تعريف القانون التجاري وعلاقته بالقانون المدني

تعريف القانون التجاري وعلاقته بالقانون المدني

تعريف القانون التجاري وعلاقته بالقانون المدني

المبحث الأول: تعريف القانون التجاري

القانون التجاري هو فرع من فروع القانون الخاص يشمل مجموع القواعد القانونية التي تنطبق على طائفة معينة من الأعمال التجارية وعلى فئة من الأشخاص هم التجار، ومعنى ذلك أن القانون التجاري لا ينظم إلا فئة معينة من الأعمال هي الأعمال التجارية ولا ينطبق إلا على طائفة من الأشخاص هم التجار، وهو لذلك أضيق نطاقا من القانون المدني الذي يعتبر بمثابة الشريعة العامة والمتضمن للقواعد القانونية التي تحكم بحسب الأصل الروابط القانونية بين الأفراد بصرف النظر عن صفاتهم وطبيعة أعمالهم، وتعتبر قانون تجاري مشتق في الأصل من كلمة تجارة commerce ، إلا أن لهذه الكلمة في المفهوم القانوني معنى يختلف عن معناها في المفهوم الاقتصادي، إذ هي لا تشمل في هذا المفهوم الأخير سوى العمليات المتعلقة بتداول الثروات وتوزيعها، في حين أنها تشمل في المفهوم الأول علاوة على ذلك العمليات المتعلقة بالصناعة، ومفاد ذلك أن للتجارة في مفهوم القانون معنى أوسع وأشمل من معناها لدى علماء الاقتصاد إذ أنه لا يفرق على عكس هؤلاء بين التجارة والصناعة، فكل صانع هو تاجر قانونا، ولا يقتصر احتراف الأعمال التجارية على الأشخاص الطبيعية فحسب، بل تحترفها الأشخاص المعنوية كذلك، كما أنها ليست حكر على الأفراد والشركات التجارية بل نجدها أيضا تزاول من قبل الدولة عن طريق شركات القطاع العام التي تمتلكها.

المبحث الثاني: العلاقة بين القانون التجاري والقانون المدني

ينظم القانون الخاص العلاقات القانونية بين الأفراد بوجه عام، وبالتالي ينتمي كل من القانون المدني والقانون التجاري إلى القانون الخاص شأنه في ذلك شأن قانون العمل وقانون الأسرة، و يعتبر القانون المدني تبعا للنظرية التقليدية على أنه هو الأصل الذي تستمد منه مختلف فروع القانون الخاص بما فيه القانون التجاري، فالقانون المدني شريعة عامة تنطبق أحكامها على جميع الأفراد ومختلف الأعمال القانونية دون تمييز بين نوع التصرف أو صفة القائم به، بينما يقتصر تطبيق أحكام القانون التجاري على الأعمال التجارية والتجار والمعاملات التجارية بوجه عام، فهو قانون استثنائي نشأ أول ما نشأ على أنه قانون خاص بطائفة التجار فانفصل تدريجيا عن القانون المدني، فإذا سكت القانون التجاري عن حكم مسألة معينة خاصة بالأعمال التجارية والتجار أو العلاقات التجارية كان لزاما على القاضي الرجوع إلى أحكام القانون المدني شريطة ألا يتعارض مع ما تقتضيه طبيعة التجارة مادام هذا القانون يشكل الشريعة العامة، والتي تنطبق أحكامها على التجار على حد سواء، وما أحكام القانون التجاري إلا تثبيت لأحكام القانون المدني أو استثناءات واردة عليه، وحيث أن الاستثناء لا يطبق إلا بنص وجب الرجوع إلى الأصل كلما انعدمت النصوص الاستثنائية، وهكذا يكون لزاما على القاضي في مواد الشركات التجارية أن يرجع إلى أحكام القانون المدني والذي ينظم عقد الشركة في حالة عدم وجود نص في القانون التجاري، غير أنه لا تشترط لتطبيق نصوص القانون المدني على المسائل التجارية أن ينص القانون التجاري صراحة على الإحالة إليه، بمعنى أن أحكام القانون المدني واجبة التطبيق كلما خلى القانون التجاري من النص ، فالنظرية العامة للالتزامات تطبق على جميع العقود التجارية بما فيها نظام السفتجة ومختلف عمليات البنوك، كما تطبق الأحكام المدنية المتعلقة بعقد البيع على البيوع التجارية، لأن القانون التجاري لم يضع لها تنظيما خاصا بها، وبالمعاكس يؤثر القانون التجاري على القانون المدني في بعض الموضوعات ونذكر منها على سبيل المثال فكرة انتقال الشخصية المعنوية من الشركات التجارية إلى الشركات المدنية ونظام الإفلاس الذي يطبق على جميع الأفراد سواء كانوا تجارا أو غير تجار، وكذلك الحال بالنسبة للسفتجة التي يسري مفعولها على جميع الموقعين عليها تجارا كانوا أم مدنيين، إن توسع التجارة وتطوير أساليبها أدى إلى اتساع نطاق التشريع التجاري في الوقت الحالي، وبالتالي فقد ضيق من دائرة تطبيق أحكام القوانين المدنية في المواد التجارية مما جعل بعض الفقهاء ينادونا باستقلال القانون المدني، غير أن فقهاء آخرين ينادونا بتوحيد القانونين، ومهما كانت حجة الخلاف بين المدرستين، إلا أنه يمكن لنا أن نستخلص من خلال هذه العلاقة أن كلا من القانونين يؤثر ويتأثر بالآخر وهذا بالطبع راجع للعلاقة الوثيقة التي تربط القانون المدني بالقانون التجاري.

المطلب الأول: توحيد القانونين المدني والتجاري

إن القانون التجاري في عدد كبير من البلدان يكون فرعا مستقلا ومتميزا عن القانون المدني، إلا أنه أثير التساؤل بالرغم من ذلك عما إذا كان ذلك الاستقلال ذا فائدة تمليه الضرورة أم من مخلفات الماضي الذي لا فائدة منه؟ نشأ القانون التجاري على أنه خاص بطائفة التجار فهو يقوم على وجود نظام الطوائف، وقد زال هذا النظام فوجب إدماج القانون التجاري مع القانون المدني تدعيما لمبدأ حرية التجارة، وستند أنصار مبدأ الوحدة إلى حجج كثيرة.
1- يرى أنصار وحدة القانون الخاص أن التاريخ يؤيد وحدة القانونين المدني والتجاري، فقديما لم تتفرع القانون الروماني قواعد خاصة بالمعاملات بين التجار ولم ينشأ القانون التجاري إلا في بيئة طوائف التجار في جمهورية فرنسا وإيطاليا، فهو موضوع من قبل التجار الذين أدخلوه في المعاملات التجارية، ولما كان استقلال القانون التجاري نتيجة لقيام نظام الطوائف كان من الواجب أن تزول النتيجة اثر زوال أسبابها، فلقد أصبحت التجارة في يومنا هذا حرة يمكن لأي شخص ممارستها، كما كان من الواجب أن ينقضي الاستقلال الذاتي للقانون التجاري عندما ألغت الثورة الفرنسية القيود المحيطة بحرية التجارة لجميع المواطنين دون تفرقة بين تاجر وغير تاجر، ثم ألغت نظام الطوائف بحيث لم يعد لطائفة كيان خاص بها يميزها عن غيرها من الطوائف، فمن الواجب أن تخضع هذه الطائفة لما تخضع له غيرها من أحكام قانونية موحدة بأحكام القانون المدني، زيادة على ذلك يرى أنصار وحدة القانون الخاص أن الأسباب العملية التي كانت تبرر وجود قانون تجاري مستقل عن القانون المدني قد زالت، بحيث إذ كان قديما الدولة لا تتدخل في الحياة الاقتصادية والتجارية فقد أصبحت اليوم تتدخل وخاصة في الدول ذات الاقتصاد الموجه، أي الدول الاشتراكية، فإذا كان من المعقول قبول قانون تجاري في الدول الرأسمالية، إلا أنه لم يعد مقبول وجود قانون تجاري مستقل في ظل الأنظمة الاشتراكية.
2- إن بعض البلدان كسويسرا وإيطاليا وبريطانيا استطاعت التغلب على الصعوبات التي يثيرها ازدواج القانون الخاص، فأصدرت قانون واحد موحد للمعاملات التجارية والمدنية تنطبق أحكامه على الأعمال المدنية والتجارية وبدون تمييز بين الشخص التاجر والغير تاجر، فتمكنت سويسرا من جميع القانونين في تقنين موحد للالتزامات صدر عام 1911 والمعدل في سنة 1936 وهو قانون عام تنطبق أحكامه على الالتزامات المدنية والتجارية على حد السواء، أما إيطاليا فيعد أن كان لها قانون تجاري مستقل عن القانون المدني وضعت عام 1942 قانونا مدنيا جديدا موحدا للقانون الخاص، ويتضمن قواعد عامة تطبق أحكامها على سائر المواطنين بدون تفرقة وعلى كافة أوجه النشاط المدني والتجاري، أما إنجلترا فلا تميز كذلك بين التجاري والمدني فلقد حصل فيها التوحيد منذ القرن الثامن عشر، بل إن القانون العام وهو قانون ينسب من العرف ينظم فيها المعاملات تجارية كانت أم مدنية، وتختلف ظروف توحيد القانون الخاص من بلد لآخر، إلا أن التوحيد بين القانونين قد تم فعلا سواء بشكل كلي أو جزئي أو بصفة تدريجية.
3- إن القواعد والنظم التجارية لم تعد مقصورة على طائفة التجار، فقد انتشرت فيما بين غير التجار، فغير التاجر يستعمل كالتاجر الأوراق التجارية ويعقد القروض وعقود فتح الاعتمادات والحسابات الجارية إلى غير ذلك من الأعمال التجارية، بمعنى أن هذه الأنظمة والوسائل التجارية أصبحت أمور يلجأ إليها غير التاجر كما يلجأ إليها التاجر، لا بل وإن الدولة وأشخاص القانون العام يلجئون إلى الأساليب التجارية كالتجار، وهكذا فالدولة تقوم بإصدار مستندات القروض واستثمار المشروعات التجارية، فإذا ما كان القانون التجاري قد نفذ إلى ميادين القانون المدني على النحو المذكور فمن المستحسن أن نزيل الحواجز بين كلا القانونين، وهي سائدة إلى الزوال من تلقاء نفسها فلابد بالتالي من إيجاد قانون وأحد موحد للمعاملات التجارية والمدنية.
4- إن القانون التجاري يتميز عن القانون المدني بالسرعة في إنشاء العقود وفي تنفيذ الالتزامات الناشئة عنه، كما أنه يمتاز بأساليب بسيطة وبأنه يشجع الائتمان فلما إذن لا ننقل هذه المزايا جميعا إلى المعاملات المدنية عن طريق توحيد القانونين لكي يستفيد منها غير التاجر، فالسرعة في المعاملات والدقة في التنفيذ لم تعد محصورة اليوم على الحياة التجارية فقط بل تتعدها إلى المعاملات المدنية، خاصة وأن العصر الذي نعيش فيه يمتاز بالسرعة في مختلف المعاملات على حد السواء، فالتعامل مع البنوك لم يعد مقصورا في يومنا هذا على التجار فقط بل تعداه إلى أشخاص آخرين مثل المزارعين وأصحاب المهن الحرة، وإذا كان القانون المدني يضع في بعض الأحيان قيود وأشكال معينة لإبرام بعض العقود، كاشتراط الكتابة قاصدا بذلك الحد من المنازعات بشأنها أو لفت نظر المتعاقدين إلى خطورة العقد، فمن المستحسن وضع هذه الشكليات في المعاملات التجارية ليستفيد منها التاجر وغير التاجر.
5- إن القانون التجاري في النظرية اللاتينية على الأقل يعد قانونا مهنيا بل تشريعا ينظم العمل القانوني بصرف النظر عن مهنة صاحبه، فكان من المنطقي أن يحظى في جميع صوره لقواعد قانونية موحدة، ذلك أن طبيعة العمل القانوني لا تتغير بتغير صفة القائم به، ولذا وجب أن يكون القانون الذي يحكم هذا العمل واحد موحد لا يتجزأ، ففي عقد البيع نجد بائعا ومشتريا ومبيعا وثمنا والعقد يتكون من هذه الأركان الخاصة بصرف النظر عن صفة القائم به تاجرا كان أم غير تاجر، ولذلك فليس من المنطق أن نميز بين أحكام قانونين مختلفين المدني والتجاري.

المطلب الثاني: دعاة استقلال القانون التجاري عن القانون المدني

نادى فريق من الفقهاء إلى وجوب أن يكون للقانون التجاري كيان مستقل عن القانون المدني ، ذلك أن التعامل التجاري من الضرورات التي لا غنى عنها لأي مجتمع منظم وأي كانت نزاعاته السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، زيادة على ذلك فالقانون التجاري وليد البيئة التجارية يتماشى مع الحاجات الاقتصادية التي تتطلب السرعة في إبرام المعاملات التجارية وتنفيذها وأن القائلين بتوحيد كلا القانونين يتغاضون عن حقائق جوهرية :
1- فمن الناحية التاريخية لا يمكن لنا أن نقارن بين التجارة في العصر الحديث وما كانت عليه في العصور الغابرة عند الرومان، فلا يحق لنا أن نعتد بالمثال الروماني الذي لا يفرق لابين القانونين المدني والتجاري، ذلك أن القانون التجاري نشأ في بيئة التجار في الجمهوريات الإيطالية وظل يتطور على مر الأجيال مسايرا في ذلك حاجات التجارة المتجددة.
2- وإن كانت بعض البلدان لها قانون أو تقنين واحد للمعاملات التجارية والمدنية فلابد أن نفرق بين وجود قانون أو تقنين واحد ومبدأ الازدواجية، ففي البلدان التي يوجد فيها قانون واحد فإن هذا القانون يشمل فيما بين صفتيه النظم التجارية إلى جانب النظم المدنية، وهكذا فإن المشرع السويسري أو الإيطالي لم يقر من حيث الموضوع قواعد قانونية واحدة تنطبق على النشاط التجاري والمدني على حد سواء بل أنه أوجد أحكام عامة تتعلق بالأنظمة التجارية، حيث أفرد لها فصولا وأبواب خاصة للنشاط التجاري وبالتجار دون غيرهم، وإن كان القانون يحتوي على أحكام مدنية تنصرف إلى النشاط المدني وتنطبق على غير التجار، وهكذا فالجزء الثاني من التقنين السويسري يحتوي على فصول متعددة تنطبق على التجار دون أن تنطبق أحكامها على غير التجار، كما أن هذا القانون يعالج مواضع تجارية بحثه كالسجل التجاري والدفاتر التجارية ومستندات الائتمان والشركات التجارية إلى غير ذلك من مواضع التجارة البحتة، ويتضمن القانون الإيطالي فضلا عن الأحكام العامة في الالتزامات أبوابا خاصة ببعض الأنظمة التجارية، كسندات الائتمان والمحل التجاري والسجل التجاري والملكية الصناعية إلى غير ذلك، وإذ كانت بريطانيا تعرف قانونا عاما واحدا للمعاملات التجارية والمدنية، فإن ذلك إنما يفسر بظروف خاصة بهذا البلد، ذلك أن معظم الإنجليز يكرسون نشاطهم للتجارة وروح التجارة هي السائدة في جميع أوجه الحياة الاقتصادية عندهم الأمر الذي يفسر لنا عدم وجود قانون تجاري منفصل ومستقل عن القانون المدني في هذا البلد، مع الإشارة إلى أنه توجد الآن في انجلترا قوانين مكتوبة خاصة بالمواد التجارية وحدها وتنطبق أحكامها على التجارة دون غيرها كما هو الحال بالنسبة للقانون الخاص ببيع السلع والأوراق التجارية والإفلاس.
3- فيما يتعلق باتساع دائرة استعمال الوسائل التجارية في الحياة المدنية، كاستعمال الأوراق التجارية سفتجة ومستندات إذنية وشركات أو فتح الحسابات الجارية لدى المصارف وفتح الاعتمادات، فإن ذلك كله يعتبر سببا كافيا قاطعا لتبرير مبدأ الوحدة والاندماج، كل ما في الأمر أن دائرة القانون التجاري باتساع مستمر مع تطور الأوضاع الاقتصادية بحيث تزداد أهمية القانون التجاري تدريجيا من الناحية العملية.

المطلب الثالث: مبدأ استقلال القانون التجاري عن القانون المدني

إن استقلال القانون التجاري عن القانون المدني تمليه ضرورات كثيرة نذكر منها خاصة حاجة التجارة إلى الائتمان والسرعة في المعاملات التجارية بما فيها إبرام العقود التجارية وتنفيذ الالتزامات الناشئة عنها وتحقيق الربح في أقل وقت ممكن، وهذا يتطلب إجراءات سهلة وسريعة تتماشى وحيوية القانون التجاري الذي تتغير وتتطور أحكامه بسرعة موازنة مع تطور الأوضاع الاقتصادية في البلد، خلافا للقانون المدني الذي يتميز بالجمود والاستقرار والتعقيد في الإجراءات، زيادة على ذلك فإن القانون التجاري يتميز بنزعة عالمية، غير أن القانون المدني تطغى عليه النزعة الوطنية المحلية.

1- إن التجارة قوامها الائتمان

يتجه القانون التجاري إلى تدعيم الائتمان وتوطيده لدوره الفعال في تقوية وازدهار التجارة بوسائل فنية متعددة، والهدف من الائتمان هو حماية المدين من جراء التزاماته قبل الغير بمنحه آجلا للوفاء، ويلجأ التاجر عادة للائتمان حماية للبضاعة التي يشتريها دون أن يتمكن من بيعها في الحال، أما في حالة ما إذا رفض الطرف الآخر منحه هذا الآجل يمكن له الالتجاء إلى البنوك للاقتراض ما يلزمه من نقود، وللائتمان صور كثيرة كافتراض التضامن بين المدينين وحماية الحقوق الثابتة في الأوراق التجارية وتنظيم إفلاس التجار تنظيما الغاية منه حماية الدائنين من تصرفات المدين وإقامة العدالة والمساواة فيما بين الدائنين، أما عن دعم الائتمان وتوثيقه فإنه إذا كان لا غنى عنه في الحياة المدنية، ذلك أن التاجر بحاجة إلى الائتمان ليضاعف من نشاطه وإنتاجه بمعنى آخر أن الائتمان التجاري هو ائتمان الإنتاج ومضاعفة الثروات، أما غير التاجر فهو يقترض للاستهلاك وليس هناك فائدة من تشجيع استهلاك الثروات بالنسبة للبلدان الفقيرة والمتخلفة اقتصاديا، وبما أن التاجر يقترض للإنتاج فذلك يسمح له بأن يضاعف من نشاطه وأن يزيد في ثرواته فتهيئ له بالتالي وسائل الوفاء بالديون، وأما غير التاجر فيقترض لاستهلاكه الخاص وعليه يدفع مبلغ الدين من إيراداته وإذا لم يتسير له ذلك عمد للوفاء من رأسماله وتدين له الخراب بعكس ما هو الحال عليه بالنسبة للتجار، لأن قوام التجارة بصورة خاصة ازدهار وتطور اقتصاد البلد بصورة عامة.

2- السرعة في إبرام العقود وفي تنفيذ الالتزامات الناشئة عنها

إن السرعة ضرورة تفرضها الحياة التجارية نفسها ولكنها ضارة بالحياة المدنية، فلو نقلنا قاعدة حرية الإثبات مثلا إلى الحياة المدنية لأدى ذلك إلى حرمان المتعاقد من بعض الوقت للتفكير، وقد وضعت قواعد الإثبات أصلا لحماية غير التجار حتى تنسجم فيما بينهم أوجه النزاع من جهة وحتى يتوفر لهم الوقت للتفكير من ناحية أخرى، ولو أننا نقلنا قاعدة عدم جواز الاحتجاج بالدفوع على حامل الورقة التجارية إلى نطاق الحياة العملية لترتب على ذلك حرمان المدين من دفع مطالبة الدائن بعيب شاب رضاه أو بانعدام السبب أو بعدم مشروعيته وهي ضمانات وضعها القانون المدني أصلا لحماية فئة غير التجار، متماشيا مع مقتضيات الحياة التجارية السريعة، وهكذا بينما حققت بنود الإثبات في المعاملات التجارية وأبيح إثبات الديون التجارية بكافة الوسائل فرض على التاجر مسك دفاتر منتظمة وهذا أمر فيه حرج لغير التجار، وهكذا أصبحت الدفاتر التجارية وسيلة لحماية الاستقرار في المعاملات التجارية وتيسر الإثبات.

3- إن التجارة قوامها التطور

فالقانون التجاري أشد علاقة وتأثر بالعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية من القانون المدني وأسبقها إلى التطور بحيث أن أحكامه تتطور بتطور الاتصال، بيد أن القانون المدني يصبو إلى الجمود والاستقرار، وهكذا فنظام الزوجية المالي في القانون الفرنسي ظل ثابتا بمعنى أن الأحكام الخاصة بهذا النظام لم تتغير منذ زمن طويل، وأحكام الميراث في البلدان العربية هي أحكام غير قابلة للتغير والتطور فرضتها نصوص قرآنية لا يحق للفرد أن يدخل عليها تعديل، وذلك بخلاف ما هو عليه في القانون التجاري فهو سريع التطور وتصبو أن تكون أحكامه دولية أكثر من أن تكون محلية وطنية، إن القانون التجاري نشأ على أنه قانون دولي لا وطني محلي كما هو الحال عليه في القانون المدني، هذا أن أحكامه كانت تنطبق فيما مضى على جميع البالد المجاورة للبحر المتوسط في مواد التجارة البحرية قبل اتساع نطاق القانون التجاري وينصرف إلى مواد التجارة البرية، وللمصادر الدولية أهمية بالغة بالنسبة للقانون التجارين غير أن القانون المدني قد نشأ على أنه قانون محلي وطني ، فالقانون الروماني وضع مثلا أصلا لتنطبق أحكامه على المواطنين الرومان دون الأجانب، أضف إلى ذلك أن تباين التشريعات الوطنية في المواد التجارية إنما يؤدي إلى التوازن بين قوانين الدول المختلفة والتي يربطها تعامل تجاري الأمر الذي يفسر بوجوب توحيد القواعد التجارية بحيث تنطبق أحكامها في أكثر من بلد واحد، وهكذا فإن القواعد التي تحكم الأوراق التجارية قد وحدت في بلدان مختلفة عن طريق معاهدة دولية انعقدت في 13 مايو 1930م في مؤتمر جنيف شأن توحيد القواعد القانونية التي تنطبق على السفتجة والسند الاذني، وأعقب هذا المؤتمر، مؤتمر دولي آخر في جنيف عام 1931م لوضع قانون موحد للشيكات، وخلاصة القول أن من المنطق تأييد الرأي القائل باستقلال القانون التجاري عن القانون المدني، فلابد من أن يكون للقانون التجاري وجود ذاتي مستقل عن القانون المدني، إذ أنه لا سبيل إلى إنكار أنه بجانب الحياة المدنية والتي تنظم الجانب الأكبر من علاقات الأفراد توجد حياة تجارية تختلف اختلافا كبيرا عن الحياة المدنية، فبينما لا تسعى طائفة التجار إلا لجمع الربح والأموال، فتخاطر وتضارب بأموالها وتتحمل تقلبات الأسعار واختلاف الظروف الاقتصادية نجد طائفة غير التجار راضية بعيدة عن مخاطر التجارة وأهواء المضاربات، فالتاجر لا يشتري السلع قصد استهلاكها وإنما لإعادة بيعها وتحقيق الأرباح وقد يعقد الصفقات في فترة زمنية قصيرة ويبرم العقود شفاهة أو عن طريق الهاتف وكثيرا ما يشتري السلع من أماكن بعيدة يتم بيعها قبل الاستلام، أما غير التاجر فإنما يشتري قصد الاستهلاك أو الاحتفاظ وهو لا يقبل عادة على الشراء إلا بعد تفكير طويل فمن الطبيعي أن يكون للتجارة قانون خاص بها يلاءم طبيعتها وينسجم معها مسايرا تطور أساليبها والتطور الاقتصادي للبلد.

المطلب الرابع: موقف القانون الوضعي الجزائري من مبدأ تبعية القانون التجاري للقانون المدني واستقلاله عنه

أخذ المشرع الجزائري بمبدأ استقلال القانون التجاري عن القانون المدني، فأوجد قواعد خاصة بالحياة والنشاط التجاري منفصلة ومتميزة عن القواعد التي تنطبق في الحياة المدنية، كما هو الحال بالنسبة للأعمال التجارية والقواعد التي تنطبق على التجارن كمسك الدفاتر التجارية والقيد في السجل التجاري إلى غيرها من القواعد التي تنطبق في ميدان التجارة، كما أن المشرع نظم المحل التجاري بأحكام متميزة عن الأحكام التي تنطبق غلى المنشآت المدنية إلى غير ذلك من النظم التجارية كالأوراق التجارية خاصة، وقد ذهب قانون المرافعات المدنية الجزائري أيضا إلى الفصل بين القضاء التجاري والقضاء المدني ، وهكذا فنجد لدى المحاكم غرفة تجارية إلى جانب الغرفة المدنية أسندت إليها مهمة الفصل في الأمور التجارية ، وتتألف هذه الغرفة من قاضي ممتهن يساعده تاجران أما المشرع الفرنسي فقد أقر بوجود قانون تجاري مستقل متميز عن القانون المدني وهذا من حيث الاستقلال الشكلي على الأقل، وأما من حيث استقلال القانون التجاري الموضوعي فهو يتمثل بوجود قواعد خاصة بالتجار إلى جانب قواعد منفصلة متميزة تنطبق على غير التجار وبوجود أحكام خاصة بالمحلات التجارية، إلى جانب الأحكام الخاصة بالمنشآت المدنية إلى غير ذلك من القواعد الخاصة بالنشاط التجاري والمتميزة عن القواعد التي تنطبق على النشاط المدني، أضف إلى ذاك أن مبدأ استقلال القانون التجاري عن القانون المدني يتمثل أيضا في الفصل بين القضاء التجاري والقضاء المدني والذي أخذت به فرنسا، حيث أنشأت قضاءا تجاريا متميزا ومنفصلا عن القضاء المدني ذا اختصاص نوعي خاص به، وهكذا نجد في فرنسا محاكم تجارية خاصة إلى جانب المحاكم المدنية وهي تنظر في المنازعات التجارية متبعة في ذلك قواعد مرافعات خاصة بها تمليها طبيعة المسائل التجارية، وتتألف هذه المحاكم من قضاة مختصين بالفصل في المسائل التجارية يساعدهم محلفون من التجار وممن مارسوا الحياة التجارية وأطلعوا على ما يحيط بها من عرف وعادات تجارية، والفصل بين المحاكم التجارية والمحاكم المدنية تمليه ضرورة الفصل في المسائل التجارية بالسرعة التي تتناسب ومقتضيات التجارة، إلا أنه تجدر الإشارة مع هذا إلى أن ثمة تشريعات حديثة لم تأخذ بنظام القضاء التجاري المستقل وهكذا ألغيت المحاكم التجارية عام 1863 في إسبانيا وعام 1881 بإيطاليا، كما ذهبت بعض الدول إلى إدماج القضاء التجاري مع القضاء المدني كما هو الحال عليه في الولايات المتحدة وإنكلترا وهولندا.

المرجع:


  1. أ.عمورة عمار، شرح القانون التجاري الجزائري، دار المعرفة، الجزائر، 2016، من ص 10 إلى ص 19 .
google-playkhamsatmostaqltradent