تطوّر القانون الجنائي ودور الفقه الجنائي في تطويره

تطوّر القانون الجنائي ودور الفقه الجنائي في تطويره

تطوّر القانون الجنائي ودور الفقه الجنائي في تطويره

يعتبر القانون الجنائي قديما قدِم الشعوب والمجتمعات، لأنّ الجريمة لازمت الإنسان منذ أوّل لحظة له في وتطوّر بتطوّر الجريمة والعقوبة عبر العصور، وظلّ راسخا في الفكر الإنساني أنّ كُلّ جريمة يقُابلها جزاء على أساس أنهّا شٌّرٌّ يقُابله شٌرٌ لازم لنجاة البشرية واستقرارها في حياة آمنة مُطمئنةّ.

وقد ساهمت أفكار رجال الفقه والقانون في تطوير القانون الجنائي. من خلال دراستهم لها لتحديد أسبابها ودوافعها ووسائل مكافحتها، وكان من الطبيعي أن تتعدّد رؤى الفقهاء لأنّ الجريمة ظاهرة اجتماعية ،والمجتمعات تختلف من حيث الثقافات والقيم. 

  • المطلب الأوّل: مراحل التطوّر التاريخي للقانون الجنائي
  • المطلب الثاّني: دور المدارس العقابية في تطوير القانون الجنائي

المطلب الأوّل: تطور القانون الجنائي

في ظل الأنظمة البدائية القديمة كان الأفراد يقتضون حقوقهم بأنفسهم، لكن بظهور الدول اصبحت سلطة التجريم والعقاب مُحتكرة من طرف الدولة، وبعد امتداد آثار الجريمة على المُستوى العالمي صار للتجريم والعقاب على المستوى الدولي مؤسسات وهيئات ونصوص دولية.

الفرع الأول: مراحل التطور التاريخي للقانون الجنائي

مرّ النظام العقابي في تاريخه بثلاث مراحل أساسية هي مرحلة مُجتمعات ما قبل نشأة الدولة، ثمّ مرحلة التشريعات القديمة، ثمّ مرحلة الفكر العقابي الحديث.

أوّلا: التجريم والعقاب في المُجتمعات البدائية (ما قبل نشأة الدولة):

أ) مرحلة العدالة الخاصّة (مرحلة الانتقام الفردي)

تعتبر الصورة الأولى للنظام العقابي وتميزّت بالخصائص التالية:

1- بسبب غياب سلطة مُهيمنة، كانت العقوبة تعبرّ عن غريزة الانتقام من طرف الفرد وهو المجني عليه ضدّ مُرتكب الجريمة وتتخذ شكل الإنتقام الذي يؤدّي إلى حرب صغيرة بين العائلتين بالقتل والاسترقاق ونهب الأموال. بالإضافة إلى ذلك كان لرِبّ الأسرة سلطة التأديب على من أذنب من أفرادها تصل إلى حدّ القتل والطرد.

2- كان المعتدى عليه خصما وحكما في نفس الوقت في مواجهة المعتدي الذي لا يوجد أي وازع أخلاقي أو ديني يمنعه من التهجم على غيره لإشباع غرائزه وإشفاء أنانيته. فالقانون الواحد الذي يحكم علاقة المعتدي والمعتدى عليه هو قانون القوة. 

3- كانت الجرائم غير محدودة وغير مُعينّة، وكان هدف العقاب هو إشباع غريزة وليس تحقيق مصلحة، ولم تكن العقوبة مُنظمة ولا هادفة بل وحشية وغير مناسبة في أغلب الحالات.

4- لم يكن يفُرّق بين الحق المدني والحق الجنائي.

ب) مرحلة العدالة الجماعية والمعاملة بالمثل والدّية: 

بتطوّر الإنسان واتصاله بغيره، وانضمام الأسُر والعشائر إلى بعضها البعض تحت ضغط الضرورة والمصالح المُشتركة، تشكّلت القبائل، وعرف القانون الجنائي تطورا هاما تمثل في:

ـ ظهور نظام القصاص أو المعاملة بالمثل كنظام مهذب لحقن الدماء والحد من التطاحن بين العشائر والقبائل ففي هذا الطور ارتفع مُستوى الأخلاق واتضحت مفاسد الالتجاء للقوة.

ـ بدأ الحد من الانتقام، باللجوء إلى الصلح تمُّ الدية من أجل تفادي الحرب. 

ـ أصبح العقاب مُرتبطا بالمصلحة الجماعية وليس بالفرد فقط. وأصبح تطبيقه من اختصاص الجماعة.

ثانيا: النظم العقابية في التشريعات القديمة (بعد ظهور الدولة):

ـ مع نشأة الدولة وبسطها لسلطتها وسيادتها على إقليمها، واجتهاد حُكامها في توطيد ركائز القانون كمظهر من مظاهر سيادتها، ظهرت فكرة العقوبة بمعناها القانوني، وظهرت مُدوّنات عقابية في الشرق ،ببلاد ما بين النهرين ومصر والبحر المتوسط. وفي الغرب بشرائع الإغريق والرومان.

أ) في الحضارة الفرعونية (5000 سنة ق م ــ 332 ق م) 

عرفت الأسُر الأولى عقوبتي الإعدام والتعذيب بالنار وجدع الأنف في جرائم التمرّد على الملك والمساس بالمُقدّسات والسحر والكسب غير المشروع. وعرفت الأسر المتأخرة بين 715 ق مو 680 ق م عقوبات الإعدام بالصلب والذبح والعقاب بالسجن. القاسي والأشغال الشاقة وعقوبات مالية يحكم بها الكهنة، وتضمّنت نظما مُتطرة في المحاكمات وإجراءاتها.

ب) في الحضارة الرومانية (من القرن الثالث 3 ق م إلى القرن السادس 6 م)

ـ القانون الروماني هو المصدر الأوّل لكل القوانين الأوربية، وقد تطلبّ الأمر 10 قرون حتى يصِل إلى ما هو عليه ،وقد اهتمّت الدولة الرومانية بتنظيم القضاء وتحديد الجرائم والعقوبات وتنظيم السجون.

ـ كانت الجرائم تنقسم إلى عامّة وخاصّة، من الجرائم العامّة خيانة الدولة والحريق العمد والتهرّب من الجندية والإساءة للديانة وأماكن العبادة ولا توقع العقوبة إلا بعد مُحاكمة بدعوى عامّة من طرف موظف في الدولة. والجرائم الخاصّة كالسرقة وعدم الوفاء بالدين والضرب والجرح وانتهاك الشرف,

ـ وكان هناك تمييز في العقوبات بين طبقات الأشراف كالنفي بدل القتل، وأواسط الناس كقطع الرقبة وافتراس الحيوان والشنق والصلب.

جـ) الجرائم والعقوبات في البلاد العربية:

1- في الدولة البابلية الأولى (2460 سنة ق م ـ 2081 ق م) نظمّ قانون حمورابي الجرائم والعقوبات وعرف نظام القصاص والدية وميزّ من حيث العقوبة بين الجرائم بحسب خطورتها، وبين الأحرار والعبيد.

2- في شبه الجزيرة العربية: بعد اندثار الدولة البابلية بقي العرب يعيشون في شكل قبائل، لا يحكمهم نظامٌ مُوحّد بل يخضعون لأعراف وتقاليد قديمة مصدرها التجارب والمُعتقدات وما وصل إليهم من النصارى واليهود. وكان من بينها في العصر الجاهلي الثأر والانتقام الجماعي.

ـ ثمّ دعى الناّسُ بتأثير من عقلائهم وحُكمائهم إلى الدية الاختيارية والصلح، طلبا للسلام والوئام وحقن الدماء بعدما فتكت بهم الحروب الثأرية مثل حروب عبس وذبيان، وحروب بكر وتغلب.

ثالثا: القانون الجنائي في العصر الإسلامي 

مصدر التشريع في الإسلام هو الله تعالى خالق البشر والعالم بما يصُلحُ حياتهم، لم يخلقُ الإنسان عبثا ولم يترُكه سُدى، بل كرّمه وهداه وشمله برحمته، فأقام التشريع الإسلامي بما فيه النظام الجنائي على مجموعة من الأسس:

أ) حفظ كرامة الإنسان: 

في القرن السادس (6) ميلادي كرّم الدّين الإسلامي الإنسان في حياته ومماته ككيان مادّي ومعنوي وأصبحت حياته مُقدّسة وحُرّية الإنسان وحياته مُقدّسة ومحفوظة منذ ولادته إلى مماته.

۞ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) (الإسراء)

۞ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32). (المائدة)

ب) حفظ مصالح العباد في الكليات الخمس:

قدّمت الشريعة حماية جنائية عاقبت من خلالها على الجرائم الخطيرة التي تمس الكليات الخمس وهي الدين والنفس والعقل والعرض والمال، بنصوص ثابتة، وتركت تنظيم المخالفات البسيطة لولي الأمر.

جـ) مبادئ العدل والمُساوة بين الناّس: 

أرسى الإسلام مبادئ العدل والمساواة بين جميع الناّس دون فوارق اجتماعية، قال الله تعالي في كتابه ۞ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) (النساء)

۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) (النساء)

د) مبدأ الرحمة العامّة بالناس:

الرحمة هي غاية الأحكام الشرعية في الإسلام، ومن مظاهر ذلك مثلا أنهّ قلب الثأر إلى قصِاصٍ عادل تتكافؤ فيه دماءُ المُسلمين جميعا، الحُرّ بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى مهما كانت الدرجات والأنساب ،وتتماثل الجريمة وعقوبتها من حيث الجسامة والنوع. قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (107) (الأنبياء)

هـ) إرساء نظام جنائي مُتطوّر: 

جاء الإسلام بفلسفة جزائية جديدة، تقوم على إعطاء الدولة سلطة العقاب، وتجريم الأفعال المُخالفِة لأسس المجتمع الإسلامي، وقد كان تشريعا مكتوبا ومُحدّدا ومُعلنَا، وأقام المعاملة العقابية على أساس العدل بالجزاء المتناسب مع جسامة الجريمة، وأسس المسؤولية الجزائية على حُريةّ الاختيار، وأقر مبادئ سامية كشرعية الجريمة والجزاء، وشخصية العقوبة وتفريدها ومُلاءمتها، والبراءة الأصلية...إلخ. واعتبر الجريمة معصية لله، وصنفّ الجرائم تصنيفا فريدا مُتميزّا إلى جرائم الحدود، وجرائم القصاص، وجرائم التعزير.

رابعا: القانون الجنائي في العصر الحديث

ـ كانت القوانين الوضعية قبل الثورة الفرنسية مزيجا من القواعد الموروثة عن الرومان وغيرهم ،إضافة إلي بعض المبادئ والعادات والتقاليد والسوابق القضائية، وبعض القواعد الدينية التي تختلف باختلاف الديانات والمذاهب. لكنهّا كانت مُختلةّ بسبب تحكم الكنيسة وغياب سيادة القانون. حيثُ اتسمت بقسوة العقوبات وكثرة التعذيب والإعدام. 

ـ ومع تطور المجتمعات الإنسانية، تهذّبت النظم الجنائية الوضعية تحت تأثير التيارات الفكرية والفلسفية التي دعت إلى إعادة النظر في العقوبة والسياسات الجنائية ومُلاءمة القوانين مع التطور الحاصل في مختلف مناحي الحياة الفكرية والسياسية. 

ـ بعد الثورة الفرنسية تم تجريد القوانين من كل ما له علاقة بالدين والأخلاق، وأصبحت تنظم علاقات الأفراد المادية وشؤون الأمن ونظام الحكم بشعارات الحرية والعدالة والإخاء والمُساواة واحترام آدمية الإنسان وكرامته، فحرّمت التشريعات الجنائية التعذيب وخُفضّت حالات الإعدام وألغيت المُصادرة الجماعية للأموال، وقرُّر مبدأ الشرعية الجنائية، ومبدأ شخصية العقوبة، ومبدأ المُساواة أمام القضاء.

الفرع الثاني: تطور قانون العقوبات الجزائري

يقُسّم مسار تطوّر قانون العقوبات الجزائري إلى مرحلتين، ما قبل الإستقلال وما بعد الإستقلال:

أوّلا: مرحلة ما قبل الإستقلال:

أ) قبل الاحتلال الفرنسي: 

كانت الشريعة الإسلامية هي المطبقة في الجزائر تحت ظل الدولة العثمانية، واستمرت لفترة قصيرة بعد الاحتلال ،حيث كان الأمير عبد القادر في الغرب الجزائري يعُينّ القضاة من بين فقهاء الشريعة في المذهب المالكي. 

ب) بعد الإحتلال الفرنسي عام 1830: 

ـ عملت الدولة الفرنسية بعد احتلالها الجزائر على تجزئة القوانين إلى نوعين، أحدهما هو قانون العقوبات الفرنسي الذي وضعه نابوليون في سنة 1810 يطُبقّ على الدعاوى التي يكون طرفاها أو أحد طرفيها من الأوربيين، والثاني هو القانون الفقه الإسلامي المالكي يسري على الدعاوى بين الجزائريين.

ـ بتاريخ 26 سبتمبر1840 أنهت فرنسا القضاء الإسلامي وطبقّت على الجزائريين عقوبات غير قانونية لم تكن موجودة في قانون العقوبات الفرنسي كالغرامة الجماعية والإعتقال والوضع تحت الرقابة.

ـ بتاريخ 13 نوفمبر1944 صدر الأمر الفرنسي الذي يخُضع جميع الجزائريين للتشريع النافذ والساري على الفرنسيين. 

ـ إباّن الثورة الجزائرية ابتداء من 1954 عدّلت السلطات الفرنسية القانون بإنشاء المحاكم الخاصّة والعسكرية لمُحاكمة الجزائريين وأهدرت الحريات بشكل فظيع لأنهّا اعتبرت الثورة تمرُّدا. 

ثانيا: مرحلة ما بعد الاستقلال عام 1962

ـ إستمرّ تطبيق قانون العقوبات الفرنسي بموجب الأمر رقم 62 /157 الذي يقضي بتمديد سريان مفعول التشريع الفرنسي إلى غاية صدور قانون العقوبات الجزائري سنة 1966. 

ـ وقبل صدور قانون العقوبات صدرت بعض المراسيم كان منها قانون قمع جرائم المساس بالأملاك الشاغرة سنة 1963، وقانون قمع الجرائم المتعلقّة باقتناء أسلحة الصيد والذخيرة وهو المرسوم 63ــ85، وفي سنة 1966 صدر قانون قمع الجرائم الإقتصادية بالأمر 66ـ 180.

ـ سنة 1966 صدر قانون العقوبات الجزائري بموجب الأمر رقم 66ـ156 المؤرخ في 8 يونيو سنة 1966 وهو القانون الساري المفعول الآن، استمدّ مُعظم أحكامه من قانون العقوبات الفرنسي، واستعان بالقانون المصري والمغربي. ودخلت عليه عدّة تعديلات منذ سنوات السبعينات إلى اليوم.

ـ بعد صدور قانون العقوبات صدرت عدّة قوانين ذات صلة، من بينها:

ـ قانون القضاء العسكري سنة 1971 بموجب الأمر 71ـ28 في 22 إبريل 1971، المُعدّل والمتمّم بموجب القانون 18ـ14 في 29 يوليو 2018.

ـ قانون تنظيم السجون إصلاح المساجين 1972. المُستبدل سنة 2005 بقانون تنظيم السجون وإعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين. والمُعدّل والمتمّم هو الآخر بالقانون رقم 18ـ01 المؤرّخ في 30 يناير 2018

ـ قانون مُكافحة المخدرات 2004. 

ـ قانون الوقاية من تبييض الأموال ومكافحته 2005. 

ـ وقانون الوقاية من الفساد ومُكافحته 2006. 

ـ قانون الوقاية من جرائم تكنولوجيا الإعلام والإتصال 2009.

المطلب الثاني: دور الفقه في تطوير القانون الجنائي

ساهم الفقه في تطوير القانون الجنائي، وذلك بتأثير الفقه الإسلامي منذ القرن السادس (6) ميلادي وبتأثير مدارس الفكر العقابي السائدة في أوروبا ابتداء من القرن الثامن عشر (18) ميلادي.

الفرع الأول: دور المدارس العقابية الحديثة في تطوير القانون الجنائي

في القرن الثامن عشر (18) للميلاد ظهرت حركة إصلاحية في أوربا، قادها المُفكرون والفلاسفة ضدّ الظلم الذي كان مُسلطّا على الناّس والخلل في النظام الجنائي ككل في تلك الحقبة التاريخية التي اتسم بقسوة ووحشية العقوبات وعدم تناسبها مع الضرر الاجتماعي الذي تحُدثه الجريمة، وبتحكم القضاء والهوى والرغبة في إرضاء الحاكم بعيدا عن تحقيق المساواة بين المواطنين.

وكان لهذه الحركة العلمية الأثر العميق في تطوير القانون الجنائي الأوروبي وتثبيت أسسه النظريةّ.

حيث واجهوا مُشكلة الجريمة بطريقة علمية، فتأسّست من هذه الحركة مدارس فقهية في التأصيل الفكري للقانون الجنائي، تنُاقش الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه المسؤولية الجزائية ومبادئ التجريم والعقاب.

أوّلا: المدرسة التقليدية (1764)

تأسّست على يد الفيلسوف والمفكر الإيطالي سيزار بيكاريا Cesar Beccaria من خلال مؤلفه الشهير "الجرائم والعقوبات" (1764) ومن رواد المدرسة أيضا العالم الإنجليزي جيرمي بنتام Jeremy Bentham والعالم الألماني أنسلم فويرباخ Anselm von Feuerbach.  

أ) مبادئ المدرسة التقليدية: تمُثل هذه المدرسة المذهب الإرادي في المسؤولية الجزائية

1ـ الأساس القانوني للتجريم والعقاب (مبدأ الشرعية الجنائية): بحيث لا تكون هناك جريمة ولا عقوبة إلا بمقتضى نص قانوني واضح ومحدّد.

2ـ أساس المسؤولية الجنائية حرّية الاختيار (المسئولية الأخلاقية) أي حرية الموازنة والتخير بين طريق الخير وطريق الشر وهي متساوية لدى جميع الأفراد، مما يوجب:

- المساواة التامة بين جميع المجرمين الذين يتمتعون بملكتي الإدراك والتميز. 

- اعتماد مبدأ العقوبة ذات الحد الواحد، بحيث ينحصر دور القاضي في تطبيق العقوبة المقررة قانونا. 

- لا وجود لمبدأ تفريد العقوبة، والمغايرة في المعاملة العقابية من جان إلى أخر حسب ظروف وشخصية كل مجرم على حدة. 

-لا وجود لفكرة المسئولية المخففة أو الأخذ بنظام العفو الخاص. فضوابط التجريم والعقاب ضوابط مادية وموضوعية مجردة.

3ـ أساس الحق في العقاب المنفعة: يستند إلى أفكار الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، بأنّ الأفراد تنازلوا للسلطة العامة (الدولة) عن حقهم في الدفاع عفن أنفسهم وعن أموالهم فالجريمة التي توجب توقيع العقاب، تعتبر إخلالا بتنفيذ العقد الذي أبرمه أفراد المُجتمع بتنازلهم عن بعض حرياتهم وحقوقهم للجماعة في سبيل المحافظة على الباقي منها. ومن ثم يكون جزاء الخروج على الجماعة بالقدر اللازم فقط لحمايتها. فلا يجوز للسلطة العامة (الدولة) أن تسرف في الحق في العقاب وأن لا تستعمله إلا بالفدر الذي يحقق المنفعة العامة.

4ـ وظيفة العقوبة: هي الردع الخاص والردع العام، بمنع الجاني من تكرار جرمه في المستقبل ،ومنع أقرانه من تقليده. فالجريمة وقد وقعت بالفعل فلا تكون العقوبة للتنكيل بكائن حساس وإنما في نفعها في منع وقوع الجريمة مستقبلا. بالردع الخاص الذي ينصرف إلي المجرم نفسه بترهيبه بالعقوبة وإنذاره. والردع العام الذي ينصرف إلي الجماعة ككل.

ب) تقدير المدرسة التقليدية:

المدرسة لها فضل على القانون الجنائي في الدعوة إلى إقرار مبدأ الشرعية الجنائية في مجالي التجريم والعقاب، ومنع القضاة من التحكم والهوى، وإظهار أهمية الأخذ بالمسؤولية الأخلاقية القائمة على الخطأ الشخصي، والدعوة إلى التخفيف من قسوة العقوبات، ومنع الوسائل الوحشية في التنفيذ العقابي.

لم تفلت المدرسة من النقد وقد تعدت أوجه القصور بشأنها والتي يمكن إيجازها في الآتي:

1ـ لا تراعي شخص المجرم وعوامل انحرافه والظروف الفارقة من جان إلى آخر. حيثُ أقامت أسس التجريم والعقاب على قواعد موضوعية مجرّدة ولقد ترتب على ذلك عدم تحقيق العدالة والمساواة، فمعاملة المجرم العائد على قدم المساواة مع المجرم البادئ هو عين الظلم. 

2ـ عيب الجزاء المُحدّد الثابت ينفي وظيفة الرّدع، فنفس العقوبة لكل المجرمين المقترفين لفعل واحد لا يمكن أن يكون رادعا لهم جميعا، حيث أن اختلافهم في التكوين الخلقي والنفسي من شأنه أن يجعل هذا الجزاء ناقصا بالنسبة لبعضهم وكافيا بالنسبة للبعض الآخر ومتجاوزا للبعض الأخير.

3ـ إهمال الوسائل الأخرى للعلاج وتهذيب وإصلاح وتأهيل المجرم بحيث لا يعاود ارتكاب الجريمة مرة أخرى. وذلك بالمُغالاة في وظيفة الردع وجعل العقوبة هي الوسيلة الوحيدة المُعوّل عليها كوظيفة اجتماعية للتشريع العقابي.

ولهذا ظهرت المدرسة التقليدية الجديدة لتصحيح النقص، ومن الجديد الذي جاءت به:

ـ أنّ المسؤولية تزيد درجاتها وتنقص بحسب مقدار الحرّية الذي يزيد وينقص.

ـ إضافة أساس العدالة المُطلقة لحق العقاب، لأنّ حرية الفرد تنتهي عند بداية حرّية الآخرين (كَانْت).

ـ والجمع بين فكرة العدالة المطلقة ونظرية المنفعة الاجتماعية ينتج عنه عدم زيادة العقاب على ما تستدعيه المنفعة من استقرار الأمن واستتبابه في المجتمع. وينتج عنه الإهتمام بشخصية المجرم ومن ثمّ إقرار نظام الظروف المخففة والمشددة ومبدأ التفريد العقابي.

ثانيا: المدرسة الوضعية الإيطالية (1876)

أ) التعريف بالمدرسة الوضعية ومبادئها:

ـ من أبرز رواد المدرسة الوضعية: الطبيب الإيطالي وعالم جريمة Cesare Lombroso سيزار لومبروزو مؤسس المدرسة التكوينية الوضعية في نظريات تفسير السلوك الإجرامي. والقاضي الإيطالي رافاييل غاروفالو Raffaele Garofalo، عالم الاجتماع الإيطالي أنريكو فيري Enrico Ferri   

ـ تمُثل هذه المدرسة مذهب الحتمية، ظهرت في إيطاليا في الربع الخير من القرن (19) وتميزّت باعتمادها على المناهج العلمية في دراسة ظاهرة الجريمة من أهمّ ما جاءت به هذه المدرسة: 

1ـ المجرم حينما يرتكب الجريمة يكون محتوما ومُجبرا ومدفوعا لارتكابها بقِوِى طبيعيى وبيولوجية لا يستطيع مُقاومتها، فهو ليس حُرّا.

2ـ مناط المسؤولية الجزائية هو الخطورة الإجرامية، وهي التي تعُطي الدولة حق التدخل بالرّد على المجرم لإيقاف خطورته وحماية المجتمع منها.

3- المسؤولية اجتماعية وليست أخلاقية، حيث تلُزمه بالخضوع لإجراءات ضرورية في المجتمع بصفة المجرم شخص مريض لا ينفع معه الحبس أو السجن بل يحتاج إلى علاج.

4ـ يخضع المجرم لتدابير وقائية أو احترازية تتناسب وحجم الجريمة التي ارتكبها، كعلاجه في المستشفى، أو إرساله إلى الملاجئ أو المستعمرات الزراعية بدلا من العقوبة.

5ـ تقسيم المجرمين ومعاملتهم على أساس هذا التقسم في طوائف: 

المجرم بالفطرة، المجرم بالعادة ،المجرم المجنون، والمجرم بالعاطفة والمجرم العرضي. حيث توجود فوارق تشريحية بين الهياكل العظمية للمجرمين. وللمجرم في الغالب وجنات مفرطحة وذقن عريضة بارزة ،والسارق يده تكون طويلة، ويد القاتل قصيرة. والعقوبات المُطبقّة عليهم تختلف حسب كل طائفة. فالمجرم بالميلاد وبالعادة له عقوبة استئصالية بإقصائه من المجتمع كالعزل والحجز المؤبد والإعدام أما المجرم المريض وبالمجرم بالصدفة فقابل للعلاج.

 ب) تقدير المدرسة الوضعية:

ـ كان لهذه المدرسة الفضل في اتخاذ مبدأ تفريد العقاب ونظام إصلاح الأحداث ووقف تنفيذ العقوبات ،وإصلاح المجرمين المعتادين وطرق تحقيق الشخصية وتدابير الوقاية من الإجرام.

ـ غير أنّ هذه المدرسة تنُتقد من الجوانب التالية:

1ـ مخالفة مبدأ الشرعية بالقول بأنّ أي شخص تتوفر فيه صفة أو صفات خِلْقية، أو صفات نفسية ومنهم المُجرم بالميلاد يجب أن يتعرض لإحدى التدابير الوقائية، ويعُامل معاملة المجرمين ولو لم يرتكب أيّ فعل يعاقب عليه القانون. 

2ـ هناك الكثير ممن تتوفرّ فيهم هذه الصفات ولم يرتكبوا جرائم، يعني أنهّم أسوياء سلوكيا.

3ـ إذا كانت الجريمة حتمية فيزيولوجية إذن فلا أمل في علاج الجاني، ومن ثمّ لا معنى للمسؤولية الجزائية، وهذه النتيجة تتعارض مع فكرة أنّ الإنسان سيدّ نفسه وسلوكاته.

4ـ النظرية تهُمل دور وتأثير عوامل البيئة على الإنسان سواء بالسلب أو الإيجاب.

ثالثا: مدرسة الدفاع الاجتماعي (1945)

أ) التعريف بمدرسة الدفاع الإجتماعي:

ـ يتزعم الفقيه الإيطالي فيليبو جراماتيكا Filippo Grammatica رائد الدفاع الاجتماعي التقليدي ،والآخر معتدل بزعامة القاضي الفرنسي مارك أنسل Marc Ancel، مُؤسّس الدفاع الاجتماعي الجديد/

ـ حركة الدفاع الاجتماعي تهدف إلى حماية كل من المجتمع والمجرم من الظاهرة الإجرامية ولها اتجاهان أحدهما متطرف، ومن مبادئها:

1ـ إستبدال نظام قانون العقوبات التقليدي بنظام الدفاع الاجتماعي من خلال هيئات اجتماعية تهتم بالشخص وأفكار الإنحراف والتضاد مع المجتمع والتدابير الإجتماعية العلاجية، واستبعاد القانون الجنائي والقضاء الجنائي والمسؤولية الجزائية وفكرة الجريمة والعقاب.

2ـ إنكار حق الدولة في العقاب والتأكيد على واجب الدولة في التأهيل الاجتماعي اعتمادا على معطيات العلوم التجريبية لفحص شخصية الجاني وتوقيع التدبير المناسب لكل حالة. 

ب) انتقاد مدرسة الدفاع الاجتماعي القديمة:

1ـ استبعاد القانون الجنائي باعتباره أداة الدولة القسرية ووسيلة لتدعيم السياسة الجنائية قد يؤدي لزعزعة كيان الدولة.

2ـ عجز النظرية عن تحقيق الردع العام خاصّة في الجرائم الخطيرة.

3ـ استبدال الضابط القانوني الواضح في تحديد الجريمة بضابط التكيفّ الاجتماعي المُميعّ الغامض بسبب إنكار الحرية والمسؤولية الجزائية.

4ـ تهديد الحريات الفردية بترك تقدير التكيفّ الاجتماعي والتأهيل للسلطة التنفيذية.

ولهذا جاء مارك أنسل بنظرية الدفاع الاجتماعي الجديدة ودعا إلى:

ـ الاعتراف بقانون العقوبات وضرورة تطويره.

ـ مُراعاة الجانب الإنساني للمجرم باحترام وحماية حقوقه وضمانها بالشرعية وكفالة المحاكمة العادلة.

ـ الدمج بين العقوبات والتدابير في التعامل مع المجرم.

ـ التمسك بمبدأ العدالة المُقيدّة بالمنفعة.

رابعا: ظهور المذهب التوفيقي وموقف المشرع الجزائري

أ) ظهور المذاهب التوفيقية:

ظهرت مدارس أخرى ذات توجّه توفيقي، حاولت الجمع بين أفكار المدارس المُختلفة السابقة، وكان من أبرزها "المؤتمر الدولي لقانون العقوبات" الذي أسّسه "هامل برنس"، و"جون ليست". وتمثلت المنهجية التوفيقية لهذه المدرسة في أنهّا:

ـ تعترف بحرية الإرادة وتأسيس المسؤولية الجزائية على الإدراك والتمييز والاختيار لدى الفاعل.

ـ ترى تعدّد وظائف العقوبة بين الردع، وإصلاح الجاني وتهذيبه.

ـ تأخذ بفكرة التدابير الاحترازية بالنسبة لأشخاص الذين ينطوون على خطورة إجرامية.

ب) منهج المُشرّع الجزائري في التجريم والعقاب: 

اقتبس المشرع الجزائري الكثير من الأحكام والمبادئ من أفكار هذه المدارس، حيث سار على منهاج المدرسة التوفيقية التي صار لها الغلبة في الفقه الجنائي وتأثرت بها القوانين في مُختلف الدول:

 1) في قانون العقوبات الجزائري:

ـ تقسيم الجرائم بحسب درجات خطورتها إلى جنايات وجنح ومُخالفات بموجب المواد 27ـ 29 من ق ع ج. وتنويع الجزاء بحسب هذا المعيار كما هو منصوص عليه في المادّة 5 وما بعدها.

ـ أساس المسؤولية الجزائية هو حرّية الإرادة في المواد 47-51 ق ع. فهي تمتنع لدى عديم الإرادة كالمجنون والمُكرَه وصغير السّن.

ـ منهج المعاملة الجنائية للجاني هو الجمع بين العقوبة لغرض الردع، والتدبير الاحترازي لغرض الوقاية في المواد 4 إلى 26 من ق ع. وتقسيم العقوبات إلى أصلية وتكميلية، وميزّ في أنواعها بين العقوبة السالبة للحرية والمالية والتقليص من حالات عقوبة الإعدام، والنصّ على بدائل العقوبة السالبة للحرّية المتمثلّة في العمل للنفع العام ووقف التنفيذ والمراقبة الإلكترونية.

ـ مبدأ التفريد القانوني والقضائي للجزاء الجنائي ويظهر ذلك في المواد 52 من ق ع تحت عنوان شخصية العقوبة، بتنظيم ظروف التخفيف والتشديد والفترة الأمنية. وجعل العقوبات في أغلبها ذات حدّين أدنى وأقصى. كما يظهر في المادّة 3 من قانون تنظيم السجون وإعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين رقم 05ـ04 المُعدّل والمُتمّم. بقوله "يرتكز تطبيق العقوبة السالبة للحرية على مبدأ تفريد العقوبة".

2) في قانون تنظيم السجون وإعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين (رقم 05ـ04 المُعدّل والمُتمّم)

ـ بالنسبة لهدف القانون ورد في المادّة الأولى من هذا القانون أنهّ يهدف إلى تكريس مبادئ وقواعد لإرساء سياسة عقابية قائمة على الدفاع الاجتماعي، تجعل من العقوبة وسيلة لحماية المُجتمع بواسطة إعادة التربية والإدماج الإجتماعي للمحبوسين.

ـ تفريد الجزاء الجنائي من حيث التنفيذ، نصّت المادّة 3 بأنهّ يرتكز تنفيذ العقوبة السالبة للحرية على مبدأ تفريد العقوبة المتمثل في معاملة المحبوس بحسب وضعيته الجزائية والبدنية والعقلية.

ـ تدخُل الجهاز القضائي في مرحلة تطبيق العقوبة عن طريق قاضي تطبيق العقوبات وتحت إشراف النيابة العامة، كما هو مُبينّ في المواد 10 إلى 14 والمواد 22 و23 وغيرها.

ـ دراسة شخصية الجاني من أجل إخضاعه للعلاج العقابي قصد تحقيق إعادة تأهيله إجتماعيا.

ـ مؤسسات تنفيذ الجزاء الجنائي: ينُظم هذا القانون، مؤسسات الدفاع الاجتماعي في الباب الثاني، والمؤسسات العقابية في الباب الثالث. 

3) في قانون الإجراءات الجزائية: 

ـ مبادئ المحاكمة العادلة وضماناتها، مثل حق الدفاع وقرينة البراءة، حق المحاكمة المنصفة والسريعة، تأويل الشك لمصلحة المُتهّم، حق الطعن..

ـ ضمانات المُشتبه فيه والمتهم خلال المتابعة. 

ـ تقييد الدعوى العمومية بشكوى المضرور أو إذن أو طلب الهيئات الإدارية العمومية في عدّة جرائم.

ـ بدائل الدعوى العمومية نصّ على بدائل المُتابعة أمام القضاء الجزائي، وهي الصلح الجنائي والوساطة الجنائية والتسوية الجنائية.

الفرع الثاني: الفقه الجنائي الإسلامي وأثره في تطوير القانون الجنائي

يتميزّ الفقه الجنائي الإسلامي عن الفكر الوضعي بأسبقيته في إرساء المبادئ الجنائية بقرون عديدة ،وبكماله وعدله المُطلق وبمصدره الرباني الخبير بشؤون الخلق وليس مصدره البشر ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) (الجاثية)

أوّلا: فلسفة الفكر العقابي في الشريعة الإسلامية

أ) خصائص النظام الجنائي الإسلامي:

1) أساس المسؤولية الجزائية: تنحصر مسؤولية الإنسان في نطاق الإرادة والحرّية ،فقدُرة الإنسان على الإختيار تتحدّد بنشاطه الإرادي وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ... (29) (الكهف) فهو بذلك أهل أن يتحمّل تبعة سلوكه، مسؤولا عمّا يكون لحُرّيته فيه يد، وفيما يكون له عليه سُلطانٌ ويلحق به الثواب والعقاب. مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (46) (فصلتإِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) (الأحزاب) والتكليف يكون بقدر الاستطاعة، قال تعالى لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ... (286) (البقرة)

2) علةّ التجريم والعقاب: ـ العلةّ العامّةَ لأحكام الشريعة الإسلامية هي الرّحمة والهدى للناس جميعا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57)) (يونس) أي أن أحكام الشرع تهدي الناّس إلى سُبلُ الرشاد، والرحمة بهم في صيانة مصالحهم الجديرة بالاعتبار.

وعلةّ التجريم والعقاب في الشريعة هو تحقيق مصالح العباد، بتجريم الإعتداء على المصالح الكُليّة الخمسة في المجتمع والتي لا بقاء للإنسان حياّ كريما إلا بها، وهي الدين والعقل والنفس والنسل والمال.

والأفعال المُعتبرة جرائم يؤمر بها أو ينُهى عنها لأنّ في إتيانها أو تركها ضرٌرٌ بنظام الجماعة وشُرّع العقاب لعدم كفاية النهي والأمر، فالعقاب هو الذي يحملُ الناّس على التزام الأوامر والنواهي.

ب) مبادئ التجريم والعقاب في الفقه الجنائي الإسلامي:

1) مبدأ شخصية العقوبة: القصاصُ في الشريعة الاسلامية شخصي يوقع على مقترف الجرم فقط، فإنْ شاء الضحية أخذ بالقصِاص أو يعفو، مع تعزير الجاني من ولي الأمر، قال تعالى  (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ (38) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ (41) (النجم) وقال تعالى: (مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (46) (فصلت) وقالى تعالى (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) (المدثر)

2) مبدأ القصد والنية: ينبغي توفرّ العنصر المعنوي النفسي في الجريمة والتمييز بين العمد والخطأ، قال النبي (ص)"إنمّا الأعمال بالنياّت وإنمّا لكلّ امرئٍ ما نوى" (رواه الشيخان). ومثاله التمييز بين القتل العمد والقتل الخطأ، وانتفاء العقوبة بانتفاء الإرادة عند الإكراه أو الضرورة. قال الله عزّ وجل:

(وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا... (92) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) (النساء)

(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) (البقرة) (ن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ .. (106) (النحل)

3) مبدأ الشرعية وعدم رجعية النصّ: من القواعد الفقهية في الفقه الإسلامي أنهّ "لا حُكم على أفعال العقلاء قبل ورود النصّ". وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تقُرّر هذا المبدأ منها قوله تعالى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15) الإسراء. 

4) مبدأ قرينة البراءة: من القواعد الفقهية في الشريعة الإسلامية أنّ "الأصل في الأشياء الإباحة والأصل في الأفعال الجواز والأصل براءة الذمّة". وقاعدة "إدرؤوا الحدود بالشبهات".

5) مبدأ المُساواة: لقول رسول الله لأسامة بن زيد عندما جاء يشفع في تنفيذ الحد "أتشفع في حدٍّ من حدود الله، لقد أهلك من كان قبلكم أنهّم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الوضيع أقاموا عليه الحدّ، وأيمُ اللهِ لو أنّ فاطمة بنت مُحمّد سرقتْ لقطعتُ يدها".

6) العقوبات الشرعية زواجر جوابر: تكون من جنس الجريمة رحمة بالمجتمع تحُقق الردع وتجبر الضرر وتأخذ بعفو المجني عليه. 

ثانيا: أثر الفقه الجنائي الإسلامي على التشريعات الوضعية: 

بقي أثر الفقه الإسلامي واضحا في بلدان العالم الإسلامي كالقانون السعودي واليمني والإيراني وبدرجة أقل في البلدان الأخرى ومنها التشريع الجزائري، لأنّ الإسلام من مُكوّنات هوية الدولة وتاريخها ،ونستشفّ مظاهره في تجريم السلوكات المُتنافية مع القيم الأخلاقية والدينية، كجرائم الفساد وجرائم انتهاك العرض وانتهاك الحرمة وغيرها. كما قرّر حماية جنائية ضدّ إهانة الدين الإسلامي والمساس بشعائر الإسلام والإساءة إلى الرسول صلىّ الله عليه وسلمّ وباقي الأنبياء (المادّة 144 مُكرّر2 ق ع ج).

المرجع:

  1. د. فريد روابح، محاضرات في القانون الجنائي العام، موجهة لسنة الثانية لسانس، جامعة محمد لمين دباغين- سطيف، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم الحقوق، الجزائر، السنة الجامعية 2018-2019، ص15 إلى ص27. 
google-playkhamsatmostaqltradent