تفسير القانون

تفسير القانون

تفسير القانون
إن قاعدة القانون توضع مجردة، ولكي تطبق على أوضاع الواقع الحي، فغالبا ما تحتاج إلى تفسيرها، وقد يقوم بالتفسير المشرع نفسه، فيصدر تشريعا تفسيريا وهذا النوع من التفسير نادر في الواقع، كما يقوم بهذه المهمة الفقه مما يساهم في تكوين اتجاهات فكرية تساعد القاضي في تطبيقه للقانون، والمشرع في إعداده للقانون وتعديله بما يتناسب مع تطور المجتمع لكن التفسير بالمعنى الصحيح للكلمة غالبا ما يقوم به القضاء من خلال اجتهاده jurisprudence لإعطاء القاعدة معناها الحقيقي.[1]

المبحث الأول: مفهوم التفسير وأنواعه

المطلب الأول: تعريف التفسير

التفسير هو بيان الحكم القانوني الأمثل الذي يستدل عليه من النص لتطبيقه على الفرد لتحديد الحكم أمام القاضي أو الفقيه.
ولتفسير القواعد القانونية يوجد اتجاهان في الفقه:
الأول: اتجاه موسع: يقصد من التفسير معرفة المعنى الذي تتضمنه القاعدة القانونية، وبالتالي يطبق هذا المعنى على جميع القواعد القانونية أيا كان مصدرها (تشريع، عرف....).
الثاني: اتجاه مضيق: يقتصر التفسير على القواعد القانونية التشريعية، لأن التشريع يرد في مواد مختصرة مما يؤدي إلى صعوبة في معرفة حكم النص ولهذا يقتصر التفسير على التشريع فقط.

المطلب الثاني: أنواع التفسير

ينقسم التفسير إلى ثلاثة أنواع: تشريعي وقضائي وفقهي.

الفرع الأول: التفسير التشريعي

هو التفسير الذي يضعه المشرع ليبين حقيقة ما يقصده من النص إذا ظهر له أن المحاكم لن تهتدي إلى حقيقة النص.
والتفسير التشريعي له صورتان:
1- الصورة الأولى: وتتمثل في حالة صدور القاعدة المفسرة مع نفس النص الأصلي وفي نفس الوقت.
2- الصورة الثانية: في حالة ما إذا وقع خلاف في التطبيق بين الفقه والقضاء لمعرفة قصد المشرع، يتدخل هذا الأخير بنفسه – في وقت لاحق - ويضع نصا تفسيري.
والأصل أن يصدر التفسير التشريعي من نفس السلطة التي أصدرت التشريع، كأن يقوم البرلمان نفسه بتفسير القوانين الصادرة عنه.
ويرى الفقه في التفسير التشريعي أنه ملزم للقاضي لأن المشرع يفضح بالتفسير عن قصده بوضوح وبالتالي يعتبر عملا تشريعيا يلتزم به الأفراد وتطبقه المحاكم.

الفرع الثاني: التفسير القضائي

وهو الذي يقوم به القضاة أثناء نظر الدعاوى المطروحة عليهم لمعرفة حكم القانون.
والقضاء يعتبر مصدرا تفسيريا للقانون، ويتميز بعدة خصائص:
- التفسير القضائي يكون بمناسبة نزاع مطروح أمام المحاكم، بمعنى أن الأفراد لا يستطيعون اللجوء للقضاء لتفسير النصوص دون نزاع.
- المحكمة ملزمة بالتفسير من تلقاء نفسها دون أن يطلبه الخصوم.
- تفسير القاضي يتأثر بظروف الدعوى فيأتي ملائما لها من أجل تحقيق العدالة.
- التفسير القضائي غير ملزم للمحاكم الأخرى، فالقاضي لا يلتزم بالتفسير الذي أصدره فيجوز له أن يخالف التفسير السابق له في دعوى مماثلة.
ورغم أن التفسير غير ملزم، إلا إن المحكمة العليا (محكمة النقض) تختص بتفسير القانون ويكون قرارها بالتفسير ملزما للمحاكم الأخرى.

الفرع الثالث: التفسير الفقهي

يقوم به فقهاء القانون في مؤلفاتهم أو أبحاثهم، وهو تفسير نظر لا يرتبط بنزاع أو حالة معينة بل يهدف إلى إيجاد حلول مجدية لحكم القانون.
يوجد تعاون وثيق بين الفقه والقضاء في تفسير القوانين واستخلاص الأحكام والمبادئ القانونية الملائمة، خاصة من خلال التعليق على الأحكام.
وخلاصة القول أن التفسير غايته تحديد مضمون أو معنى القاعدة القانونية سواء من حيث: الفرض الذي تواجهه ومعرفة شروط تطبيق القاعدة القانونية أو من حيث تحديد معنى الحكم.

المبحث الثاني: مذاهب التفسير

إذا كان المقصود من التفسير هو توضيح المعنى، أي قصد المشرع عند إصدار القاعدة القانونية، فإنه على القاضي أو الفقيه البحث عن نية وإرادة المشرع عند تفسير تشريع معين فهذه الإرادة هي التي تحدد معنى التشريع.
وقد تعددت الاتجاهات والمدارس في تفسير القانون، حيث يمكن أن نجملها في ثلاثة مذاهب رئيسية:
- مذهب الشرح على المتون (التزام النص).
- المذهب التاريخي.
- المذهب العلمي.

المطلب الأول: مذهب الشرح على المتون

يرجع هذا المذهب إلى فرنسا حيث نشأ مع وضع تقنينات نابليون، حيث نظر رجال القانون إلى هذه التقنينات نظرة إجلال واحترام ورأوا أنها تضمنت كل الحلول التشريعية في كافة المسائل والحياة القانونية، بحيث أن شرح القانون وتفسيره لا يتم إلا من خلال هذه النصوص وأن يكون بنفس الترتيب الذي ورد فيها، أي ضرورة الالتزام بالنص ولذا سميت مدرسة الشرح على المتون أي النصوص.
وترى هذه المدرسة أن القوة الملزمة للقانون ما هي إلا إرادة السلطة العليا الملزمة في الدولة ولذلك لا تعترف بغير التشريع كمصدر للقواعد القانونية.
وترى مدرسة الشرح على المتون أن المقصود من إرادة المشرع هو "الإرادة الحقيقة" وقت وضع التشريع لا تطبيقه حتى إذا تغيرت الظروف.
فإذا توصلنا لإرادة المشرع الحقيقة نكون حددنا المعنى المقصود من التشريع ويجب عندئذ الأخذ بهذا المعنى ولا يجوز تغييره.
وإذا تعذر الوصول إلى الحكم عن طريق معرفة إرادة المشرع الحقيقة يمكن الأخذ "بإرادة المشرع المفترضة" ويكون ذلك أيضا بالنظر إلى وقت وضع التشريع حيث يفترض عدة فروض ويبني عليها الحكم وقت وضع التشريع فالعبرة هنا بوقت التشريع كما هو الشأن في الإرادة الحقيقة.
وخلاصة القول أن العبرة في الإرادة سواء كانت حقيقة أو مفترضة هي بوقت وضع التشريع.
وتنتقد هذه المدرسة بأنها تجمد النصوص ولا تخرج عن معناها ولو تغيرت الظروف نظرا لتقديسها للنصوص والاعتقاد بكمالها.

المطلب الثاني: المذهب التاريخي

يقوم فكر المذهب التاريخي (الذي ينسب للفقيه الألماني "سافيني Savigny" على ان القانون وليد المجتمع.
ويرى هذا المذهب أن النصوص القانونية تنفصل عن إرادة المشرع بعد وضعها ويكون لها كيان مستقل وذاتي، ولذلك يجب تفسيرها بحسب ظروف الزمان والمكان وحاجات المجتمع وقت تفسير النصوص.
وهذا الفكر مرن يجعل للقانون نوع من التطور ومسايرة الظروف الاجتماعية وتنتقد هذه المدرسة التاريخية أنها تهمل إرادة المشرع كلية بعد وضع التشريع وجعل دوره مادي، وتوسع من صلاحيات المفسرين مما قد يؤثر على التشريع وفقا لأهوائهم الشخصية مما يحولهم إلى مشرعين للقانون.

المطلب الثالث: المذهب العلمي

ينسب فكر هذا المذهب للفقيه الفرنسي "جيني Geny"، ويهتم بالمصدر المادي للقانون، إذ أن التشريع لا يمثل المصدر الوحيد للقواعد القانونية.
يتفق هذا المذهب مع المذهب التاريخي بأنه يجب لتفسير النص البحث وراء قصد المشرع الحقيقي وقت وضع التشريع فإذا عرف هذا القصد وجب تطبيقه مهما كانت درجة ملائمته مع الظروف الاجتماعية.
فإذا لم نتوصل إلى القد الحقيقي للمشرع وجب البحث عن حكم القانون في المصادر الأخرى وأهمها العرف، فإذا لم يوجد يبحث في المصادر المادية أي الظروف والملابسات التي أوجدت النص، والمتمثلة في مختلف العوامل: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .. إلخ.
وللمفسر حرية استعمال وسائل البحث العلمي دون النظر للإرادة المفترضة التي تبحث عنها المدرسة التاريخية.

المبحث الثالث: طرق التفسير

يقصد بطرق التفسير الكيفيات والمناهج التي يستخدمها القضاة والفقهاء للوصول إلى تحديد معنى القاعدة القانونية، وهي:
- طرق داخلية: تعتمد على النصوص التشريعية المراد تفسيرها.
- طرق خارجية: تعتمد على غير النصوص في تفسيرها.

المطلب الأول: الطرق الداخلية للتفسير

تعتمد على استخلاص معاني النصوص من خلال صيغ النص نفسه سواء كان تفسيرا للمصطلحات أو للجملة كاملة.
ويعتمد التفسير على الأبحاث اللغوية وهو الناحية الشكلية، او فحوى النص من الناحية الموضوعية.
وقد يحدث أن يكون للنص معنيان احدهما لغوى والآخر اصطلاحي أي جرى العمل على استعماله فيه وإن لم يتفق مع المعنى اللغوي، وفي هذه الحالة يحمل النص بمعناه الاصطلاحي إذا تبين أن المشرع لم يقصد المعنى اللغوي.
ويعتمد التفسير في استخلاص معنى النص من فحواه أو روحه عن طريق ما يلي:
أولا- القياس: وهو نوعان:
أ- القياس العادي أو مفهوم الموافقة: القياس هو إعطاء واقعة غير منصوص عليها بواقعة أخرى منصوص عليها حكما ثابتا بالنص لاشتراك الواقعتين في العلة من الحكم.
ومعنى ذلك أن القياس يفترض واقعتين أحدهما نص على حكمها والأخرى لم ينص فيها على حكم فتأخذ حكم الواقعة الأولى لاتفاقها مع العلة أي السبب الذي قام عليه الحكم.
ومثال ذلك: نص قانون العقوبات على انه لا تجوز محاكمة جرائم السرقة التي تقع بين الأصول والفروع إلا بناء على طلب من المجني عليه وذلك للحفاظ على الروابط الأسرية.
ولكن ما الحكم إذا كان الفرض وقوع جريمة نصب بين الأصول أو الفروع؟
في هذه الحالة يجوز القياس على الجريمة الأولى وتطبيق ذات الحكم لاشتراكهما في العلة وهي الحفاظ على الروابط الأسرية.
ب- القياس الجلي أو من باب أولى: يفترض وجود واقعتين أحدهما نص المشرع على حكمها لعلة معينة والثانية لم ينص على حكمها ولكن علة الأولى تتضح بجلاء في الثانية، وفي هذه الحالة تأخذ نفس الحكم.
ثانيا- مفهوم المخالفة: يفترض قيام واقعتين إحداهما نص على حكمها والثانية لم ينص على الحكم ولكن بتطبيق مفهوم المخالفة نصل إلى الحكم الثاني.
مثال: نص القانون المدني في المادة 42 (فقرة الثانية) "يعتبر غير مميز لم يبلغ ثلاث عشرة سنة"، ومعنى ذلك ان من بلغ الثالثة عشر يعد مميزا.
وهذا الحكم عن طريق الاستنتاج بمفهوم المخالفة بالرغم من اختلاف الفرضين فيما يتعلق بمسألة السن.

المطلب الثاني: الطرق الخارجية للتفسير

- يمكن تفسير النصوص التشريعية عن طريق وسائل خارجية عن النص وهي:[2]
أولا: حكمة التشريع: حكمة أو نية المشرع ويقصد بها الغاية التي من أجلها سن المشرع القانون، لأنه متى اتضحت الغاية، اهتدى المفسر للكشف عن الغموض الذي يكتنف نصا معينا.[3]
ثانيا- الأعمال التحضيرية: ويقصد بها مجموعة الوثائق التي تبين مختلف المراحل التي مر بها النص وتتمثل في مشروع أو اقتراح القانون، ورغم ما لهذه الوثائق من أهمية في الكشف عن أسرار النصوص ومقاصدها، إلا انه ينبغي توخي الحذر في الاستعانة بها، لأنها كثيرا ما تتضمن آراء فردية ووجهات نظر خاصة.[4]
ثالثا- المصادر التاريخية: عند إصدار القوانين الجديدة يستهدى المشرع بالقوانين القديمة، لأن التشريع الحديث ما هو إلا تطوير للتشريع السابق، حيث يعدل من أحكامه سواء بالزيادة أو الحذف.
وبناء على ذلك يمكن تفسير التشريعات الجزائرية الوضعية المستمدة من القوانين الفرنسية بالرجوع إلى نصوص القانون الفرنسي باعتباره مصدرا تاريخيا لتلك التشريعات (القانون الاستعماري)، كذلك يتعين الرجوع لأحكام الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي لتفسير النصوص المستمدة من هذه الأحكام، كما هو الحال بالنسبة لقانون الأسرة.
رابعا- النص الأجنبي للتشريع: لكل دولة لغتها الرسمية، وقد نص الدستور الجزائري على أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية في البلاد.
ونظرا لاعتبارات معينة، فقد تحرر التشريعات – بداءة – باللغة الفرنسية ثم تترجم إلى اللغة العربية (وهو وضع غير طبيعي يجب العدول عنه)، فإذا كان النص الرسمي غامضا وهو النص العربي، جاز للمفسر أن يرجع إلى النص الفرنسي (كنص أولي وأصلي) لمعرفة المشرع ومعنى النص ولكن دون إلزام.
خامسا- تقريب النصوص: إذا كان النص غامضا، وهو ضمن مجموعة من النصوص، يجوز للمفسر أن يقرب النصوص لاستجلاء معنى التشريع عن طريق المقارنة للنصوص بعضها بالبعض الآخر، لأن تجميعها قد يؤدي غلى تحديد الإرادة الحقيقة للمشرع.
أمثلة:
- قد يحتاج تفسير القانون البلدي الرجوع إلى قانون الولاية أو القانون الدستوري.
- وقد يحتاج لتفسير قانون الأسرة الرجوع إلى القانون المدني.[5]

المراجع:


  1. بعوش دليلة، محاضرات في مقياس المدخل إلى العلوم القانونية، موجهة لطلبة السنة الأولى- جذع مشترك-، جامعة قسنطينة -1- الجزائر، السنة الجامعية 2014-2015.
  2. محمد الصغير بعلي، المدخل للعلوم القانونية (نظرية القانون – نظرية الحق)، دار العلوم، الجزائر، السنة 2006


[1] بعوش دليلة، محاضرات في مقياس المدخل إلى العلوم القانونية، موجهة لطلبة السنة الأولى- جذع مشترك-، جامعة قسنطينة -1- الجزائر، السنة الجامعية 2014-2015 ، ص31.
[2] محمد الصغير بعلي، المدخل للعلوم القانونية (نظرية القانون – نظرية الحق)، دار العلوم، الجزائر، السنة 2006، ص من 66 إلى 74.
[3] بعوش دليلة، المرجع السابق، ص34.
[4] بعوش دليلة، نفس المرجع، ص33.
[5] محمد الصغير بعلي، المرجع السابق، ص76-77.
google-playkhamsatmostaqltradent