التحكيم التجاري الدولي في الجزائر

التحكيم التجاري الدولي في الجزائر

التحكيم التجاري الدولي في الجزائر

عرف موقف الجزائر من التحكيم تذبذبا كبيرا قبل سنة 1993، حيث كانت ترفضه من حيث المبدأ، على الرغم من الاعتراف به من الناحية الواقعية مضطرة تحت ضغط بعض المؤسسات الفرنسية على الخصوص، حيث سمحت بعض النصوص اللجوء إلى التحكيم.

بدأت الجزائر منذ ثمانينات القرن الماضي بتغيير موقفها من التحكيم التجاري الدولي، مما أدى في النهاية إلى تغيير نظامها القانوني ليتلاءم مع التوجه الجديد. وكانت البداية بالمصادقة على اتفاقية نيويورك بشأن الاعتراف بالأحكام التحكيمية الأجنبية وتنفيذها وذلك سنة 1988.

تبع هذا التغير تعديل قانون الإجراءات المدنية سنة 1993، كما تم إلغاء وتعديل العديد من القوانين التي لم تشر إلى حق اللجوء إلى التحكيم، وفتحت الباب أمام المتعاملين الاقتصاديين للجوء إلى التحكيم في معاملاتهم الاقتصادية.

وصادقت الجزائر بعد سنة 1993 على العديد من الاتفاقيات الدولية الثنائية ومتعددة الاطراف التي جسدت قبول الجزائر بالتحكيم التجاري الدولي في نظامها القانوني.

إذن عرف موقف المشرع الجزائري من التحكيم التجاري الدولي منذ الاستقلال إلى يومنا هذا مرحلتين أساسيتين، الأولى مرحلة التذبذب (المطلب الأول) والثانية مرحلة التكريس (المطلب الثاني).

المطلب الأول: مرحلة تذبذب موقف المشرع الجزائري من التحكيم 

اتخذت الجزائر غداة الاستقلال موقفا معاديا للتحكيم التجاري الدولي، نظرا للسلبيات التي كانت تراها في هذا النظام لا سيما في إطار الاتفاقيات المبرمة مع الشركات الأجنبية خاصة الفرنسية منها. وكانت الجزائر حريصة على حماية سيادتها، التي تتجسد في إحدى صورها في النظام القضائي فلا يمكن التنازل عنه لقضاء تحكيمي أجنبي.

استمرت مرحلة التحفظ من التحكيم من الاستقلال إلى بداية الثمانينات من القرن الماضي ،حيث بدأت الجزائر تراجع توجهاتها الاقتصادية بمزيد من التفتح على الاقتصاد الجر. وظهرت في هذه الفترة بوادر القبول بالتحكيم التجاري الدولي من خلال المصادقة على بعض الاتفاقيات الدولية، والقبول ببنود التحكيم في بعض التعليمات هذا ما نسميه القبول الواقعي للتحكيم التجاري الدولي والاستبعاد القانوني والذي نبدأ به لأنه يبدأ من مرحلة العمل بالتشريع الفرنسي بعد الاستقلال مباشرة (الفرع الأول) ثم نحلل التشريعات الوطنية التي كانت ترفض صراحة اللجوء إلى التحكيم في المنازعات التي تكون الدولة الجزائرية طرفا فيها (الفرع الثاني).

الفرع الأول: مرحلة القبول الواقعي بالتحكيم التجاري الدولي 

استمر العمل بالقانون الفرنسي بعد استقلال الجزائر سنة 1962 الذي كان يشمل التحكيم، لكنها رفضت بعد ذلك القبول باللجوء إلى التحكيم في حل نزاعاتها الاقتصادية والتجارية مع المستثمرين والمتعاملين الأجانب، لكنها تحت ضغط الشركات الأجنبية، ونظرا لاحتياجاتها الماسة لتدفق الأموال الأجنبية من اجل تنميتها، قبلت بالتحكيم مرغمة في بعض المعاملات ،ومر هذا الرفض التشريعي والقبول الواقعي بمرحلتين، الأولى قبل صدور قانون الإجراءات المدنية 1966 عندما استمر العمل بالقانون الفرنسي بعد الاستقلال باستثناء المسائل السيادية (أولا) والثانية بعد صدور هذا القانون والنص صراخة على رفض التحكيم التجاري الدولي في المعاملات التجارية للدولة ومؤسساتها العمومية (ثانيا).

أولا: مرحلة ما قبل سنة 1966

أصدرت الجزائر قانون 31 ديسمبر سنة 1962، يتضمن استمرار العمل بالتشريع الفرنسي ما عدا فيما يتعارض مع السيادة الوطنية، ومع ذلك بقي موقفها من التحكيم الرفض على أساس مبدأ السيادة. إلا أن بعض المواقف التشريعات تثبت عكس هذا الموقف:

أ/ التحكيم الخاص بالمحروقات

بدأ النظام القانوني لقطاع المحروقات في التشكيل منذ اكتشاف البترول بالصحراء الجزائرية ،إلى أن تم توجيهه سنة 1958 إلى هذه النشاطات، ويحوي هذا القانون عدة قواعد تسمح للدولة بممارسة الرقابة على عمليات الاستغلال، وتحديد مستويات الإنتاج وجنسية المسيرين، ومقر الشركات وتحديد الأسعار.

وقد اعتبر قطاع المحروقات قطاعا استراتيجيا لكل من الجزائر وفرنسا، لذلك استمر العمل بقانون البترول الصحراوي لسنة 1958، وتضمن في مادته 41 إحالة الخلافات التي تثور بين الدولة المانحة لتراخيص الاستغلال والامتيازات والشركات المتعاقدة معها إلى التحكيم.

ب/ التحكيم الخاص بالاستثمارات

أصدرت الجزائر القانون رقم 63/277 المتعلق بالاستثمار ثم أصدرت قانونا آخر يلغي الأول سنة 1966 ميز فيه المشرع بين المستثمر الوطني والمستثمر الأجنبي.

إلا أنه في كلا القانونين لم يشر إطلاقا إلى مسالة التحكيم في المنازعات الاستثمارية، رغم أن هذه القوانين كانت تهدف جدب المستثمرين الوطنيين والأجانب. وكان سكوت المشرع متعمدا رغبة منه في إخضاع كل نزاعات الاستثمار للقانون والقضاء الجزائريين دون أن يصدم صراحة المستثمرين الأجانب، لكن هذا الموقف يتناقض مع الهدف الأساسي من قانون الاستثمار الا وهو جذب رؤوس الأموال الأجنبية.

ج/ في إطار اتفاقيات التعاون مع فرنسا

أبرمت الجزائر بعد الاستقلال عدة اتفاقيات تعاون مع فرنسا تضمنت التحكيم كطريق لحل النزاعات نذكر منها:

1/ اتفاق التعاون لسنة 1963: وقع الاتفاق بتاريخ 26 جوان 1963، وتضمن إشارة إلى التحكيم لحل النزاعات البترولية وإلزامية الأحكام التحكيمية وغيرها من الأحكام الخاصة بالتحكيم.

2/ الاتفاق الجزائري الفرنسي لسنة 1965: أبرم الاتفاق بتاريخ 29 جويلية 1965 ، يتعلق بالتعاون في مجال استغلال الثروات الهيدوكربونية، عمل هذا القانون على تعديل بعض بنود اتفاقية ايفيان واتفاق التحكيم لسنة 1963، وأدخل نظام التوفيق الإجباري إلى جانب التحكم، وأبقى على شرط تنفيذ الأحكام التحكيمية بشأن النزاعات البترولية.

ثانيا: مرحلة ما بعد سنة 1966

عرفت هذه المرحلة محاولة الدولة الجزائرية التخلص من التبعية التشريعية لفرنسا، وأصدرت قانون الإجراءات المدنية سنة 1966 . ورغم استمرار المشرع الجزائري في تجاهل التحكيم التجاري الدولي في نصوصه، إلا أن الضغوط القوية التي تعرضت لها الجزائر أرغمتها على القبول بالتحكيم في مواقف عديدة منها:

أ/ التعليمة الوزارية لسنة 1982

رغم وضع الأسس القانونية لاستبعاد التحكيم التجاري الدولي، تسامحت الدول بسبب الضغوط الممارسة من طرف المستثمرين أو الشركات المتعددة الجنسيات، ورخصت بتسوية بعض النزاعات الاستثمارية بالتحكيم الدولي، ويظهر التناقض واضحا ما بين القوانين والتنظيمات، حيث أن الأولى ترفض الفكرة تماما والثانية تقر بها، وهذا ما جاء في التعليمة الوزارية المؤرخة في 18/11/1982، فأحكام هذه التعليمة اعتداء صارخ على أحكام المادة 442 ق.إ.م، باعتباره نصا تشريعيا لا يمكن مخالفته. وإذا كان استناد السلطات المعنية في إصدار هذه التنظيمات لأجل مجاراة مع الواقع التطبيقي ولتأسيس الممارسات المادية فهذا غير مبرر ومرفوض لأنه يتجاوز مبدأ تدرج القوانين المعمول به في التشريع الجزائري، كما تعتبر اتفاقية إفيان لسنة 1962 أهم مظهر لتكريس التحكيم بعد الاستقلال.

كما أن هناك تناقض ملحوظ بين الموقف التشريعي واتفاق التحكيم المبرم بين الجزائر وفرنسا المؤرخ في 27/03/1982 باعتباره عقدا دوليا ونظاما تحكيميا اختياريا.

1/ الأسباب القانونية حيث اعتبرت الجزائر أن قانون التحكيم من النصوص الموروثة عن الاستعمار يجب التخلص منها لأنها وضعت لضمان مصالحه واستمرار هيمنه.

2/ الأحكام المجحفة في بعض القضايا التحكيمية الشهيرة، على غرار قضية شيخ أبو ظبي ،وقضية تكساكو ضد ليبيا، قضية أرامكو وغيرها، حيث اعتبرت الهيئات التحكيمية القوانين العربية متخلفة وطبقت قوانين الدول الغربية التي اعتبرتها متحضرة، وأصدرت أحكاما ضد الدول العربية. مما جعل الدول النامية، ومنها الجزائر، تتخوف من التحكيم الدولي وتحاول الابتعاد عنه بكل الطرق الممكنة.

ب/ الاتفاقية الجزائرية الفرنسية لسنة 1983

أبرمت هذه الاتفاقية في 27 مارس 1983، وجاءت كتجسيد للاتفاق الإطار المتمثل في بروتوكول التعاون الاقتصادي المبرم في الجزائر بتاريخ 21 جوان 1982  بين الحكومة الجزائرية والحكومة الفرنسية لتشجيع المؤسسات الفرنسية للعمل في الجزائر وتنظيم العلاقات الاقتصادية بين الطرفين.

جاء نظام التحكيم الجزائري الفرنسي على شكل ملحق لتبادل الرسائل الذي جرى في 27 مارس 1983، رغم تناقضه مع النصوص التشريعية لا سيما قانون الإجراءات المدنية السارية آنذاك .جاءت الاتفاقية تحت ضغوط الشركات الفرنسية وليس رغبة مستقلة من الجزائر، والدليل عدم نشر الاتفاقية في الجريدة لرسمية للجمهورية الجزائرية وأحالت النزاعات المحتملة على التحكيم إذا فشل الحل الودي.

الفرع الثاني: الموقف التشريعي الرافض للتحكيم التجاري الدولي

تميز موقف المشرع الجزائري من التحكيم بالسلبية طيلة ثلاثين سنة لأسباب موضوعية (أولا)، وتجلت هده السلبية قي عدة مظاهر (ثانيا).

أولا: أسباب موقف المشرع الجزائري من التحكيم:

يمكن تلخيص هذه الأسباب فيما يلي:

1- الأسباب السياسية حيث تمسكت الجزائر بسيادتها بعد الاستقلال.

2- الأسباب الاقتصادية لأن الجزائر توجهت نحو النظام الاشتراكي الذي سمح للدولة بالتدخل في الحقل الاقتصادي التجاري، والتحكيم يضعها في موقف ضعيف أمام المستثمر الأجنبي.

3- الأسباب القانونية حيث اعتبرت الجزائر أن قانون التحكيم من النصوص الموروثة عن الاستعمار يجب التخلص منها لأنها وضعت لضمان مصالحه واستمرار هيمنه.

4- الأحكام المجحفة في بعض القضايا التحكيمية الشهيرة، على غرار قضية شيخ أبو ظبي ،وقضية شيخ قطر وقضية تكساكو ضد ليبيا، قضية أرامكو وغيرها، حيث اعتبرت الهيئات التحكيمية القوانين العربية متخلفة وطبقت قوانين الدول الغربية التي اعتبرتها متطورة ومتحضرة أولى بالتطبيق من الأنظمة القانونية العربية، وأصدرت أحكاما ضد الدول العربية كلفتها أموالا باهظة. مما جعل الدول النامية، ومنها الجزائر، تتخوف من التحكيم الدولي وتحاول الابتعاد عنه بكل الطرق الممكنة.

ثانيا: مظاهر رفض المشرع الجزائري للتحكيم 

تجلت مظاهر الموقف الرافض للتحكيم التجاري من طرف المشرع الجزائري في النقاط التالية:

1/ عدم وجود نصوص خاصة بالتحكيم الدولي، فلم يتضمن القانون الجزائري نصوصا خاصة بالتحكيم الدولي قبل سنة 1993، باستثناء التعليمات التي أشرنا اليها سابقا، وواكب هذا الموقف مواقف لسلطة السياسية المعلنة.

2/ الحصانة القضائية، حيث عملت الجزائر على تدعيم هذه الحصانة كمظهر من مظاهر السيادة على إقليمها، لا يمكن التنازل عنه لقضاء دولي تجهله ويضعها على قدم المساواة مع رعية دولة أخرى.

3/ احتكار الدولة لكل القطاعات الإستراتيجية وغلقها أمام القطاع الخاص، مما أبعد إمكانية لجوء الرعايا الجزائريين للتحكيم الدولي.

المطلب الثاني: مرحلة التكريس التشريعي للتحكيم التجاري الدولي

بعد التناقض الملحوظ بين نص المادة 442 من ق.إ.م الرافضة للتحكيم وبين الواقع الذي فرض اللجوء إليه، سارعت الجزائر إلى تدارك ذلك بموجب المرسوم التشريعي رقم 93-09 (الفرع الأول)، ثم تطوير أحكامه بموجب القانون رقم 08ـ 09 المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية (الفرع الثاني).

الفرع الأول: التحكيم التجاري الدولي في إطار المرسوم التشريعي 93 -03 

توالت الجهود والمساعي الإيجابية للسلطات الجزائرية لصالح التحكيم الدولي لأسباب اقتصادية بحتة، مما أسفر عن صدور المرسوم التشريعي رقم 93 -03 المعدل والمتمم لقانون الإجراءات المدنية بالمواد 458 مكرر، والذي أبقى على النصوص السابقة التي أصبحت مقتصرة على التحكيم الداخلي، وتم تعديل المادة 442 التي أصبحت تنص على انه "يجوز لكل شخص أن يطلب التحكيم في حقوق له مطلق التصرف فيها... ". لكن في إطار هذا القانون حاول المشرع الجزائري تضييق نطاق تطبيق التحكيم باستعمال المعيار القانوني والمعيار الاقتصادي، كما أنه بعد صدور هذا القانون صادقت الجزائر على عدد كبير من الاتفاقيات الثنائية ومتعددة الأطراف كانت تهدف كلها إلى تشجيع وحماية الاستثمارات الأجنبية من بينها المصادقة على اتفاقية المركز الدولي لتسوية خلافات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى 1995، واتفاقية سيول لسنة 1985 التي أنشأت بموجبها الوكالة الدولية لضمان الاستثمارات وصدر الأمر رقم 95-06 المتعلق بالمنافسة.

كما تجلى تغير موقف الجزائر من التحكيم في قانون الاستثمار الصادر سنة 1993، حيث نصت المادة 43: "يعرض أي نزاع يطرأ بين المستثمر الأجنبي والدولة الجزائرية إما بفعل المستثمر ،إما نتيجة اجراء اتخذته الدولة الجزائرية ضده، على المحاكم المختصة إلا إذا كانت هناك اتفاقية ثنائية أو متعددة الأطراف أبرمتها الدولة الجزائرية يتعلق بالصلح أو التحكيم أو اتفاق خاص ينص على شرط التحكيم يسمح للأطراف بالاتفاق على اجراء الصلح أو اللجوء إلى تحكيم خاص".

وبذلك أعلنت الجزائر رسميا قبولها بالتحكيم التجاري الدولي كطريق بديل لحل منازعات الاستثمار وأنهت مرحلة طويلة من التردد والمواقف المتناقضة بين التشريع والواقع. لم يكن المرسوم التشريعي رقم 93-12 كافيا لجذب الاستثمارات الأجنبية إلى الجزائر مما دفعها إلى إصدار الأمر رقم 01-03 المتعلق بتطوير الاستثمار، الذي يمثل الإطار القانوني للاتجاه الجديد للاقتصاد الجزائري. وقد تضمن عدة ضمانات للمستثمرين الأجانب كالاستقرار التشريعي والحماية من المصادرة والتأميم وحرية تحويل رؤوس الأموال، ولعل أهم ضمان قدمه هذا القانون هو حل النزاعات المتعلقة بالاستثمارات الأجنبية بين الدولة الجزائرية والمستثمر الأجنبي عن طريق التحكيم. حيث تضمنت المادة 17 منه إمكانية اللجوء إلى التحكيم في حالة وجود اتفاقية ثنائية بين الجزائر ودولة المستثمر أو اتفاقية متعددة الأطراف تنص على التحكيم أو وجود اتفاق خاص بين الطرفين، ويمكن الاعتماد على التحكيم الخاص أو التحكيم المؤسساتي، وكانت معظم الاتفاقيات قد أشارت إلى اختصاص المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى CIRDI. أو غرفة التجارة الدولية بباريس التي تضع قوائم للمحكمين من مختلف دول العالم وهي مختصة في كل أنواع النزاعات بين الدول ورعايا الدول الأخرى عكس المركز الدولي المختص بمنازعات الاستثمار.      

الفرع الثاني: التحكيم التجاري الدولي في إطار المرسوم التشريعي 08 -09

بعد انفتاح الواسع للجزائر على التحكيم عامة والتحكيم التجاري الدولي خاصة بموجب المرسوم التشريعي 93 -09 حاولت مرة أخرى مواكبة التطورات المتسارعة في هذا المجال فقد أوردت بعض التعديلات على التحكيم التجاري الدولي بموجب قانون رقم 08 -09 المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية حيث وسع من نطاق تطبيق التحكيم التجاري وذلك بالأخذ بالمعيار الاقتصادي، كما جاء بمجموعة من التقسيمات الجديدة والمفصلة مثلا فصل بين التحكيم الداخلي والتحكيم الدولي.

أما عن الأحكام الخاصة بالتحكيم التجاري الدولي في هذا القانون، فقد جاء في المادة 1039 أنه يعد التحكيم دوليا:"التحكيم الذي يخص النزاعات المتعلقة بالمصالح الاقتصادية لدولتين على الأقل". هذا التعريف يختلف عن التعريف الذي ورد في المادة 458 مكرر من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1993 التي هذا نصها: "يعتبر دوليا... التحكيم الذي يفض النزاعات المتعلقة بالمصالح التجارية الدولية والذي يكون فيه مقر أو موطن أحد الطرفين على الأقل في الخارج". فتكييف دولية التحكيم لا يتوقف على إرادة الأطراف، ولكن يحدد بطابع العلاقات الاقتصادية التي كانت مصدر النزاع.

المعيار الذي أقره قانون الإجراءات المدنية والإدارية يثير تساؤلات من حيث الدافع الذي جعل المشرع يتخلى عن المعيار القديم الذي يؤدي في نظرنا المعنى الصحيح للتحكيم التجاري الدولي رغم تضييق مجال تطبيقه. حتى وإن ذهب البعض إلى أن الدافع من الصيغة الجديدة هو توسيع معيار التحكيم التجاري الدولي، وهذا صحيح بالنظر إلى الأحكام الأخرى التي تضمنها قانون الإجراءات المدنية والإدارية، فإنه كان من المستحسن إقرار المعيار الحديث أي المعيار الاقتصادي المحض دون ربطه بأي قيد. وأما الإشارة إلى "النزاعات المتعلقة بالمصالح الاقتصادية لدولتين" ففضلا على أنها عبارة لها طابع قانوني وسياسي أكثر منها اقتصادي، فإنها قد تفسر على أن الأمر يتعلق بالنزاعات الاقتصادية بين دولتين مباشرة، مع العلم أنه من وجهة القانون الدقيق يجب التمييز بين الدولة كهيكل إداري مستقل له شخصيته المعنوية وباقي الأشخاص المعنويين أو الطبيعيين الذين يمكنهم اللجوء إلى التحكيم الدولي. وقد لجأ المشرع نفسه إلى هذا التمييز عند تطرقه للأشخاص الذين يمكنهم اللجوء إلى التحكيم الداخلي إذ نص في المادة 1006 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية أنه لا يجوز للأشخاص المعنويين العامة أن تطلب التحكيم ما عدا في علاقاتها الاقتصادية الدولية. هذا وأن مصطلح "اقتصادي" قد يقصي العمليات المالية كتحويل النقود أو العملات الصعبة عبر الحدود والتي أصبحت تأخذ أهمية بالغة في الاقتصاد الحديث.

ومع ذلك يجب قراءة المادة 1039 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية في ضوء باقي القواعد التي أقرها هذا القانون في مجال التحكيم الدولي، إذ أن النظام الجديد أقترب أكثر مما كان عليه سابقا من النظام الساري في الدول المتقدمة، فجاء أكثر تطابقا مع الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالتجارة الدولية وبالتحكيم الدولي لا سيما اتفاقية نيويورك لعام 1958 المتعلقة بالاعتراف تنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية. حينئذ يمكن القول ان ما قصده المشرع من "النزاعات المتعلقة بالمصالح الاقتصادية لدولتين" هي كل النزاعات ذات الطابع الاقتصادي أو المالي سواء أكانت هذه النزاعات تخص دولتين بهذه الصفة أم تخص أشخاص معنوية (خاصة أم عامة) أو أشخاص طبيعية منتمين لهتين الدولتين (م.1006 ق.إ.م.إ.).

لتحريك اختصاص محكمة التحكيم الدولية، لا يكفي أن يكون النزاع دوليا ومتعلقا بمصالح اقتصادية، ولكن يجب كذلك أن يكون النزاع قابلا للتحكيم. مبدئيا فإن الحقوق المالية دون الحقوق غير المالية تكون وحدها قابلة للتحكيم الدولي، وهذا منطقي لأن التحكيم يتعلق بمصالح تجارية دولية. ونصت المادة 461 من القانون المدني أنه يمنع الصلح في المسائل المتعلقة بالحالة الشخصية أو بالنظام العام، وهذا المنع يطبق كذلك على التحكيم الدولي. وحتى إذا تعلق الأمر بحقوق مالية فإنها قد لا تكون قابلة للتحكيم الدولي إذا كانت هذه الحقوق تدرج فيما يسمى "بالحقوق المالية الحساسة" (قانون العمل، قانون المنافسة، قانون براءات الاختراع والعلامات، قانون الإفلاس...).

الفرع الثالث: التحكيم في ظل الاتفاقيات الدولية   

لم تعمل الجزائر فقط على إدماج التحكيم التجاري الدولي في نصوصها التشريعية بل سعت إلى الانضمام والمصادقة على الاتفاقيات التي تحكمه، من خلال انضمامها إلى اتفاقية نيويورك بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية لسنة 1958 حيث انظمت الى الاتفاقية بتحفظ سنة 1988. ويعد تصريحا على اهتمامها بالتحكيم التجاري الدولي، كما أبرمت الجزائر جملة من العقود مع شركات أجنبية تحمل في طياتها شرطا بقضي بأن تفصل المنازعات التي تنشأ بين تلك الشركات عن طريق التحكيم.

وصادقت الجزائر على الاتفاقية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية بموجب المرسوم الرئاسي رقم (306-95) المؤرخ في 7 أكتوبر 1995, وقد نصت هذه الاتفاقية على أن المنازعات الناشئة عن تطبيقها يتم الفصل فيها عن طريق التوفيق أو التحكيم أو باللجوء إلى محكمة الاستثمار العربية.

كما صادقت الجزائر كذلك على كل من الاتفاقية المتضمنة إنشاء الوكالة الدولية لضمان الاستثمار بموجب المرسوم الرئاسي رقم (95-346) المؤرخ في 30 أكتوبر 1995، وكذا اتفاقية تسوية المنازعات المتعلقة بالاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى (اتفاقية واشنطن) وذلك بموجب المرسوم الرئاسي رقم (346-95).

ونظرا لعدم وجود اتفاق دولي يتضمن قواعد ملزمة لمعاملة الاستثمار الأجنبي الخاص، حرصت الاتفاقيات الثنائية على تحديد نظامه القانوني وذلك منذ تأسيسه إلى غاية تصفيته. وتضمنت كل الاتفاقيات الثنائية التي أبرمتها الجزائر والمتعلقة بالتشجيع والحماية المتبادلة للاستثمارات ،تعريفات محددة لأهم المصطلحات القانونية الواردة فيها وتحديد نطاق تطبيقها من حيث الأشخاص المستفيدين منها ومن حيث المواضيع التي تدخل ضمن تطبيقها، كما راعت قدر الإمكان إضفاء معاملة ممتازة للاستثمارات بغرض استقطاب وجذب المستثمرين. كما دأبت الاتفاقيات على توفير الحماية الدائمة للاستثمارات الأجنبية من كل المخاطر غير التجارية، من خلال توفير مجموعة من الضمانات من بينها اللجوء إلى التحكيم لحل أي نزاع يتعلق بالاستثمار بين الدولة الجزائرية والمستثمر. 

أحالت كل الاتفاقيات الثنائية منازعات الاستثمار إلى التحكيم الدولي، حيث أدرجت بنودها شرط التحكيم، رغم أنها تسمح بداية باستعمال كل طرق الحل الودية والديبلوماسية.

أجمعت كل الاتفاقيات الثنائية على وضع إجراءات أولية تسبق اللجوء إلى التحكيم لحل منازعات الاستثمار، فنصت على القيام بمحاولة الحل الودي بين الطرفين سواء عن طريق المفاوضات أو المشاورات أو الحل الدبلوماسي، ثم طرحت إمكانية اللجوء إلى القضاء الوطني للدولة المضيفة للاستثمار، بغرض البحث عن حلول سريعة للخلافات بما يحفظ مصالح كل الأطراف قبل الدخول في إجراءات التحكيم.

فقد أشارت بعض الاتفاقيات إلى التسوية عن طريق التراضي، وهي عبارة عن إشعار أحد الطرفين الطرف الآخر كتابيا يطلب منه إجراء مفاوضات أو مشاورات قصد الوصول إلى حل الخلاف، وتطرقت أخرى إلى الحل الدبلوماسي الذي يتمثل في إجراء مفاوضات بين دولة المستثمر الأجنبي والدولة المضيفة للاستثمار.

وجاءت الاتفاقية الجزائرية السورية بشرط محاولة الحل عن طريق التوفيق قبل اللجوء إلى القضاء الداخلي أو التحكيم التجاري الدولي.

حددّت الاتفاقيات، في جميع الحالات، مدة معينة لمحاولة الحل الودي لا تتجاوز ستة أشهر، قبل الشروع في الطرق البديلة لحل النزاعات المتعلقة بالاستثمار الأجنبي.

تطرقت الاتفاقيات الجماعية أيضا للحل الودي قبل اللجوء إلى التحكيم التجاري الدولي، خاصة إجراء التوفيق قبل التحكيم، فقد نصت المادة 25 من الاتفاقية العربية الموحدة لاستثمار رؤوس الأموال العربية في الدول العربية على: "تتم تسوية المنازعات الناشئة عن تطبيق هذه الاتفاقية عن طريق التحكيم أو التوفيق أو اللجوء إلى محكمة الاستثمار العربية ".

في حالة فشل المساعي الحميدة لإيجاد حلّ وديّ للنزاع المتعلقّ بالاستثمار، أتاحت معظم الاتفاقيات الفرصة للمستثمر الأجنبي لعرض نزاعه مع الدولة المضيفة لاستثماره، على هيئاتها القضائية الداخلية إذا رغب في ذلك وقدرّ أنّ القضاء المحلي يمنح له ضمانات كافية ويتسّمُ بالسرعة والحياد المطلوبين في حل المنازعات ذات الطابع الاقتصادي. وقد أشارت هذه الاتفاقيات إلى هذا الطريق دون أن تحدد له شروطا مسبقة، إلا أنّ بعض الاتفاقيات كالاتفاقية الجزائرية-السورية ذكرت الحالات التي يمكن من خلالها اللجوء إلى القضاء الداخلي وجاءت على سبيل الحصر.

كما أهملت بعض الاتفاقيات الحل القضائي وذهبت مباشرة إلى الحل التحكيم. في جميع الحالات، سواء وُضعت شروط من أجل اللجوء إلى القضاء الداخلي أو لم توضع، فإنه يوجد مظهران يؤثران بطريقة مباشرة على فعالية التحكيم، ويدفعان إلى التساؤل عن حدود الحماية التي توفرها هذه الاتفاقيات للاستثمار الأجنبي عن طريق التحكيم:

- اعتبار اختيار اللجوء إلى القضاء الوطني أو التحكيم التجاري الدولي نهائيا، بحيث نصت بعض الاتفاقيات على هذا المبدأ. نذكر على سبيل المثال ما جاء في المادة التاسعة من الاتفاق المبرم بين الجزائر والموزمبيق حول الترقية والحماية المتبادلة للاستثمارات: "إذا لم يسو النزاع بالتراضي في مدة ستة أشهر من تاريخ رفعه من قبل أحد طرفي النزاع، يرفع بطلب من المستثمر إما إلى الهيئة القضائية المختصة للطرف المتعاقد المعني بالنزاع أو إلى التحكيم الدولي. إختيار أحد هذين الإجراءين يكون نهائيا".

قبل الاختيار بين القضاء الداخلي والتحكيم التجاري الدولي، ما مدى إجبارية محاولة الحل الودي وضرورة استنفاذ المدة المقررة له (06 أشهر في معظم الاتفاقيات)؟ أي هل طريق الحل الوديّ ضروري قبل اللجوء الى التحكيم الدولي؟  فإذا كان المستثمر مجبرا على انتظار مدة قد تصل إلى ستة أشهر حتى يطرح نزاعه أمام التحكيم الدولي وكانت الدولة المضيفة قد اتخذتا إجراء لا رجعة فيه يمس باستثماره، فإن من شأن ذلك أن يقلل من فعالية التحكيم في توفير الحماية والضمان للاستثمار الأجنبي.

لم تشر الاتفاقيات الخاصة بالاستثمار إلى إجبارية محاولة الحل الودي في كل الفترة المحددة ،حيث نرى بأنها حددت الحد الأقصى لمدة المحاولة؛ مع امكانية مخالفتها إذ يمكن أن نجد في معظم الاتفاقيات عبارة "يسوى كل نزاع بقدر الإمكان بالتراضي بين طرفي النزاع"، ومصطلح "بقدر الإمكان" يفسح المجال للاتجاه مباشرة إلى الهيئات التحكيمية باتفاق الأطراف طبعا.

لاحظنا عند اطلاعنا على بعض الأحكام التحكيمية الصادرة عن بعض الهيئات خاصة التابعة للمركز الدولي لتسوية خلافات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى (CIRDI) أو تحت مظلة غرفة التجارة الدولية بباريس CCI، المرونة الكبيرة التي يتعامل بها المحكمون مع مفهوم الاستثمار، وقابلية النزاع للتحكيم إلى درجة التساؤل إن كانت هناك منازعات لا تدخل ضمن اختصاصهم.

يمكن القول أن الاتفاقيات الثنائية بشأن تشجيع وحماية الاستثمار أصبحت في معظمها تركز على اعتبار التحكيم الدولي كأهم طريق بديل ووسيلة مفضلة لفض منازعات الاستثمار رغم إشارة بعضها إلى طرق أخرى.

أما الاتفاقيات متعددة الأطراف فقد حددت اختصاصها في طيات أحكامها، فاتفاقية نيويورك تخص الاعتراف بالأحكام التحكيمية الأجنبية وتنفيذها، واتفاقية واشنطن تختص في حل منازعات الاستثمار بين الدول ورعايا الدول الأخرى وهكذا.

المرجع:

  1. د. محمد عيساوي، محاضرات في التحكيم التجاري الدولي، للسنة الثانية ماستر، تخصص قانون الأعمال، جامعة أكلي محند أولحاج بالبويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجزائر، السنة الجامعية: 2019/ 2020، ص26 إلى ص39. 
google-playkhamsatmostaqltradent