مدخل إلى قانون العقوبات

مدخل إلى قانون العقوبات

مدخل إلى قانون العقوبات

تقديم:

قانون العقوبات جزء من الكيان القانوني العام للدولة، وهو من أبرز الوسائل التي يلجأ إليها المجتمع لمكافحة ظاهرة الجريمة التي تهدده في وجوده وتعوق تقدمه، فالدولة وحدها تملك الحق في العقاب ويقع عليها عبء حفظ الأمن وإقامة العدالة داخل إقليمها، وفي سبيل تحقيق ذلك تضع الدولة قواعد معينة لسلوك الأفراد وتقابل أي مخالفة لهذه القواعد بجزاء جنائي.
ونحاول من خلال هذه المحاضرة التطرق إلى التعريف بقانون العقوبات وتحديد طبيعته، ثم دراسة علاقة قانون العقوبات بالقوانين والعلوم الجنائية الأخرى.

أولا: تعريف قانون العقوبات وتحديد طبيعته

يتضمن هذا العنصر إعطاء تعريف لقانون العقوبات متفق عليه عند أغلب الفقه المقارن ثم تحديد طبيعة هذا القانون.

1- تعريف قانون العقوبات:

يعرف الفقه قانون العقوبات بأنه " مجموعة القواعد القانونية التي تحدد الجرائم وما يترتب عليها من عقوبات " ويتضح من هذا التعريف وأن قانون العقوبات يتكون من شقين: الشق الأول: يتضمن التجريم أي الوقائع المادية التي ينهى عنها القانون وتسمى بـ الجرائم، والشق الثاني: يتضمن العقاب أي الأثر القانوني الذي يترتب على إرتكاب هذه الجرائم وتسمى بـ العقوبات، وعند اجتماع هذين الشقين تكتمل القاعدة القانونية الجزائية.
كما يشتمل قانون العقوبات على نوعين من الأحكام، أحكام عامة وأحكام خاصة، أما الأحكام العامة فتتضمن القواعد العامة التي تحكم التجريم والعقاب، وهي تسري على كل الجرائم والعقوبات وتسمى بـ القسم العام، والأحكام الخاصة التي تشمل بيان كل جريمة على حدة وأركانها والظروف الخاصة بها والعقوبة المقررة لها، وتسمى بـ القسم الخاص.
وتجدر الإشارة أن موضوع دراستنا في هذا الكتاب إنشاء الله يتناول فحسب القسم العام، أي مجمل الأحكام العامة التي تطبق على جميع الجرائم أو معظمها، ومن أمثلة ما يتم دراسته في القسم الام أركان الجريمة بصفة عامة، وهذه الأخيرة تتمثل في:
- الركن الشرعي الذي يتم من خلاله دراسة مبدأ الشرعية ونطاق سريان القانون من حيث الزمان والمكان وأسباب الإباحة.
- الركن المادي الذي يتم من خلاله دراسة الجريمة التامة والشروع فيها والمساهمة الجنائية وتعدد الجرائم والعقوبات وظروف تخفيف وتشديد العقوبات.
- الركن المعنوي الذي يتم من خلاله دراسة القصد الجنائي والخطأ غير العمدي.
بالإضافة إلى دراسة الأهلية الجنائية وموانع المسؤولية وأنواع الجرائم.
أخيرا ندرس الجزاء وصوره وبدائله.
باختصار موضوع القسم العام أو القانون الجنائي العام يتضمن ثلاثة عناصر الجريمة والمجرم والجزاء.

2- اختلاف التسمية:

لقد أطلق على هذا الفرع من فروع القانون عدة تسميات، منها قانون العقوبات والقانون الجزائي والقانون الجنائي، ولكن تعدد هذه التسميات لا يعني اختلافا في مضامين كل منها بقدر ما يمثل ممارسة فقهية فحسب، فهي عبارة عن تعبيرات مترادفة:
- أما الاتجاه الذي يفضل تسمية هذا الفرع بقانون العقوبات، فتتبريره في ذلك تسمية الكل باسم الجزء فكل جريمة تقابلها عقوبة، وبالعقوبة تتميز قواعد هذا القانون عن القواعد الأخرى.
إلا أن هذه التسمية منتقدة لأنها تستبعد الجرائم من نطاقها وتقتصر فقط على العقوبات، بل إن تعبير قانون العقوبات ضيق في دلالته بحيث لا يستوعب تدابير الأمن.
- أما الاتجاه الثاني فيفضل تسمية هذا لفرع من القانون بالقانون الجنائي، ذلك لأن الجناية التي اشتق منها هذا الاسم هي أخطر الجرائم وأهمها.
إلا أن هذه التسمية انتقدت كذلك على أساس أنها تشير فقط إلى الجنايات من الجرائم دون الجنح والمخالفات، كما أنها تقتصر على الجرائم دون العقوبات.
- أما الاتجاه الثالث فيطلق على هذا الفرع من القانون تسمية القانون الجزائي، وتبريره في ذلك كون الجزاء يتسع ليشمل فكرة العقوبة وتدابير الأمن من جهة، كما أنه ملازم لكل جريمة من جهة أخرى.
إلا أن هذه التسمية كذلك لم تسلم من النقد لأنها تفتقر إلى الدقة وفضفاضة، كما تدخل في هذا الفرع من القانون ما ليس منه لأنها تتسع لتشمل الجزاء بجميع أنواعه من جزاء جنائي ومدني وإداري، يضاف إلى ذلك أن لفظ الجزاء يفيد لغة إما الثواب وإما العقاب، والأكثر من هذا كله تقتصر هذه التسمية على العقوبة دون الجريمة.
ولعل اختلاف التسمية الحاصل على مستوى الفقه والتشريعات مرده إلى ما هو واقع في التشريع الفرنسي، إذ يستخدم تعبيري قانون العقوبات والقانون الجنائي كمترادفين دون أن يرتب على تعدد التسمية أدنى أثر من حيث اختلاف المضمون، ولكن في مجال المفاضلة بين التسميات الثلاث، يتعين حسب رأينا اختيار مصطلح قانون العقوبات، فبالعقوبة يتميز هذا القانون، كما أنها هي الغاية من التجريم، وهو المصطلح الذي مال إليه كذلك غالبية الفقه، وهو ما اختاره المشرع الجزائري، إلا أنه من الناحية الأكاديمية يميل أغلب أساتذة الجامعة المدرسين للمادة إلى استعمال تسمية القانون الجنائي.

3- طبيعة قانون العقوبات:

نقصد بذلك طرح التساؤل التالي: هل قانون العقوبات فرع من فروع القانون العام أم فرع من فروع القانون الخاص؟
إن قانون العقوبات يحتوي في مجمله على قواعد آمرة متعلقة بالنظام العام، إذ ينظم علاقة طرفيها الدولة من ناحية والفرد المتهم من ناحية أخرى، ولا يمكن تصور الاتفاق على مخالفة قواعده.
فالجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات تمثل عدوانا صريحا على قيمة جوهرية من قيم المجتمع أو مصلحة أساسية من مصالح أفراده، والدولة في كل هذا تحتكر سلطة توقيع العقاب بواسطة تحريك الدعوى العمومية ضد الجاني، وإن عفو المجني عليه للجاني ليس له أي أثر في توقيف الدعوى العمومية أو تعطيل العقاب، باستثناء ما جاء بنصوص خاصة، وهو الأمر الذي جعل غالبية الفقه يميل إلى جعل قانون العقوبات فرع من فروع القانون العام.

ثانيا: علاقة قانون العقوبات بغيره من فروع القوانين الجنائية الأخرى

نقصد بفروع القوانين الجنائية، تلك المسماة قانون العقوبات الخاص وقانون الإجراءات الجزائية، كما يمكن أن نضيف لها السياسة الجنائية، وكل هذه الفروع بالإضافة إلى قانون العقوبات العام تشكل ما يسمى بالنظام القانوني الجنائي، ونختار من بينها فقط قانون العقوبات الخاص وقانون الإجراءات الجزائية.

1- علاقته مع قانون العقوبات الخاص:

يشترك كا من قانون العقوبات العام والخاص في أن كليهما يتضمن قواعد التجريم والعقاب، فهما ينتميان إلى القانون الموضوعي.
بينما يختلفان في كون القسم العام يشتمل على الأحكام العامة التي تطبق على كل أنواع الجرائم أو على معظمها، بينما القسم الخاص يتناول كل جريمة على حدا مبينا أركانها الخاصة والظروف المحيطة بها والعقوبة المقررة لها.
ومنه لا مناص من القول أن هناك تقارب بين القسمين، فقانون العقوبات العام يعتبر بمثابة التمهيد وإرساء للمبادئ الأساسية، بينما قانون العقوبات الخاص يعتبر بمثابة التنظيم التفصيلي، فتواجد أركان عامة مكونة لكافة الجرائم قبل أن تكون هناك أركان خاصة بكل جريمة على حده.

2- علاقته مع قانون الإجراءات الجزائية:

إن قانون العقوبات يحدد الجرائم وعقوباتها، فلا يمكن توقيع عقوبة على شخص إرتكب جريمة ولو اعترف بذنبه، وإنما يلزم صدور حكم يقضي بالإدانة، بينما قانون الإجراءات الجزائية يهتم بوضع الإجراءات اللازمة لمحاكمة المتهم وصدور الحكم عليه بالإدانة أو بالبراءة.
ومن هنا تتضح مدى لعلاقة الوطيدة بين قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجزائية، والتي تبدأ منذ لحظة وقوع الجريمة إلى غاية صدور الحكم، فلا سبيل لتطبيق قانون العقوبات إلا من خلال قانون الإجراءات، ومنه جاز القول أن قانون العقوبات يشمل النصوص الجنائية في حالة سكون وقانون الإجراءات الجزائية يشتمل عليها في حالة حركة.

ثالثا: علاقة قانون العقوبات بغيره من العلوم الجنائية

نقصد بالعلوم الجنائية كافة العلوم والدراسات التي تدور في فلك الجريمة، إما بمحاولة تفسيرها كعلم الإجرام، أو مكافحتها كعلم العقاب، أو الكشف عنها وإثبات وقوعها كعلم التحقيق الفني والطب الشرعي، أو بدراسة نفسية الجاني والمجني عليه كعلم النفس القضائي، وندرس علاقة قانون العقوبات بعلم الإجرام والعقاب.

1- علاقته بعلم لإجرام:

يعد كل من قانون العقوبات وعلم الإجرام فرعين مستقلين عن بعضهما البعض، فقانون العقوبات يضم القواعد الوضعية التي تحدد صور السلوك الإجرامي وعناصره وتقرر العقوبة المناسبة لمرتكبها، أما علم الإجرام فيعالج الجريمة كسلوك إنساني ويدرس أسبابها كظاهرة اجتماعية ويهتم بالظروف التي تنشأ فيها، فهو يقدم خدمات جليلة للقاضي عند تطبيقه قانون العقوبات، وذلك في مجال تدابير الأمن ونظام وقف التنفيذ والإفراج المشروط والفترة الأمنية وغيرها.

2- علاقته بعلم العقاب:

يهدف قانون العقوبات إلى مكافحة الجريمة، وذلك من خلال وضعه عقوبة لمرتكبها، وهذه العقوبة تهدف إلى تحقيق الردع الخاص والردع العام، بالإضافة إلى إصلاح المساجين، وهو الهدف الذي يسعى إلى تحقيقه علم العقاب، أي مكافحة الجريمة وذلك بسعيه إلى اكتشاف أفضل الوسائل وأنجعها في سبيل إعادة تأهيل المحكوم عليهم وإصلاحهم داخل السجن، وذلك بتهذيبهم أو علاجهم أو إعادة تكوينهم.
"كما يمكن استنفاذ العقوبة بطرق بديلة خارج محيط السجن، مثل عقوبة العمل للنفع العام، الرقابة الالكترونية، أو عقوبة وقف التنفيذ المقترنة بالاختبار القضائي أو العمل للنفع العام".

المرجع:


  1. عبد الرحمان خلفي، محاضرات في القانون الجنائي العام، دراسة مقارنة، دار الهدى، الجزائر، سنة 2013، ص 11 إلى ص 17.
google-playkhamsatmostaqltradent