یجب الأخذ به، الأمر الذي یفتح الباب على مصراعیه أمام الكثیر من الآراء الشخصیة ویجعل المفسر یعدل القانون تحت ستار التفسیر، ومن ثم فهو یخالف الطبیعة الدستوریة للقوانین المكتوبة وأن فیه خروجا بالتفسیر عن وظیفته، ومحاولة خلق قواعد قانونیة وتوسیع غیر مأمون العاقبة لسلطة القضاء.

ومن عیوب هذه النظریة أیضا، أنها تعطي سلطات واسعة للقاضي، فیدلي برأیه الشخصي وفقا لنظرته هو للمجتمع وینسب ذلك للمشرع، وهذا تحت ستار التفسیر، مما یفقد القانون ثباته والمعاملات استقرارها.

المطلب الثالث: مدرسة البحث العلمي الحر

سمیت المدرسة العلمیة، ویطلق علیها أیضا نظریة البحث العلمي الحر، ونظریة العلم والصیاغة، ظهرت على ید الفقیه الفرنسي Gény وأخذت من كلا المدرستین السابقتین، وأضافت جدیدا لتستقل بمذهب خاص بها، فاتفقت مع مدرسة الشرح على المتون، من حیث أنها تقول بضرورة البحث عن قصد المشرع وقت وضعه النص، وتخالفها في حالة عدم وجود نص یواجه الحالة المعروضة على القاضي، فلهذا الأخیر البحث عن الحل في المصادر الأخرى وأهمها العرف، والا فله الرجوع إلى المصادر المادیة للقانون ولا یتقید بوسیلة معینة، بل له أن یقوم ببحث علمي حر، حتى یعثر على الحل المناسب للنازع المعروض علیه.

وتتفق المدرسة العلمیة مع المدرسة التاریخیة، في أنها تأخذ مثلها بمختلف العوامل التي تساهم في تكوین القاعدة القانونیة، والمتمثلة في العوامل السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة الخ.

فطبقا للمدرسة العلمیة فإن المفسر یقوم بعمل المشرع في ابتداع الحل الذي یراه عادلا وملائما، وهذا الحل لیست له صفة العموم أو الإلزام، فهو یقتصر حكمه على الحالة المعروضة.

المطلب الربع: موقف المشرع الجزائري من مدارس التفسیر

تنص المادة الأولى من القانون المدني الجزائري على أن یسري القانون على جمیع المسائل التي تتناولها نصوصه في لفظها أو في فحواها. واذا لم یوجد نص تشریعي حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشریعة الإسلامیة، فإذا لم یوجد بمقتضى العرف فإذا لم یوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبیعي وقواعد العدالة.

ویستفاد من النص أن القاضي حین یبحث عن حل للنزاع، فإن علیه مراعاة الترتیب السالف لمصادر القانون، فإذا لم یجد الحل في نص القانون، فعلیه أن یستوحي فحواه أو روح النص، أي المعنى الذي استهدفه المشرع من وضع هذا النص، أي أن القاضي أو المفسر یبحث عن إرادة المشرع الحقیقیة لدى وضع النص. كما تذهب إلى ذلك مدرسة الشرح على المتون، مستعینا في ذلك بالدلالة اللغویة أو الاصطلاحیة للنص، أو طرق الاستدلال المنطقي والسوابق التاریخیة والأعمال التحضیریة. ففي هذه المرحلة المشرع الجزائري یعتنق فقه مدرسة الشرح على المتون.

أما إذا لم یتوصل المفسر إلى معنى النص فأنه یبحث عن الحل في المصدر التالي وهو مبادئ الشریعة الإسلامیة، ویرجع إلیها من خلال مصادرها الأصلیة القرآن والسنة وكتب الفقه والتفسیر. فإذا لم یجد المفسر فیبحث عن الحل في العرف، وهذین المصدرین (مبادئ الشریعة الإسلامیة العرف) هما صدى لما جاء في المدرسة التاریخیة من مارعاة الظروف التاریخیة والتطور الاجتماعي. وفي هذه المرحلة المشرع یأخذ بفقه المدرسة التاریخیة.

واذا لم یجد القاضي حلا للنزاع في المصادر السابقة الذكر، فأنه یلجأ إلى المصدر الأخیر وهو مبادئ القانون الطبیعي وقواعد العدالة، وبهذا فإن دعوة المشرع للقاضي لإلتماس الحل في هذه المبادئ، هو دعوة منه إلى القاضي للاجتهاد برأیه واستنباط حل للنزاع یراعي فیه الظروف المختلفة ویحقق العدالة. ومن ثم فأن القاضي یعود إلى أصل القانون أو جوهره أي إلى البحث العلمي الحر، وفي هذا اعتناق من المشرع لفقه مدرسة البحث العلمي الحر في التفسیر.

مما سبق یتبین أن المشرع الجزائري تأثر بمدارس التفسیر الثلاثة، فهو یعتنق مذهبا في التفسیر یجمع بین مدرسة الشرح على المتون والمدرسة التاریخیة ومدرسة البحث العلمي الحر.

المبحث الثالث: حالات التفسیر وطرقه

عندما یعرض نزاع ما على القاضي فإنه یبحث عن قاعدة قانونیة، فإن وجدها سعي إلى تفسیرها قبل تطبیقها، سواء كانت سلیمة أم معیبة، فالتفسیر لازم لكل نص في القانون قبل تطبیقه على موضوع النازع.

ویقصد بطرق التفسیر: السبل والمناهج التي یستخدمها القضاة والفقهاء في تحدید معنى النص، وقد یكون هذا التفسیر من داخل النص بالاعتماد على صیاغته الشكلیة والموضوعیة أو خارجه، ویتم تقسیم هذه الطرق بالنظر إلى النص من حیث كونه سلیما (المطلب الأول)، أو معیبا (المطلب الثاني).

المطلب الأول: حالة النص السلیم

طرق تفسیر النص السلیم تكون من داخل النص ذاته، وتكون مستخلصة من ألفاظ وعباراته (الفرع الأول)، أو من روح النص وفحواه (الفرع الثاني).

الفرع الأول: استخلاص معنى النص من ألفاظه وعبراته

یستخلص القاضي معنى النص أولا وقبل كل شيء من ألفاظه وعباراته، عن طریق فهم المفردات والجمل التي یتكون منها، وكذا تركیباته اللغویة والمصطلحات القانونیة المستعملة فیه، فإن كان للفظ معنیان لغوي واصطلاحي (قانوني) واختلف المعنیان، غلب المعنى الإصطلاحي على المعنى اللغوي.

واذا كان فهم المعنى ظاهرا من صیاغة النص، وهو ما یسمى بالمعنى الحرفي للنص أو منطوقه le sens littérale du texte فلا یجوز الخروج علیه، ووجب تطبیق الحكم كما هو على النازع القائم.

مثال ذلك، ما نصت علیه الفقرة الأولى من المادة 25 ق م ج، من أن شخصیة الإنسان تبدأ بتمام ولادته حیا، وتنتهي بوفاته، فهذه الصیاغة وحدها كافیة لإیضاح المعنى المقصود.

وكذلك في تطبیق النص من حیث لفظه وفحواه، فإن الفقرة الأولى من المادة السالفة الذكر، تلزم القاضي بتفسیر النصوص التشریعیة تفسیرا لفظیا، فإن لم یسعفه اللفظ من الوصل إلى معنى النص، حینئذ علیه أن یستخلص هذا المعنى من روح النص وفحواه.

الفرع الثاني: استخلاص معنى النص من روحه وفحواه

إذا لم یتمكن القاضي استجلاء معنى النص من لفظه و عباراته، فإنه یرجع إلى روح النص وفحواه (l’esprit  du texte)، وهذا ما نصت علیه الفقرة الأولى من المادة الأولى من القانون المدني التي جاء فیها: "تسري النصوص التشریعیة على جمیع المسائل التي لتناولها هذه النصوص في لفظها أو فحواها". فیستخلص معنى النص من إشاراته ودلالاته عن طریق الاستنتاج  والقیاس، یكون هذا الاستنتاج عن طریق مفهوم الموافقة، أو عن طریق الموافقة من باب أولى، أو عن طریق مفهوم المخالفة.

أولا: الاستدلال عن طریق الموافقة

في الاستدلال عن طریق الموافقة، یرد في النص عبارات وألفاظ تفید معنا معینا ینطبق حكمها على واقعة معینة مذكورة فیه، ولكن روح النص یفید انطباق ذات الحكم على واقعة أخرى غیر مذكورة في هذا النص، فتلحق الواقعة الأخیرة بالأولى لاشتراكهما في العلة نفسها.

ومثال ذلك: ما جاء في الحدیث النبوي الشریف: "لا یرث القاتل"، فالعلة من حرمان القاتل من المیراث هو استعجال وفاة المورث، فیرّدّ على القاتل قصد فلا یرث فإذا قتل الموصى له الموصى، وهذه الواقعة لم یرد بها حكم، ولكن روح النص السابق یفید انطباقه على هذه الواقعة، فتلحق بواقعة القتل الثابت في شأنها الحكم وهو الحرمان من الإرث، لاتخاذهما في العلة وهي استعجال الوفاة قبل أوانها، فیحرم الموصى له من الوصیة، قیاسا على حرمان الوارث من المیراث.

ثانیا: الاستدلال من باب أولى

یفترض في حالة الاستدلال من باب أولي، وجود واقعتین إحداهما نص المشرع على حكمها لعلة معینة، والثانیة لم ینص على حكمها، وتكون هذه العلة في هذه الأخیرة أوضح وأظهر من الأولى، فتأخذ الواقعة التي لم ینص علیها حكم التي نص علیها من باب أولى.

مثال على ذلك: ما نصت علیه المادة 408 من القانون المدني، بشأن البیع في مرض الموت فمن باب أولى أیضا إلحاق حكم هذا النص بحالة الهبة في مرض الموت.

مثال آخر: إذا قرر النص القانوني حق تصرف الشخص في أمواله للغیر بالبیع، كان له من باب أولى أن یؤجره، لأن التأجیر أقل خطورة من البیع، فمن یملك الأكثر یملك الأقل.

ثالثا: الاستدلال عن طریق مفهوم المخالفة

في حالة الاستدلال عن طریق مفهوم المخالفة، یفترض وجود واقعتین أو حالتین، نص المشرع على حكم أحدهما دون الأخرى، و ذلك لاختلاف العلة في الحالتین، إما لأن الحالة التي نص المشرع بحكمها تعتبر استثناء من الحالة التي لم ینص علیها فتعطي للحالة التي لم ینص علیها.

ومثال ذلك ما نصت علیه المادة 63 ق م ج، التي جاء فیها “إذا عین أجل للقبول التزم الموجب بالبقاء على إیجابیة، و لم یتضمن الحالة التي ینفق فیها المتعاقدان على أجل للقبول، فیهم من هذا النص بمفهوم المخالفة، أن الموجب یمكنه أن یعدل عن إیجابهأ و تكون الحالة التي ذكرها النص استثناء والتي لم یذكره هي الأصل".

المطلب الثاني: حالة النص المعیب

یكون النص معیبا یحتاج إلى جهد لإصلاحه، فما هي الحالات التي یعد فیها النص معیبا (الفرع الأول)، و ما في طرق تفسیره (الفرع الثاني).

الفرع الأول: حالات النص المعیب

یعد النص معیبا إذا كان فیه خطأ أو نقص، أو غموض في صیاغته، أو تعارض في أحكامه، بعضها مع بعضها الآخر أو مع أحكام نصوص أخرى.

أولا: حالة ورود خطأ في النص أو نقص عبارة فیه

هذه الحالة تكون عن طریق ورود لفظ غیر مقصود أو سقوط لفظ من النص كان یلزمه ذلك اللفظ لیستقیم معناه، والخطأ قد یكون مادیا أو قانونیا.

مثال عن الخطأ المادي: ما ورد في المادة 220 من التقنین المدني، التي جاء فیها: “إذا برئت ذمة الدائنین...“ ویلاحظ أن عبارة الدائنین الأولى الواردة في النص خاطئة والعبارة الصحیحة هي المدینین هم یلتزمون قبل الدائنین، ومثل هذا الخطأ یتم تصحیحه مادیا، بأن تكتب عبارة المدینین الأولى، وقد یكون الخطأ المادي نتیجة خطأ في الترجمة.

مثال عن الخطأ القانوني: ما ورد في نص المادة 576 من التقنین المدني من أن:

التزام الوكیل هو أن یبذل في الوكالة عنایة الرجل العادي“فالمجهود المذكور في نص هذه المادة قاصر على الوكالة بأجر (أي تكون بمقابل)، أما إذا كانت بدون أجر (لم یمیز النص بین نوعي الوكالة) ولا یستقیم النص من دونها.

ثانیا: حالة غموض النص

یعتبر النص غامضا، إذا كانت عبارته مبهمة تقبل التأویل، بمعنى أنه یحتوي على أكثر من معنى.

مثال عن غموض النص: نص المادة 124 قبل التعدیل، لم یرد فیه لفظ خطأ مما أدى إلى التأویل  والتفسیر من قبل الفقه والقضاء، وتساؤلا عـن أساس المسؤولیة التقصیریة، هل هو الخطأ؟ الذي ذكره النص، أي هو الضرر؟

ثالثا: حالة التعارض بین النصوص

قد یصطدم نص قانوني مع نص قانوني آخر في موضوع واحد بحیث لا یمكن الجمع بینهما، رغم وضوح المعنى في كل منها على حدا.

مثال لحالة التعارض بین نصین قانونیین: نص المادة 83 من قانون الأسرة التي تحیل على المادة 43 من القانون المدني، فالأولى تجعل من تصرفات ناقص الأهلیة الدائرة بین النفع والضرر موقوفة على إجازة الوالي، في حین المادة الثانیة لا تتكلم عن الجزاء المترتبة عن هذا التصرف، ولكن المادة 101 من القانون المدني المحال علیه تجعل التصرف قابلا للإبطال، وقابلیة التصرف للإبطال مناقض للتصرف الموقوف المعروف في الفقه الإسلامي.

الفرع الثاني: طرق تفسیر النص المعیب

یرجع القاضي في تفسیر النص المعیب إلى طرق مختلة، تتمثل في تقریب النصوص ببعضها البعض، أو الرجوع إلى النص الأجنبي،  أو إلى الأعمال التحضیریة، أو المصادر التاریخیة، أو إلى حكمة التشریع.

أولا: تقریب النصوص ببعضها البعض

یمكن للمفسر استجلاء النص الغامض بتقریب اللفظ الغامض بباقي ألفاظ النص لارتباطها ببعضها، فیكون التفسیر من داخل النص ذاته و إما بتقریب هذا النص من النصوص الأخرى التي تندرج معه في نظام تشریعي واحد، فیكون التفسیر من خارج النص.

ثانیا: الرجوع إلى النص الأجنبي

في التقنیات التي توضع باللغة الأجنبیة، كما هو بالنسبة للجزائر التي قد تضع النصوص باللغة الفرنسیة  وتترجم إلى اللغة العربیة فإذا كان النص العربي هو النص الرسمي، فإن النص الفرنسي هو الأصل فیكون الأقرب إلى التعبیر عن قصد المشرع ، فإذا جاء النص العربي معیبا فیستعان بالنص الفرنسي للتعرف عن ذلك القصد, وقد یكون الأمر عكسیا توضع النصوص باللغة العربیة وتترجم إلى اللغة الفرنسیة، وحتى في هذه الحالة یجوز الرجوع إلى النص الفرنسي للاستدلال على حقیقة المعنى المقصود به. فمثلا یمكن امتیاز نفقة الزوجة امتیازا عاما بالرغم من اقتصار النص العربي للمادة 993/3 من القانون المدني، على ذكر نفقة الأقارب دون ذكر نفقة الزوجة، والنص الفرنسي للمادة نفسها ذكر امتیاز النفقة المستحقة على المدین على أفارد أسرته، والزوجة و إن لم تكن من الأقارب، فهي واحدة من أفراد الأسرة فستحق النفقة امتیازا عاما، وفقا للنص الفرنسي للمادة نفسها.

ثالثا: الرجوع إلى الأعمال التحضیریة

الأعمال التحضیریة هي سلسلة الأعمال المتخذة لوضع قانون ما، وتدخل فیها اقتراح أو مشروع قانون، التقاریر التمهیدیة والتكمیلیة التي تعدها لجان البرلمان، مناقشات وتدخلات النواب، الجلسات العامة وغیرها، ویسبق عادة إصدار قانون وضع مذكرة إیضاحیة له فیرجع إلیها للتعرف على نیة المشرع.

وتساعد الوثائق الرسمیة التي تضم المذكرات الإیضاحیة والمناقشات المختلفة للجان والهیئات التي قامت بإعداد القانون، على معرفة قصد المشرع  وتوضیحه حین یكون النص غامضا فیخلو غموضه نظرا لما ورد فیها من تفصیلات كثیرة.

رابعا: المصادر التاریخیة

إذا لم تسعف المفسر الطرق السابقة، یلجأ إلى المصدر التاریخي الذي أخذ منه النص المعیب لمحاولة الاستدلال منه على حقیقة قصد المشرع، وقد یكون هذا المصدر هو القانون الفرنسي، أو الشریعة الإسلامیة، أو قوانین أجنبیة أخرى.

خامسا: حكمة التشریع

یستعین المفسر في فهم المقصود بالنص بحكمة التشریع، وهي الحكمة التي أراد المشرع تحقیقها من وضعه للنص الذي جاء غامضا، قد تكون اقتصادیة، أو اجتماعیة، أو سیاسیة، أو خلقیة.

والبحث عن الحكمة من التشریع هو أیضا البحث عن الباعث الذي یدفع المشرع إلى إصدار النص وعادة ما ینصرف هذا الباعث إلى أحد الأمرین:

- جلب مصلحة.

- واما درء مفسدة.

فمثلا عندما جعل قانون العقوبات اللیل ظرفا مشددا لجریمة السرقة، لم یوضح المقصود باللیل هل معناه الفلكي، أي من وقت غروب الشمس إلى وقت شروقها أم یقصد باللیل الظلام، فالبحث عن حكمة التشریع لا یمكن أن نجده في المعنى الأول بل نجده في المعنى الثاني، لأن الظلام یسهل على السارق عملیة السرقة دون التعرف علیه أو اكتشافه.

المرجع:

  1. د. بركات كريمة، محاضرات في مقياس المدخل للعلوم القانونية (النظرية العامة للقانون)، مطبوعة موجهة لطلبة السنة الأولى، جامعة محند أكلي أولحاج البويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم القانون الخاص، الجزائر، السنة الجامعية 2020/2021، ص 87 إلى ص103.

google-playkhamsatmostaqltradent