المنهج التاريخي

المنهج التاريخي 

المنهج التاريخي

مقدمة

إن البحث التاريخي هو تسجيل ووصف للأحداث الماضية والوقائع وتحليلها وتفسيرها على أسس منهجية علمية دقيقة لفهم الحاضر والمستقبل.

وهذا المنهج يستخدمه الباحثون الذين يريدون معرفة الأحوال والأحداث التي جرت في الماضي، لأنها على الدوام تستثير الإنسان وتشده إليها.

 ويهتم الباحثون اليوم بمنهج البحث التاريخي خاصة، لاتساع الميادين التي يمكن استخدامه فيها، فهو إضافة لاستخدامه في التاريخ، فٳنه يستخدم أيضا في ميادين العلوم الطبية، والقانون، والطب، والدين، وغيره، من ٲجل التحقق من صدق الحقائق والمعلومات القديمة، لٲن هناك كثير من الباحثين قد ٲغفلوا أهداف وطرائق البحث التاريخي الدقيقة، وانهمكوا في الكتابة التاريخية لتمجيد الدولة والسلطة بدلا من هدف الوصول إلى الحقائق الموضوعية.

وهذا مما جعل المؤرخون يسعون إلى استرجاع تلك الخبرات الإنسانية الماضية بطريقة لا تنتهك الحوادث والظروف، لذا فهم يجمعون المعلومات ويبحثونها ويدققون فيها وفق معايير خاصة وبالتالي عرضها وتفسيرها بطريقة أمينه، ليصبح البحث التاريخي باحثا عن الحقيقة حتى في البحوث غير التاريخية من خلال أدوات بحثه وطرائقه التي استقر عليها الباحثون لتقييم الدراسات السابقة في الميدان.

وهناك اعتبارات هامة لتطبيق منهج البحث التاريخي في البحث، حيث أن الدراسة التاريخية لا تنحصر في جمع المعلومات والبيانات عن الظاهرة، بل تتطلب بعض المهارات والاعتبارات التي ينبغي على الباحث ملاحظتها إذا ما أراد أن يطبق طريقه علميه في البحث، وهي:

1. إن الحقائق والأحداث والبيانات ليست غاية في حد ذاتها، بل  وسيلة للوصول  إلى نتائج قائمة على التحقيق والإثبات والتفسير. وعليه ينبغي ألا ينظر إليها بصورة منعزلة عن عصرها وإبعاد الحياة ومكوناتها التي أثرت فيها وتأثرت بها.

2. إن المادة التاريخية ليست تجربة يمكن إعادتها والتأكد من صحتها، ولذلك يلجٲ الباحث إلى السجلات والآثار الباقية، وعلى مشاهدات وروايات، ولذا فإنها تحتاج إلى معايير دقيقه للنقد الداخلي والنقد الخارجي والتحقق من صحتها وصدق مضمونها.

3. إن معظم الظواهر التاريخية لا يفسرها سبب واحد تفسيرا كافيا بل هناك عدة أسباب متعددة ومتنوعة، وهذا يتطلب من الباحث عدم الاعتماد على أهم الأسباب والظروف المسببة للحادثة، بل كل ما يرتبط بها، ويتفاعل معها.

4. هناك خصائص واتجاهات ينبغي توافرها في كل باحث، خاصة في ميدان البحث التاريخي للتأكد من صحة الفكرة التي لا يمكن إخضاعها للملاحظة المباشرة، وهي مراعاة الدقة، والصحة، والأمانة الفكرية، وعدم التحيز للأهواء والرغبات الشخصية والعنصرية، والعقائدية، وتوخي كفاية الأدلة للتوصل إلى النتائج والأحكام.

وهناك اختلافات في الآراء حول إمكانية تطبيق طريقة علمية في البحث التاريخي فالتحكم والضبط المقصود للمتغيرات يرتبط بالتجربة العلمية، وهذا يخص المنهج التجريبي أكثر مما يخص المنهج التاريخي، فلا يستطيع الباحث التاريخي أن يلاحظ الظاهرة مباشرة، ولا يستطيع إعادتها مرة أخرى بنفس الأسلوب والمحتوى الذي حدثت فيه بالماضي، إلا أن هذا لا يمنع الباحث التاريخي من مراعاة وتطبيق المنهج العلمي في ميدان الدراسات التاريخية. فالتجربة ليست وحدها ما يفرق بين منهج علمي وآخر غير علمي، ولا القوانين والتعليمات وحدها هي التي تفرق أيضا، بل إن هناك معايير وخصائص متعددة، كالدقة والموضوعية والامانة الفكرية والقياس الكمي وإدراك العلاقات. والتي يمكن مراعاتها في المنهج التاريخي، فضلا عن استخدامه أسلوب فرض الفروض والتحقق منها وتحليل وتفسير النتائج بعد تحديد المشكلة وجمع البيانات اللازمة لها.

 كل هذا يجعل من البحث التاريخي منهج علميا، ومن مادته مادة علمية، إلا أن هناك بعض الصعوبات التي تواجه تطبيق الطريقة العلمية في منهج البحث التاريخي أكثر مما في البحوث الطبيعية. وهذا يتضح من فحص المصادر ووضع الفروض وطبيعة المصطلحات الفنية والتعميم، والتنبؤ. فليس للباحث التاريخي إمكانية الوصول إلى نفس دقة الباحث الطبيعي، وذلك لطبيعة الظاهرة المتعامل معها، فالباحث الطبيعي يتعامل مع مادة يمكن ضبطها وقياسها وطبيعة تفاعلاتها وما تنتجه من نواتج. أما الباحث التاريخي فٳنه يتعامل مع أحداث سابقة. ومن الصعوبة السيطرة عليها بإحكام، ولا يمكن إعادتها تحت نفس الظروف التجريبية لملاحظتها فضلا عن الصعوبات التي تثيرها المصطلحات الفنية إلا أن صدقها يمكن تحقيقه من خلال النقدين الداخلي والخارجي المحكمين.

أما بالنسبة للتعميم والتنبؤ فٳن هناك إجماع للباحثين من أن التنبؤات في البحث التاريخي لا تكون بنفس الدقة التي هي عليها في العلوم الطبيعية، هذا على الرغم من أن هناك آراء مختلفة حول التعميم والتنبؤ، فبعضهم يرى أن الحقيقة عندما تصبح أساسا لقاعدة عامة فإنها تدخل ميدان آخر كالعلوم الطبيعية أو الاجتماعية وتفقد صلتها بالتاريخ، بينما يرى آخرون أن إمكانية التوصل إلى تعميمات وقوانين تساعدنا على توقع ما سيحدث في المستقبل.

ومنهج البحث التاريخي لا يقتصر على الدراسات التاريخية فقط بل يستخدم في ميادين أخرى كالعلوم الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية.[1]

أهمية المنهج التاريخي:

المنهج التاريخي هام جدا للاعتبارات التالية:

1- اتساع مجالات استخدامه، فهو لا يقتصر على التاريخ، وإنما يستخدم في العلوم الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وغيرها ما دام المطلوب التعرف على حادثة بشرية مضت وانقضت، أو تطورت عبر الماضي، حتى وصلت إلى الحاضر.

2- يستخدم في التعرف على أدبيات البحث السابقة.

3- يسمح بإجراء المقارنات بين المراحل المختلفة، من مراحل تطور الظاهرة المدروسة.

4- يتيح هذا المنهج معرفة تطورات المشكلات وحلولها سابقا، وايجابيات، وسلبيات هذه الحلول.

5- يقدم الذاكرة الجماعية.[2]

إجراءات البحث التاريخي

إن منهج البحث التاريخي يتطلب القيام بالإجراءات الآتية:

1. انتقاء المشكلة.

2. جمع المادة التاريخية.

3. نقد المادة التاريخيّة.

4. صياغة الفروض التي تفسر الأحداث.

5. تفسير النتائج وكتابه تقرير البحث.

 هذه هي الإجراءات المعتمدة في البحث التاريخي وسنتناول كل واحده منها بالتفصيل:

أولا: انتقاء المشكلة

أن أي بحث من البحوث لا يقوم دون وجود مشكله تتطلب حلا، والبحث الرصين ليس هو مجموعه الأدوات والطرائق العلمية التي تؤدي إلى كومه من غير معنى من الإحصائيات والحقائق المتجمعة. وحلول المشكلات لا يتأتى عن طريق اللعب بأدوات البحث. بل إن البحث الرصين هو الذي يهدف إلى تحقيق هدف معين، ويتوصل بالوسائل العلمية توصلا ذكيا، وصولا لتحقيق ذلك الهدف، ضمن خطه علمية محدده الخطوات.

وهذا يحتاج من الباحث إصرارا ومثابرة، وتحملا للصعاب في سبيل الوصول إلى النتائج المرجوة، ومن ثم تصميمها قدر الإمكان.

والباحث التاريخي يحتاج إلى قدره متميزة في عزل العوامل التي تعقد من طبيعة المشكلة. ولذا تعتبر خطوه للتعرف على المشكلة وتحديدها، إحدى الخطوات الحاسمة في البحث. وكم من باحثين يتعلقون بأيه حادثه ويعتبرونها مشكله، ويجمعون عنها معلومات متشبعة تمتد إلى شهور وأعوام، ويغوصون في موضوعات غامضة، ليصلوا إلى نتائج مذهله من الأرقام والحقائق التي لا معنى لها. وسبب كل ذلك أنهم لم يحددوا المشكلة مسبقا، ولم يعرفوا ما الذي يريدون الوصول إليه.

ويشير جون ديوي إلى أن المشكلة تتبع من الشعور بصعوبة ما، فإذا ما تسببت بأحداث حيره أو إضراب لدى الفرد. فان عدم الارتياح المقلق الذي يؤرق حالته العقلية، وهدوء لا يزول إلا عندما يتعرف على المشكلة، أي ما يحيره، ويجد بعض الوسائل التي توصله إلى الحل.

 فالباحث إذا ما تملكه إحساس بان شيئا ما خاطئ أو يحتاج إلى تفسير، واستبد به الشوق وصولا إلى تصور واضح للمسببات لهذا الحدث، فانه يكون قد وضع أولى خطواته نحو التعرف على المشكلة وتعيينها. وهذا لا يعني أن هناك مشكله، بل هو تعيين للميدان الذي توجد فيه مشكله من المشكلات. فالحمى مثلا لا تعني مشكله بحد ذاتها في الطب. بل هي ميدان لان تكون هناك مشكله تتطلب فحصا طبيا وتشخيصا للحالة التي سببت الحمى.

 ولهذا يتطلب من الباحث في ميدان البحث التاريخي أن يضيق المشكلة ويحددها إلى الحجم الذي يستطيع معالجته بالوسائل المتوفرة لديه. فالتعرف على المشكلة وتعيينها بصوره دقيقه ووضع أسس تحليلها على صوره محاكمه عقليه قبل البدء بالتنفيذ الإجرائي يعتبر خطوه أوليه مهمة لأي باحث وخاصة في البحث التاريخي.

 إذن لا بد للباحث في منهج البحث التاريخي أن يلم بالمشكلة من خلال قراءات حول المشكلة وصياغتها بعبارات بسيطة وواضحة ومحكمه، ومعرفه الدراسات السابقة المتعلقة بها. وقد تبدو هذه الأمور سهله للقارئ الباحث المبتدئ، إلا أنها غالبا ما تكون صعبه وذلك لقلة المعلومات المتوافرة عنها.

كما ينبغي أن تتوافر بعض المواصفات عند اختيار مشكله ما في البحث التاريخي وهذه المواصفات هي:

1. أن يقتنع الباحث بالمشكلة التي يراد دراستها.

2. أن تحدد المشكلة بصوره واضحة، ويمكن دراستها وتحليلها.

3. ألا يكون اختيار المشكلة عشوائيا وسطحيا.

4. أن تتوافر الرغبة في اختيار المشكلة دون تحليل أو ضغط.

5. أن تكون هناك حاجه لدراسة المشكلة.

6. أن تتوافر المصادر والمعلومات والزمن الكافي في البحث للقيام ببحثه التاريخي.

ثانيا: جمع المادة التاريخية

بعد أن يحدد الباحث مشكلته في البحث التاريخي، يقوم باستعراض كل ما يدل عليها من أحداث ليقوم عليها الدليل. ويعتبر الوصول إلى المصادر الأولية واحدا من الأهداف النهائية للباحث حتى عند اعتماده على مصادر ثانوية لبحثه.

وهذا يتطلب مهارة في التمييز بين المصادر الأولية، والمصادر الثانوية وليس الأمر سهلا، بل هو على جانب من الصعوبة، حيث يشير فان دالين إلى صعوبة الفصل أحيانا بين المصادر الأولية والثانوية، خاصة في حاله تضمن المصدر الواحد معلومات أولية وثانوية في نفس الوقت. هذا إلى جانب الصعوبة التي يواجهها الباحث التاريخي في الكشف عن حوادث ووقائع لم يعاصرها ولا يستطيع أن يخضعها للملاحظة المباشرة.

‌أ. المصادر الأولية (الأصلية): وهي تتضمن:

1. ما يقوله الأشخاص الأكفاء الذين شهدوا الحادثة أو الواقعة التاريخية بعيونهم أو سمعوها بأذانهم.

2. المواد العينية التي استخدمت في الماضي والتي يمكن فحصها. إذ يستطيع الباحث عن طريقها إن يفهم الماضي، ويعرف كيف كانت أفكار الناس وأنشطتهم. ولهذا تعتبر المصادر الاولية هي ماده البحث التاريخي، واهم ما تتضمنه تلك المصادر: السجلات، والآثار، تلك التي حفظت عن عمد أو بدون عمد لنقل المعلومات وهي إما أن تكون مكتوبة، أو مصوره، أو ميكانيكيه، ومن نماذج السجلات:

‌أ. السجلات الرسمية: وهي تتعلق بالوثائق التشريعية أو القضائية أو التنفيذية كالقوانين والدساتير والعهود، والمواثيق والإحصاءات، والسجلات المالية، والأوامر والتعميمات الرسمية، والمعلومات المسحية عن المدارس، والتقارير السنوية، وجداول الدروس، وتقارير الأمن والحوادث وما إلى ذلك.

‌ب. السجلات الشخصية: وتتضمن السير الذاتية، واليوميات والمذكرات، والوصايا، والخطابات، ومسودات الكتب والعقود والأعمال.

‌ج. التراث الشفوي: وهو ما يتعلق بالأساطير والحكايات الشعبية، والاحتفالات والألعاب والخرافات وذكريات شهود العيان عن الأحداث.

‌د. السجلات المصورة: وهي الأفلام والصور والنحت والرسم والطوابع.

‌ه. المنشورات: وتتضمن الصحف والسجلات، والكتيبات الدورية والمقالات والأعمال الادبية الفلسفية.

‌و. السجلات الميكانيكية: وهي أشرطه التسجيل للمقابلات والاجتماعات، والاسطوانات التي يسجل عليها أداء الأفراد في الحديث والقراءة وكذلك أشرطة الفيديو وأشرطة الكمبيوتر.

أما في ما يخص الآثار، فهي الأخرى على أنواع متعددة وهي:

1. الآثار المادية: وتتضمن المباني، والمرافق، والأثاث والمعدات، والآلات، والأسلحة، والجوائز، وبقايا الهياكل العظمية التي يعثر عليها في أماكن الدفن والتي تمدنا بمعلومات كثيرة عن الماضي.

2. المطبوعات: وتشمل الكتب والشهادات والعقود وإعلانات الصحف وكشوف السجلات التي لم يدون بها شيء.

3. المخطوطات: مثل كتابات الباحثين أو التلاميذ ورسومهم. أو مخطوطات الكتب أو المقالات قبل نشرها.

إن هذه الآثار لهي أكثر صدقا من السجلات كمصدر للمعلومات، لان الباحث يستطيع أن يتفحصها ويلمسها، ويعرف مادتها، صناعتها، وما إلى ذلك.

‌ب. المصادر الثانوية: أما المصادر الثانوية، فهي تلك التي تتعلق بالمعلومات المأخوذة عن شخص لم يشهد الحادثة مباشره، بل نقلت له، وقد تكون تلك المعلومات منقولة له بحيث تصل إلى أربعه أو خمسه أجيال. وما هو ملاحظ أن قيمة الوثيقة التاريخية تصبح اقل قيمه، كلما تعدد وسطاء نقلها، وذلك جراء ما قد يصيبها من تشويه، وتحريف وحذف، وأضافه جراء النقل وتعدد مراحل تداولها.

وهذه المعلومات يمكن الحصول عليها من المؤلفات، دوائر المعارف، والصحف والدوريات، وكل المؤلفات التي عالجت موضوعات تاريخيه في غير عصرها.

وتكون أهمية المصادر الثانوية في كونها أكثر اتقانا وترتيبا للمعرفة، وتسمح للباحث بالمقارنة فيما بينها، بالرغم من احتمالات التحيز الكبيرة الواردة فيها.

ثالثا: نقد المادة التاريخية

بعد أن جمع الباحث معلوماته، واستطاع أن يحصر مادته العلمية. فلا بد له من أن يتفحص تلك المادة بكل دقه لمعرفه ما هو صحيح، وما هو منتحل أو مزيف مما جمعه، كي يصل إلى حكم تاريخ سليم لبحثه. وعليه لابد أن يهتدي بالحكمة القائلة" الشك طريق اليقين" وهذا يتطلب منه أن يخضع مادته التاريخية إلى نقد صارم. وقد تزداد الحاجة إلى نقد المادة التاريخية. كلما بعد الزمن بين واقعه معينه ووقت تسجيلها، وكلما زاد اعتماد الباحث على المصادر الثانوية حيث احتمالات عدم الدقة.

وعليه يتطلب من الباحث أن يخضع مادته إلى كل من النقد الخارجي والنقد الداخلي.

‌أ. النقد الخارجي:

إن الغرض من النقض الخارجي هو التأكد من صدق الوثيقة أو المخطوطة، أو أي أثر آخر، حيث يتطلب من الباحث أن يتوصل إلى تاريخ صدور الوثيقة، وسبب صدورها؟ ومن هو صاحبها؟ وهل هو كاتب مادتها؟ وهل هي ألنسخه الاصلية أم مستنسخه منها؟ وهل أن الاسم المدون عليها للمؤلف هو مؤلفها حقا؟ وهل هو اسمه الحقيقي، أم اسم مستعار؟ وما إلى ذلك من الاسئلة التي تتعلق بشكل الوثيقة ومظهرها الخارجي، والتي تحتاج إلى اجوبة تتطلب خبراء في المعرفة أو باحثين في الميدان. وهذا كله يحتاج إلى تتبع في أصول الوثائق، وبحث عن الأدلة، وتفحص للعناصر بدقه، وأثاره التساؤلات حولها، ومن التساؤلات:

1. هل تطابق لغة الوثيقة وأسلوبها وهجائها وخطها أو طباعتها أعمال المؤلف الأخرى؟ والفترة التي كتبت فيها الوثيقة؟

2. هل يظهر المؤلف جهلا بأشياء كان ينبغي أن يعرفها رجل تلقى مثل تعليمه وعاش في مثل عصره؟

3. هل يكتب عن أحداث أو أشياء أو أماكن لم يكن ليستطيع أن يعرفها شخص عاش في ذلك العصر؟

4. هل غير أي شخص في المخطوط -عن عمل أو غير عمد- وذلك بنسخه بغير دقه، او الاضافة إليه، أو حذف فقرات منه؟

5. هل هذه هي المسودة الاصلية للكتاب، أو نسخه منقولة عنها؟ وإذا كانت نسخة منقولة عنها فهل هي تطابق الأصل حرفيا؟

6. إذا كان المخطوط غير مؤرخ، أو مؤلفة مجهولا، فهل توجد في الوثيقة دلائل داخلية قد تكشف عن أصولها؟

إن عملية الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج من الباحث أن يتمتع بحس تاريخي، وثوره ضخمه من المعرفة التاريخية والعامة، وإدراك جيد، وفهم للسلوك الإنساني وكثير من الصبر والمثابرة، وإلمام باللغات الأجنبية والقديمة يضاف إلى كل هذا مساعده المختصين في الميدان.

‌ب. النقد الداخلي:

بعد النقد الخارجي، يأتي النقد الداخلي، والذي يهتم بالتحقق من معنى المادة الموجودة في الوثيقة وصدقها. ولذا فان الباحث يهمه الوصول إلى إجابات لما يأتي:

1. ما الذي يعنيه المؤلف من كل كلمه وكل عبارة؟

2. هل العبارات التي كتبها المؤلف يمكن الوثوق بها؟

إن تحديد معنى عبارة أو مصطلح فني يتطلب معرفه واسعة في التاريخ، وطبيعة المجتمع. إذ أن كثيرا من الكلمات في الوثائق القديمة لا تعني اليوم نفس معناها السابق فمصطلح "التربية التقدمية" مثلا لا يعني نفس المعنى عبر الزمن.

والباحث لابد أن يقرٲ الوثيقة بعين صاحبها. وإذا عرف السبب الذي دفع المؤلف إلى كتابة الوثيقة، فٳنه يستطيع تفسير معانيها بدرجه ٲكبر من أدقه، حيث يعرف مواطن الرمزية في الوثيقة ومواطن الجد والسخرية أو الفكاهة.

 ويبقى الشك ملازما البحث، ولذا فهو يثير مثل هذه الاسئلة:

1. هل المؤلف ممن يعتبر من أهل الثقة، روايه يمكن الوثوق بها؟

2. هل يسرت له إمكاناته وتدريبه الفني ومكانته، ملاحظة الأحوال التي يذكرها؟

3. هل ارتكب أخطاء في ملاحظاته أو تقريره بسبب التوتر الانفعالي أو السن أو ظروف أخرى.

4. هل كتب التقرير بناء على ملاحظه مباشره، أو رواية مسموعة، أو مادة علمية مقتبسة؟

5. هل كتب الوثيقة وقت الملاحظة أو بعدها بأسابيع أو سنين؟

6. هل اعتمد في كتابته على مذكرات دقيقه لما لاحظه؟ أم كتب عن الذاكرة؟

7. هل يوجد ما يؤثر في موضوعيه كتابته؟ مثل التعصب ضد أمه، أو ديانة أو جنس، أو شخص، أو حزب سياسي، أو جماعة اجتماعية أو مهنية فلسفية تربوية او حياتية؟

8. هل ساعد مؤلف احد ماليا في بحثه، على أمل الحصول على نتائج في صالح قضيه معينه؟

9. هل كتب المؤلف في ظل ظروف اقتصادية أو سياسية، أو دينية، واجتماعية ربما دفعته إلى إهمال حقائق معينة، أو أساءه تفسيرها، أو تشويه عرضها؟

10. هل دفعت المؤلف إلى الكتابة ضغينة، أو دفعه الغرور، أو الرغبة في تبرير أعماله؟

11. هل كان غرض المؤلف كسب عطف الأجيال الآتية، أو إرضاء جماعة معينة أو إغضابها؟

12. هل شوه المؤلف الحقيقة؟ أو زخرفها كي يحدث أثارا أدبيه زاهية؟

13. هل وقع المؤلف في تناقض مع نفسه؟

14. هل هناك روايات أخرى لرواية المؤلف، ومن ملاحظين أكفاء آخرين، ذوي أصول وتكوين مختلف؟ وهي تتفق مع رواية المؤلف؟

ٳن الاجابة على هذه التساؤلات تحقق النقد الداخلي. وعلى العموم فان كل من النقد الخارجي والنقد الداخلي يكمل احدهما الآخر وصولا إلى حقيقة الوثيقة وصدقها ودقه محتواها.

رابعا: صياغة الفروض التي تفسر الأحداث:

 تحتل خطوة صياغة  الفروض أهمية كبيرة في البحث التاريخي أسوة بمناهج البحث الأخرى، ويجد بعض الباحثين إن هذه الخطوة تأتي بعد تحديد المشكلة حيث يفترض الباحث فروضا لحل المشكلة، ثم يجمع المعلومات على ضوء تلك الفروض المفروضة لإثبات صحتها أو خطأها.

وتساعد الفروض الباحث على ترتيب معلوماته، في نسق منطقي، إذ بدون الفروض تصبح عملية جمع المعلومات عديمة الفائدة، حيث يتخبط الباحث في التحليل واستقراء الأحداث المستقبلية.

وهذه الخطوة ليست عملية سهلة، إذ تحتاج إلى صياغة محكمة، تخللها تحليلات نافذة واختبارات لصحتها أو عدم صحتها.

ويعاني الباحث في البحث التاريخي أكثر من غيره في التحقق من أسباب الحادثة أو الواقعة التاريخية، حيث لا سبب واحد محدد في الحوادث التاريخية وحتى عندما يتحدث الباحث عن سبب واحد، فهو يتحدث عن أهم الأسباب فهناك الكثير من الظروف المحيطة بالحدث أو تلك التي تسبقه، أو تلازمه تلعب دورها الفاعل في تحديد أسبابه. وبعض تلك الظروف يصعب تحديدها، وبعضها لا يمكن قياسه، وبعضها أهمل ذكره عند ذكر الحادثة.

كل هذا يجعل عمليه فرض الفروض ليست سهله، وتتطلب معرفه تاريخيه وافراد بحيث تكون صياغة الفروض قابله للاختبار، ومنسجمة مع المنطق، وقادرة على اكتشاف العلاقات الفاعلة في الظاهرة التاريخية، وتقود إلى تنظيم المعلومات، وتجميعها، والمعرفة التاريخية معرفة جزئيه، ولكن هذا لا يمنع استخدام الطرائق العلمية، واتخاذ كل ما يلزم لتكون موضوعيه. وما دامت الظاهرة التاريخية مختلفة عن الظاهرة الطبيعية فإننا لا نستطيع أن نطالب الباحث التاريخ ي بقوانين تشبه القوانين الطبيعية، لان أسباب الظاهرة التاريخية أكثر تعقيدا، وأكثر عددا وهذا ينعكس على فروض الباحث التاريخي التي نجدها أكثر غموضا من فروض الباحث الطبيعي، وينعكس هذا على تعتيمات الباحث التاريخي الذي لا تكون بدقه وموضوعيه الباحث الطبيعي.

 وعلى العموم فٳن جميع باحثي المنهج التاريخي بعد أن يفحصوا مادتهم العلمية يقومون ب:

‌أ. صياغة وتحديد فرض أو فروض عن طبيعة الحدث الماضي.

‌ب. ذكر الافتراضات التي يقوم عليها تركيب المشكلة المبحوثة.

 وبهذا يكون القارئ على علم بوجهات نظر هؤلاء الباحثين وخلفياتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية التي تؤثر على عمليه الانتقاء المادة العلمية.

خامسا: تفسير النتائج وكتابه تقرير البحث

بعد أن ينتهي الباحث من متطلبات الخطوات السابقة يبدأ بتفسير النتائج التي توصل إليها وكتابة تقرير البحث. ولابد أن يكون التفسير منسجما مع التفكير المنطقي والإبداعي، وٲن يكون موضوعيا، ووفق الأسلوب العلمي في البحث التاريخي.

أما كتابة التقرير، فيأخذ نمطا متبعا في مناهج البحث، حيث يقوم الباحث بوصف المشكلة التي تطرق إليها في البحث، مبرزا أهميتها ومحددا إياه وموضحا للأهداف التي يرمي الوصول إليها، وتحديد المصطلحات التي يستخدمها في البحث. ثم يقوم بعدها بعرض الدراسات السابقة، والبحوث، والكتابات النظرية التي أجريت في نفس الميدان. بعد ذلك يعرض منهجه في البحث والأدوات التي توصل بها وصولا إلى نتائجه، ثم عرضا وتفسيرا للنتائج ويختم بقائمه المراجع التي اعتمدها في بحثه، وبعضهم يذكر الملاحق التي تفيد في أغناء البحث، او تبين جهود الباحث في الميدان.

ويتطلب عرض النتائج شكلا متماسكا بحيث يبدو البحث وحده متكاملة كل فصل يؤدي إلى الفصل اللاحق، ويعتمد علي السابق في نسق جذاب متناسب في حجم فصوله فالكتابة العلمية ليست كالكتابة الأدبية، حيث يبتعد الباحث فيها عن الأسباب والوصف غير المبرر. ولذا فهو يكتب بسهولة وحيوية ومنطق دون انتهاك لقواعد البحث التاريخي وذلك عن طريق تنمية مهاراته في الخلق والإبداع والنقد، فالبحث التاريخي كعمل الفسيفساء تراه في النهاية صور رائعة ودقيقة للأحداث الماضية.[3]

‌تطبيقات المنهج التاريخي

وفي معرض الحديث عن أهمية المنهج التاريخي، كنا ذكرنا اتساع مجال تطبيقه ليشمل العلوم المختلفة، حيثما تعلق الأمر بحادثة بشرية ماضية، أو ما يتصل بها جزئيا أو كليا، وكل حاضر هو وليد الماضي، واما في العلوم السلوكية فان العلوم القانونية تعتمد هذا المنهج في كثير من مباحثها، وبالشرط ذاته، أي في الجوانب المتصلة بالحوادث البشرية الماضية، أو ما يتعلق بها.

التطبيق في الدراسات القانونية:

يقدم المنهج التاريخي للباحث القانوني، عونا كبيرا في مجالات الكشف عن الحقائق التاريخية، والنظم والأصول، والعائلات، والمدارس، والنظريات، والفلسفات، والقواعد، والأفكار القانونية، والإدارية، والتنظيمية، ويساعد على إجراء المقارنات بين النظم القانونية، عبر التاريخ، لإدراك أفضل لطبيعة العلاقة بين المجتمعات البشرية، وتطورها من جهة، وبين القانون وتطوره من جهة أخرى، للاستفادة من ذلك في تجنب السلبيات التي كانت، ولتطوير الإيجابيات الحالية، بناء على خبرة الماضي.

وتزداد قيمة المنهج التاريخي وقوته، ومنفعته العلمية في ميدان، الدراسات القانونية المتصلة بالأفكار، والنظريات، وجذورها، وأصولها نظرا لان الحاضر وليد الماضي، ولكن يجب الانتباه إلى أن العلوم القانونية ليست معنية فقط بما كان، وإنما هي معنية بالحاضر، والمستقبل أيضا، وللقانونيين مجالات بحث كثيرة في حال صيرورة، ولديهم مواضيع بحث تتطلب أكثر من البحث التاريخي فيها، كما أن بعضها يحتاج إلى منهج يتجه إلى الوصف، وعليه فان المنهج التاريخي – على بالغ الأهمية– لا يكفي كمنهج وحيد للبحث القانوني، وثمة من يقول بإمكان الاعتماد الكلي على منهج آخر، وهو المنهج الجدلي، فهل الأمر كذلك فعلا؟ ذلكم ما سنبينه في الصفحات التالية.[4]


[2] د. صلاح الدين شروخ، منهجية البحث العلمي، دار العلوم للنشر والتوزيع، الجزائر، ص125.

[3] د. رحيم يونس كروالعزاوي، نفس المرجع، ص82-93.

[4] د. صلاح الدين شروخ، نفس المرجع، ص133-134.

****

المرجع:

  1. د. رحيم يونس كروالعزاوي، مقدمة في منهج البحث العلمي، دار دجلة الطبعة الأولى، 2008، عمان.
  2. د. صلاح الدين شروخ، منهجية البحث العلمي، دار العلوم للنشر والتوزيع، الجزائر.
google-playkhamsatmostaqltradent