مبدأ الفصل بين السلطات

مبدأ الفصل بين السلطات

مبدأ الفصل بين السلطات

يعد مبدأ الفصل بين السلطات من أهم المبادئ التي تستند عليها فكرة الديمقراطية، فهو الركيزة الأساسية لتشييد النظام السياسي الديمقراطي، وظهر منذ القدم لدى فقهاء مثل أفلاطون وأرسطو، وانتقل إلى الميدان التطبيقي على اثر الثورة الفرنسية والأمريكية، وأصبح أهم الضمانات الأساسية تمنع تسلط واستبداد الحكام واحترام حقوق الإنسان وحرياتهم، ويعتبر أحد المبادئ الجوهرية التي تأسست عليها الديمقراطية.

المطلب الأول: الأسس الفكرية لمبدأ الفصل بين السلطات

أنّ ظهور المبادئ الديمقراطية الليبرالية الداعية إلى الحد من السلطة الفردية للملوك وذلك لتأمين حقوق وحريات الأفراد لدى بعض المفكرين إلى صياغة النظريات الفكرية الداعية إلى ضرورة تقسيم السلطات إلى أقسام بحيث تحد وتوقف كل سلطة من السلطات الأخرى وبذلك يمكن ضمان عدم تعسف السلطة.

فالفرد أو الهيئة الواحدة عندما تملك جميع أجزاء السلطة تستطيع عندها أن تضع القوانين وتنفذها حسب ما تراه أنسب لها٬ وبدون رقيب أو مانع يوقفها.

وهكذا كانت الحالة في عهد الملوك الأوروبيين ذوي الحكم المطلق أثناء القرن السابع والثامن عشر٬  ممّا دعا المفكرين إلى الدعوة لإقامة نظام تقوم دعائمه على فكرة الفصل بين السلطات.

الفرع الأول: الفصل بين السلطات عند أرسطو

 يعتبر أرسطو أول فقيه طرح الفكرة بعد ما درس نظام المدن اليونانية٬ وكان يقول أن في مدينة أثينا توجد ثلاثة (03) وظائف مختلفة وهي وظيفة القرار ( أي اتخاذ القرارات المهمة) ووظيفة التنفيذ ( أي  تنفيذ القانون)٬ وكذا وظيفة العدالة٬ وبالتالي أخذ أرسطو مدينة أثينا كنموذج ينطبق عليه مبدأ الفصل بين السلطات٬ ولكن في نظر أرسطو لم تكن دعوة إلى الفصل بين السلطات بل إلى تقسيم وظائف الدولة.

الفرع الثاني: مبدأ الفصل بين السلطات عند أفلاطون

يرى أفلاطون أن وظائف الدولة يجب أن توزع بين هيئات مختلفة بالتوازن والتعادل حتى لا تنفرد هيئة بالحكم٬ وتمس سلطة الشعب بما قد يؤدي إلى وقوع ثورات٬ و لتجنب ذلك يجب أن تتعاون هيئات الدولة بعضها البعض في ممارسة الوظائف٬  ويرى أفلاطون في كتابه "القوانين"  توزيع السلطة بين عدة هيئات هي:

- مجلس السيادة: المكون من عشرة أعضاء يهيمون على دفة الحكم.

-  جمعية: تضم الحكماء مهمتها الإشراف على التطبيق السليم للدستور.

-  مجلس الشيوخ المنتخب: مهمته التشريع.

-  الهيئة لحل المنازعات: التي تقوم بين الأفراد.

-  هيئات البوليس وأخرى للجيش: مهمتها الحفاظ على الأمن وسلامة التراب.

-  هيئة تنفيذية وتعليمية : لإدارة مرافق الدولة.

الفرع الثالث: مبدأ الفصل بين السلطات عند جان لوك

وهو أول مفكر معاصر طرح فكرة الفصل بين السلطات وقام بدراسة النظام الانجليزي٬ وهو صاحب نظرية العقد الاجتماعي كأساس لنشأة الدولة٬ كما أنه قسم السلطات إلى ثلاثة وأعطى لهم تسميات سلطة تشريعية وتنفيذية وفيدرالية ( وهي سلطة قيادة  وإقامة العلاقات الدولية)٬ ولكنه لم يتعرض إلى السلطة القضائية٬ كما يعتبر جان لوك أن السلطة التشريعية أعلى من السلطتين الأخريتين لأن البرلمان يعبر عن إرادة الأمة.

ومن جهة أخرى أكد هذا الفقيه على منع التعسف وذلك عن طريق تقسيم السلطات كما أن تفوق البرلمان  سيؤدي به إلى التعسف في السلطة٬ ومن أجل تجنب ذلك لابد من الحد لفترات انعقاده٬ لأن انعقاده بصورة دائمة  يؤدي إلى تدخله  في شؤون الحكومة ويستطيع أن يشكل عرقلة عليها.

اعتبر هذا الفقيه أن الفرد قبل انتقاله إلى الحياة السياسية فكان يعيش في حياة بدائية فاضلة  ويملك سلطة اتخاذ القرارات  للمحافظة على نفسه  وعلى الآخرين٬ و سلطة توقيع الجزاء على من يخالف قوانين الطبيعة التي كانت تحكم الحياة الفطرية٬ ولهذا فعند انتقال حياة الأفراد الطبيعية إلى حالة الحياة مع الجماعة فيكون بانتظام هاتين السلطتين أولا في تكوين السلطة التشريعية التي تضع القواعد لحفظ الأفراد وثانيا تكوين سلطة تنفيذية تراقب مدى  تنفيذ هذه القوانين ومدى الالتزام بها من قبل الجماعة والفرد.

و لتجنب إساءة استعمال السلطة فيجب أن تكون هاتين السلطتين منفصلتين بعضهما عن البعض وتسمو السلطة التشريعية وخضوع السلطة التنفيذية لها٬ وذلك من أجل تحقيق المصلحة العامة.

الفرع الرابع: مبدأ الفصل بين السلطات عند جان جاك روسو

يرى روسو أن الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية أمر ضروري لأن التشريعية تمثل  مجموعة الشعب وهي تمارس السيادة باسمه٬ أما التنفيذية فما هي إلا وسيط  بين السلطة التشريعية والشعب الذي يراقبها  يقيلها متى شاء ذلك٬ ولكنها سلطة دائمة على خلاف السلطة التشريعية  التي لا تجتمع إلا مرات معدودات  في السنة.

والسلطة القضائية عند روسو فهي شبيهة بالسلطة التنفيذية٬ لكونها مطالبة بالخضوع للقوانين ويحق للأفراد التظلم من أحكامها، ونتيجة لذلك يحق للشعب إصدار العفو على المحكوم عليهم قضائيا.

وبالتالي يعتبر روسو السلطة القضائية جزء من السلطة التنفيذية ولا يقر بفكرة المساواة بين السلطات في ممارسة السيادة واستقلالها.

الفرع الخامس: مبدأ الفصل بين السلطات عند مونتسكيو

تعرض مونتسكيو لمبدأ الفصل بين السلطات في كتابه "روح القوانين" سنة 1748 و هذا الفقيه تأثر أيضا بالنظام السياسي البريطاني٬ لأنه أول نظام عرف البرلمان٬ وكان مونتسكيو معجب به٬ و في كتابه ينطلق من فكرة ضمان الحرية٬ حيث طرح الإشكالية كيف نجد نظام يمنع استبداد الحاكم ويضمن الحريات للأفراد في آن واحد؟ وانطلق في حل هذه الإشكالية في تحليل النظام البريطاني إلى 03 أشكال:

- شكل ملكي.

- شكل ديمقراطي.

- شكل ارستقراطي.

ويقول أن إذا لم نضع حد للنظام الملكي يتحول إلى استبداد٬ كذلك الارستقراطية إذا لم نضع لها حد منع الديماغوجيين في الشعب وتشجيع روح المساواة على روح العدل٬ ويقول أن العدل والحرية أساسان للنظام٬  ويكون ذلك بوضع وإقامة سلطات مضادة٬  أي كل سلطة تعارضها سلطة أخرى٬ وذلك من أجل منع الاستبداد٬ كما أنه يقول يجب وضع هيئات وسيطة وهم النبلاء  حيث يشاركون في الحكم وكذلك إنشاء المحاكم٬ وبالتالي القانون نتيجة لتلاقي ثلاث إيرادات:

- إرادة الشعب الممثلة في غرفة النواب (مجلس العموم).

- إرادة ارستقراطية ممثلة في الغرفة الثانية (وهو مجلس اللوردات).

- إرادة الملك.

أن كل سلطة تكون مستقلة في أداء مهامها من السلطات الأخرى وهم السلطة التشريعية٬ السلطة التنفيذية٬ السلطة القضائية٬ ولكن هذا الاستقلال غير مطلق وغير تام وغير جامد لأن ذلك سيؤدي إلى الإخلال بالنظام وبالتالي يجب أن يكون هناك تعاون بين هذه السلطات٬ أب اقامة نظام العلاقات بينهم.

بالرغم أن مبدأ الفصل بين السلطات في الفكر السياسي قبل الفيلسوف الفرنسي "مونتسكيو" إلّا إن كان لهذا الأخير الفضل الكبير في إبراز مضمون هذا المبدأ٬ ولذلك كان من الطبيعي أن يرتبط هذا المبدأ باسمه ويقترن به وبكتابة "روح القوانين".

المطلب الثاني: مضمون مبدأ الفصل بين السلطات

يقول مونتسكيو أن تركيز السلطات العامة في يد هيئة واحدة حتى ولو كان المجلس النيابي سيؤدي ذلك إلى الاستبداد والحكم المطلق وضياع الحريات الفردية٬ ولقد ركز في ذلك على الوقائع التاريخية التي تقضي بأنه في كل مرة تجتمع السلطات في يد فرد واحد أو هيئة واحدة كانت النتيجة سيادة الديكتاتورية والاستبداد واختفاء حريات الأفراد، ومن أجل القضاء على هذا وضمان الحريات لابد من توزيع السلطات الثلاث:

- السلطة التشريعية تتولى سن القانون.

- السلطة التنفيذية تتولى تنفيذ القانون.

- السلطة القضائية تتولى البث في الخلافات التي تنشأن عن مخالفة أحكام القانون.

وحتى لا يساء استعمال السلطة يجب بمقتضى الأمور إقامة توازن بين السلطات من غير أن يكون باستطاعة سلطة معينة شل أعمال الأخرى عندما تمارس عملا له علاقة بأعمال أخرى٬ أي يكون لكل سلطة من السلطات الثلاث حق التقرير في حدود وظيفتها٬ كما يكون لها وسائل لتقييد السلطة الأخرى  من أجل منعها من الانحراف٬ ويركز مونتسكيو على فكرة يجب على السلطة أن توقف سلطة أخرى٬ يجب أن تكون رقابة متبادلة بين هذه السلطات وخاصة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، حيث ذلك يحقق ضمان الحقوق وحريات الأفراد وتحقيق سيادة الشرعية في الدولة.

وبالتالي نستخلص أن مبدأ الفصل بين السلطات قائم على ثلاث خصائص:

- تقسيم السلطات إلى ثلاث: تشريعية٬ تنفيذية وقضائية.

-  توزيع السلطات وذلك من أجل القضاء على النظام المطلق والاستبداد.

-  قيام كل سلطة بمراقبة السلطات الأخرى لوقفها عند الحدود المقرر لها.

ولقد أثرت الأنظمة الديمقراطية الأوروبية بهذه الأفكار حيث إلى جانب انجلترا التي كانت تطبق مبدأ الفصل بين السلطات بناء على نظام الحكم البرلماني الذي أخذت به منذ القرن السابعة عشر٬ فقدت اعتنقت الولايات المتحدة الأمريكية والثورة الفرنسية مبدأ الفصل بين السلطات منذ نهاية القرن الثامن عشر٬ وقرر إعلان حقوق الإنسان الصادر عن الثورة الفرنسية عام 1789 " كل جماعة سياسية لا تضمن حقوق الأفراد ولا تفصل بين السلطات ولا دستور لها".

لكن دستور الولايات المتحدة الأمريكية الصادر سنة 1787 والدستور الفرنسي لسنة 1791 قد أخذا بهذا المبدأ بمضمون مختلف٬ حيث أخذا بالفصل الجامد والمطلق بين السلطات٬ أي لا يوجد لا تعاون ولا رقابة بين السلطات٬ وذلك على خلاف فكرة مونتسكيو التي تقضي بالفصل المرن بين السلطات٬ ولكن الدساتير الفرنسية اللاحقة أخذت بمرونة الفصل بين السلطات٬ وأصبح مبدأ الفصل بين السلطات مبدأ عام في كل النظم الديمقراطية٬ إلّا النظم الماركسية التي تقوم على مبدأ وحدة السلطة أو مبدأ المركزية الديمقراطية.

المطلب الثالث: تقييم مبدأ الفصل بين السلطات

انطلاقا من أن هذا المبدأ آلية تتضمن حركية ملحوظة في دواليب الجهاز السياسي وقاعدة لتنظيم وترتيب السلطات مما جعله أحد معايير تطبيق الأنظمة السياسية٬ وكذلك ضمانة لحقوق والحريات الأساسية٬ ولكن رغم هذا لم يسلم من الانتقاد وتعرض لهجوم شديد٬ كما تحفظ جانب من الفقهاء والسياسيين على بعض مبادئه٬ ولهذا من الضروري وضع هذا المبدأ في ميزان الفقه والقانون.

الفرع الأول: مزايا مبدأ الفصل بين السلطات

لمبدأ الفصل بين السلطات عدة مزايا٬ ولهذا وجدت اقتراحاته صدى عظيم في أوساط البرجوازية الأوروبية عام ٬1788 والتي كانت تسعى للبحث من أجل تجاوز الدولة المطلقة.

أولا: حماية الحريات ومنع الاستبداد

وهي الميزة الأساسية لهذا المبدأ٬ حيث أن التجربة الأبدية المستمرة تؤكد أن كل إنسان يملك سلطة ما ينزع بطبيعته ويسيء استخدامها٬ إذ يشدد في استعمالها حتى يجد قيودنا توقفه أن الفضيلة السياسية ذاتها تحتاج إلى حدود ولكي لا تتحقق إساءة استعمال السلطة٬ يجب أن تعمل على أن السلطة توقف السلطة.

ثانيا: إتقان وحسن أداء وظائف الدولة

إن تقسيم الوظائف (الصلاحيات) بين السلطات أي  تقسيم العمل وتخصص كل سلطة بمجال معين تؤدي حتما إلى إتقان عملها  وتجزئه المسؤولية٬ ولهذا يقول مونتسكيو أن القيام بالوظيفة التشريعية يجب أن يتولاها برلمان منتخب ويجب أن يكون مجلسا كبير العدد٬ وكذلك الوظيفة التنفيذية للقوانين لا يمكن أن تعطي لمجلس كبير العدد٬ بل من الأفضل للفاعلية أن تتولاها حكومة محدودة  العدد والوظيفة القضائية يجب أن تتولاها هيئة قضائية متخصصة وتتميز ببعدها عن الصراع السياسي لضمان الحياد في تفسير وتطبيق القانون على المنازعات.

ثالثا: ضمان احترام مبدأ سيادة القانون

إن مبدأ الفصل بين السلطات يضمن احترام القانون لأنه في حالة تركيز السلطات في يد هيئة واحدة فهي التي تصدره وتعدله حسب أغراضها مما يفقد القانون العدالة ولا يصبح قواعد عامة ومجردة٬ أمّا هذا المبدأ يضمن الخضوع السلطات الحاكمة للدستور و للقانون٬ كما أن هذا المبدأ يجعل القضاء رقيب للسلطتين الأخريتين، ومدى خضوعهما للقانون.

الفرع الثاني: الانتقادات الموجهة لمبدأ الفصل بين السلطات

رغم المزايا التي يتسم بها مبدأ الفصل بين السلطات إلا أنه قد انتقد بشدة على أساس:

إن القصد من هذا المبدأ كان محاربة السلطات المطلقة للملك والحكام في القرن الثامن عشر٬ والقضاء على استبداد الحكام وفعلا قد انقضت هذه الأنظمة الاستبدادية بفضل هذا المبدأ٬ إذا لم تعد هناك الحاجة للأخذ بمبدأ الفصل بين السلطات.

يؤدي تعدد الهيئات التي تمارس السلطات العامة نتيجة لتطبيق مبدأ الفصل بين السلطات إلى إضعاف السلطة كل منها في مباشرة وظيفتها٬ المسؤولية وتقسيمها في ما بينها٬ على عكس الوضع في حالة تركيز السلطة٬ حيث تكون هناك هيئة واحدة تملك زمام السلطة بأكملها وتتحمل مسؤولية هذه السلطة.

اعتبروا منتقدي هذا المبدأ أنه نظري بحت لا يمكن تحقيقه في الواقع العملي٬ لأن هناك استحالة في فصل الهيئات المختلفة في الدولة عن بعضها٬ تشبه بالأعضاء في جسم الإنسان أو الأجزاء المكونة للآلة.

كما نتج عن تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات في بعض الدول إلى سيطرة سلطة على بقية السلطات العامة في الدولة مما قضى على الهدف من وراء تكريس هذا المبدأ.

المطلب الرابع: الفصل بين السلطات في الجزائر

 إن الحياة السياسية كلها تتمركز حول ذلك المركب من العناصر المادية والمعنوية الذي يسمى بالسلطة٬ لكن الحديث عنها يثير الكثير من الإشكالات تتمثل أساسا في حدود تنظيم السلطة لأنها في الدول الحديثة القانونية لا يمكن أن تكون دون حدود٬ وهو التزام  القائمين على السلطة بالقانون٬ ودولة القانون تقوم على مبادئ وأسس أهمها وجود دستور والفصل بين السلطات٬ والحديث عن هذا المبدأ في الجزائر بدأ من دستور 1989 الذي تبنى وكرس مبادئ دولة القانون٬ تعددية حزبية٬ نظام الليبرالي٬ فهو شكل نقطة انفصام بين مرحلتين عرفها النظام السياسي الجزائري.

ولكن تفسير مبدأ الفصل بين السلطات على نحو معين يؤثر في تكييف النظام السياسي الجزائري.

يعرف النظام الجزائري بعدم الاستقرار٬ فمنذ الاستقلال تغير نظام الحكم في العديد من المرات من المرحلة الانتقالية الأولى بعد الاستقلال من 1963 إلى ٬1965 جاءت مرحلة الشرعية الثورية 1965 إلى 1976 ثم الولوج المرحلة الدستورية من 1976 إلى 1992 ثم المرحلة الانتقالية الثانية من 1992 إلى 1996 ثم العودة إلى المرحلة الدستورية من 1996 إلى غاية اليوم٬ وذلك يؤثر على تحليل طبيعة العلاقات بين السلطات في النظام الجزائري.

الفرع الأول: مبدأ الفصل بين السلطات في ظل دساتير برنامج

إذا كانت الدول الديمقراطية الغربية قد اختلفت بشأن تطبيق مبدأ الفصل بين السلطات باعتماد الفصل الصارم من بعضها والفصل المرن من البعض الآخر٬ للغموض الذي يتسم به مضمون النظرية٬ إلا أن المسألة في الجزائر ازدادت تعقيدا٬ وقد اعتبر البعض أن موضوع مبدأ الفصل بين السلطات هو مجازفة٬ لأنه يعالج قضية من القضايا الهامة في تحديد جوهر النظام السياسي في الجزائر.

أولا: مبدأ الفصل بين السلطات في دستور 1963

بعد استقلال الجزائر اعتمدت نظام الحزب الواحد لكي يسود الاستقرار والتحكم في زمام الأمور لدولة فدية، وتم دسترة ذلك في أول دستور الجمهورية الجزائرية لسنة ٬1963 ما الحكم قائم على أساس تركيز السلطات٬ حيث منحت للرئيس سلطات واسعة وترتب على ذلك  رفض سياسة الحوار وجمدت اختصاصات المجلس الوطني  التأسيسي كسلطة تشريعية، وتأكد نظام الحكم الفردي المطلق كنظام دستوري٬ فرئيس الجمهورية هو في ذات الوقت  رئيس الحكومة وهو الأمين العام للحزب٬ وعليه أصبح يجسد وحدة القيادة للحزب والدولة٬ ونتج عن ذلك خضوع جميع مؤسسات الدولة لإرادة شخص واحد٬ وعدم اتخاذ أي قرار إلّا بعد الرجوع إليه وطلب موافقته وهو ما أدى إلى قتل روح المبادرة لدى الموظفين والمسؤولين.

كما أن دستور 1963 قد جمّد بعد 23 يوم من دخوله حيز النفاذ وذلك نتيجة للجوء الرئيس بن بلة إلى تطبيق المادة 59 منه الذي تنص على الظروف الاستثنائية وتجميد الدستور وكل السلطات وأصبحت جل السلطات في يده.

وتجدر الإشارة أن دستور 1963 أخذ ظاهريا بمبدأ الفصل بين السلطات٬ وذلك على النحو التالي:

- نظم السلطة التشريعية بالمادتين 27 و 28.

- السلطة التنفيذية منظمة من المواد 39 إلى 59.

- السلطة القضائية منظمة من المادة 60 إلى 62.

إلّا أنه في حقيقة الأمر لم يؤخذ بهذا المبدأ ولم يطبق في الواقع٬ وإنما عرف النظام السياسي الجزائري في هذه الفترة بمبدأ وحدة السلطة ومبدأ مفاده " لا ضمان للاستقرار إلا بالنظام القائم على قاعدة تغلب الشعب صاحب السيادة والحزب الواحد".

ثانيا: مبدأ الفصل بين السلطات في دستور 1976

المعروف أن الجزائر قد عرف الدستور صغير قبل دستور 1976 وهو الأمر 10 جويلية 1965 الذي أصدره مجلس الثورة بعد انقلاب 19 جوان 1965 تدخل الدولة في شرعية ثورية لمدة 11 سنة٬ لأنه بعد التصحيح الثوري ألغي الدستور 1963 وحل مكانه ما يسمى بالدستور الصغير الذي كان يشمل (06) ستة مواد٬ وأبقى هذا الدستور على الأيديولوجيا الاشتراكية ونظام الحزب الواحد.

إلى غاية 22 نوفمبر 1976 انتقلت الجزائر إلى شرعية دستورية بإصدار دستور آخر عمق من مبدأ وحدة السلطة٬ وذلك بدسترة الوظائف عوض السلطات التي كان منصوص عليها  في دستور ٬1963  حيث وزع هذه الوظائف كالتالي:

- الوظيفة السياسية نظمت من المادة 94 إلى 103.

- الوظيفة التنفيذية ونظمها من المادة 104 إلى 125.

- الوظيفة التشريعية من المادة 126 إلى 163.

- الوظيفة القضائية من المادة 164 إلى 182.

لقد أكد هذا الدستور النهج الاشتراكي إلى حد بعيد٬ وقد تناول مصطلح الدولة الاشتراكية بدءا من المادة 26 إلى ٬33 ولا يستعمل مصطلح السلطة إلا وهو مقرون برئيس الجمهورية.

 اتسمت هذه الفترة بتركيز ووحدوية السلطة٬ وجعلت من مبدأ اندماج السلطات خاصية ثابتة في هذه التجربة٬ وقائمة على أساس التقسيم الوظيفي للسلطة في ظل وحدة القيادة٬ وهي فكرة لا ينتج عنها فصل السلطات على عدة هيئات٬ وإنما يعتبر رئيس الجمهورية المؤسسة الأساسية في نظام صلاحيات الحلول محل المؤسسات الأخرى في الدولة كلما ارتأى ذلك ضروريا٬ وحتى إن لم يحل محلها مباشرة فإنه يبقى الجهاز المكمل لها في أداء وظيفتها فبدونه تكون غير قادرة على أداء مهامها.

 في هذه المرحلة كان النظام شموليا ولا أثر فيه لمبدأ الفصل بين السلطات٬ فرئيس الجمهورية كان جدار النظام السياسي الذي لا يقاوم مثلما هو الحال في معظم الدول النامية التي في حاجة إلى نظام قوي.

الفرع الثاني: مبدأ الفصل بين السلطات في ظل دساتير قانون

العوامل الرئيسية التي ساهمت في تحول النظام الجزائري من النظام الاشتراكي قائمة على الحزب الواحد وتركيز السلطة ووحدة الفكر٬ إلى نظام ديمقراطية قائمة على التعددية الحزبية ومبدأ الفصل بين السلطات تعددت٬ منها احتكار السلطة وتحول المؤسسات الرئيسية للدولة إلى أجهزة في خدمة الحزب وعجزه على إيجاد التوازن بين مختلف القوى السياسية و صراع الطبقات.

أولا: مبدأ الفصل بين السلطات في ظل الدستور 1989

 لقد كررت مبدأ الفصل بين السلطات لأول مرة في الجزائر في دستور 1989 هذا الدستور الذي أحدث انفصام كبير بين مرحلتين لنظام السياسي الجزائري٬ حين عرف تحول عميق بدء بإرساء قواعده الذي جاءت بعد أحداث أكتوبر  1988 حيث اختارت الجزائر منحنى دستوري جديد في عهدها.

 كما قلنا سابقا في هذه الفترة حدث انفصام بين مرحلة اشتراكية وبدأنا في مرحلة ليبرالية٬ حزب واحد أصبحت تعددية حزبية نظام وحدة السلطات إلى نظام الفصل بين السلطات.

حيث تضمن هذا الدستور في بابه الثاني تحت عنوان تنظيم السلطات كل من:

- السلطة التنفيذية منظمة من المادة 67 إلى 91.

- السلطة التشريعية منظمة من المادة 92 إلى 128.

- السلطة القضائية منظمة من المادة 129 إلى ٬148 وأكد في المادة 129 أن السلطة القضائية مستقلة.

تجدر الملاحظة أن الدستور 1989 لم ينص صراحة على مبدأ الفصل بين السلطات وإنما ضمنيا من خلال تنظيم السلطة التي قسمها إلى ثلاث سلطات وليست وظائف مثل ما كان منصوص عليه  في دستور ٬1976  كما أن الفصل المأخوذ به هو فصل مرن وذلك بتكريس مجموعة من الآليات الرقابية المتبادلة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وبتكريس مظاهر التعاون بينهما.

كما أكد المجلس الدستوري موقف المؤسس الدستوري الجزائري لسنة 1989 من مبدأ الفصل بين السلطات حينما أخطره رئيس الجمهورية برقابة دستورية النظام الداخلي للمجلس الشعبي الوطني والقانون الأساسي للنائب٬ أكد على أن محرر الدستوري أقام بمبدأ الفصل بين السلطات٬ باعتباره عنصرا أساسيا في تنظيم السلطات العمومية وعلى هذا الأساس تملك كل سلطة صلاحية تنظيم عملها الداخلي وضبطه.

كما أكد كذلك في رقابة القانون الأساسي لنائب٬ حيث عند فصله في المادة 13 من هو قال إن نظرا لأن مبدأ الفصل بين السلطات يحتم أن تمارس كل سلطة صلاحياتها في الميدان الذي أوكله إياها الدستور٬ فيجب على كل سلطة أن تلزم دائما حدود اختصاصاتها لتضمن التوازن التأسيسي المقام.

وبالتالي أكد المجلس الدستوري ما جاء في دستور 1989 اتجاه مبدأ الفصل بين السلطات.

ثانيا: مبدأ الفصل بين السلطات في ظل دستور 1996

ولقد طرحت هذه الفكرة بحدة منذ التحول الجذري الذي عرفه النظام السياسي الجزائري منذ صدور دستور ٬1989 الذي أعلن عن ميلاد نظام سياسي جديد وانقلاب فكري أيديولوجي مشهود٬ ومع التسليم بتبني الجزائر لمبدأ الفصل بين السلطات منذ ٬1989 إلا أن التطبيق غير السليم له خلف نظام حكم غير واضح المعالم الذي أدى إلى وجود صلاحيات غير متناسبة بين سلطات الدولة ونتج عن كل ذلك عدم فعالية هذا المبدأ في الجزائر.

ما يعرف على النظام السياسي الجزائري بعد دستور 1989 أنه عرف إشكال الفراغ المؤسساتي سنة 1991 الذي نتج  عن استقالة رئيس الجمهورية وحل المجلس الشعبي الوطني٬ بعد وقف المسار الانتخابي٬ ففي هذه المرحلة لم يطبق مبدأ الفصل بين السلطات نتيجة كل ذلك ودخول الدولة في المرحلة الانتقالية٬ عرف مؤسسات جديدة ومعايير أخرى نافست الدستور رغم أنه لم يجمد ولكن همش واستعبد في هذه المرحلة٬ وخرق مبدأ الفصل بين السلطات حيث أصبحت السلطة التنفيذية تشرع عن طريق المراسيم التشريعية الممنوحة لرئيس المجلس الأعلى للدولة الذي حل محل رئيس الجمهورية٬ وذلك من أجل تجاوز العقبات والأوضاع المهددة لمؤسسات الدولة.

ولهذا عدل دستور 1989 في سنة 1996 الذي أكد على مبدأ الفصل بين السلطات حيث تضمن في بابه ثاني تحت عنوان تنظيم السلطات كل من:

- السلطة التنفيذية نظمت من المادة 70 إلى 97.

-  السلطة التشريعية نظمت من المادة 98 إلى 137.

-  السلطة القضائية نظمت من المادة 138 إلى 158.

يعتبر هذا الدستور إحدى المحطات الهامة السياسية التي عرفتها الجزائر٬ فهو الدستور الذي شكل  الانطلاقة الحقيقية لإعادة بناء مؤسسات الدولة المنهارة منذ ٬1992 وعلاوة على احتفاظه بمجمل القواعد الواردة  في دستور ٬1989 إلّا أنه أضاف عليها ونقحها٬ وحاول المؤسس الدستوري  الجزائري الاستفادة  من التجربة  السابقة.

فقد ركز على صلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية وتمكينه من التدخل في صلاحيات البرلمان عن طريق التشريع بالأوامر والتدخل كذلك في السلطة القضائية٬ وبالتالي وضوح مبدأ الفصل بين السلطات في هذه الفترة.

كذلك أكد ذلك المجلس الدستوري عند رقابة الدستورية المادة الثانية من الأمر المتعلق بتقسيم القضائي أن باعتبار المؤسس الدستوري باعتماده لمبدأ الفصل بين السلطات كمبدأ.

أساسي لتنظيم السلطات العمومية٬ قد عمل على تحديد اختصاص كل منها والتي لا يمكن أن تمارسه إلا في المجالات التي حددها لها الدستور صراحة….

ومن أجل المحافظة على التوازن المؤسسات خاصة إعادة ترتيب المؤسسة التنفيذية وإزالة ما يشوبها من تناقضات للوصول إلى تحقيق الغرض من فحوى الفصل بين السلطات عدل دستور 1996 عدة مرات٬ أهمها تعديل ٬2008  أين أعاد تنظيم السلطة التنفيذية وإلغاء ثنائياتها لتصبح أحادية في يد رئيس الجمهورية  بمساعدة الوزير الأول٬ أمّا السلطة التشريعية فلم يطلها التعديل.

ثالثا: مبدأ الفصل بين السلطات في ظل تعديل 2016

لقد أجرى المؤسس الدستوري الجزائري وبمبادرة  من رئيس الجمهورية تعديل الدستور سنة 2016 دون اللجوء إلى الاستفتاء الشعبي٬ وإنّما اكتفى برأي المجلس الدستوري بموافقة ثلاثة أرباع ( 3/4) من أعضاء البرلمان٬ نجد أنه قد نص صراحة  على مبدأ الفصل بين السلطات في ديباجته بنصه يكفل الدستور الفصل بين السلطات واستقلال العدالة٬  بل واعتبره في نص المادة 15 منه من المبادئ التي تقوم عليها الدولة حيث وضع هذا التعديل الأمور في نصابها٬ وأعلن التبني الصحيح لهذا المبدأ٬ وعلى ضوئه لابد من مسيرة باقي مواد الدستور المتعلقة بالسلطات العامة في الدولة والعلاقات بينهما لهذا المستجد.

يعتبر التعديل الدستوري لسنة 2016 نقطة تحول حاسمة٬ بالنظر إلى أنه يمثل المحطة نهائيا مسيرة الإصلاحات السياسية التي أعلنها رئيس الجمهورية٬ ومن خلال إرسائه دولة المؤسسات التي تحترم المبادئ والقيم وتحفظ التوازن في ما بينها على أسس متينة٬ إلّا أن المؤسس الدستوري أعاد التمسك من جديد بهيمنة السلطة التنفيذية الممثلة في رئيس الجمهورية على كل المؤسسات وهي إصابة وخرق لمبدأ الفصل بين السلطات المدستر لأول مرة في هذا التعديل.

المرجع:

  1. د. خلوفي خدوجة، محاضرات في مقياس القانون الدستوري والنظم السياسية، مطبوعة موجهة لطلبة السنة الأولى ليسانس جذع مشترك، جامعة أكلي محند أولحاج البويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجزائر، السنة الجامعية: 2019 – 2020، ص50 إلى ص67. 
google-playkhamsatmostaqltradent