مفهوم التحكيم التجاري الدولي

مفهوم التحكيم التجاري الدولي

مفهوم التحكيم التجاري الدولي

عرف مفهوم التحكيم التجاري الدولي، كطريق بديل لحل نزاعات التجارة الدولية، بالبساطة لأنه ظهر في مؤسسات بدائية. ثم تطور مع تطور الأنظمة القضائية على المستوى الدولي وحاول العديد من فقهاء القانون تقديم مقاربات لتعريفه، كما وردت بعض التعاريف في القوانين المقارنة محاولة تقديم ضوابطه (المطلب الأول)، كما اختلف الفقهاء في تحديد الطبيعة القانونية للتحكيم التجاري الدولي من حيث الطبيعة العقدية أو القضائية أو الطبيعة المختلطة حسب مختلف المدارس الفقهية (المطلب الثاني).

المطلب الأول: تعريف وضوابط التحكيم التجاري الدولي

يجب محاولة تعريف التحكيم التجاري الدولي من خلال المقاربة اللغوية ومختلف المقاربات الفقهية التي حاول في اطارها فقهاء القانون تعريف التحكيم (الفرع الأول)، ثم وضع مجموعة من الضوابط التي تمكننا من التمييز بين مختلف أنواعه من حيث المكان والزمان وطبيعة المنازعة وأطراف النزاع (الفرع الثاني).

الفرع الأول: تعريف التحكيم التجاري الدولي

تتحدد ماهية التحكيم التجاري الدولي من خلال تعريفه، الذي لا يختلف كثيرا عن تعريف التحكيم بوجه عام باعتباره أحد فروعه.

إن مصطلح التحكيم التجاري الدولي مصطلح حديث النشأة تم استعماله لأول مرة في مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في نيويورك خلال جوان 1958، الذي انتهى بتوقيع اتفاقية نيويورك بشأن اعتراف وتنفيذ أحكام التحكيم الأجنبية.

ومن الصعب إيجاد تعريف خاص بالتحكيم التجاري الدولي، لذلك سنقتصر على أهم التعاريف فيما يلي دون التركيز على التعريف اللغوي الذي لا يهم كثيرا في هذه الدراسة، بل نعتمد مباشرة على التعريف الفقهي (أولا)، ثم نذكر التعريف الذي أوردته بعض التشريعات بما في ذلك المشرع الجزائري في قانون الإجراءات المدنية والإدارية لسنة 2009 الذي تضمن أحكاما خاصة بالتحكيم التجاري الدولي، وهو ما يطلق عليه التعريف القانوني (ثانيا) ونحاول أن نتوصل إلى مقاربة توفيقية بين التعريفات المختلفة.

أولا: التعريف الفقهي للتحكيم

التحكيم التجاري الدولي: "هو نظام قضائي خاص أو طريق استثنائي لفض الخصومات بعيدا عن طرق التقاضي العادية، يتم اللجوء إليه بمقتضى اتفاق الأطراف لتسوية كل أو بعض النزاعات التي نشأت أو يمكن أن بينهم بمناسبة علاقة قانونية معينة عقدية كانت أو غير عقدية". 

كما عرف بأنه "النظر في نزاع بمعرفة شخص أو هيئة يلجأ إليه أو إليها المتنازعون، مع التزامهم بتنفيذ القرار الذي يصدر في النزاع". 

أما الأستاذ أحمد أبو الوفا فقد عرف التحكيم على أنه "ذلك الاتفاق بالتزام الأطراف على طرح النزاع على شخص معين أو أشخاص معينين ليفصلوا فيه بحكم ملزم للخصوم دون اللجوء إلى القضاء والمحكمة المختصة به".  

وعرف الأستاذ محمد بجاوي التحكيم بأنه تلك العدالة الخاصة التي ينزع فيها الاختصاص من المحاكم الوطنية العادية للدولة ويجعله من اختصاص أشخاص خواص يختارهم الأطراف المتنازعة.  

كما عرف التحكيم بأنه أحد وسائل حل نزاعات التجارة الدولية الودية التي تقوم على اتفاق ما بين فريقين أو أكثر على تسوية منازعاتهم بالإحالة إلى التحكيم، كما يقصد به اتفاق أطراف العقود التجارية على إحالة النزاع إلى شخص واحد أو عدد من الأشخاص ليقوموا بإيجاد حل لهذا النزاع يلزم أطرافه جميعا، ويمكن اعتباره اتفاقا أي عقدا ما بين فريقين أو أكثر على حل منازعاتهم التجارية خلال مدة معينة يحددونها سلفا ومن خلال إجراءات يختارونها وقانون يرتضون تطبيقه حتى يصدر حكما يلتزمون به.  

يرى الأستاذ Robert في تعريفه للتحكيم على أنه "منظمة العدالة الخاصة بفضلها تنزع الخلافات من سلطان القانون العام لتحسم النزاع بواسطة أفراد ممنوحين مهمة قضائية". 

ويؤكد الأستاذ Russell في تعريفه للتحكيم على أنه إحالة مسألة أو مسائل محل النزاع بينا لأطراف المعنية إلى شخص أو أشخاص يتمتعون بسلطة القضاة وذلك في حل القضية.  

ثانيا: التعريف القانوني للتحكيم

حاولت أغلب التشريعات الوطنية إعطاء مقاربة لتعريف التحكيم، لكنها جاءت في معظمها غير دقيقة ارتكزت على بعض الخصائص دون الإشارة إلى تعريف جامع مانع.

فقد نص قانون التحكيم المصري في المادة 4 فقرة 1 على أنه "ينصرف لفظ التحكيم في حكم هذا القانون إلى التحكيم الذي يتفق عليه طرفا النزاع بإرادتهما الحرة، سواء كانت الجهة التي تتولى إجراءات التحكيم بمقتضى اتفاق الطرفين منظمة أو مركزا دائما للتحكيم أو لم يكن ذلك،" وبمقتضى نص المادة 10 فالتحكيم هو "...اتفاق الطرفين على الالتجاء إلى التحكيم لتسوية كل أو بعض المنازعات التي نشأت بينهما بمناسبة علاقة قانونية معينة عقدية كانت أو غير عقدية".  وقد عَر فَ القانون الفرنسي التحكيم في نص المادة 1442 بأنه "اتفاق يتعهد بمقتضاه الأطراف في عقد معين من العقود بإخضاع المنازعات التي يمكن أن تنشأ بينهم في المستقبل للتحكيم" وجاء في المادة 1447 على أنه "اتفاق الأطراف على إخضاع منازعة نشأت بينهم بالفعل لتحكيم شخص أو أكثر".  

عرف المشرع الجزائري التحكيم التجاري الدولي بمقتضى المادة (1039) من القانون رقم 08-09، المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية حيث تنص: "يعد التحكيم دوليا بمفهوم هذا القانون، التحكيم الذي يخص النزاعات المتعلقة بالمصالح الاقتصادية لدولتين على الأقل".

نستنتج من خلال نص المادة أن المشرع الجزائري ربط النزاع التحكيمي بين دولتين أو أكثر وهو تناقض مع اختصاص مجال التحكيم وهو الدولة ورعية دولة أخرى، أما الاختصاص الذي يكون بين دولتين ذات السيادة يكون الاختصاص لمحكمة العدل الدولية وتخضع في ذلك للقانون العام. 

خلاصة القول ينزع التحكيم، من حيث المبدأ، الاختصاص من القضاء الرسمي ويعطيه لشخص أو لهيئة أخرى، لتصبح ولاية الفصل في النزاع هارج نطاق القضاء.

الفرع الثاني: ضوابط التحكيم التجاري الدولي

ضوابط دولية التحكيم هي المعايير التي تمكن من الحكم على تحكيم ما بأنه دولي، وهذه المسألة لها أهمية بالغة، خاصة في اختيار القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع وتنفيذ حكم التحكيم، ولكن قبل ذلك نميز بين التحكيم الوطني، التحكيم الأجنبي والتحكيم الدولي.

أولا: التمييز بين التحكيم الوطني والتحكيم الأجنبي التحكيم الوطني:

هو ذلك التحكيم الذي تكون كل مكوناته أو عناصره منحصرة في دولة معينة، وعلى العكس إذا أرتبط هذا التحكيم في أحد عناصره بعوامل خارجية أو أجنبية، فنكون عندئذ بصدد تحكيم أجنبي.

ثانيا: معايير دولية التحكيم التجاري الدولي

حاول الفقهاء إعطاء معايير للتفريق بين التحكيم الداخلي والتحكيم الأجنبي والدولي، ويمكن إجمالها في ثلاثة معايير تتمثل فيما يلي. 

أ/ المعيار الجغرافي (الإقليمي): ويتمثل في مكان التحكيم أو مكان صدور حكم التحكيم بحيث يعتبر الحكم أجنبيا إذا كان قد صدر خارج إقليم الدولة، بينما يعتبر وطنيا فيما لو صدر في إقليمها، ويسود هذا المعيار في الدول الأنجلو أمريكية بصفة خاصة. على الرغم من صلاحية هذا المعيار كمؤشر على أجنبية التحكيم التجاري ومن ثم دوليته إلا أنه لا يصلح لتحديد هذه الصفة إلا في حالة إذا كان اختيار مكان التحكيم قد تم بناءا على رغبة الأطراف المعلنة في شرط التحكيم أو في مشارطة التحكيم.

ب ـ المعيار القانوني: يتمثل في القانون الواجب التطبيق على التحكيم، سواء على الإجراءات أو على موضوع النزاع، حيث يعتبر إلى حد ما عنصرا أو عاملا مرجحا نحو هذه الدولية، وفي هذه الحالة يعد هذا مؤشرا غير فعال، بل يكون في حاجة لمؤشرات أخرى تثبت هذه الدولية.

وقد أكدت محكمة النقض الفرنسية في قرارها في قضية HECHT الشهيرة الصادر بتاريخ 4/7/1972، اعتماد المعيار القانوني لتحديد دولية التحكيم، حيث جاء في القرار أن" العقد محل النزاع المبرم في هولندا بين شركة تجارية خاضعة للقانون الهولندي ومواطن فرنسي، يعتبر عقدا دوليا لارتباطه بأنظمة قانونية صادرة من عدة دول، وبالتالي هو يكتسي الصفة الدولية استنادا إلى مكان إبرامه وإلى جنسية طرفيه المختلفة وإلى موضوعه".

ووفقا لهذا المعيار يعد العقد دوليا إذا كانت العناصر القانونية للعقد على اتصال بأكثر من نظام قانوني، وكذاك الحال بالنسبة للتحكيم التجاري الدولي. 

ج- المعيار الاقتصادي: لا يأخذ هذا المعيار بمكان التحكيم ولا بالقانون الواجب التطبيق وإنما يرتكز على طبيعة المنازعة، فمتى تعلق النزاع بمصالح التجارة الدولية، كان التحكيم في هذه الحالة دوليا، وإذا لم يتعلق النزاع بمصالح التجارة الدولية كان التحكيم داخليا. وقد أخذ المشرع المصري بهذا المعيار في قانون التحكيم لسنة 1994 المعدل سنة 1997، حيث نصت المادة الثالثة: "يكون التحكيم دولياً في حكم هذا القانون إذا كان موضوعه نزاعاً يتعلق بالتجارة الدولية وذلك في الأحوال الآتية:

أولاً: إذا كان المركز الرئيسي لأعمال آي من طرفي التحكيم يقع في دولتين مختلفتين وقت إبرام اتفاق التحكيم، فإذا كان لأحد الطرفين عدة مراكز للأعمال فالعبرة بالمركز الأكثر ارتباطاً بموضوع اتفاق التحكيم. وإذا لم يكن لأحد طرفي التحكيم مركز أعمال فالعبرة بمحل إقامته المعتاد.

ثانياً: إذا اتفق طرفاً التحكيم على اللجوء إلى منظمة تحكيم دائمة أو مركز للتحكيم يوجد مقره داخل جمهورية مصر العربية أو خارجها.

ثالثاً: إذا كان موضوع النزاع الذي يشمله اتفاق التحكيم يرتبط بأكثر من دولة واحدة.

رابعاً: إذا كان المركز الرئيسي لأعمال آي من طرفي التحكيم يقع في نفس الدولة وقت إبرام اتفاق التحكيم وكان أحد الأماكن التالية واقعاً خارج هذه الدولة:

أ) مكان إجراء التحكيم إما عينه اتفاق التحكيم أو أشار إلى كيفية تعيينه.

ب) مكان تنفيذ جانب جوهري من الالتزامات الناشئة عن العلاقة التجارية بين الطرفين.

ج) المكان الأكثر ارتباطاً بموضوع النزاع.

ثالثا: موقف المشرع الجزائري

تنص المادة (1039) من القانون 09(-08) المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية على أنه "يعد التحكيم بمفهوم هذا القانون، التحكيم الذي يخص النزاعات المتعلقة بالمصالح الاقتصادية لدولتين على الأقل". يستنتج من نص المادة أن المشرع الجزائري قد أخذ بالمعيار الاقتصادي في تعريفه للتحكيم التجاري الدولي، كما يلاحظ استبدال المشرع عبارة "بمصالح التجارة الدولية" بعبارة "بالمصالح الاقتصادية لدولتين على الأقل"، رغم انه عنوان الباب "التحكيم التجاري الدولي"، وبذلك يكون قد وسع من مجال النزاعات التي تخضع للتحكيم التجاري الدولي استجابة إلى ضغوط المؤسسات المالية الدولية من جهة، ونظرا لحاجة الدولة الملحة لتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتنمية اقتصادها من جهة أخرى. 

الفرع الثالث: أنواع التحكيم التجاري الدولي

يتخذ التحكيم صورا متعددة، فقد يكون اختياريا أو إجباريا، تحكيما بالقانون أو تحكيما بالصلح ،يكون أيضا تحكيما حرا أو تحكيما مؤسسيا أي في اطار مؤسسات ومراكز التحكيم، سنتطرق إليها من خلال ثلاثة معايير: من حيث الإلزام (أولا)، من حيث التنظيم (ثانيا)، ومن حيث الأساس المعتمد لفض النزاع (ثالثا) لنصل إلى التحكيم الالكتروني الذي عرف تطورا كبيرا في المعاملات التجارية الدولية (رابعا)

أولا: من حيث الإلزام

فهنا نميز بين التحكيم الاختياري والتحكيم الإجباري:

I/ التحكيم الاختياري

هو التحكيم الذي يلجأ إليه الخصوم إراديا، أي دون إلزام من جهة معينة، وهذا هو الأصل العام في التحكيم التجاري الدولي، الذي يتم بناء على تراضي الخصوم بمقتضى قبولهم شرط التحكيم الوارد في العقد، أو باتفاق بينهم بعد وقوع النزاع.

ويكون التحكيم اختياريا متى كان للأفراد حرية كاملة في طرح نزاعاتهم في مسألة معينة أمام القضاء أو الاتفاق على عرضها أمام هيئة التحكيم موضحين في اتفاقهم كيفية قيام التحكيم وإجراءاته وكيفية تعيين المحكمين.

وعلى صعيد التجارة الدولية فالأمر الغالب هو التحكيم الاختياري إذ يسود في التحكيم مبدأ سلطان الإرادة على وجه يشمل كافة التعاملات بما فيها الاتفاق على التحكيم، وقد سعت الدول إلى توحيد قواعد التحكيم فيما بينها حتى ظهر ما يسمى بالقانون النموذجي للتحكيم التجاري الدولي الذي وضعته لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي سنة 1985 وعدلته سنة 2006، وكان له تأثيرا كبيرا على قوانين مختلف الدول.

II/ التحكيم الإجباري

هو التحكيم الذي يجبر فيه الخصوم على اللجوء إليه في نزاعاتهم، وهو الاستثناء من التحكيم الاختياري ،ففيه تنعدم إرادة الأطراف سواء فيما يتعلق باللجوء إليه أو فيما يتعلق باختيار الجهة التي تتولاه. ويصبح التحكيم نظاما مفروضا عليهم، وفي معظم الأحيان يطبق التحكيم الإجباري بناء على قاعدة آمرة تتعلق بالنظام العام، والتي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها. والتحكيم الإجباري قد يأخذ صورتين، فهو إما أن يكتفي المشرع بفرض التحكيم ويترك للخصوم حرية اختيار المحكم وتعيين إجراءات التحكيم، وإما أن يتدخل المشرع فيضع تنظيما إلزاميا لإجراءات التحكيم ككل، فلا يكون لإرادة الخصوم أي دور في التحكيم.

ومثال التحكيم الإجباري القانون المصري رقم 97 لسنة 1983 بإصدار قانون هيئات القطاع العام وشركاته فقد قضى في المادة 56 منه “بأن تختص هيئات التحكيم المنصوص عليها في هذا القانون دون غيرها بنظر المنازعات التي تنشأ بين شركات القطاع العام بعضها وبعض أو بين شركة قطاع عام من ناحية وبين جهة حكومية مركزية أو محلية أو هيئة عامة أو مؤسسة عامة من ناحية أخرى”. 

ثانيا: من حيث التنظيم

ينقسم إلى تحكيم حر وتحكيم مؤسسي: 

1/ التحكيم الحر: يطلق عليه التحكيم الخاص أو تحكيم الحالات الخاصـــــة (Ad-hoc)، ويعرف بأنــه: "التحكيم الذي يقوم بإدارته الأطراف المعنية أو مستشاروها القانونيين دون تدخل منظمة مختصة".

فهو تحكيم لا يختار فيه الأطراف هيئة دائمة التحكيم، وإنما يجري في حالات فردية وفق مشيئة الخصوم من حيث اختيارهم للمحكمين، وكيفية مباشرة إجراءاته ومكان انعقاده والقانون الذي يسري على النزاع فهو يعطي الحرية الكاملة للخصوم في تحديد القواعد والإجراءات التي يتبعها المحكم الذي يختارونه لكي يفصل في النزاع المطروح عليه وفقا لهذه القواعد سواء كانت إجرائية أو موضوعية وفي المكان الذي يحددونه بما لا يتعارض مع القواعد الآمرة أو النظام العام.

وقد ظهر التحكيم الحر قبل ظهور التحكيم المؤسسي، وفيه يعطي حرية كبيرة للأفراد في اختيار المحكمين الذين يضعون فيهم ثقتهم اعتمادا على خبرتهم في حل النزاع، وقد تكون القواعد والإجراءات المتبعة لحل النزاع أكثر مرونة وواقعية عنها في قواعد التحكيم المؤسسي، كما أن عامل السرية والسرعة في حل النزاع، قد يكون أكثر ما يميز هذا النظام، كما أن الاعتماد على مؤسسة أو هيئة لحل النزاع القائم، قد يأتي بكثير من القواعد والإجراءات التي قد تكون على عكس توقعات الأفراد والتي قد تساعد على إطالة زمن التحكيم لتأخر فهم الخصوم لها وما يتبعها من تحضير مستندات، ودفوع تستطيع الرد على هذه القواعد والإجراءات.

ومن أبرز قواعد التحكيم الحر في الوقت الحاضر في المجال الدولي، نجد القواعد التي وضعتها لجنة قانون التجارة الدولية (Unicitral) فتكفل للأطراف النزاع القواعد الإجرائية لإتباعها في التحكيم الحر.

2/ التحكيم المؤسسي: ويسمى أيضا التحكيم النظامي، وهو التحكيم الذي يجري في إطار مراكز ومؤسسات تحكيم دائمة.

فيكفي وفقا لهذا التنظيم، اتفاق الأطراف المتنازعة على اللجوء إلى إحدى تلك الهيئات، لتقوم تلك الهيئة بعد ذلك بتولي التحكيم وفقا لقواعد وإجراءات محددة تقوم بوضعها مسبقا، فالإحالة إلى أحد هذه المراكز تعني في الأصل الأخذ بقواعد موحدة، إلا إذا جاز النظام مخالفتها، إضافة إلى إعفاء أطراف الاتفاق التحكيم من التصدي لكل التفصيلات في شرط التحكيم والاكتفاء بما ورد في شأنها في نظام التحكيم المختار.

ويعرف بأنه ذلك التحكيم الذي تتولاه هيئات ومنظمات دولية أو وطنية، وفق قواعد وإجراءات موضوعة ومحددة سلفا، تحددها الاتفاقيات الدولية أو القرارات المنشئة لهذه الهيئات، وقد شاع انتشار مراكز التحكيم، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وقد عظمت أهميتها بعد انتشار الاقتصاد الحر والتجارة الدولية، ومن هذه المراكز ما هو متخصص في مجال معين كتجارة القطن أو الحبوب مثلا، ومنها ما هو عام يتولى التحكيم في مختلف أوجه النشاط التجاري، ومنها ما هو وطني مثل غرفة التحكيم بباريس، ومنها ما هو دولي كغرفة التجارة الدولية بباريس CCI ومركز القاهرة الإقليمي للتحكيم التجاري.

توصف كل هذه المؤسسات السالفة الذكر بالتخصص والدوام لأن التحكيم هو وظيفتها الوحيدة، وهي أيضا دائمة لأنها لا تقف عند عملية تحكيم بعينها بل هي مستمرة لتلقي ما يعهد إليها من عمليات تحكيمية.

ولقد أصبح التحكيم المؤسسي هو الأساس في مجال التجارة الدولية، فالأطراف عادة ما يفضلون الاستعانة بأنظمة التحكيم المؤسسي لما تكلفه من تنظيم مسبق ومفصل لمعظم مسائل التحكيم، مما يمكنهم من تفادي مسألة عدم الخبرة في وضع قواعد وإجراءات التحكيم واستهلاك مزيدا من الوقت في الاتفاق على هذه القواعد كما هو الحال في نظام التحكيم الحر ،هذا فضلا عن الإمكانيات الإدارية والمالية والتنفيذية التي تتمتع بها تلك الهيئات وتضعها بين أيدي الأفراد، وكذا الخبرة التي تتمتع بها تلك الهيئات نظرا لوجود قواعد عملية وواقعية ثم تجربتها وثبت نجاحها في العديد من المنازعات التي فصلت فيها.

ثالثا: موقف المشرع الجزائري:

تناول المشرع الجزائري التحكيم دون التفرقة بين التحكيم الحر والتحكيم المؤسسي، إذ وضع تنظيما عاما للتحكيم الداخلي والدولي وترك للأطراف حرية تبني أي نظام تحكيمي يرونه مناسبا، وهذا ما نصت عليه المادة (1041) من قانون الإجراءات المدنية والإدارية على أنه "يمكن للأطراف مباشرة أو بالرجوع إلى نظام تحكيمي...".

ثالثا: من حيث الأساس المعتمد لفض النزاع ندرس في هذه النقطة التحكيم بالقانون (1) والتحكيم

بالصلح (2) ثم نشير إلى موقف المشرع الجزائري في قانون الإجراءات المدنية والإدارية (3).

1/ التحكيم بالقانون

هو التحكيم الذي يتم فيه الفصل في موضوع النزاع بناء على أحكام القانون، فيمارس المحكم سلطة القاضي في تطبيق أحكام القانون على النزاع. حيث تلتزم فيه هيئة التحكيم، بالفصل في النزاع وفق قواعد القانون الموضوعي أو الإجرائي الذي يتم تحديده من قبل الأطراف. يمكن فيهذا التحكيم أن تطبق هيئة التحكيم أحكام قانون واحد في جميع مراحله أو تخضع كل مرحلة لقانون مختلف تبعاً لإرادة الأطراف.

والأصل العام أن يكون الفصل في النزاع على أساس من أحكام القانون، فإذا ما أطلق لفظ التحكيم مجرداً، فالفرض أنه التحكيم بالقانون، ومن ثم فإن سلطة هيئة التحكيم مقيدة بأحكام القانون وحدوده، إلا أن الأطراف قد يرتضوا على تفويض هيئة التحكيم صلاحية الفصل في النزاع وفق ما تراه محققاً للعدالة، ولو كان في هذا الحكم مخالفة لأحكام القانون التي تحكم وقائع النزاع والتي يلتزم القاضي بتطبيقها فيما لو عرض النزاع عليه. 

2/ التحكيم بالصلح

قد يتفق الأطراف على عدم رغبتهم في تطبيق أية قواعد قانونية محددة على المسألة محل النزاع، والرغبة في تسوية عادلة، وتفويض هيئة التحكيم لتحكيم وفق ما تراه متفقاً ومبادئ العدالة والإنصاف وحسن النية، وإعفاءها من الالتزام بتطبيق قواعد القانون الواجب التطبيق على النزاع ،أو الالتزام بتدعيم هذا القرار بأسانيد قانونية تبرر ما انتهت إليه. وهو ما يسمى التحكيم مع التفويض بالصلحamiable composition أو تحكيم العدالة . فهو تحكيم لا يتقيد فيه المحكم بقواعد القانون الموضوعي للفصل في النزاع المعروض عليه، بل يفصل فيه طبقا لقواعد العدالة.

3/ موقف المشرع الجزائري:

تطرق المشرع الجزائري للتحكيم بالصلح في المادة (458) مكرر من قانون الإجراءات المدنية، حيث جاء في نصها: "تفصل محكمة التحكيم كمفوض في الصلح إذا خولتها اتفاقية التحكيم هذه السلطة"، وتعني أن المحكم بطلب من الأطراف يفصل في النزاع طبقا لما يعتبره منصفا وعادلا ويستبعد القواعد القانونية، وهنا المحكم يمكنه خرق القانون.

أما في ظل قانون (09-08) المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية فقد تخلى المشرع الجزائري عن موقفه في مسألة المفوض بالصلح، فنصت المادة (1023) منه على أن يفصل المحكمون وفقا لقواعد القانون وبالتالي لا يمكن للمحكم أن يعمد إلى التحكيم بالصلح إذا كان القانون الجزائري هو الواجب التطبيق على إجراءات التحكيم.

رابعا: التحكيم الالكتروني

لا يختلف التحكيم الإلكتروني في جوهره عن التحكيم التقليدي، فكلاهما وسيلة من وسائل البديلة لفض النزاعات والتحكيم الإلكتروني، وهو ذلك الاتفاق الذي بمقتضاه يتعهد الأطراف بأن يتم الفصل في المنازعات الناشئة بينهم أو المحتمل نشوؤها من خلال التحكيم ويكون اتفاق التحكيم دوليا إذا كانت المنازعات تتعلق بمصالح التجارة الدولية. وقد عرفه سامي عبد الباقي أبو صالح أنه ذلك التحكيم الذي يتفق بموجبه الأطراف على إخضاع منازعاتهم الناشئة عن صفقات أبرمت في الغالب الأعم بوسائل إلكترونية إلى شخص ثالث يفصل فيها بموجب سلطة مستندة ومستمدة من اتفاق أطراف النزاع وباستخدام وسائل اتصال حديثة تختلف عن الوسائل التقليدية المستخدمة في التحكيم التقليدي.

وعلى ذلك إن التحكيم الإلكتروني هو عبارة عن نظام قضائي من نوع خاص، ينشأ من الاتفاق بين الأطراف ومن خلال الوسائل الإلكترونية على إحالة النزاع وبشكل اختياري لفض النزاع القائم بينهم والمتعلق في الغالب بالتجارة الإلكترونية ويصدر الحكم باستخدام وسائل الاتصال الحديثة. وإذا كان التحكيم الإلكتروني يتم عبر وسائط إلكترونية فإنه لا يوجد ما يمنع من أن يتم بأكمله أو في بعض مراحله إلكترونيا، وفي مراحل أخرى بالطرق التقليدية التي تتمثل في التواجد المادي لأطراف العملية التحكيمية.

المطلب الثاني: الطبيعة القانونية للتحكيم التجاري الدولي

اختلف الفقهاء في تحديد الطبيعة القانونية للتحكيم التجاري الدولي، من طبيعة تعاقدية على أساس أن اتفاق التحكيم هو عقد بين طرفي النزاع (الفرع الأول)، إلى قانونية على أساس أن المحكم يطبق القانون المتفق على تطبيقه أن الصيغة التنفيذية يمنحها قاضي دولة التنفيذ بناء على قانون دولته (الفرع الثاني)، ثم إلى طبيعة مختلطة في محاولة للتوفيق بين النظريتين (الفرع الثالث)، وأخيرا إلى رأي يقول أنه من طبيعة مستقلة (الفرع الرابع)، وسنتعرض لموقف المشرع الجزائري من كل ذلك.

الفرع الأول: الطبيعة التعاقدية للتحكيم التجاري الدولي

ذهب أنصار هذا الاتجاه إلى أن التحكيم مجرد عقد ملزم للجانبين وليس قضاء، فالأساس الجوهري فيه هو اتفاق أطراف الخصومة، وأن القرار الصادر منه ليس إلا انعكاسا له، فمنه يتخذ الصفة التعاقدية شأنه شأن الاتفاق.

شاعت هذه النظرية في إيطاليا ووجدت لها بعض الأنصار في فرنسا وفي مصر، وهي تدرج التحكيم ضمن المعاملات الخاصة للأفراد التي تستند إلى مصدر عقدي بإدراج شرط التحكيم في بنود العقد، أو مشارطة التحكيم الذي يحدد جهة التحكيم ومهمتها، والموضوع الذي سينصب عليها لتحكيم والإجراءات، وكذلك القانون الذي سيتم تطبيقه على النزاع، مما يعني أن اتفاق التحكيم يشكل في حد ذاته مصدرا لقرارات التحكيم، وضرورة تنفيذها.

أي أن قرار المحكمين يستمد حجيته بالنسبة للأطراف من عقد التحكيم الذي يلتزم فيه الطرفان بالخضوع لهذا القرار، ويستندوا أصحاب هذه النظرية إلى الدور الكبير الذي تؤديه الإرادة في التحكيم، فهي المحرك الأساسي لعملية التحكيم وهذا يتوافق والطبيعة العقدية، فالعقد شريعة المتعاقدين والرضائية هي الركن الأساسي فيه وبالتالي فقرارات التحكيم الصادرة على أساس اتفاق تحكيم تشكل وحدة واحدة وتشاركه في خاصية الاتفاق. وذلك لكون التحكيم عقد مسمى يخضع للقواعد الخاصة لعقد التحكيم والنظرية العامة للعقد.

وبالتالي ما يمكن استخلاصه من هذه النظرية أن أصحابها يستندون على الحج الآتية:

1- أن المحكمين ليسوا قضاة تعينهم الدولة لأنهم أفراد عاديين.

2- أن مصدر سلطتهم في القضاء يرجع إلى طابع تعاقدي وهو رضاء الأفراد بحكمهم.

3- أن الإرادة هي التي تطبق لمعرفة القانون الواجب التطبيق على أحكام المحكمين الأجنبية.

4- أن المحكمين يستطيعون رفض التحكيم دون أن يكونوا منكرين للعدالة كما أنهم لا يستطيعون توقيع جزاءات على الخصوم.

5- أن المحكمين لا يمتعون بسلطة الأمر التي يتمتع بها القضاء ويتقيدون بالأشكال الإجرائية.

إلا أن هذه النظرية انتقدت من لدن بعض الفقه في كونها بالغت في دور الإرادة للأطراف، هذا فضلا على أن التحكيم وإن كان يستند إلى اتفاق الخصوم، فإن الالتجاء إلى القضاء يستند إلى إرادة الخصوم والمتمثلة في المطالبة القضائية، وطلبات الخصوم، ولا يحكم إلا بناء على هذه الطلبات، وفي حدودها، كما يمكن لأطراف الخصومة الاتفاق على نزع الاختصاص من محكمة وتثبيته لمحكمة أخرى.

كما أن هذه النظرية تجاهلت حقيقة الوظيفة التي يؤديها المحكم، فالمحكم يقوم في الواقع بالوظيفة ذاتها التي يقوم بها القاضي وهو ينتهي في هذا الشأن إلى حكم مشابه للحكم الذي يصدر عن القاضي.

كما أن أنصارها بالغوا في إعطاء الدور الأساسي لإرادة الأطراف، فالمحكم يفصل في النزاع ويطبق فيه إرادة القانون لكنه في بعض الأحيان يبحث عن الإرادة الضمنية للأطراف وأحيانا يختار القواعد التي يراها مناسبة سواء في أعراف التجارة الدولية أو مباديء العدل والانصاف في حالة غياب أي قانون. 

الفرع الثاني: الطبيعة القضائية للتحكيم التجاري الدولي:

يستند أنصار هذه النظرية على أن وظيفة المحكم تشبه مهمة القاضي، في الجوانب الإجرائية من حيث تقديم العرائض والمرافعات والمباديء كمبدأ الوجاهية ضرورة احترام حقوق الدفاع وحتى في طريقة اصدار حكم التحكيم من خلال المداولات وشكل الحكم.

كما أن حكم المحكم مثل حكم القاضي يخضع للطعن بالاستئناف -في التحكيم الداخلي- والطعن بالبطلان في التحكيم الدولي.

إلا أن النقد الموجه لهذه النظرية أن القاضي تعينه الدولة وهو ملزم بتطبيق قانونها، بينما المحكم يعينه الأطراف بارادتهم الحرة ويطبق القانون الذي يختارونه، فالتحكيم يبدأ إراديا وينتهي قضائيا.

الفرع الثالث: الطبيعة المختلطة للتحكيم التجاري الدولي

يرى هذا الاتجاه أن المحكم يعد قاضيا بحكم وظيفته، المتمثلة في فض النزاعات وان تأسست مهامه على اتفاق التحكيم، إلا أن عمله قضائي وحكمه يرتب نفس الآثار المترتبة من الحكم القضائي، إلا أنه لم يسلم من النقد، ولكن ما يلاحظ أنه رغم هذه الانتقادات ورغم الاختلاف في أساس الوظيفة القضائية التي يباشرها المحكم، إلا أن الطبيعة القضائية للتحكيم تحظى بتأييد واسع في أحكام القضاء خاصة في فرنسا وبلجيكيا، فمثلا فرنسا إذ تراجعت المحكمة العليا الفرنسية عن تأييدها للطبيعة التعاقدية للتحكيم وقضت في أحكام قضائية حديثة نسبيا، أن أطراف الخصومة بالتحاقهم للتحكيم، إنما يعبرون عن إرادتهم في إعطاء الغير السلطة القضائية، ولذا اعتبرت التحكيم قضاءً استثنائيا، إلا أن هناك من يعارض هذا الاتجاه ويعتبر التحكيم ذا طبيعة مستقلة بعيدة عن كل الاعتبارات الإدارية والقضائية رغم مشاركة القضاء في العديد من مراحل الخصومة التحكيمية.

الفرع الرابع: الطبيعة المستقلة للتحكيم التجاري الدولي:

ذهب البعض للقول أن التحكيم ذو طبيعة خاصة، وعليه خلص إلى أن التحكيم قضاء اتفاقي، يتقيد بنصوص اتفاق التحكيم وبالنصوص القانونية والتي يفترض على المحكم الالتزام بها، إلا أن التحكيم ليس من السلطات العامة في الدولة وكما أنه لا يجوز في كل منازعة، إذ يجب أن تكون قابلة للتحكيم.

موقف المشرع الجزائري: إن مشرع الجزائري لم يحدد صراحة الطبيعة القانونية للتحكيم، ولكن يمكن استخلاصها من خلال النصوص التشريعية الخاصة بالتحكيم من خلال أحكام القانون (08-09) المتضمن قانون الإجراءات المدنية والإدارية، فتبين المواد (1031)، (1033)، (1034)، (1036) أن المشرع الجزائري تبنى الطبيعة القضائية للتحكيم، وأنه يعامل أحكام التحكيم معاملة الأحكام قضائية.

المرجع:

  1. د. محمد عيساوي، محاضرات في التحكيم التجاري الدولي، للسنة الثانية ماستر، تخصص قانون الأعمال، جامعة أكلي محند أولحاج بالبويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجزائر، السنة الجامعية: 2019/ 2020، ص5 إلى ص25.  
google-playkhamsatmostaqltradent