مفهوم حقوق الإنسان وأصولها التاريخية

مفهوم حقوق الإنسان وأصولها التاريخية

مفهوم حقوق الإنسان وأصولها التاريخية

مقدمة:

يعد موضوع حقوق الإنسان من أهم الموضوعات المثارة حالياً على كافة المستويات الوطنية والدولية، غير أن الاهتمام الحالي بهذه الحقوق لا يعني انها وليدة الحاضر، لان حقوق الإنسان وجدت مع وجود الإنسان على المعمورة ،غير أن هذه الحقوق قد اختلفت ضيقا واتساعا بفعل الدور الذي تقوم به الدولة (في انتهاكها أو حمايتها) والدور الذي تقوم به الشعوب في فرضها على السلطة.
في العصور القديمة كانت حقوق الإنسان مجرد أعراف وقواعد غير مكتوبة مما سهل على السلطة انتهاكها، وفي مرحلة لاحقة بدأ تدوين وكتابة حقوق الأفراد في مواجهة السلطة الحاكمة في وثائق تسمى "بالوثائق الدستورية " (غير أن هذه الدساتير يختلف مضمون كل واحد منها عن الآخر تبعا لمتطلبات وحاجة كل مجتمع)، وقد ظلت قضية حقوق الإنسان على مدى عقود طويلة شأنا داخليا ومسألة لصيقة بسيادة الدول بحجة أنها علاقة بين الدولة ومواطنيها وان انتهاك الحقوق قد يمس بالسلم والأمن الداخليين فقط ومن ثم فلا يجوز للقانون الدولي أن يهتم بها أو حتى يقترب منها.
إلا أن حقوق الإنسان برزت كفرع مهم للقانون الدولي على وجه الخصوص في أعقاب المجازر الوحشية التي شهدتها الحرب العالمية الثانية، هنا أصبح المجتمع الدولي اقل استعدادا لغض النظر عن معاملة الدولة لمواطنيها معاملة قاسية، بحجة أن هذا شان من الشؤون الداخلية للدول، وثبت أن انتهاك الحقوق في دولة ما يمس بالسلم والأمن الدوليين ومن ثم يجوز للمجتمع الدولي وللقانون الدولي أن يهتم بها وان يتدخل لحمايتها، وأصبح من الواضح ان على جميع الدول احترام قواعد حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، باعتبارها واجبات داخلية والتزامات دولية.
وفي هذا الإطار سنتطرق إلى مفهوم حقوق الإنسان وأصولها التاريخية بحيث سنتناول تعريف حقوق الإنسان وتمييزها عن الحريات العامة (المطلب الأول) تم التطرق إلى الأصول التاريخية لحقوق الإنسان (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تعريف حقوق الإنسان وتمييزها عن الحريات العامة

الفرع الأول: تعريف حقوق الإنسان

1- تعريف الحقوق لغة: جمع مفردها حق وهو ضد الباطل، والحق بمعنى الثابت وفي اللغة العربية أيضاً يرتب مفهوم (الحق) بمفهوم (الواجب) ارتباط تناوب وتلازم.
وفي القرآن، (الحاقة) هي يوم القيامة لأنها تفصل بالحق وتحق كل مجادل في دين الله بالباطل فتحقه أي تغلبه.
2-تعريف الحقوق اصطلاحاً: يقصد بها الميزات أو المصالح أو الحريات التي يتوقعها الفرد أو الجماعة من المجتمع (الغير) أو من الدولة وبما يتفق مع معاييرهما.
ان الحق كما يعرفه المذهب الفردي، أو الشخصي بأنه سلطة، أو قدرة إرادية يخولها القانون لشخص ما ضمن أطر محدودة، والمذهب الموضوعي يعتبر الحق مصلحة يحميها القانون، أما المذهب المختلط  فيجمع بين الإرادة والمصلحة في تعريفه للحق.
3- بالنسبة لتعريف حقوق الإنسان : إن إيجاد تعريف شامل ودقيق لقانون حقوق الإنسان يعتبر مسالة صعبة، لان حقوق الإنسان كجزء من القانون الدولي يعتبر من المواضيع الجديدة التي قفزت إلى الوجود بعد الحرب العالمية الثانية في ظل الأمم المتحدة،  كما أن مفهومها خضع لتطورات سريعة على المستوى الدولي، هذا دون أن ننسى أن تفاوت المستوى المعيشي للشعوب يعد سببا في عدم وجود تعريف شامل لها (لكل شعب أولوياته، وضوابطه) ومع ذلك هناك العديد من المحاولات لتعريف حقوق الإنسان نورد بعضها:
- حقوق الإنسان هي تلك الحقوق المتأصلة في طبيعتنا الإنسانية، والتي بدونها لا نستطيع العيش كبشر.
- حقوق الإنسان هي المعايير الأساسية التي لا يمكن للناس أن يعيشوا من دونها بكرامة.
- هي تلك الحريات الإنسانية الأساسية المحفوظة للجميع بدون تمييز، ايا كان جنسهم او جنسيتهم او أعراقهم او ألوانهم او أديانهم او لغاتهم ... ومن شأن تفعيل تلك الحقوق أن يتيح تنمية الفرد والمجتمع. 
- ويعرف القانون الدولي لحقوق الإنسان بأنه: فرع من فروع القانون الدولي العام ويتكون من مجموعة القواعد والمبادئ المنصوص عليها في عدد من الإعلانات والمعاهدات الدولية، والتي تؤمن حقوق وحريات الأفراد والشعوب في مواجهة الدولة أساسا، وهي حقوق لصيقة بالإنسان، وغير قابلة للتنازل عنها، وتلتزم الدولة بحمايتها وعدم الاعتداء عليها.
وهكذا نجد أن هذا القانون يهدف أساسا إلى حماية حقوق وحريات الأفراد في مواجهة الدولة التي ينتمون إليها، فهو يحدد قواعد ملزمة للحكومات في علاقتها بالأفراد.

الفرع الثاني: خصائص حقوق الإنسان

هناك العديد من الخصائص التي تميز حقوق الإنسان عن غيرها ومن هذه الخصائص:
1- حقوق الإنسان، ثابتة لكل إنسان - ليست منحة من أحد – فهي ثابتة للإنسان باعتباره إنسانا أي أنها لصيقة بالصفة الإنسانية و هي ثابتة سواء تمتع بها أم حرم منها واعتدي عليها وهي ثابتة أي لا تزول باستمرارية الانتهاك.
2- حقوق الإنسان لها طابع الكونية والعالمية: وللعالمية ثلاث أبعاد: أ- العالمية من حيث التكوين والنشأة: ساهمت جميع الحضارات والثقافات والشعوب في تكوينها، ب- العالمية من حيث التطبيق: لجميع الأشخاص الحق في التمتع بها دون تمييز  ج - العالمية من حيث ضمانات الحماية: هناك ضمانات قانونية عالمية يمكن من خلالها حماية الأفراد والمجموعات من الحكومات التي تمس  بها.
3- حقوق الإنسان غير قابلة للتجزئة: أي حقوق الإنسان كل لا يتجزأ، سواء كانت تلك الحقوق حقوق مدنية، أو حقوق ثقافية، أو اقتصادية، أو سياسية، أو اجتماعية، فكلها مترابطة، و إدراك حق واحد غالبا ما يعتمد، كلياً أو جزئياً، على إدراك الحقوق الأخرى، على سبيل المثال: ربما يتوقف إدراك الحق في الغذاء،على إدراك الحق في العمل، او يتوقف حق الحصول على العمل على حق التعلم.
4- حقوق الإنسان لا تقبل التصرف - التنازل عنها-: أي لا يمكن انتزاعها؛ او التصرف فيها أو نزع ملكيتها، ولا يمكن لإنسان يملك تلك الحقوق أن يتنازل عنها حتى طوعاً، كما لا يمكن للآخرين أن يسلبوها، والتنازل عن بعض الحقوق قد يكون مخالفا للقانون وباطلا- كبيع جزء من الجسم او التنازل عن حق العودة للفلسطينيين-.
5- حقوق الإنسان متطورة ومتجددة ومتغيرة: فهي تواكب تطورات العصر في تجذرها وتجددها لتشمل مختلف مجالات الحياة.
6-حقوق الإنسان تخضع للمساءلة: على ممثلي الدول – المسؤولين-  أن يخضعوا للمسائلة من قبل الجهات القضائية أو الجهات المعنية بمراقبة حقوق الإنسان، الدولية والداخلية. وحين يثبت إخفاقهم او تسببهم في المساس بالحقوق، يحق للمتضررين اتخاذ الإجراءات المناسبة للاقتصاص أمام المحاكم المختصة أو أي جهة أخرى ذات اختصاص وذلك وفقا للقواعد والإجراءات التي ينص عليها القانون.[1]

الفرع الثالث: تمييز حقوق الإنسان عن الحريات العامة

تعرف الحرية تقليديا بأنها عدم الخضوع لسلطة أعلى أو بأنها القدرة على القيام بعمل ما أو الإمتناع عن القيام به، حيث يختار الإنسان بمقتضاها سلوكه الشخصي دون إكراه. وتوصف الحرية بكونها عامة لأنها تفترض تدخل السلطات العامة في الدولة لتنظيمها.
وعموما، تتمثل أبرز نقاط الإختلاف بين حقوق الإنسان والحريات العامة في ما يلي:
1 - أن الحريات العامة، حقوق للفرد قبل الدولة، ويكفلها الدستور والقانون، وتمارس في مواجهة السلطة وفي إطارها، فهي تفترض تدخل السلطة العامة اعترافا وضماناً، لترتقي من حرية مجـردة إلى حرية عامة، وبهذا يعرفها "ريفيرو" على أنها: (الحقوق التي تعتبر بمجموعها في الدول المتحضرة بمثابة الحقوق الأساسية اللازمة لتطور الفرد والتي تتميز بنظام خاص من الحماية القانونية). وبالتالي فمصـدر هـذه الحريات وضعي، وهو تلك الإرادة الشعبية التي وضعت الدسـتور أو القانـون، وعليه لا يـمكن تصـور وجود حريات عامة، إلا في ظل نظام قانوني معين، وهو ما يجعلها وثيقة الصلة بالدولة.
أما حقوق الإنسان فهي حقوق طبيعية يمتلكها الإنسان لطبيعته الإنسانية، وتظل موجودة حتى عند عدم الاعتراف بها أو انتهاكها من قبل سلطة ما، كونها تستمد وجودها من مصادر تاريخية وفلسفية ترجع إلى فكرة القانون الطبيعي. وهذه الحقوق تقع فوق أطر القانون الوضعي، لأن الحقوق تثبت للإنسان لمجرد كونه إنساناً، لأنها تنبع، من ضمير الجماعة، ومطالبة الجماعة بهذه الحقوق، دون اشتراط أن يكون القانون الوضعي قد اعترف بها أو أدركها بالحماية. وبالتالي فالحق موجود أصلاً حتى قبل الاعتراف الدولي به، وما إذا أقدمت القوانين الوضعية على الإقرار بتلك الحقوق وكفالة حمايتها تحولت إلى حريات عامة.
2- الحريات العامة غالبا ما تستعمل في إطار الدولة دلالة على الإمكانيات التي يمتلكها المواطن في مواجهة السلطة، ولذلك فمكانها الدستور أو القانون، وعلى هذا يعرفها "كوليار":  (حالات (أوضاع) قانونيـة مشروعة ونظامية حيث يسمح للفرد أن يتصرف كيفما شاء ومن دون قيود في إطار حـدود مضبوطة من طرف القانون الوضعي ومحددة تحت رقابة من قبل سلطة بوليسية مكلفة بحفظ النظام العام).
بينما يحتفظ بتعبير حقوق الإنسان دلالة على اهتمام المجتمع الدولي بالإنسان وحقوقه، ولذلك يكون نطاقها القانون الدولي، وبهذا يعرفها عمر إسماعيل سعد الله: (جملة من القواعد والمبادئ القانونية الدولية، التي قبلت بموجبها الدول الالتزام القانوني والأخلاقي بالعمل على تعزيز وحماية حقوق الإنسان والشعوب وحرياتها الأساسية).

المطلب الثاني: الأصول التاريخية لحقوق الإنسان

لاشك أن تطور حقوق الإنسان على النحو المتعارف عليه حاليا يرتبط بتطور البيئة الإنسانية على مر العصور المتعاقبة، وفي هذا الصدد نبحث في الخلفية التاريخية لحقوق الإنسان في ظل الحضارتين اليونانية والرومانية (الفرع الأول) ثم أثناء الحضارة الإسلامي (الفرع الثاني) والمرور بمرحلة التطور القانوني في كل من انجلترا والولايات المتحدة وفرنسا (الفرع الثالث) لنصل إلى مرحلة التنظيم الدولي لحقوق الإنسان (الفرع الرابع).

الفرع الأول: حقوق الإنسان في الحضارتين اليونانية والرومانية

خلال فترة الحضارة اليونانية، ميز أرسطو بين فئتين من الناس، اليونانيون الذين يمتازون بالفعل والإرادة، والبربر ذوي الطاقات البدنية التي تهيئهم الطبيعة لأن يكونوا عبيدا. كما رأى أفلاطون في جمهوريته الفاضلة بحرمان العبيد من حق المواطنة، وإجبارهم على الطاعة والخضوع للأحرار من سادتهم أو من السادة الغرباء، ومع ذلك لم يكن الوضع كله سوءا على المستوى التنظيري إذ ظهرت المدرسة الكلبية لتخفف من حدة التطرف الفكري والفلسفي اليوناني تجاه مسألة حقوق الإنسان، والتي تبعت خطاها بعد المدرسة الرواقية (430 – 490 ق.م) والتي كان من أهم مبادئها على الإطلاق، مبدأ الأخوة والذي يقضي بأن جميع البشر أخوان، وألغت ظاهرة العبودية والسيد والعبد، إذ تنظر هذه المدرسة أن جميع البشر أخوة مهما تباينت أصولهم وأجناسهم ولغاتهم، وذلك بإخضاعهم إلى قانون واحد هو القانون الطبيعي الذي لا يجوز أن يخالف من قبل نصوص القانون الوضعي.
أما في ظل الحضارة الرومانية، فقد تجاوزت فظائع إنتهاكات حقوق الإنسان في العصر الروماني كل أشكال الظلم والقهر التي شهدها الإنسان في الحضارات الأخرى. فقد كان الرقيق في العهد الروماني شيئا لا بشرا، فلا حقوق لهم، وكان سبب غزو الرومان لغيرهم هو لمجرد استعباد سكان الأقاليم التي تقع تحت إحتلالهم، وكان القانون الروماني يقسم الناس إلى وطنيين وأجانب، والأخيرون في الأصل أعداء، وهم سكان البلاد المجاورة لهم، والتي تقع على الضفة الأخرى للنهر. وما لم يرتبط هؤلاء الأجانب بروما بمعاهدة أو حلف فقد كان للرومان أن يستولوا عليهم وعلى أموالهم وممتلكاتهم وبالتالي كان مبدأ استباحة الآخرين هو أهم المبادئ التي قامت عليه عناصر القوة الرومانية في التعامل مع الآخرين من شعوب هذه الأرض، ومن ثم كان القانون الروماني يقسم العالم إلى ثلاث ديار هي دار الوطنيين، ودار الأعداء ودار المعاهدين والمحالفين.
ومع ذلك، لم يمنع هذا الوضع المتردي لحقوق الإنسان من ظهور مدرسة القانون الطبيعي، حيث ذهب معظم المفكرين والفلاسفة إلى اعتبار القانون الطبيعي مصدرا أساسيا للحقوق الثابتة للأفراد، فقد أعتبر "شيشرون" (106-43 ق م) القانون الطبيعي مرادفا للعقل وغايته تحقيق العدالة والفضيلة ما دام قد انبثق عن طبيعة إلاهية عادلة وفاضلة وأن الأفراد يكون متساوين في ظله. ومن جهته، بين "سينيكا" (4 ق م – 65 م) بأن الطبيعة هي التي تقدم الأساس الذي يعيش في ظله الأفراد  وأقر بمبدأ المساواة الإنسانية.  

الفرع الثاني: حقوق الإنسان في الحضارة الإسلامية

جاء الإسلام في فترة كان يسود فيها الظلم و الإستبداد والقهر وانتهاك كرامة الإنسان، وكانت رسالة السماء مجسدة في القرآن الكريم واضحة كل الوضوح على صعيد احترام حقوق الإنسان، حيث نادت بضرورة تحرير الإنسان من العبودية والرق والاستعباد وأقرت بمبادئ العدالة والمساواة وتحريم التمييز.
ويشير بعض الباحثون إلى أن الإسلام قد بلغ في الإيمان بالإنسان وبتقديس حقوقه إلى الحد الذي يتجاوز فيه الحقوق، عندما عدها ضرورات واجبة لهذا الإنسان فردية كانت أم جماعية، إذ لا سبيل إلى حياة الإنسان من دونها فلا يمكن التنازل عنها أو عن بعضها.
وتعد حقوق الإنسان من منظور الفكري الإسلامي منحا إلاهية تستمد من الشريعة الإسلامية وتستند إليها مصداقا لقوله عز وجل (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)، ومن أهم الحقوق التي ضمنتها الشريعة الإسلامية الحق في الحياة، المساواة، الحرية، العقيدة، حرية التعبير عن الرأي والشورى، حرية التنقل واللجوء، وحق العدل ،العمل، وحقوق المرأة والطفل.
إن الشريعة الإسلامية بقدر ما كرست قيم حقوق الإنسان، فإنها أيضا وضعت ضوابط تنتظم داخلها حقوق الإنسان وأسلوب ممارسته لحرياته العامة، ومن هذه القواعد: 
- كل شيء في الأصل مباح، وهي المساحة الواسعة التي يتصرف داخلها الفرد المسلم، ولا يقف إلا عندما يرد نص من الكتاب أو السنة بالتحريم.
- حدود حرية الفرد وحقه يقفان عند حدود حرية وحق فرد آخر (لا ضرر ولا ضرار).
- الالتزام بالمصلحة العامة عند التقاطع بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع.
- الالتزام بأخلاقيات الإسلام عند ممارسة الحريات والحقوق، فإذا جادل الفرد أن يجادل بالحسنى، وإذا دعا فعليه أن يدعو بالحكمة.
- القاعدة الأساسية في الإسلام لممارسة الحريات والحقوق في إطارها هي "الشورى" والتي تعد في الإسلام منهجا للسلوك وفلسفة في الحكم.
وبخصوص مساهمة الحضارة الإسلامية في القواعد المتعلقة بخصوص الإنسان، يقول القاضي "جاكسون": (إننا مدينون للحضارة الإسلامية بالشيء الكثير، كما تظهر تقاريرنا القانونية وأن التجربة الإسلامية لديها الكثير الذي تستطيع أن تعلمنا إياه).

الفرع الثالث: مرحلة التأطير الدستوري لحقوق الإنسان

دخلت حقوق الإنسان إطارها القانوني لتأخذ هذه الحقوق أبعادها الحقيقية وتتحول إلى نصوص قانونية ملزمة بفعل تطور الفكر الفلسفي والقانوني متخذة شكل "إعلانات الحقوق" ومضمنة في وثائق دستورية  في كل من إنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.

أولا: المصادر القانونية لحقوق الإنسان في إنجلترا

مع بداية عصر النهضة في القرن الثالث عشر الميلادي، صدرت في إنكلترا الوثيقة الكبرى (الماكنا كارتا  Magnacarta) في عام 1215، على أثر ثورة عارمة معادية لطغيان الملك، وعدلت أكثر من مرة لتحمل فيما بعد تسمية العهد الأعظم. ومن بين ما تضمنته هذه الوثيقة عدم سجن أي شخص أو القبض عليه أو مصادرة أملاكه بغير سند قانوني، كما نصت على حرية التنقل وحرية التجارة وعدم فرض ضرائب دون موافقة البرلمان.
أما "عريضة الحقوق Petition of Rights" التي أرسلها البرلمان الإنكليزي إلى الملك (شارل الأول) في عام 1628، والقانون الإنكليزي للحقوق لعام 1689 بشأن حقوق الإنسان، فقد تضمن كل منها خطوات أخرى باتجاه مزيد من التبلور ومزيد من الضمانات، فقد أكدت الوثيقتان عدم جواز القبض على إنسان أو سجنه من غير سند قانوني، وعدم جواز فرض الأحكام العرفية في زمن السلم، وعدم جواز فرض ضرائب إلا بموافقة البرلمان.

ثانيا: المصادر القانونية لحقوق الإنسان في الولايات المتحدة الأمريكية

يعد إعلان فرجينيا الذي صاغه "جورج ماسون"  أول تقنين لحقوق الإنسان، فقد تضمن حريات محددة مثل حرية الصحافة وحرية ممارسة الشعائر الدينية والالتزام بعدم سلب حرية أي شخص إلا بقانون. وأعقب هذا الإعلان صدور وثيقة الاستقلال في سنة 1776 الذي صاغه "توماس جيفرسون" ومن بين ما جاء في مقدمته أن البشر كلهم خلقوا متساوين وأنهم موهوبون من عند خالقهم بحقوق معينة غير قابلة للانتزاع ومن بينها حق الحياة والحرية.
أما الدستور الأمريكي لعام 1787 فلم يتضمن حين وضعه حقوق الإنسان، ولم يتأتى ذلك إلا بعد مجموعة التعديلات التي طرأت عليه (بين سنة 1789 و 1791) والتي سميت بإعلان الحقوق، والذي تضمن بصورة عامة حرية العقيدة وحرمة النفس والمال والمنزل وضمانات التقاضي وتحريم الرق والمساواة في الانتخاب.       

ثالثا: المصادر القانونية لحقوق الإنسان في فرنسا

كانت الوثيقة الأولى لحقوق الإنسان في فرنسا هي إعلان حقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789، الذي جاء نتاجا للثورة الفرنسية التي اقترنت كلمتا الحرية المساواة بها، ويعد هذا الإعلان أولى الوثائق المدونة التي سميت بإسم (حقوق الإنسان). وقد بيٌن "فريديريك سيدر Frédéric Sudre " بأن الإعلان الفرنسي لسنة 1789 ليس إعلانا موجها للمواطنين الفرنسيين فقط، وإنما لكل “إنسان” مهما كانت جنسيته، أو الرقعة الجغرافية التي يعيش فيها.
وقد تضمن الإعلان مبادئ الثورة الفرنسية وبين أن الشعب هو مصدر المسلطات، وأكد في المادة الأولى منه على أن الناس ولدوا أحرار ومتساوين في الحقوق، بينما أبرزت المادة الثانية منه بعض الحقوق المتمثلة في الحرية والملكية والأمن ومقاومة الطغيان والظلم. وقد تم تبني الإعلان في مختلف الدساتير الفرنسية المتعاقبة والتي كان آخرها دستور عام 1958 .

الفرع الرابع: مرحلة التنظيم الدولي لحقوق الإنسان

لفهم التنظيم الدولي لحقوق الإنسان، لا بد أن نتناول مراحله بإيجاز كما يلي:

أولا: تنظيم حقوق الإنسان قبل إنشاء هيئة الأمم المتحدة

بدأ التنظيم الدولي لحقوق الإنسان في أواخر القرن التاسع عشر، فقد تم عقد العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية والجماعية كانت بيئتها الأولى دول أوروبا، ومن بين هذه الإتفاقيات معاهدة باريس لعام 1814 بين بريطانيا وفرنسا الخاصة بمكافحة الرقٌ والاتجار به من خلال زيارة وتفتيش السفن التي يشتبه بتورطها بعمليات نقل الرقيق. وأيضا اتفاقية برلين لعام 1855 لتحريم الاتجار بالرقيق الأبيض، واتفاقية بروكسل لعام 1889 التي أقرت تدابير تنفيذية للقضاء على تجارة الرقيق، واتفاقية لاهاي لعام 1912 لتحريم الاتجار بالمخدرات، واتفاقية عام 1903 للعناية بصحة الفرد.
كما عرف القانون الدولي العرفي بعض المبادئ في مجال حماية حقوق الإنسان، ومنها قاعدة التدخل لأغراض إنسانية الذي طبقته بادئ الأمر الدول الأوربية ضد الدول الضعيفة خارج القارة الأوربية، فضلا عن قواعد القانون الدولي الإنساني المتعلقة بضحايا الحرب التي نشأت أصلا بعرف دولي تجسد منذ عام 1864، ومن ثمة في اتفاقيتي لاهاي لعام 1899 و 1907.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، أنشئت عصبة الأمم أين لم يتضمن عهدها أية مبادئ عامة قابلة للتطبيق تتعلق بحقوق الإنسان، إلا أن جميع صكوك الانتداب قد ألزمت الدول المنتدبة بالعمل على رفع المستوى الثقافي والمادي لشعوب الأقاليم التي أخضعت للإنتداب، وبأن تكفل لسكانها حرية العقيدة وتحريم السخرة والإتجار بالرقيق. هذا إلى جانب الجهود الدولية لجعل مبدأ حماية الأقليات قاعدة من قواعد القانون الدولي العام، على من انه كان نظاما استثنائيا يسري على بعض الدول ولا يضمن إلا حماية بعض الحقوق.

ثانيا: تنظيم حقوق الإنسان في ظل هيئة الأمم المتحدة

بعد الذي شهدته الإنسانية من ويلات الحرب العالمية ومآسيها من إبادة للجنس البشري والإعدام الجماعي للأسرى والمدنيين والانتهاك المستمر لحقوق الإنسان وحرياته، أصبحت حماية حقوق الإنسان هدفا ذا أولوية للجماعة الدولية، وتحقيقا لهذا الغرض أنشئت هيئة الأمم المتحدة.
تضمن ميثاق الأمم المتحدة صياغة لحقوق الإنسان تكرست عبر ديباجته التي أكدت على الإيمان بالحقوق الأساسية وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية.
وتناولت المواد 1، 13، 55، 56، 60، 62 و 68 من الميثاق حقوق الإنسان وحرياته ووجوب مراعاتها.
كما أنشأ الميثاق عددا من الأجهزة الرئيسية كان من بينها المجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي أنشأ بدوره لجنة دولية هي لجنة حقوق الإنسان عام 1946، التي تتمتع بنظام قانوني خاص واختصاصات تتعلق بتعزيز الاعتراف بحقوق الإنسان وكفالة احترامها ووضع التوصيات ومشاريع الاتفاقيات الدولية اللازمة لتحقيق هذه الأغراض. لذا فإن إدراج حقوق الإنسان في ميثاق الأمم المتحدة كرس مجموعة من الأبعاد القانونية كان أهمها تقنين حقوق الإنسان في شكل صكوك دولية ذات أوجه متعددة، لينشأ ما أطلق عليه إسم الشرعة الدولية لحقوق الإنسان International Bill of Human Rights.[2]

قائمة المراجع:

  1. شوقي سمير، محاضرات في حقوق الإنسان، جامعة محمد لمين دباغين – سطيف02، الجزائر.
  2. بوجلال صلاح الدين، محاضرات في قانون حقوق الإنسان، جامعة سطيف 2،الجزائر، السنة الجامعية 2013-2014


[1] شوقي سمير، محاضرات في حقوق الإنسان، جامعة محمد لمين دباغين – سطيف02، الجزائر، ص 2 إلى ص 6.
[2] بوجلال صلاح الدين، محاضرات في قانون حقوق الإنسان، جامعة سطيف 2،الجزائر، السنة الجامعية 2013-2014، ص4 إلى ص10.
google-playkhamsatmostaqltradent