الرّكن الشرعي للجريمة

الرّكن الشرعي للجريمة

الرّكن الشرعي للجريمة

يقُصد بالركن الشرعي للجريمة صفة عدم المشروعية للفعل، أو الوصف والتكييف الجنائي للفعل، غير أنّ هناك جانب من الفقه لا يعترف بالركن الشرعي ويعتبر أنّ للجريمة ركنان فقط، ركن مادّي وركن معنوي، على أساس أنّ النص القانوني هو خالق الجريمة لا يصُّحُّ أن يكون جزءا منها.

إلاّ أن الراجح في الفقه أنّ الركن الشرعي يتمثلّ في صفة عدم المشروعية وهي مُنفصلة عن النصّ القانوني، فهذا الأخير هو مصدر عدم المشروعية. ويستند الركن الشرعي إلى شروط أساسية:

1ـ شرط وجود النصّ القانوني للتجّريم والعقاب (المادّة 1 ق ع ج)   

2ـ شرط قابلية النصّ القانوني للتطّبيق في الزمان (المادّة 2 ق ع ج)         

3ـ شرط قابلية النصّ القانوني للتطّبيق في مكان معينّ (المادّة 3 ق ع ج)

4ـ شرط عدم خضوع الفعل لنصّ الإباحة ندرسه في الركن المادّي للجريمة (الأفعال المُبرّرة).

المطلب الأول: مبدأ الشرعية الجنائية

المادّة الأولـى ق ع ج: (لا جريمة ولا عقوبة أو تدبير أمن بغير قانون)

ورد في المادّة الأولى من ق ع أربع (4) مُصطلحات وهي:

1ـ الجريمة: فعلُ غير مشروع صادر عن إرادة جُرمية يقُرّر له القانون جزاءا جنائيا.

2ـ العقوبة: جزاءٌ جنائي يقُرّره القانون يطُبقّ على مُرتكب الجريمة بغرض الردع والإصلاح والعدالة.

3ـ التدبير الأمني: إجراءا قانوني في مواجهة الخطورة الإجرامية، يطُبقّه القاضي للوقاية والعلاج

"القانون" هو المُصطلح الرابع الذي تدور حوله الفكرة الأساسية للمادّة الأولى من قانون العقوبات. 

عبارة النصّ تتضمّن شرط القانونيةّ في التجّريم والعقاب والتدبير الأمني. أي يجعل للقاعدة الجنائية  مصدرا  وحيدا هو القانون.

ـ  يخُاطب النص بهذا المبدأ من جهة القاضي باعتباره  يطُبقّ القانون وله صلاحية تفسيره، ومن جهة أخرى يخاطب المُشرّع باعتباره مُصْدِر القانون.

الفرع الأوّل: التعريف بمبدأ الشرعية الجنائية: 

الفرع الثاني: نتائج تكريس مبدأ الشرعية الجنائية:

الفرع الأول: التعريف بمبدأ الشرعية الجنائية

المقصود بمبدأ الشرعية الجنائية هو قانونية التجّريم والعقاب، حيث يعُدُّ القانون الجنائي من أخطر القوانين التي تملكها السلطة السياسية في الدولة بهيئاتها الثلاثة، وذلك لمساسه بالحقوق والحريات الأساسية للأفراد، فهو يتضمّن عقوبات خطيرة كالإعدام، والسجن المؤبدّ والسجن المؤقت والغرامة والمُصادرة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية...إلخ.

بغرض التعريف بالمبدأ لابد من تحديد معناه في الفقه والتشريع وتقديره ببيان جوانبه الإيجابية التي لقي على أساسها التأييد، وسلبياته التي لقي بسببها الانتقاد.

أوّلا: مفهوم مبدأ الشرعية الجنائية وتاريخه:

أ) مفهوم مبدأ الشرعية الجنائية 

1) مضمون المبدأ يقُصد بمبدأ الشرعية الجنائية أنّ تجريم الأفعال بإعطائها الصفة الجُرمية يكون بأداة القانون الذي يحُدّد عناصر الجريمة والعقوبات المطبقّة عليها، فكل فعل لا ينصّ القانون على تجريمه

وعقابه لا يؤاخذ عليه فاعله، لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة وهي غير محدّدة وإنمّا الأفعال المجرّمة هي المحصورة والمحدّدة.

فنظرا لخطورة مضمون القانون الجنائي بالنسبة للحقوق والحريات فقد استقر الفكر الجنائي الحديث، على أنّ الفعل مهما كانت خطورته، ومهما كانت جسامة إضراره بالمجتمع، ومهما كان مُخالفا للدين ومُضادا للأخلاق ومُنافيا للعدالة، ومهما كانت الخطورة الإجرامية لمُرتكبه، لا يشُكل جريمة ولا يقع تحت طائلة العقاب، إلاّ إذا كان هناك قانون صريح يجُرّمه ويقُرّر له عقوبة محدّدة. 

2) نطاق مبدأ الشرعية الجنائية يشمل نطاقه الجانبين الموضوعي والإجرائي:

حدّد المُشرّع الجزائري في المادّة الأولى من قانون العقوبات النطاق الموضوعي للمبدأ بثلاث عناصر هي الجريمة والعقوبة والتدابير الاحترازية. 

ـ الجريمة: يقضي مبدأ الشرعية الجنائية بأنّ الإدانة بالوصف الجنائي للفعل يقتضي مُطابقة الفعل للنموذج التشريعي الوارد في نصّ التجريم، مُمثلا في قانون العقوبات والقوانين العقابية المُكمّلة، يحُدّد الأفعال التي تعُتبر جرائم، حيث يجب أن يحتوي النص على كافةّ العناصر التي يتطلبها النموذج التشريعي للجريمة، فيعُرّف كل جريمة بأركانها. 

ـ العقوبة: لا يحق للقاضي أن يحكم بعقوبة غير منصوص عليها ولا أن يحكم بأشدّ من العقوبة المنصوص عليها. قال سيزار بيكاريا وهو أوّل من نادى بهذا المبدأ في أوربا في القرن 18 "إنّ القوانين وحدها هي التي تستطيع أن تحُدّد العقوبات المُطبقّة على الجرائم"

ـ التدابير الاحترازية: تدخل في مبدأ الشرعية التدابير الأمنية التي تطُبقّ على من هم في حالة خطورة إجرامية، بحيث لا يستطيع القاضي أن يحكم بغير التدابير المنصوص عليها في القانون.

ـ هذا بالإضافة للنطاق الإجرائي، الذي كرّسه المُشرّع في المادّة الأولى من قانون الإجراءات الجزائية "يقوم هذا القانون على مبادئ الشرعية والمحاكمة العادلة واحترام كرامة وحقوق الإنسان...". 

3) تكريس المبدأ في النصوص الدولية والوطنية:

ـ على مُستوى الوثائق الدولية: نصّت على مبدأ الشرعية الجنائية المادّة 11 /2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، والمادّة 7 من الإتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان 1950. والمادّة 15 فقرة 1 و2 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966. 

ـ على مُستوى الدساتير والتشريعات الداخلية: 

تقرّر المبدأ في كل الدساتير الجزائرية، وفي قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجزائية. 

ـ في الدستور الجزائري (2016):  نصّت عليه النصوص التالية:

ـ المادّة 58 "لا إدانة إلا بمقتضى قانون صادر قبل ارتكاب الفعل المجرّم". 

ـ المادّة 59 "لا يتُابع أحد، ولا يوُقفّ ولا يحُتجز إلا ضمن الشروط المُحدّدة بالقانون، وطبقا للأشكال التي نصّ عليها". ـ المادّة 158"أساس القضاء مبادئ الشرعية والمساواة..".

ـ المادّة 160 "تخضع العقوبات الجزائية إلى مبدئي الشرعية والشخصية". 

ـ في قانون العقوبات بموجب المادّة الأولى "لا جريمة ولا عُقوُبة أو تدبير أمن بغير قانون" 

ـ في قانون الإجراءات الجزائية بموجب المادة الأولى "يقوم هذا القانون على مبادئ الشرعية والمحاكمة العادلة واحترام كرامة وحقوق الإنسان".

ب) تاريخ مبدأ الشرعية الجنائية:

1) في العصور القديمة: كان المبدأ في بدايته عرفيا، أي أعراف مُستقرّة يطبقها ويتناقلها حُكّام الجماعات وكبار شيوخها، فينفذّون بموجبها على الجاني عقوبة تكافئ جريمته كمّا ونوعا. 

ثم بعد زمن أخذت تظهر إلى جوار الأعراف قواعد مكتوبة على الأحجار وتذُاع في الساحات العامّة.

ثمّ جاء في التوراة ككتاب سماوي تنظيم لعقوبات تطبقّ على مجموعة من الجرائم. 

2) في العصر الإسلامي: الشريعة الإسلامية هي السباّقة في تقرير المبدأ في صورته المتطوّرة.

ـ من القرآن الكريم: يستند المبدأ على نصوص صريحة تعتبر أنّ الشرع ينُذرُ قبل أن يعُاقب

ـ ﴿ ... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15)﴾ (الإسراء). ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)﴾ (القصص). (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ (19)﴾ (الْأنعام) ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)﴾ (فاطرَ) ﴿ .. رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)﴾ (النساء). ﴿ وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)﴾ (الْنعام).

ـ من القواعد الفقهية: تجُسّد المبدأ قاعدة "لا حكم على أفعال العقلاء قبل ورود النصّ" أي أنّ أفعال المكلفّ المسؤول لا يمُكن وصفها بأنهّا مُحرّمة مادام لم يرد نٌّصٌّ بتحريمها، ولا حرج على المكلف أن يفعلها أو يتركها، حتى ينُصّ على تحريمها. وـ قاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة والأصل في الأفعال الجواز والأصل في الذمّة البراءة".

3) في القرون الوسطى والعصر الحديث:

ـ في القرون الوسطى كان أوّل ظهور لبوادر المبدأ في القانون الإنكليزي عندما نصّ عليه ميثاق هينري الأوّل، ثمّ تضمّنه دستور كلاريندون وأكّده بعد ذلك العهد الأعظم (Magna Charta) الذي أصدره الملك جون سنة 1215، حيث نصّت المادّة 29 منه "لا يمكن إنزال عقاب ما بأي إنسان إلاّ بمحاكمة قانونية من أنداده طبقا لقانون البلاد".

ـ في العصر الحديث: نادى بهذا المبدأ الفقهاء والفلاسفة لأوّل مرّة في القرن 18، وكان من أبرزهم الفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو في كتابه "روح القوانين"، والفقيه الإيطالي سيزار بيكاريا الذي كان يقول "إنّ القوانين المنشورة هي وحدها التي تستطيع أن تضع العقوبات المطبقّة على الجرائم". 

نصّ عليه بعد ذلك بهذه الصيغة إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي سنة 11789 م إباّن الثورة الفرنسية في المادّة 2 منه. ثمُّ نصّ عليه دستور الجمهورية الفرنسية التي حلتّ محلّ النظام الملكي في 24 جوان 1793. وتضمّنه قانون العقوبات الفرنسي لسنة 1810 في المادّة 4 منه. وهكذا أخذ المبدأ الطاّبع العالمي ونصّت عليه جلّ الدساتير والتشريعات العقابية في العالم.

ـ ثمّ امتدّت يد الإصلاحات إلى المبدأ، من  مُنطلق الضرورة والحاجة العملية ،حيث كرّست بعض التشريعات مبدأ توسع القاضي في تفسير النصّ الجنائي، وتطبيقه بأثر رجعي إذا كان أسوؤ للمتهم. خاصّة في الجرائم الخطيرة كجرائم أمن الدولة والإرهاب.

ثانيا: تقدير مبدأ الشرعية الجنائية من طرف الفقه (مُبرّرات وانتقادات المبدأ)

كان المبدأ محل نقاش فقهي بين مؤيدّ له على أساس جملة من المزايا والمُبررات، وبين مُعارض له على أساس يعض العيوب والانتقادات.

أ) مُبرّرات المبدأ ومزاياه:

الغرض من المبدأ هو حماية الإنسان من خطر التجريم والعقاب وجعله في مأمن من تحكّم وتعسّف القاضي وشطط الإدارة، كما أنهّ يحمي المصلحة العامّة في المجتمع ويستند إلى عدّة مُبرّرات ومزايا:

1ـ مبدأ سيادة القانون: يرتبط مبدأ الشرعية الجنائية بمبدأ سيادة القانون عند حلول الدول الديمقراطية في أوروبا أواخر القرن 18، محل الدّولة البوليسية والأنظمة الملكية الاستبدادية. وبموجبه كُرّست قاعدة المساواة في المسؤولية الجزائية وألغي تميزّ الإقطاعيين والنبلاء ورجال الدّين. 

2ـ مبدأ فصل السلطات: يستند مبدأ الشرعية الجنائية إلى مبدأ تمايز السلطات في الاختصاصات والصلاحيات، فليس للقاضي أن يجُرّم فعلا أو يعاقب عليه دون الاستناد إلى قانون، وليس للسلطة التنفيذية أن تختصّ بالتشريع في مجال الجرائم والعقوبات.

3ـ ضمان الحقوق والحريات الفردية، يضع المبدأ حدّا فاصلا واضحا بين ما هو مُجرّم وما هو مُباح من الأفعال، فمن ارتكب فعلا غير مُجرّم فهو في مأمن من المُساءلة الجنائية، بل المبدأ يشُجع الأفراد على المساهمة في نشاطات الحياة بكل حرية دون خوف. ومن ارتكب فعلا مجرّما فهو في مأمن من إنزال عقوبة أشدّ من العقوبة المقررة وقت ارتكاب الجريمة، فالمبدأ يمنع تحكّم وتسلطّ القضاة والسلطات في الحقوق والحرّيات الفردية. حيثُ يسهل اكتشاف تعسف القاضي بمُجرّد عرض حكمه على ميزان القانون المكتوب.

4ـ تحقيق مصلحة المجتمع في الوقاية من الجريمة: يحُققّ المبدأ مصلحة عامّة للمجتمع من خلال التصدّي للجريمة قبل ارتكابها, فالوقاية خير من العلاج. لأنهّ يضغط على النوايا الإجرامية ويمنع خروجها إلى الواقع بغرضها الرّدعي التحّذيري، فهو يعرّف الفرد سلفا بما ينتظره إذا أقدم على انتهاك حرمة القانون.

5ـ يعُطي للعقاب أساسا قانونيا: ممّا يجعلهُا مُبرّرة ومقبولة لدى الرأي العام، فالمبدأ يذُهب سخط الناس من قسوة الأحكام القضائية، لأنهّ حاز رضاهم وثقتهم عند إصداره. فمن ارتكب الفعل المجرّم رغم التحذير المنشور والمعروف يعلم أنهّ جلب العقاب لنفسه بإرادته.

6ـ يحُققِّ المساواة بين جميع الأفراد لأنّ المشرع ينصّ على التجريم والعقاب مُسبقا بطريقة عامّة ومجرّدة دون أن يعُلم سلفا على من سوف يطُبق النص في المستقبل، وبهذا لا يكون هناك اعتبار لمن يخُالف النص العقابي من ناحية صفته أو مركزه الاجتماعي. ويؤدّي الى وحدة الأحكام الجنائية بتحقيق المساواة.

ب) الانتقادات الموجّهة لمبدأ الشرعية الجنائية: انتقدِ مبدأ الشرعية الجنائية بعدّة عيوب:

1) عيب التعارض مع تفريد العقوبة: انتقدته المدرسة الوضعية بأنهّ يعتبر الجريمة كيانا قانونيا مُجرّدا عن شخص مُرتكبها، ويحُدّد العقوبة على أساس درجة خطورة الجريمة وجسامة ضررها، ولا ينظر لخطورة المجرم، ويهمل ظروفه. فالمبدأ يمنع القاضي من توقيع العقوبة المُلائمة لظروف مُرتكبها. 

نتيجة لهذا الانتقاد جاءت فكرة مبدأ تفريد العقوبة بالأخذ بالحدّين الأدنى والأقصى بعدما كانت محدّدة بمقدار واحد، وبالعقوبات المتنوعة لاختيار إحداها، وبظروف التخّفيف ونظام وقف تنفيذ العقوبة.

2) عيب الجمود: يتسببّ هذا المبدأ في جعل التشريع الجنائي جامدا وعاجزا عن مواجهة ومواكبة تطور الحياة وتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية ومُنتجات العلم والتكنولوجيا والمستجدات السريعة التي تسمح بظهور أفعال جديدة على المجتمع مُخلةّ بأمنه ونظامه لا ينص القانون على تجريمها، لأنّ المشرع لا يمُكنهُ الإحاطة سلفا بكل ما قد تفرزه الحياة الاجتماعية. ومن ثمّ لا تتحقق الحماية من الجريمة. 

3) مخالفة مبادئ الأخلاق: انتقد بأنهّ قاعدة غير أخلاقية تسمح بإفلات الكثير من المجرمين من العقوبة، عن طريق استغلال ثغراته والاستفادة من غياب النص لاتقاء العقوبة، فهو مكتوب ومعروف لديهم ،والمشرّع لا يمكنه أن يحصر جميع السلوكات الضارّة والخطيرة والتي يبُدع أساليبها المُجرم على المستوى الفردي وينُتجها تطوّر المجتمع، وبالتالي يحرم المجتمع من الحماية ضدّ الجرائم الغير منصوص عليها.

الفرع الثاني: نتائج تكريس مبدأ الشرعية الجنائية:

يتميزّ القانون الجنائي بالقسوة والقمع ضدّ الحقوق والحرّيات من خلال طبيعة العقوبات التي يقُرّرها كالإعدام وسلب الحرّية والحرمان من الحقوق المالية والمدنية والسياسية. فالطبيعة الخطرة لهذا القانون تقتضي توخي الحذر والحيطة في إصداره وتطبيقه وتفسيره، وذلك هو هدف مبدأ الشرعية.

أوّلا: نتائج المبدأ المتعلقّة بالمُشرّع (حصر مصادر التجّريم والعقاب في القانون)

المصدر الوحيد لقاعدة التجريم والعقاب، هو النصّ القانوني المكتوب، على خلاف الأمر بالنسّبة للقاعدة غير الجنائية في القوانين الأخرى كما تنصّ عليه المادّة (1) من القانون المدني فللقاعدة القانونية خمسة مصادر، هي القانون والشّريعة الإسلامية والعرف وقواعد العدالة ومبادئ القانون الطبيعي.

لكن السّؤال المطروح: ما هي طبيعة القانون الذي يقصده المشرّع في المادّة الأولى من قانون العقوبات، وطريقة صياغته وضوابط إصداره؟ وما هي الإلتزامات أو القيود التي يتقيدّ بها المشرّع في عملية التجريم والعقاب بمُقتضى مبدأ الشرعية.

أ) طبيعة القانون:

بتفحّص القوانين الجنائية، نجد أنّ القاعدة الجنائية متنوّعة الأشكال، فيأتي القانون بمفهومه الدّستوري الضّيق أي النصّ التشريعي وهو الأصل وذلك في مجال الجنايات والجنح الخطيرة، ويأتي بمفهومه الواسع ليشمل النص التنظيمي وهو الاستثناء خاصّة في مجال الجنح والمخالفات غير الخطيرة.

1) النصّ التشريعي كمصدر أصلي للقاعدة الجنائية: يقُصد بالتشريع ذلك القانون الصّادر عن الهيئة المختصّة بالتشّريع وهي البرلمان، بالتصّويت عليه في المجلس الشّعبي الوطني ومجلس الأمّة (الم 112 دستور). ويسُتفاد ذلك من النسخة الفرنسية لنصّ المادّة الأولى من قانون العقوبات وترجمة كلمة "قانون" بمُصطلح " lois " الذي يقُصد به التشريع. ويسُتفاد من نص المادّة 140 من الدستور التي تجعل مجال قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجزائية والعفو الشامل وتسليم المجرمين ،من مجالات التشريع الحصرية بالنسبة للبرلمان. وترُكّز هذه المادّة على الجنايات والجنح باعتبار خطورتها.

2) النصّوص التنظيمية كمصدر استثنائي للقاعدة الجنائية: ـ تقتضي الضرورة السماح للسلطة التنفيذية بإصدار نصوص جنائية في مجال الجرائم غير الخطيرة، لأنّ النصوص التنظيمية وسيلة سريعة يمكن بواسطتها مواكبة تطوّرات المجتمع. وخاصّة في مجال المُخالفات والجنح البسيطة القليلة الخطورة ،مثلما يسُتفاد من نص المادّة 140 من الدستور عندما ترُكّز على الجنايات والجنح بالنسبة للتشريع ولا تذكر المُخالفات. حيثُ يتمّ تفويض الاختصاص بالتشريع إلى السّلطة التنفيذية إمّا لعدم مقدرة البرلمان على مواكبة التغّيرّات السريعة الحادثة في المجتمع، وإمّا لتعذّر التشّريع في المجالات التقنية، وإمّا لوجود ظروف استثنائية غير عادية. 

ـ الأوامر الرئاسية: يعُمل بها في حالتين تحدّدهما المادّة 142 من الدّستور وكلاهما يمُثل حالة الظروف الغير عادية، وهي حالة المسائل العاجلة خلال الشغور أو العُطل البرلمانية (الم 142 /1 دستور)، يشُرّع رئيس الجمهورية بأوامر في هذه الحالة في جميع ميادين التشريع بما فيها الميدان الجنائي، بشرط عرض القانون على كل غرفة من البرلمان في أوّل دورة موالية للموافقة، ويعُدُّ القانون لاغيا في حالة عدم الموافقة. والحالة الاستثنائية (الم142/2 دستور) يمكن رئيس الجمهورية أن يشُرّع بأوامر في الحالة الاستثنائية المنصوص عليها في المادّة 107 من الدّستور وهي حالة الخطر الدّاهم على البلاد الذي يوُشك أن يصُيب مؤسساتها الدستورية أو استقلالها أوسلامة ترابها.

ـ المراسيم: قد تكون مراسيم رئاسية صادرة عن رئيس الجمهورية (الم 143 دستور)، وقد تكون مراسيم تنفيذية صادرة عن الوزير الأوّل (الم 99 دستور).

ـ القرارات: الصّادرة إمّا عن أحد الوزراء، أو عن أحد رؤساء الجماعات المحليّة.

3) المصادر الأخرى غير المُباشرة

ـ الدّستور: هو القانون الأساسي للدّولة يصدر بموجب الاستفتاء العام، يمثل مصدرا للقاعدة الجنائية لأنهّ يحتوي الكثير من مبادئ القانون الجنائي، مثل قرينة البراءة (الم 56) والشرعية الجنائية وعدم رجعية القانون (الم58) وشخصية العقوبة (الم 160) وحق الدفاع (الم 169)...إلخ.

وينصّ مثلا في المادة 41 أنهّ يعاقب القانون على المخالفات المرتكَبة ضدّ الحقوق والحرّياّت، وعلى كلّ ما يمسّ سلامة الإنسان البدنيةّ والمعنويةّ. 

ـ المعاهدات والتفّاقيات والمواثيق الدّولية: تكون مصدرا للقانون الجنائي عندما يصُادق عليها رئيس الجمهورية، حيث أنّ المعاهدة تسمو على القانون حسب ما تنصّ عليه المادّة 150 من الدستور، وكل هذه الوثائق تحتوي على مبادئ القانون الجنائي، وتنصّ على مجموعة من الجرائم، ومن أمثلتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 10/12/1948. والعهد الدّولي للحقوق المدنية والسياسية المصادق عليه من قبل الجمعية العامّة للأمم المتحّدة في 16/12/1966، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشّعوب 28/06/1981. واتفاقية فييناّ 1988 لمُكافحة الإتجار غير المشروع بالمُخدّرات والمؤثرات العقلية، وإتفاقية مكافحة الجريمة المُنظمة عبر الوطنية 2000. واتفاقية مكافحة الفساد لسنة 2003. كلّ هذه الاتفاقيات صادقت عليها الجزائر.

ب) ضوابط إصدار القانون الجنائي:

مبدأ الشرعية الجنائية يلتزم به المُشرّع كضمانة لعدم إسرافه في التجريم والقسوة في العقاب، وعدم التقصير والتفريط في واجب حماية المجتمع من الجرائم، ومن ثمّ يلزمه بمجموعة من الضوابط. وإذا لم يلتزم بها يعُتبر خارقا لمبدأ الشرعية ومن ثمّ عدم دستورية النص.

1) من ناحية طريقة الصياغة: يلتزم المُشرّع باحترام طرق الصياغة التالية:

ـ أن تكون صياغة القانون الجنائي بعبارات واضحة وصريحة ودقيقة وغير غامضة تؤُدّي الغرض

ـ أن يحُدّد العناصر المكوّنة الجريمة بدقةّ.

ـ أن يحُدّد عقوبة كل جريمة، وظروف تشديدها بوضوح.

ـ أن يحُدّد بوضوح التدّابير الأمنية وشروط تطبيق كلّ منها على الحالة المناسبة، والعناصر والعلامات المميزة لحالة الخطورة الإجرامية. 

ـ أن يتميزّ بالمرونة، باستعمال الألفاظ والصيغ العامّة التي تسمح بإدخال عدد من الأفعال المتشابهة في تكييف واحد، خاصة في نوع التجريم غير الخطير

2) من ناحية طريقة السريان: يمُنع على المُشرّع إعطاء الأثر الرجعي للقانون الذي يصُدره خاصّة إذا كانت فيه أحكاما شديدة. فالمادّة 58 من الدستور تمنع الإدانة بالنص الصادر بعد وقوع الفعل.

3) من الناحية الموضوعية: غرض مبدأ الشرعية هو تقييد المشرّع بالضوابط التالية:

ـ أن تتوافق النصوص الجنائية مع الحقوق والحرياّت، حيث ينبغي عدم التضييق عليها.

ـ أن يستند التجريم إلى الضرورة الاجتماعية، بتلبية حاجة المُجتمع دون إفراط ومُغالاة، ودون إفراط وتقصير، أي يكون بالقدر اللازم والكافي لحماية مصالح المجتمع، من السلوكات التي فيها خطورة على قيم المجتمع الأخلاقية أو الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.

ـ أن يكون العقاب مناسبا لخطورة الجريمة وجسامة ضررها على الشخص محل الحماية.

ثانيا: نتائج مبدأ الشرعية المُتعلقّة بالقاضي (ضوابط تفسير القانون الجنائي)

يخضع القاضي الجنائي لمبدأ الشرعية طبقا للنصوص الدستورية التي يوُجّه فيها إليه الخطاب عندما يقُرّر أنّ: "أساس القضاء مبادئ الشرعية والمساواة..." (المادّة 158).

- ونظرا لكونه هو المُختصّ قضائيا بالإدانة والعقاب فإنّ الدستور يلُزمُه بأن يطُبقّ النصّ القانوني الجنائي الواضح بحسب ما يدُّلُّ عليه معناه الحرفي. وأن يطُبقّه بأثره الفوري وليس بأثر رجعي." لا  إدانة إلا بمقتضى قانون.." (الم58) وأن "تخضع العقوبات الجزائية إلى مبدئي الشرعية والشخصية" (الم160).

أ) التفّسير الضيقّ للقانون الجنائي:

التفسير هو استخلاص الحكم القانوني من النصوص التشريعية المعمول بها، وهو عملية ذهنية يتوصّل بها القاضي إلى المعنى الحقيقي الذي يقصده المشرّع من النصّ القانوني، وتفسير القانون هو الذي يحُدّد نطاق تطبيقه ،لأنّ النصّ عادة يكون مختصرا وعامّا ومُجرّدا ممّا يجعله ينطوي على بعض الغموض أحيانا مثل كلمة "ليلا " في المادّة 353 وعبارة " الفعل المخلّ بالحياء" "وهتك العرض" في المواد 333-336 وعبارة "الطفل حديث العهد بالولادة" في المادّة 261/ 2، وأراضي الجمهورية "في المادّة 3. و كلمة "قانون" في المادّة 1. ، عبارة الإستهزاء بما هو معلوم من الدين بالضرورة في المادّة 144 /2 ق ع ج.

وتفسير قانون العقوبات يختلف عن تفسير القوانين الأخرى، لأنّ من أهمّ نتائج مبدأ الشرعية الجنائية عدم التوسع في التفسير، وإبقائه في أضيقّ الحدود، بتقيدّ القاضي في عمله بالضوابط التالية:

1) الإلتزام بالمعنى الحرفي للنصّ إذا كان واضحا سليما: فلا يجوز للقاضي التأويل والاجتهاد إذ لا اجتهاد مع النصّ حتى لو بدى له غير عادل أو غير صالح. 

فإذا كانت تنصّ الفقرة 1 من المادّة الأولى من القانون المدني الجزائري أنهّ "ـ تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها. " أي يسُتخلص الحكم من العبارة أو الإشارة أو الدلالة. أي من ألفاظ النص وروح النص معا، فإنّ القاعدة في تفسير القانون الجنائي السليم الواضح هي الأخذ بالمعنى الحرفي دون فحواه، أي بالتقيدّ بألفاظه ومُفرداته إذا كانت تحتمل معنى  واحدا، وبالمعنى الاصطلاحي للعبارات إذا كان لللفظ أكثر من معنى.

2) الإلتزام بالتفّسير الضيقّ للنصّ المعيب: إذا كان النصّ معيبا بخطء أو غموض أو نقص أو تعارض فلا يجوز التوسّع في تفسيره، مثل النصّ الغامض الذي يحمل أكثر من معنى، فيلتزم القاضي بما يكفي لمعرفة قصد المشرّع، ويمكن أن يستعين بالوسائل التالية:

ـ اعتماد التفّسير الغائي للنصّ بالبحث في حكمته وعلتّه في إطار مصلحة المتهّم، بمعرفة العلةّ من التجّريم والمصلحة المحمية بواسطة النصّ، وهو ما يسُمّى بالتفسير المنطقي مثل معنى الليل.

ـ الاسترشاد بالأعمال التحّضيرية والمذكّرات التفّسيرية والظروف التي صدر فيها النصّ.

ـ الرّجوع إلى المصدر التاريخي للنصّ.

ـ المقارنة بين لغتي النصّ الرّسمي (العربي) والنصّ الأصلي (الفرنسي).

3) الإلتزام بقاعدة الشك يفُسّر لصالح المُتهم: إذا لم يتوصل القاضي إلى القصد الحقيقي للنصّ أو حصل له شك في معنى النصّ من حيث انطباقه على الوقائع يقضي بالبراءة.

ـ التوّجّه الحديث في القانون الجنائي يسير نحو رفع القيد عن القاضي وتوسيع سلطاته في تطبيق النصوص وملاءمة وتفريد العقوبة، بمراعاة شخصية المتهّم واعتماد معيار خطورة الإجرامية والتخفيف من معيار جسامة الضّرر.

ب) حضر القياس:

القياس هو الحكم في مسألة لم ينظمها القانون عن طريق استعارة الحكم الذي قرّره القانون لمسألة مشابهة. أو هو إعطاء حكم حالة منصوص عليها لحالة غير منصوص عليها لتشابه الحالتين في العلةّ. 

ـ القياس لا يكون في حالة النصّ الواضح ولا النص المعيب ولكن في حالة انعدام النصّ الذي ينظم المسألة، (غياب النصّ أو سكوت القانون) أي لا يوجد نص يجُرّم الفعل ويعاقب عليه.  

ـ وحكم القياس في القانون الجنائي أنهّ غير جائز لأنّ الأصل حسب مبدأ الشرعية أنّ لكلّ فعل تكييفه ،ولا يجوز حمل تكييف على فعل غير مجرّم أصلا لاتحاد علتّه مع تكييف الفعل المجرّم المشابه له. 

وهذه القاعدة مقرّرة أصلا لفائدة المتهّم فلا يمكن السماح بانقلابها عليه. ولهذا السبب لم يتم قياس سرقة الكهرباء وعدم دفع أجرة الفندق أو ثمن الأكل في المطاعم على نص جريمة السرقة. 

لكن لا يتعارض القياس عندما يصبُ في مصلحة المتهم حيث يجوز للقاضي القياس مثلا في مجال أسباب الإباحة.

المطلب الثاني: تطبيق قانون العقوبات من حيث الزمان

المادّة الثانية ق ع ج: (لا يسري قانون العقوبات على الماضي إلاّ ما كان منه أقلّ شدّة).

تعُتبر طريقة سريان القانون الجنائي من النتائج المباشرة لمبدأ الشّرعية، وخرقها يعُدّ خرقا صارخا لمبدأ الشّرعية الجنائية الذي عليه يكون مدار أحكام التجريم والعقاب والمتابعة. حيثُ نصّ على أحكام سريان قانون العقوبات من حيث الزمان، في المادّة الثانية من قانون العقوبات، وفي المادة 58 من الدستور.

عندما ترُتكب الجريمة في ظلّ قانون ما، وتأتي محاكمتهُا في ظلّ قانون آخر يصَدُر بعده ويحُدث تغييرا في أحكام تلك الجريمة، يحصل التنّازع لدى القاضي بين تطبيق القانون الأوّل على اعتبار أنّ الجريمة ارتكُبت في ظلهّ وقام حق المتابعة بموجبه، وبين تطبيق القانون الثاني على اعتبار أنهّ هو القانون السّاري المفعول ساعة المحاكمة بعد زوال القانون الأوّل.

يتضمّن نصّ المادّة 2 من ق ع فكرتين هما القاعدة الأصلية والقاعدة الاستثنائية نتناولهما في فرعين:

الفرع الأوّل: قاعدة عدم سريان قانون العقوبات على الماضي (عدم رّجعية القانون الأشدّ)

الفرع الثاني: قاعدة سريان قانون العقوبات الأقل شدّة على الماضي (رّجعية القانون الأخفّ)

الفرع الأول: عدم سريان قانون العقوبات على الماضي (قاعدة عدم رجعية القانون الأشد)

ما هو مفهوم القاعدة ومُبرّراتها واستثناءاتها، وكيف يتمّ تطبيقها على مُختلف أنواع الجرائم.

أوّلا: التعريف بقاعدة عدم رجعية قانون العقوبات

أ) مفهوم قاعدة عدم الرجعية

هذه التسمية هي ترجمة للنسخة الفرنسية من عبارة المادّة الثانية من قانون العقوبات الجزائـري ( …La loi pénale n est pas rétroactive ) فما هو الماضي بالنسبة للقانون؟ وما المقصود بالرجعية أو السريان على الماضي؟ وما الحكمة من منع الأثر الرجعي للقانون الجنائي؟

1) المقصود بالرّجعية وعدم الرجعية: 

ـ رجعية القانون هي الرجوع بتطبيق القانون إلى الماضي بأن يكون له أثر وسريان في زمن سابق مضى قبل تاريخ صدوره. 

والماضي بالنسبة للقانون هو كُلّ الوقائع التي حدثت قبل تاريخ صدور القانون أو نفاذه، فالقانون في هذه الحالة يعُتبرُ جديدا بالنسبة للواقعة. والمعيارُ في تحديد الماضي بالنسبة لقانون العقوبات هو تاريخ الفعل (الجريمة) وليس تاريخ المحاكمة، وهذا بصريح المادّة 58 من الدستور ،"لا إدانة إلا بمقتضى قانون صادر قبل ارتكاب الفعل المُجرّم"، فإذا جاءت مُحاكمة الفعل في ظل قانون آخر جديد، فإنهّ يطُبقّ القانون الساري وقت ارتكاب الفعل وليس الساري وقت المُحاكمة.

ـ المقصود بعدم الرّجعية هو أن لا يرجع القانون في تطبيقه إلى تلك الجرائم المُرتكبة قبل تاريخ صدوره أو نفاذه ،حيثُ لم يكن له وجودٌ في ذلك التاريخ، والقاعدة الأصلية تقضي بتطبيقه بأثره الفوري المباشر على الوقائع المُعاصرة له التي يتوافق زمنه مع زمنها (ما بين لحظة النفاذ ولحظة الإلغاء).

2) تبرير قاعدة عدم الرجعية هو أنهّ من النتائج الحتمية لمبدأ الشرعية الجنائية الذي يقتضي عدم مُفاجأة الأفراد بقوانين لم تكن معروفة لديهم لعدم وجودها وقت ارتكاب الفعل، فالأصل أنّ القانون ينُذر قبل أن يعُاقب. ويعدُّ المبدأ إحدى الضمانات الأساسية لحماية الأفراد من تحكُّم السلطات (القوة العمومية- الشرطة القضائية -القضاء).

ب) استثناءات قاعدة عدم الرجعية

صورة الإستثناء هي رجعية القانون الجديد رغم كونه أشدّ من القانون المُعاصر للفعل.

1) النص التفسيري: النص التفسيري هو النصّ الصادر لتحديد أو توضيح معنى نصّ سابق، حيثُ يكون لهذا القانون المفسِّر أثرا رجعيا لأنّ التفسير يهدف إلى توضيح نص سابق وليس إضافة أحكام جديدة ،أو تعديل أحكام قائمة، فهو يتبع النص الأوّل موضوع التفسير ويندمج فيه، فمن الطبيعي إذن أن يكون تطبيقهُما من حيث الزمان  واحدا، حيثُ يسري النص الجديد التفسيري على كل ما سرى عليه النص السابق حتى لو كان هذا التفسير يجعل القانون أشدّ ممّا كان عليه طبقا للتفسير السابق. مثل تفسير معنى الليل الذي قد يحُوّل جنحة السرقة البسيطة إلى جناية السرقة الموصوفة.

2) النصّ الصريح بالرجعية: في حالة وجود نصّ قانوني يقضي صراحة بتطبيقه بأثر رجعي خلافا لمبدئي الشرعية وعدم الرجعية، فإنهّ يتعينّ على القاضي تطبيق هذا القانون على الأفعال المرتكبة قبل صدوره، إعمالا لإرادة المشرع، ويكون ذلك في حالات نادرة تتسم بالاستثنائية والخطورة، حيث يتحتمّ تقديم المصلحة الجماعية في حفظ النظام العام على حساب المصلحة الفردية. 

ثانيا: تطبيق قاعدة عدم الرجعية:

تطبيق القانون (بأثر فوري مُباشر) على واقعة ما يقتضي تطابق زمن القانون مع زمن الواقعة ولذلك يتطلبّ الأمر تحديد زمن القانون وتحديد زمن الواقعة الجرمية. 

أ) تحديد زمن القانون 

1) بعد إصداره من طرف رئيس الجمهورية لا يكون القانون نافاذ وساري المفعول  إلاّ بعد نشره في الجريدة الرسمية بمُدّة 24 ساعة بالنسبة للجزائر العاصمة وبعد 24 ساعة من وصول الجريدة الرسمية إلى مقرّ الدائرة في الولايات الأخرى (المادّة 4 من القانون المدني الجزائري). ويعمل القانون المصري بمُدة شهر من تاريخ النشر في الجريدة الرسمية حتى تكون معلومة لدى المواطنين. 

2) ويكون انتهاء سريان القانون في تاريخ إلغائه الصريح، أو إلغائه الضمني بالنص الجديد الذي يتعارضُ مضمونه مع مضمون النص القديم.

ب) تحديد زمن الجريمة:

وقت ارتكاب الجريمة بصفة عامّة هو وقت إتيان الفعل المادّي المُكوّن للجريمة، وليس بوقت تحقق النتيجة. والمعيار في ارتكاب الجريمة هو بتحقق جزء من الأجزاء المُكوّنة لرُكنها المادّي حسب مفهوم المادّة 586 من قا الإج الج، "تعُدُّ مرتكبة في الإقليم الجزائري كُل جريمة يكون عمل من الأعمال المُميزّة لأحد أركانها المُكونة لها قد تمّ في الجزائر".

1) الجريمة الآنية: تاريخ الجريمة هو تاريخ تحقق الركن المادّي الذي يقع في لحظة واحدة سلوكا ونتيجة كالضرب والسّب، حيث لا تطُرحُ صعوبة في تحديد القانون الواجب التطبيق.

2) الجرائم المُتراخية النتيجة: هي التي يقعُ فعلها ويتراخى أو يتأخّر تحقُّق نتيجتها في الزمن كالقتل بالتسميم، فالعبرة في تحديد وقتها بتاريخ حدوث الفعل بقطع انظر عن تاريخ النتيجة. 

3) الجريمة المُستمرّة: هي التي يستمُّرُّ ارتكابها فترة من الزمن، مثل حيازة المخدّرات وحيازة السلاح بدون ترخيص واختطاف الأشخاص وإخفاء الأشياء المسروقة، فهي مُرتكبة في كل لحظة من لحظات استمرارها. والعبرة في تحديد تاريخها بنهاية حالة الاستمرار على الأرجح، فإذا كانت بداية الجريمة في ظل قانون ونهايتها في ظل قانون آخر يطُبقّ بشأنها القانون الثاني باعتبارها مُرتكبة في ظلهّ فأثره عليها فورٌيٌ وليس رجعيٌ.

4) الجرائم الإعتيادية: يشُترط لقيامها عنصر الاعتياد الذي يكون بتكرار ارتكاب الجريمة أكثر من مرّة، كالتسوّل ومُمارسة الدعارة، والعبرة في تحديد تاريخ ارتكابها بتاريخ ارتكاب الجريمة للمرّة الثانية.

5) الجريمة المُتتالية الأفعال: هي التي يتكوّن رُكنها المادّي من عدّة أجزاء، مثل السرقة على دُفعُات ،فهي تعُدُّ مُرتكبة  في كل الدفعات، والعبرة بتاريخ أوّل دفعة.

الفرع الثاني: سريان قانون العقوبات على الماضي (قاعدة رجعية القانون الأقل شدة)

المقصود بالقاعدة هو أنهّ لا يطُبقّ القانون العادي الذي ارتكبت في ظلهّ الجريمة بأثر فوري بل يطُبقّ قانون آخر يصدر ويبدأ مفعوله بعد تاريخ ارتكاب الجريمة بأثر رجعي، وذلك إذا كان أقلّ شدّة من القانون الأصلي وكان صادرا قبل الحكم النهائي البات. 

نتناول فيما يلي شروط تطبيق قاعدة رجعية القانون الأقل شدّة

أوّلا: شرط أن يكون القانون الجديد أقلّ شدّة من القانون الذي وقعت الجريمة في ظلهّ:

المعنى العام للقانون الأقل شدّة هو القانون الذي ينُشئ له مركزا ووضعا أفضل له من غيره من القوانين، ويتحقق ذلك كُلمّا كانت آثار أحكام القانون أكثر رحمة ورأفة بالشخص وأقلّ قسوة. 

ـ وقد درج الفقه والقضاء والتشريع في التعبير عن القانون الذي يحمل هذا المعنى على استعمال عبارات ومصطلحات مختلفة كُلهّا تصب في مفهوم واحد، هو جعل المتهم في وضع ومركز أفضل:

"القانون الأصلح للمتهم" ، "القانون الأقل شدة"، "القانون الأكثر خفةّ"، واستعمل قانون العقوبات الجزائري في المادة 2 مصطلح "القانون الأقل شدة". واستعمل القضاء الجزائري وبشكل غالب مصطلح "القانون الأصلح للمتهم".

ويحُدّد القانون الأقل شدّة بمعايير مطبقة على نصوص التجريم ومعايير مطبقة على نصوص العقاب.

أ) المعايير المطبقة على نصوص التجريم:

1) معيار إلغاء التجريم: إذا ألغى القانون الجديد التجريم الذي ينص عليه القانون القديم، وانتفت صفة الجريمة نهائيا عن الفعل وصار مُباحا، فحينئذٍ يطُبق هذا النص الجديد بدل القديم. وقد نصّت المادة 6 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري على أنّ إلغاء النص التجريمي هو من أسباب انقضاء الدعوى العمومية، لعدم جدواها بعدما أبيح الفعل. ومثال ذلك جريمة سوء التسيير التي كانت منصوصا عليها في المادّة 421 ق ع ج ومُعاقبة بالحبس من شهرين إلى خمس سنوات وبغرامة من 2.000 إلى 10.000دج. فتمّ إلغاؤها بالقانون 88-26 سنة1988. 

2) معيار التضييق من دائرة التجريم: يكون القانون أقلّ شدّ إذا جاء يعُدّل من العناصر والأركان المكوِنة للجريمة بشكل يؤدي إلى التضييق من دائرة التجريم. ـ كأن يضُيف عنصرا أوشرطا جديدا في رُكنها المادّي لا يكون متوفرا بالنسبة للمتهم، مثل إضافة شرط الاعتياد في جريمة ممارسة الدعارة. 

3) معيار التوسيع من دائرة الإباحة: يعتبر القانون أقلّ شدّ إذا نصّ على سبب جديد يضاف إلى أسباب الإباحة أو موانع المسؤولية أو موانع العقاب، وكان هذا السبب متوفرا بالنسبة للمتهم.

4) معيار التخفيف من درجة التجريم بتغيير الوصف القانوني: يكون القانون أقلّ شدّ:

ـ إذا غيرّ من تكييف الجريمة في الاتجاه الأقل شدة، ف يجنحّ الجناية أو يحوّل الجنحة إلى مخالفة.

ـ إذا ألغى ظرف تشديد يكون متوفرا في فعل المتهم، كإلغاء صفة الخدم في خيانة الأمانة.

 ب) المعايير المطبقة على نصوص العقاب:

1) إلغاء العقوبة: إمّا أن يلغي القانون الجديد العقوبة كيّلة وهذا يعني إلغاء التجريم واباحة الفعل، أو يلغي العقوبة مع استبدلها بتدبير أمن دون إلغاء التجريم.

2) تخفيف نوع العقوبة: يعتمد على تصنفّ العقوبات بحسب تصنيف الجرائم من حيث خطورتها، فعقوبة الجنحة أخف من عقوبة الجناية بقطع النظر عن المدة، فمثلا الحبس في الجنحة لمدة 03 سنوات أقل شدّة من السجن في الجناية لمدة 5 سنوات والحبس شهرين في المخالفة أقل شدّة من الغرامة 20.000 دج في الجنحة. ولكنّ محكمة النقض الفرنسية خالفت القاعدة في هذه الحالة واعتبرت أنّ الحبس دائما يكون أكثر شدّة من الغرامة.

3) تخفيف درجة العقوبة: عندما ينصّ كلا القانونين على عقوبة من نفس النوع، يلجأ القاضي إلى المقارنة بينها من حيث درجات النوع الواحد للعقوبة مستندا في ذلك إلى السلم القانوني للعقوبات، حيث  يرُتبها المشرع الجزائري ترتيبا تنازليا من حيث الشدّة.

ـ النوع الأوّل عقوبات الجنايات: فيها ثلاث (3) درجات

1ـ الإعدام هو الأشدّ،

2ـ السجن المؤبد، أقل شدّة

3ـ السجن المؤقت، أقل شدّة

ـ النوع الثاني عقوبات الجنح :فيها درجتان (2) وهي:

1ـ الحبس أكثر من شهرين إلى 5 سنوات أو أكثر.

2ـ الغرامة المالية بأكثر من 20.000 دج.

ـ النوع الثالث عقوبات المخالفات: فيها درجتان (2) وهي:

1ـ الحبس من يوم واحد على الأقلّ إلى شهرين على الأكثر.

2ـ الغرامة المالية أقل من 20.000 دج

4) معيار إنقاص مقدار العقوبة: عندما تتماثل أنواع ودرجات العقوبات في القوانين محلّ المقارنة، يقارن بينها من حيثُ المقدار وهو المُدّة في العقوبة السالبة للحرّية، أو المبلغ المالي في الغرامة .حيثُ يكون القانون أقل شدّة إذا نزل بالحد الأقصى أو الأدنى للعقوبة أو بهما معا. لكن الصعوبة تكون عندما يرفع أحد الحدّين ويخفض الآخر، حيث اختلفت الآراء بشأن المعيار المتبع. مثلما إذا كان القانون الأوّل يعُاقب بالحبس من 3 أشهر إلى 5 سنوات، والقانون الثاني يعُاقب بالحبس من 2 سنتين إلى 3 سنوات. 

اختلفت حول هذه الحالة أربعة آراء، الأول منها يعتبر القانون الذي يخفض الحد الأدنى للعقوبة هو الأقل شدّة، والرأي الثاني يعتبر القانون أصلح للمتهم الذي يخفضّ الحدّ الأقصى للعقوبة، والرأي الثالث يرى ضرورة المزج بين القانونين والأخذ بالحد المخفض من كل قانون ممّا يجعل القاضي يجاوز سلطاته بخلق قانون ثالث لا هو الجديد ولا القديم.

ـ الرأي الأرجح: هو الرجوع إلى ظروف المتهم والجريمة، فإذا كان المتهم جديرا بالحدّ الأقصى طبقّ القاضي القانون الذي يخفض الحد الأقصى .وإذا كان جديرا بالحدّ الأدنى طبقّ القانون الذي  يخُفضّ الحد الأدنى.

5) معيار إضافة أسباب تخفيف العقوبة، مثل الأعذار أو الظروف المُضافة في قانون الوئام المدني.

ـ معيار إضافة العقوبة التكميلية: يكون القانون أصلح للمتهم إذا كان لا ينصّ على فرض عقوبة تكميلية مضافة إلى العقوبة الأصلية.

6) معيار التخيير: القانون الذي يعطي الخيار للقاضي بين عقوبتين يكون أقلّ شدّة على المتهم أو الاصلح له من القانون الذي يجعل العقوبة وجوبية ويفرض على القاضي تطبيقها، فالنصّ على الحبس أو الغرامة يكون أقلّ شدّة من النص على الحبس فقط، أو الحبس والغرامة معا.

ثانيا: الشرط المتعلقّ بالحكم البات:

- يقُصدُ بهذا الشرط أن يكون القانون الجديد الأقل شدّة صادرا ونافذا قبل صدور الحكم النهائي البات ضدّ  المُتهم، فإذا صدر القانون بعد الفصل نهائيا وبشكل بات في الواقعة، لا يمكن تطبيق القانون على واقعة ما صدر فيها الحُكم النهائي البات.

الحكم البات هو الحكم الذي فصل في الدعوى الجزائية ولا يقبل الطعن فيه لا بطرق الطعن العادية ولا الطرق غير العادية، حيثُ يخُرج الملف الجزائي من عُهدة القضاء بشكل نهائي. فلكي يطبق القانون الأصلح للمتهم بأثر رجعي لابدُّ أن يكون باب القضاء مفتوحا، ولو كان قضاء النقض.

- وفي حالة صدور قانون يبُيح الجريمة بعد الحكم البات على المتهّم، تنص قوانين عدّد دول  مثل قانون العقوبات الفرنسي وقانون العقوبات المصري وغيرهم، أنّ الشخص المحكوم عليه يستفيد من القانون الجديد الصادر بعد الحكم البات إذا كان يجعل الفعل مُباحا، ويترتبّ على ذلك محو آثار الإدانة بعدم تنفيذ العقوبة التي قضى بها الحكم، أو توقيف تنفيذها، إذا كان قد  بدِئ في تنفيذها. أي بالإفراج عن الشخص إذا كان محبوسا، وإزالة العقوبة من صحيفة السوابق العدلية وعدم اعتبار الفعل سابقة في العود، وإن كان قد اختلف الفقه بشأن استرداد الغرامة التي دفعها المحكوم عليه، إلاّ أنهّ لا يؤثر على الجانب المدني في القضية.

في القانون الجزائري: 

- لا يوجد نصّ صريح على شرط الحكم البات، غير أنهّ مطلوب استنادا إلى المبادئ الأساسية للقانون ووجوب احترام حجّية الأحكام القضائية وقوة الشيء المقضي فيه، حيث يصُبح الحكم عنوانا للحقيقة يستقرّ ُبه المركز القانوني على نحوٍ بات فلا يمكن تعديله أبدا. 

- ولم يبُينّ المشرّع الجزائري على حدود هذه الرجعية فلم تنصّ  المادة 1 من قانون العقوبات صراحة   على امتدادها إلى ما بعد الحكم البات، ولذلك فلا مجال لاستفادة المحكوم عليه من القانون الأقل شدّة الصادر بعد الحكم البات احتراما لحجّية الأحكام القضائية وقوة الشيء المحكوم فيه، حتى لو أباح القانون الجديد الفعل أو جاء بسب إباحة أو مانع من موانع المسؤولية ينطبق على حالة الشخص.

 لكن يمكن تطبيق القانون الجديد الصادر بعد الحكم البات إذا تقرّر ذلك بنص تشريعي صريح.

ثالثا: أن ل يكون القانون القديم من القوانين المؤقتة أو الإجرائية:

أ) حالة القوانين المؤقتة:

حسب تشريعات الكثير من الدول لا يطُبقّ مبدأ رجعية القانون الأصلح للمتهم على الوقائع المرتكبة في ظل القانون الذي تكون فترة نفاذه مُحدّدة بزمن مُعين. حيث إذا جاءت مُحاكمتها بعد انتهاء سريان القانون المؤقت، يطبقّ القاضي هذا الأخير رغم انتهائه وكونه الأشد من القانون الذي يخلفُه. ويكون القانون   مؤقتا بشكل صريح بتحديد مدة نفاذه، أو بشكل ضمني مُستفادا من طبيعة الظروف مثل القوانين الاقتصادية. 

ويُبرّر هذا الإستثناء بـ:

ـ أنّ عدم تطبيق القانون المؤقت استجابة لمبدأ الرجعية، يؤُدي إلى التقليل من قيمة وشأن القانون المُؤقت، وضياع الحكمة منه وبالتالي محو ثقة الأفراد فيه. 

ـ أنّ عدم تطبيق القانون المؤقت فيه تشجيع للمنحرفين على مخالفته ما داموا يعلمون تاريخ انتهائه، حيث يسهل عليهم تحاشي تطبيقه عليهم بمجرد تعطيل إجراءات المُحاكمة.

ـ أنّ القوانين الإقتصادية تتميزّ بسرعة التغيير تبعا للتحوّلات الإقتصادية السريعة، وأنهّا تأتي لتنظيم مجالات هي من النظام العام، مثل مجال التسعيرة أو المجال الجمركي وغيرها، وحماية النظام العام الإقتصادي أولى من المصلحة الفردية للمتهّم. لكنّ القانون الجزائري لم  يقُرّر هذا الإستثناء.

ب) حالة القوانين الإجرائية:

- يوجد من الفقهاء من يرى أنّ القواعد الإجرائية قد تكون ضارّة بالمتهّم، وماسّة بقرينة البراءة، وحقوق الدفاع، وحريته ومن ثمّ تخضع لمبادئ السريان الزماني لقانون العقوبات، ومن بينها رجعية القانون الأصلح للمتهم لكنّ الرأي الراجح لا يرى مُراعاة مصلحة المتهم في القواعد الإجرائية.

- القانون الفرنسي نظمَّ مسألة سريان القواعد الإجرائية الجنائية من حيث الزمان في قانون العقوبات وليس في قانون الإجراءات الجزائية. والمبدأ العام فيها هو تطبيق النصوص الجديدة بالنسبة للإجراءات التي لم تتُخذ بعد، في مجال الإختصاص والمتابعة وطرق الطعن والتقادم وطرق الإثبات. وتبقى الإجراءات المُتخذة طبقا للنص القديم صحيحة ولا يطُبق عليها القانون الجديد.

- القانون الجزائري لم ينُظم أحكام السريان الزمني للنصوص الجنائية الإجرائية لا في قانون العقوبات ولا في قانون الإجراءات الجزائية. على خلاف الأمر فيما يتعلق بالإجراءات المدنية، التي نظمّ سريانها الزمني في المادتين السابعة والثامنة من القانون المدني.

أمّا القضاء الجزائري فيعتبر أنّ النصوص الإجرائية  تطُبقّ فور صدورها ولو على وقائع ارتكبت قبل تاريخ صدورها، سواء أكانت في صالح المتهم أو في غير صالحه لأنهّا تهدف د ائما إلى حسن سير العدالة.

- يثور النقاشُ حول بغض النصوص ذات الطابع المُزدوج، فهي من جهة تمُثل نصوصا موضوعية لأنهّا وردت في قانون العقوبات، لكنهُا من جهة أخرى تعُتبر قواعد إجرائية من حيث مضمونها الذي يتعلق بطرق وأساليب اقتضاء حق الدولة في العقاب، مثل النصوص المُقرِّرة لبعض القيود على النيابة العامّة في تحريك الدعوى العمومية بالنسبة لبعض الجرائم، كشكوى الزوج المتضرر في جريمة الزنا (الم 339 ق ع ج). وبعض النصوص الأخرى تكون شكلية لأنهّا وردت في قانون الإجراءات الجزائية، ولكنهّا قواعد موضوعية لأنهّا تتصل بأصل حق الدولة في العقاب من حيث نشوئه وانقضائه. ويرى جانبٌ من الفقه والقضاء أنّ هذه النصوص هي من القواعد الموضوعية.

المطلب الثالث: تطبيق قانون العقوبات من حيث المكان

المادّة الثالثة ق ع ج (طُبقّ قانون العقوبات على كافةّ الجرائم المرتكبة في أراضي الجمهورية.  كما يطبقّ على الجرائم التي ترتكب في الخارج إذا كانت تدخل في اختصاص المحاكم الجزائية الجزائرية طبقا لأحكام قانون الإجراءات الجزائية).

يمُيزّ هذا النصّ في مسألة تطبيق قانون العقوبات من حيث المكان بين حكم الجرائم المُرتكبة داخل إقليم الجمهزرية وحكم الجرائم المُرتكبة في الخارج. 

يتحدّد نطاق سريان قوانين العقوبات من حيث المكان بمبدأ إقليمية القوانين كأصل عام، وهو القائم على أساس الإقليم الذي ترتكب فيه الجريمة. وكذلك بمبادئ أخرى احتياطية مُساعدة لمبدأ الإقليمية وهي مبدأ الشخصية ومبدأ العينية ومبدأ العالمية.

الفرع الأول: تطبيق قانون العقوبات على الجرائم المرتكبة في الإقليم (مبدأ الإقليمية)

كرّس التشريع الجزائري هذا المبدأ بموجب نصّ الفقرة الأولى من المادّة 3 من ق ع ج "يطُبقّ قانون العقوبات على كافةّ الجرائم التي ترُتكب في أراضي الجمهورية".

مفاد مبدأ الإقليمية أن يطُبّق قانون العقوبات على جميع الجرائم المُرتكبة في إقليم الدولة بصرف النظر عن جنسية مرتكبيها سواء كانوا وطنيين أو أجانب أو عديمي الجنسية، مع مراعاة الاستثناءات المُقرّرة في القانون العام الداخلي والقانون الدولي ويجد مبدأ الإقليمية أساسه في أنهّ: 

1ـ يعُتبر من أهمّ  مظاهر سيادة الدولة على إقليمها، ولمّا كانت سيادة الدولة تتحدد بحدود إقليمها ولا تتعداه إلى إقليم دولة أخرى فإنّ  تطبيق أيّ قانون أجنبي داخل إقليمها يتعارض مع هذه السيادة.

2ـ يسَهلّ البحث عن أدلةّ إثبات الجريمة او اجراءات التحقيق فيها ومُحاكمة الجاني عنها.

3ـ يحُقق أهداف العقوبة في الردع العام والعدالة وتهدئة السُخط الإجتماعي الذي أثارته الجريمة.

4ـ يتماشى مع مصلحة المتهم لافتراض علمه بهذا القانون وعدم مفاجأته بقوانين يجهلهُا، ممّا يحقق أغراض مبدأ الشرعية الجنائية.

يتطلبّ تطبيق مبدأ الإقليمية عنصرين هما تحديد مكان ارتكاب الجريمة وتحديد الإقليم.

أوّلا: تحديد مكان ارتكاب الجريمة

أ) معيار ارتكاب الجريمة: 

الجرائم المُرتكبة في الجزائر هي الجرائم التي وقع رُكنها المادّي أو جزء منه في الإقليم الوطني الطبيعي بمجالاته الثلاثة البرّي والبحري والجوّي، أو الإقليم الحُكمي المُتمثلّ في السفن والطائرات والسفارات والقنصليات. وهذا المعيار بينّه قانون الإجراءات الجزائية في المادة 586 التي تنصُّ أنهّ "تعد مرتكبة في الإقليم الجزائري كل جريمة يكون عمل من الأعمال المميزة لأحد أركانها المكونة لها قد تمّ في الجزائر". 

إذن تعُتبرُ جريمة مرتكبة في الإقليم الوطني عندما يتحققّ جزء من الأجزاء الداخلة في تكوين الركن المادّي، على الأقل النشاط أو السلوك الذي يبتدئ به تنفيذ الجريمة. 

ولا عبرة بالأعمال التحضيرية لأنهّا ليست من مُكوّنات الركن المادّي لذلك هي غير معاقب عليها كشراء سلاح في البلد (أ) وتنفيذ القتل في البلد (ب) لا تعُتبر الجريمة قائمة في البلد الأوّل.

ولا عبرة بالنتائج الأخرى الحاصلة بعد حدوث نتيجة الجريمة، فإن كانت هذه النتائج تشكل جريمة مُستقلة فيتحدّد الاختصاص بمكان وقوعها، مثل إخفاء الأشياء المسروقة أو إخفاء جثة القتيل.

ب) حالة توزّع عناصر الركن المادّي على أكثر من إقليم واحد:

طبقا لمفهوم مبدا الإقليمية فإنّ كل الدول التي توزّعت عليها عناصر الجريمة تعُتبر الجريمة مُرتكبة  فيها، سواء تحققّ فيها الفعل أو جزء منه أو النتيجة.

1ـ في الجرائم المتراخية النتيجة، يطُبقّ القانون الجزائري عندما يقع الفعل في الجزائر والنتيجة في دولة أخرى، أو عندما يقع الفعل في الخارج والنتيجة في الجزائر.

2ـ في الجرائم المستمرّة إذا كانت حالة الاستمرار قامت في الإقليم الجزائري يكون قانونها مختصّا بنظر الجريمة، سواء بدأت الجريمة المُستمرّة أو انتهت في الجزائر أو مرّت على الجزائر. 

3ـ في جرائم الامتناع تعُد مرتكبة في الإقليم الجزائري إذا حصل فيه الامتناع وكان من الواجب أن يقوم فيه الجاني بما هو مطلوب منه قانونا.

جـ) حالة الشريك في جريمة وقعت في الخارج: 

طبقا للمادّة 585 ق ع ج يجوز تطبيقّ قانون العقوبات الجزائري كذلك على الشخص المتواجد في إقليم الجمهورية الجزائرية وكان شريكا في جريمة (من نوع جناية أو جنحة) تمّ ارتكابها في إقليم دولة أخرى، حيث تشترط لهذا التطبيق الشروط التالية:

1ـ أن يثبت ارتكاب الجريمة في الخارج بحكم نهائي صادر عن الجهات القضائية الأجنبية.

2ـ أن تتمّ في الجزائر أعمال الإشتراك في هذه الجريمة بقطع النظر عن جنسية الشريك.

3ـ أن تكون الجريمة ُعاقب عليها في كلا القانونين الجزائري والأجنبي (قاعدة ازدواجية التجريم).

ثانيا: تحديد الإقليم: 

أ) الإقليم الطبيعي (المجال البرّي والبحري والجوّي): 

نصّت عليه المادّة 3/1 من ق ع ج "يطُبقّ قانون العقوبات على كافةّ الجرائم التي ترُتكب في أراضي الجمهورية" ويقَصد بأراضي الجمهورية إقليم الدولة بالمعنى الدستوري، حيثُ يتحدّد الإقليم في القانون الدولي العام ووفق ا للمادّة 13 من الدستور بالمجال البرّي والمجال الجوي والمجال البحري.

1) المجال البرّي: يقُصد به الإمتداد الترابي للدولة في نطاق حدودها البرّية، أي المساحات الأرضية التي تبُاشر الدولة سيادتها عليها وتقوم فيها بالخدمات العامّة. ويشملُ كذلك مساحات المياه التي تحت جوف الأرض والقنوات والأنهار التي تمُّرُّ به سواء أنهار وطنية أو دولية.

2) المجال البحري: تمتدّ سيادة الدولة خارج إقليمها البرّي ومياهها الداخلية إلى حزام من البحر ملاصق لشواطئها يسمى البحر الإقليمي يشمل جزء من البحر يقع بين شاطئ الدولة وبداية البحر الدولي، وقد استقر العرف الدولي على تحديد المياه الإقليمية بـ 3 أميال بحرية كحد أدنى ويجوز لكل دولة أن تمُدّده إلى 12 ميل بحري كحدّ أقصى حسب معاهدة مونتي كوباي 1982. وقد حدّد المرسوم 63 /403 المؤرّخ في 12/10/1963 الإقليم البحري الجزائري بالمياه الإقليمية المُمتدّة بمسافة 12ميل بحري (22 كم) إبتداء من أبعد نقطة برّية محاذية للبحر. وفي الجرائم الجمركية تضاعف المسافة بـ 12 ميل أخرى ليشمل ما يسُمّى في قواعد القانون الدولي بالمنطقة المُتاخمة.

3) المجال الجوّي: حسب الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية شيكاغو1944، فإنّ لكل دولة سيادة كاملة وانفرادية على طبقات الهواء التي تعلو إقليمها البري وبحرها الإقليمي ولمستعمراتها.

أمّا طبقات الجو العليا والأجرام السماوية فإنها تخرج عن سيادة الدول بموجب اتفاقية 1966 المتعلقة بتنظيم استغلال الطبقات العليا في الجو لكنهّا لم تحُدّد المسافة بين الفضاء وطبقات الجو العليا.

ب) الإقليم الحُكمي: (السفن والطائرات):

يلحق بإقليم الدولة السفن والطائرات الجزائرية، أيا كان مكان وجودها ما لم تكن خاضعة حسب أحكام القانون الدولي لمقتضيات مخالفِة لأحكام الموادّ 590 و591 ق إج ج.

1) حالات الجرائم المُرتكبة على متن السفن

ـ بالنسبة للسفن الجزائرية: 

ـ الجرائم المُرتكبة على متن السفينة المدنية التجارية في عرض البحر: تختص الجهات القضائية الجزائرية بالنظر في الجنايات والجنح التي ترُتكب في عرض البحر على البواخر المدنية التجارية التي تحمل الرّاية الجزائرية أياّ كانت جنسية مرتكبيها (المادّة 590/1 ق ع ج). 

ـ الجرائم المُرتكبة على متن السفينة المدنية الجزائرية الراسية في موانئ أجنبية تخضع حسب الأعراف الدولية لقانون جنسيتها ما لم تمتد الجريمة خارج السفينة إلى الميناء.

ـ الجرائم المُرتكبة على متن السفينة الجزائرية الحربية: تقضي الأعراف الدولية بأنهّا تخضع لقانون جنسيتها (دولة العلم). في أي مكان وُجدت. ويسُتفاد ذلك من الفقرة الثانية من المادّة 590 بمفهوم المخالفة عندما حصرت الأمر بالنسبة للباخرة الأجنبية على السفينة التجارية فقط.

ـ بالنسبة للسفن الأجنبية الراسية في الميناء الجزائري: تخضع الجنايات والجنح التي ترُتكب في ميناء بحرية جزائرية على ظهر باخرة تجارية أجنبية للقضاء الجزائري، حتىّ ولو لم تمتدّ الجريمة إلى الميناء وهذا خلافا للعرف الدولي.

2) حالات الجرائم المُرتكبة على متن الطائرات:

نصّت عليها المادة 591 من ق إ ج ج التي ميزّت بين الطائرات الجزائرية والطائرات الأجنبية.

ـ بالنسبة للطائرات الجزائرية تختص الجهات القضائية الجزائرية بنظر الجنايات والجنح التي ترتكب على متن طائرات جزائرية مدنية أو عسكرية، أياّ كانت جنسية مرتكب الجريمة. 

ـ بالنسبة للطائرات الأجنبية: تختص الجهات القضائية الجزائرية بنظر الجنايات أو الجنح التي ترتكب على متن الطائرات الأجنبية في حالتين:

ـ الحالة الأولى إذا كان الجاني أو المجني عليه جزائري الجنسية وذلك في أي أجواء كانت الطائرة. وهذا تطبيق لمبدأ الشخصية.

ـ الحالة الثانية: عندما لا يكون أحد طرفي الجريمة جزائريا يطُبقّ القانون الجزائري إذا هبطت الطائرة في مطار جزائري بعد وقوع الجناية أو الجنحة، وتختص بها المحكمة التي يقع في دائرة اختصاصها المطار أو مكان القبض على الجاني في حالة فراره. 

ثالثا: إستثناءات المبدأ بالنسبة للجرائم المُرتكبة في الإقليم: 

تسُمّى كذلك بقواعد تطبيق القانون من حيث الأشخاص، وهي حالات حصانة تعُفي أصحابها من الخضوع للقانون والقضاء الجزائري رغم ارتكابهم لجرائم في القطر الجزائري. وهي تنقسم إلى قسمين هما الإستثناءات المُرتبطة بالقانون الداخلي والإستثناءات المُرتبطة بالقانون الدولي.

أ) الإستثناءات المُرتبطة بالقانون الداخلي:

1) حصانة رئيس الجمهورية الجزائرية والوزير الأوّل: 

ـ رئيس الجمهورية حسب الأعراف الدستورية يتمتعّ بحصانة كاملة من المسؤولية الجزائية والمدنية حتى يتمكن من ممارسة صلاحياته ومهامّه الدستورية الكبيرة، فيسُتثنى من الخضوع لقانون العقوبات عن الجرائم التي يرتكبها أثناء ممارسته لمهامه الرئاسية أو بمناسبتها، فلا يمكن محاكمته عنها إلا بعد زوال صفة الرئاسة عنه. 

ويسُأل رئيس الجمهورية فقط عن جرائم الخيانة العظمى في محكمة خاصّة حسب ما تنصّ عليه المادة 177 من الدستور هي المحكمة العُليا للدّولة، يحدّد قانون عضويّ تشكيلتها وتنظيمها وسيرها والإجراءات المطبقّة. غير أنهّ منذ 1996 ولحدّ الساعة لم يصدر هذا القانون.

ـ الوزير الأوّل له حصانة إجراءية خاصّة من المساءلة الجنائية عن الجنايات والجنح، التّي يرتكبها بمناسبة تأديته مهامه فلا يحُاكم إلا ّ أمام المحكمة العليا للدّولة.

2) أعضاء البرلمان: طبق ا للمادّة 126/1 من الدستور فإنّ الحصانة البرلمانيةّ مُعترَف بها لنوّاب المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمّة مدّة نيابتهم ومهمّتهم البرلمانيةّ، خلال أو خارج دروات المجلس.

ـ بالنسبة للأفعال المُرتكبة أثناء دورات المجلس لا يمكن أن يتُابعوا أو يوقفوا ولا أن ترفع عليهم أيةّ دعوى مدنيةّ أو جزائيةّ أو يسلطّ عليهم أيّ ضغط بسبب ما عبرّوا عنه من آراء أو ما تلفظّوا به من كلام، أو بسبب تصويتهم خلال ممارسة مهامّهم البرلمانيةّ (المادّة 126/2).

ويستثني الدستور المغربي من أعمال الحصانة النيابية أثناء أداء المهام الرأي المعبر عنه الذي يجُادل في النظام الملكي أو الدين الإسلامي أو يتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك.

ـ بالنسبة للأفعال المُرتكبة خارج دورات المجلس: تنصّ المادة 127 من الدستور لا يجوز متابعة أعضاء البرلمان بسبب جناية أو جنحة إلاّ بتنازل صريح منه، أو بإذن من المجلس الشّعبيّ الوطنيّ أو مجلس الأمّة الذّي يقُرّر رفع الحصانة عنه بأغلبيةّ أعضائه. حيثُ طبق ا للمادة 111 من قانون العقوبات يعاقب بالحبس من 6 أشهر إلى 3 سنوات، كُل قاض أو ضابط شرطة قضائية يجُري مُتابعات، أو يصُدر أمرا أو حكما قضائيا، ضد شخص مُتمتع بالحصانة في غير حالات التلبس بالجريمة دون إذن برفع الحصانة عنه.

ـ وفي حالة تلُّبُّس أحد أعضاء البرلمان بجنحة أو جناية يمكن توقيفه، ويخطر فورا بذلك مكتب المجلس الشّعبيّ الوطنيّ أو مكتب مجلس الأمّة حسب الحالة. ويمكن للمكتب المخطرَ أن يطلب إيقاف المتابعة وإطلاق سراح الناّئب أو عضو مجلس الأمّة، ليعمل بأحكام المادّة 127 من الدستور.

ب) الإستثناءات المُرتبطة بالقانون الدولي: 

في إطار القانون الدولي والأعراف الدولية والدبلوماسية ،يسُتثنى من مبدأ الإقليمية حصانة بعض أشخاص الأجانب احتراما لسيادة الدول التي يمثلونها، ولا يمكن في حالة ارتكاب هؤلاء الأشخاص لجرائم داخل الدولة المضيفة إلاّ أن يطُلب منهم المغادرة لتتمّ  متابعتهم عنها في بلدهم الأصلي. 

1) رؤساء الدول الأجنبية: تسُتثنى الجرائم التي ترُتكب أثناء مُمارسة المهامهم أو خارجها أثناء ممارسة الحياة الشخصية، من طرف رؤساء الدول الأجنبية أو ملوكها أو أمراءها أو أعضاء مجلس رئاسي يدير الدولة أو قائد ثورة أو حركة تحُّرُّر مُعترف بها أو زعيم روحي، وأعضاء الوفد المرافق وأفراد العائلة. 

ولا عبرة في كون زيارة الشحص رسمية أو خاصة.

2) أعضاء السلك السياسي الأجنبي: وهم رؤساء الحكومات والوزراء وكُتاَّب الدولة ورجال المنظمات الدولية. يستمدُّون حصانتهم من المعاهدات الدولية وقوانين المنظمات التي يتبعونها. 

3) أعضاء السلك القنصلي: طبقا لاتفاقية فيينا المؤرخة في 24 أفريل 1963 المتعلقة بالعلاقات القنصلية، يمُنح لهم حصانة بالنسبة للجرائم التي يرتكبونها أثناء القيام بوظائفهم أو بسببها، لكنّ الجرائم التي يرتكبونها خارج إطار الوظيفة ينعقد فيها الاختصاص لقانون البلد الذي يتواجدون به.

4) أعضاء السلك الدبلوماسي والبعثات السياسية الخاصة وممثلو المنظمات الدولية أو الإقليمية:

تشملهم الحصانة بصرف النظر عن درجاتهم وألقابهم، ويستوي أن تتعلق الجرائم بممارسة مهامهم أو بمناسبة متابعة شؤون حياتهم الخاصة (اتفاقية فيينا لسنة 1961).

5) رجال القوات الأجنبية المرابطة في التراب الوطني: مثل قوات الطوارئ الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، أو قوات وطنية لدولة أخرى، يتمتعون بحصانة ضدّ متابعتهم عمّا يقع منهم من جرائم بمناسبة تأديتهم لمهامهم، أو داخل المناطق المخصصة لهم.

الفرع الثاني: تطبيق قانون العقوبات على الجرائم المرتكبة في الخارج (المبادئ الإحتياطية)

مبدأ الإقليمية الذي يحكم الجرائم المُرتكبة في الإقليم الجزائري لا يكفي وحده لتطبيق القانون الجزائري على كل الجرائم المُرتبطة بشكل مباشر أو غير مُباشر بالجزائر، حيث لا ينطبق على الجرائم المرتكبة خارج الإقليم الجزائري إضرارا بمصالح الدولة ومُواطنيها أو إذا ارتكبها أحد رعاياها. ولذلك نصّت الفقرة الثانية من المادّة 3 من قانون العقوبات على كيفية تطبيقه بالنسبة للجرائم المُرتكبة في الخارج، بتقريرها أنهّ:

"يطبقّ على الجرائم التي ترتكب في الخارج إذا كانت تدخل في اختصاص المحاكم الجزائية الجزائرية طبقا لأحكام قانون الإجراءات الجزائية ". 

ويكون ذلك استنادا إلى المبادئ الاحتياطية التي يتدعّم بها مبدأ الإقليمية، تنُظمها المواد 582 إلى 591 من قانون الإجراءات الجزائية والتي تحُيل إليها المادّة 3/2 ق ع ج. وهذه المبادئ هي مبدأ الشخصية ومبدأ العينية، بالإضافة إلى مبدأ العالمية الذي لا يأخذ به المُشرّع الجزائري.

أوّلا: مبدأ الشخصية: (في الجرائم التي أحد أطرافها جزائري)

يقوم هذا المبدأ على أساس جنسية الشخص، فيقضي بسريان قانون العقوبات الجزائري على الجريمة المُرتكبة في الخارج عندما يرتكبها جزائري أو يكون ضحيتّها جزائريا.

أ) بالنسبة للجريمة التي يرتكبهُا جزائري (الصورة الإيجابية لمبدأ الشخصية): 

يشُترط لتطبيق قانون العقوبات الجزائري وفق مبدأ الشخصية الشروط التالية:

1) أن يرتكب الجزائري جناية أو جنحة في الخارج، أمّا إذا ارتكب مُخالفة حسب القانون الجزائري فلا يطُبقّ القانون الجزائري عليه حتى لو كانت جريمة خطيرة في نظر القانون الأجنبي.

2) شرط الجنسية الجزائرية للجاني عند ارتكابه جريمة، ولو فقدها بعد ذلك بتغيير جنسيته.

3) عودة الجاني إلى الجزائر، عودة اختيارية أو إجبارية بالتسليم.

4) عدم صدور حكم بات في البلد الأجنبي من أجل نفس الفعل لأنّ المبدأ يقضي بعدم جواز مُحاكمة شخص عن فعل واحدٍ مرّتين. فإذا كانت قد تمّت مُحاكمته في الخارج فيشترطُ أن لا يكون قضى العقوبة أو سقطت عنه بالتقادم أو العفو. 

5) شرط ازدواجية التجريم وشرط الشكوى في الجنح: يضيف المشرع الجزائري في تطبيقه لمبدأ الشخصية بالنسبة للجنح، شرط ازدواجية التجريم، أي إذا كان الفعل يوصف بالجنحة في التشريع الجزائري فيجب أن يوصف كذلك جنحة على الأقل في قانون الدولة الأجنبية (المادّة 583 ق إج ج). ولا يشُترط هذا الشرط في مجال الجنايات.

ـ وإذا كانت الجنحة مرتكبة ضّد أحد الأفراد يشُترط تقديم شكوى من الشخص المضرور إلى النيابة العامة، أو ببلاغ من سلطات القطر الذي ارتكب الجريمة فيه.

ب) بالنسبة للجرائم المرتكبة ضدّ الجزائريين (الصورة السلبية لمبدأ الشخصية): 

عند ارتكاب مواطني الدول الأجنبية لأعمال إجرامية بالخارج يكون ضحيتها رعيةّ جزائري نصّ المشرع الجزائري في المادّة 588 من قانون الإجراءات الجزائية بموجب تعديل 2015 على أنهّ:" تجوز مُتابعة ومُحاكمة كل أجنبي وفقا لأحكام القانون الجزائري ارتكب خارج الإقليم الجزائري بصفة فاعل أصلي أو شريك أيّ جناية أو جنحة إضرارا بمُواطن جزائري".

ثانيا: مبدأ العينية: 

أ) المقصود من المبدأ:

يقضي هذا المبدأ بسريان قانون الدولة على الجرائم التي ترتكب خارج إقليمها، والتي تشكل إعتداء على مصالحها بصرف النظر عن جنسية مرتكبها. 

حدّد المشرع الجزائري الحالات التي يطُبقّ فيها قانون العقوبات الجزائري طبقا لمبدأ العينية ،في المادّة 588 من قانون الإجراءات الجزائية التي نصّت أنهّ: "تجوز مُتابعة ومُحاكمة كل أجنبي وفقا لأحكام القانون الجزائري ارتكب خارج الإقليم الجزائري بصفة فاعل أصلي أو شريك في جناية أو جنحة ضدّ أمن الدّولة الجزائرية، أو مصالحها الأساسية أو المحلات الدبلوماسية والقنصلية الجزائرية وأعوانها، أو تزييفا لنقود أو أوراق مصرفية وطنية متداولة قانونا بالجزائر، أو أيةّ جناية أو جنحة ترُتكبُ إضرارا بمُواطن جزائري".

ب) شروط مبدأ العينية:

1) أنواع الجرائم التي يطُبق عليه المبدأ:

ـ جرائم أمن الدّولة (المواد61-96 مُكرّر ق ع ج): هي جرائم الخيانة والتجسس، وجرائم الاعتداء على الدفاع الوطني، والمؤامرات والجرائم ضدّ السلطة وسلامة التراب الوطني، وجرائم التقتيل والتخريب المُخل بالدّولة، وجرائم حركات التمرّد والمساهمة فيها.

ـ الجرائم الماسّة بالمصالح الأساسية للدولة: أي الماسّة بالمصالح الحيوية الوطنية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.

ـ جرائم تزوير النقود أو الأوراق المصرفية المُتداولة قانونا في الجزائر (المواد 197-198 ق ع).

2) تسليم الأشخاص المُتهمين: 

تنُظم شروطه وإجراءاته وآثاره المواد 692 إلى 720 ق إ ج التي  تبُيح للدولة طلب الحصول من دولة أخرى على شخص يتواجد في إقليمها في وقت كانت محاكم الدولة الطالبة للتسليم تتهمه أو حكمت عليه من أجل ارتكاب جناية أو جنحة، ويكون طلب التسليم بالطريق الدبلوماسي وبمعرفة وزير الخارجية الذي يحُوّله إلى وزير العدل، وتحُققّ فيه النيابة العامّة ويبُتُّ فيه بقرار المحكمة العليا، تبينّ فيه رأيها بقبول طلب التسليم أو رفضه بعد استجواب المتهم وسماع المرافعات. ويتمّ التسليم بشروط منها:

ـ أن لا يكون هذا الشخص من رعايا الدولة المطلوب منها التسليم، لأنّ الدولة لا تسلم مواطنيها. 

ـ أن لا يكون لاجئا سياسيا وأن لا يكون من أجل جريمة سياسية.

ـ أن لا يكون قد سبقت مُحاكمته وعقابه في الدولة المطلوبة، وتنص المادّة 589 من قانون الإجراءات الجزائية على أنهّ لا يمكن أن تجري بالجزائر أيةّ متابعة ضدّ أجنبي من أجل جناية أو جنحة اقترِفت في الخارج إذا أدلى بما يثبت أنهّ حوكم نهائيا في الخارج من أجل نفس الجناية، أو الجنحة أو إذا أدلى بما يثبت أنه قضى مدة عقوبته أو مرّ عليها التقادم الجنائي أو صدر العفو عليه بشأنها.

ثالثا: مبدأ العالمية:

يقضي هذا المبدأ بتطبيق قانون الدولة وباختصاص قضائها في الجرائم الدولية وذات الطابع العالمي (عبر الوطني)، عندما يلُقى القبض على المجرم في إقليمها بغض النظر عن جنسية الجاني أو المجني عليه ومكان إرتكاب الجريمة، فالمبدأ يمثل صورة من صور التضامن الدولي في مُكافحة الجريمة التي تشكل اعتداءا على مصالح مشتركة لكل الدول بما في ذلك الدولة التي تم فيها القبض على المتهم.

فضابط اختصاص القانون والقضاء الوطني بجريمة وقعت في دولة أخرى هو نوع الجريمة، وهي الجريمة الدولية (التي تمس مصالح مُشتركة للمجتمع الدولي تهُدّد الأمن والسلم الدوليين، مثل جرائم الحرب والعدوان، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الانسانية، والقرصنة الدولة والإرهاب الدولي والاتجار بالعبيد في منظمات إجرامية دولية..). يشُترطُ في تطبيق مبدأ العالمية:

ـ أن ينصُّ عليه القانون الداخلي.

ـ أن تكون الجريمة من الجرائم التي ينعقد فيها الاختصاص العالمي. 

ـ أن يتمّ القبض على المتهم في إقليم الدولة التي تتبنى المبدأ.

ولا يوجد في القانون الجزائري ما يفيد أن المشرع الجزائري قد تبنى هذا المبدأ شأنه في ذلك شأن معظم التشريعات المقارنة. فقليلة هي الدول التي كرّسته، منها بلجيكا وألمانيا وإسبانيا وفرنسا، وسوريا ،وذلك بسبب صعوبة هذا الإختصاص العالمي والمشاكل التي يثُيرها والضغوط الدولية والحرج الدبلوماسي.

- ومن جهة أخرى ينعقد الاختصاص العالمي للمحكمة الجنائية الدولية (CPI) بموجب نظامها الأساسي المُعتمد بروما في 17 جويلية 1998. تختصّ في الجرائم الدولية الأربعة (جرائم الحرب، الجرائم ضدّ الإنسانية، جرائم الإبادة الجماعية، جرائم العدوان)، ولم تنضم الجزائر لهذا الاختصاص القضائي.

المرجع:

  1. د. فريد روابح، محاضرات في القانون الجنائي العام، موجهة لسنة الثانية لسانس، جامعة محمد لمين دباغين- سطيف، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم الحقوق، الجزائر، السنة الجامعية 2018-2019، ص41 إلى ص68. 
google-playkhamsatmostaqltradent