الخبرة القضائية في المادة المدنية والجزائية بقلم د. عبد الوهاب حمزة

الصفحة الرئيسية

الخبرة القضائية في المادة المدنية والجزائية بقلم د. عبد الوهاب حمزة 

الخبرة القضائية في المادة المدنية والجزائية بقلم د. عبد الوهاب حمزة

مقدمـة:

تعتبر الخبرة القضائية من أهم الإجراءات المساعدة للقضاء والتي يأمر بها القاضي في ظروف خاصة وشروط معينة قصد إجراء تحقيق في مسائل فنية، لا يمكن للمحكمة أن تبث في النزاع المعروض عليها دون توضيح بعض المسائل أو النقاط الفنية البحتة من الأشخاص ذوي المعارف الخاصة كي تستطيع الحكم فيها بارتياح.

وقد عرف المشرع الجزائري الخبرة وربط مفهومها بالغاية منها حيث نصت المادة 125 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية بأن الخبرة تهدف إلى توضيح واقعة مادية تقنية أو علمية محضة للقاضي.

وقد عرف بعض الفقهاء الخبرة القضائية بأنها "إجراء للتحقيق يعهد به القاضي إلى شخص مختص ينعت بالخبير ليقوم بمهمة محددة تتعلق بواقعة أو وقائع مادية يستلزم بحثها أو تقديرها أو على العموم إبداء رأي يتعلق بها علما أو فنا لا يتوفر في الشخص العادي ليقدم له بيانا أو رأيا فنيا لا يستطيع القاضي الوصول إليه وحده".

ومن خلال هذا التعريف يمكن القول بأن الخبرة علم وفن وإجراء في آن واحد.

فهي علم يتطور مع التطور العلمي والتكنولوجي على جميع المستويات، مما يستوجب وجود مختصين يواكبون هذا التطور وعلى دراية كافية به؛ يمكن للقضاء الاستعانة بهم لاستجلاء اللبس والغموض المحيط بالمسائل التقنية والفنية موضوع الخبرة حتى يتسنى للقاضي البت في القضية انطلاقا مما هو ثابت علميا ليريح ضميره ويحقق العدالة المرجوة.

وهي فن قوامه المزج بين ما هو تقني وعلمي وما هو قانوني، وهذا العمل ليس في استطاعة كل إنسان القيام به وإنما من الضروري أن يكون الخبير على درجة كبيرة من الإلمام بمتطلبات الميدانين تمكنه من المزج بين هذا وذاك، حتى يكون التقرير المطالب بإنجازه منسجما ومتكاملا ويعطي صورة حقيقية للقاضي حول النزاع المطروح أمامه.

والخبرة القضائية هي بصفة أساسية إجراء من إجراءات التحقيق التي يأمر بها القاضي، وقد اهتم المشرع الجزائري بالخبرة القضائية شأنه في ذلك شأن باقي التشريعات المقارنة وأفرد لها نصوصا خاصة من المادة 125 إلى المادة 145 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية.

 كما توجد قواعد أخرى أساسية تنظمها في كثير من فروع القانون كالقانون رقم 91/01 المتعلق بمهنة الخبير المحاسب ومحافظ الحسابات والمحاسب المعتمد والأمر رقم 95/08 المتعلق بالمهندس والخبير العقاري والمرسوم التنفيذي 95/310 الذي يحدد شروط التسجيل في قوائم الخبراء القضائيين وكيفياته كما يحدد حقوقهم وواجباتهم.

وفي بعض أحكام القانون المدني والتجاري وقانون الإجراءات الجزائية؛ ومن سمات الخبرة أنها وسيلة من وسائل الإثبات ذات طابع علمي يمكنها من احتلال مكانة مرموقة في ظل نظام الإثبات لا يمكن للمحكمة الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال.

وتجدر الإشارة إلى أن تشعب الحياة وتطورها المستمران أديا إلى خلق اختصاصات متعددة ومتنوعة، وهذا ما يجعل مهمة القاضي صعبة مهما كان تكوينه العلمي أو المعرفي ورغم ثقافته الواسعة أن يلم كامل الإلمام بجميع المسائل ذات الطبيعة التقنية أو الفنية التي يتطلب حلها إجراء خبرة فنية كمسائل الطب والبيولوجيا والمحاسبة والطبوغرافيا والهندسة المعمارية

ولهذا فالمشرع الجزائري خول للقاضي السلطة التقديرية للأمر بإجراء خبرة وتعيين الخبير الذي يقوم بهذه المهمة -إما تلقائيا أو باقتراح أطراف النزاع واتفاقهم- للاستعانة به من أجل استكمال معلوماته وتسليط الضوء على ما غمض من واقع النزاع المعروض عليه، واعتبارا لذلك فإنه لا يمكن اللجوء إلى الأمر تمهيديا بإجراء خبرة لتجنب الجهد الضروري أو القيام بالدراسة اللازمة لتحليل عميق لعناصر النزاع الذي عليه الفصل فيه، بمعنى آخر أنه لا يجوز أن تتحول الخبرة إلى وسيلة للقاضي يلقي بها مهمته على غيره، وإلا كان ذلك تفويضا منه لسلطته القضائية.

 وهذا ما استقر عليه قضاء المحكمة العليا حيث جاء في قرار بتاريخ 20 / 11 / 1985 أنه من المقرر قانونا أن المهمة التي يكلف بها خبير تنتدبه جهة قضائية ما، تنحصر في جمع المعلومات الفنية، التي تساعد القاضي على حسم النزاع وتصور له القضية بصفة أعم و أشمل، وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتحول هذه المهمة إلى منح الخبير صلاحية القاضي مثل سماع الشهود وإجراء تحقيق، ولما كان كذلك فإن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد خرقا للقانون.

وجاء في قرار بتاريخ 1993/07/07 أنه من المقرر قانونا وقضاء أن يأمر القاضي بإجراء الخبرة، وتعيين الخبير مع توضيح مهمته التي تكتسي طابعا فنيا بحتا، مع مراعاة عدم التخلي عن صلاحيات القاضي لفائدة الخبير.

 ويقوم الخبير بمهمته تحت سلطة القاضي الذي عينه وتحت رقابة السيد النائب العام وهذا طبقا للمادة 10 من المرسوم التنفيذي 310/95 السابق الإشارة إليه.

والخبرة إجراء للتحقيق يتميز عن باقي إجراءات التحقيق العادية الأخرى كاليمين ومضاهاة الخطوط و الادعاء بالتزوير (في العقود العرفية والرسمية والادعاء بالتزوير الفرعي والأصلي) والانتقال والمعاينة لكونها لا ترتبط بقواعد الإثبات الموضوعية المنصوص عليها في القانون المدني المتمثلة في الإقرار والكتابة، واليمين، وشهادة الشهود، والقرينة.

ونشير إلى أن موضوع الخبرة القضائية يحظى بأهمية بالغة في العمل القضائي باعتباره أكثر الإجراءات تطبيقا، فيلاحظ مثلا أن دعاوي التعويض المرفوعة إلى القضاء غالبا ما تكون مرتبطة بإجراء خبرة، كذلك الشأن بالنسبة للقضايا العقارية على اختلاف أنواعها؛ كما أن سوء تطبيق هذا الإجراء من طرف القاضي يترتب عنه إضرار بحقوق الدفاع وتطويل أمد النزاع.

والخبرة مهنة حرة تشارك في أداء خدمة عمومية وتنوير القضاء، وقد اعتنى المشرع الجزائري بهذه المهنة ونظمها بمقتضى المرسوم التنفيذي رقم 95/310 الذي يحدد شروط التسجيل في قوائم الخبراء القضائيين وكيفياته كما يحدد حقوقهم وواجباتهم.  كما حدد شروط الترشيح والتقييد في جدول الخبراء و نص على حقوق، وواجبات الخبراء، ومسألة التجريح، والتأديب.

كلها أسئلة سنحاول الإحاطة بها - قدر الإمكان - من خلال هذه المداخلة وفق العناصر المنهجية التالية:

  • المبحث الأول: الخبرة القضائية في المادة المدنية وفقا لنصوص قانون الإجراءات المدنية والإدارية.
  • المطلب الأول: القواعد المؤطرة لتعيين الخبراء.
  • المطلب الثاني: مناقشة تقرير الخبرة ومدى حجيته؟
  • المبحث الثاني: الخبرة القضائية في المادة الجزائية وفقا لنصوص قانون الإجراءات الجزائية.
  • المطلب الأول: الجهات المختصة للأمر بإجراء الخبرة.
  • المطلب الثاني: النظام القانوني للخبرة في المادة الجزائية.
  • الخاتمة.

المبحث الأول: الخبرة القضائية في المادة المدنية وفقا لنصوص قانون الإجراءات المدنية والإدارية

بخلاف الخبرة الاتفاقية التي تتم باتفاق يبرم بين أطرافها والخاضعة للقواعد العامة التي تحكم نظام التعاقد أو الخبرة التي يلجأ إليها الشخص من تلقاء نفسه لينتفع بها في نزاع قد ينشأ في المستقبل القريب أو البعيد.  فإن الخبرة القضائية هي التي يأمر بها القضاء ويكمن حصر 03 أنواع من الخبرة:

-1-الخبرة: تأمر بها المحكمة تلقائيا أو بناء على طلب أحد الخصوم أو كلاهما، وعلى المحكمة أن تبين دواعي إجراء الخبرة، وفي حالة رفض الطلب بإجرائها وجب عليها تعليل ذلك، والأصل في الخبرة أن المحكمة غير ملزمة بإجابة طلب تعيين الخبير. وأن الأمر متروك لسلطتها التقديرية، وقد تعهد هذه المهمة لخبير واحد أو عدة خبراء وذلك حسب أهمية وطبيعة موضوع الخبرة.

-2-الخبرة التكميلية: تلجأ إليها المحكمة حينما يعتري الخبرة المنجزة نقصان واضح، أو أن الخبير لم يجب عن جميع الأسئلة والنقط الفنية المعين من أجلها، ويعهد بالخبرة التكميلية إلى نفس الخبير الذي أنجز الخبرة الأصلية أو إلى خبير آخر.

-3-الخبرة المضادة: يطلبها الخصوم أو تأمر بها المحكمة من تلقاء نفسها ويكون موضوعها مراقبة صحة المعطيات وسلامة ما خلصت إليه الخبرة الأولى.

وأن المشرع الجزائري عمل على تنظيم مجال الخبرة في خمسة فروع من قانون الإجراءات المدنية و الإدارية وذلك في القسم الثامن من الفصل الثاني الخاص بإجراءات التحقيق من الباب الرابع بعنوان وسائل الإثبات.

المطلب الأول: القواعد المؤطرة لتعيين الخبراء

لعل من بين أهم القواعد المرتبطة بتنظيم الخبرة تتمثل في إمكانية القاضي اللجوء إلى الخبرة عند الضرورة من تلقاء نفسه أو بناء على طلب أحد الخصمين أو وفقا لطلبهما معا، إلا أنه يتعين على القاضي حينما يرفض طلب إجراء خبرة أن يعلل موقفه، و أن عدم الرد على هذا هو رفض ضمني لإجراء الخبرة لا يفسد الحكم أبدا ما لم يتعلق الأمر بطبيعة الحال بإجراء قد يترتب على إغفاله إضرار بالخصم كأن يتصدى القاضي بنفسه للفصل في مسألة فنية. 

ولذلك نص المشرع في المادة 126 من ق إ م و إ على صلاحيات القاضي في الأمر بإجراء الخبرة تلقائيا أو بطلب الأطراف واتفاقهم، من طرف خبير محلف أو استثناء من طرف خبير غير مسجل بالجدول شريطة أدائه اليمين أمام الهيئة القضائية التي عينته، على أن يقوم بأمانة وإخلاص بالمهمة المسندة إليه وأن يعطي رأيه بكل نزاهة واستقلال كما في نص اليمين التي يؤديها الخبراء في المادة 145 من ق إ ج. وتسليط الضوء على تقنية تحديد النقاط المعروضة على الخبير للحسم فيها والتي تكون عبارة عن أسئلة فنية لا علاقة لها مطلقا بالقانون كما جاء تأكيد ذلك في المادة 125 من ق إ م و إ. والمادة 128 فقرة 3 التي نصت حرفيا على تحديد مهمة الخبير تحديدا دقيقا.

والهدف الذي توخاه المشرع يكمن في مواجهة تجاوز بعض الخبراء القضائيين أثناء مزاولة مهامهم لما هو محدد في الأمر التمهيدي إما تلقائيا أو بحجة غموض ولبس النقاط المطلوب التعرض لها.

وقد سبق للعمل القضائي أن تصدى بحزم لهذا التجاوز باجتهادات متواترة وكمثال على ذلك ما جاء في قرار المحكمة العليا بتاريخ 20 / 11 / 1985 أنه: 

من المقرر قانونا أن المهمة التي يكلف بها خبير تنتدبه جهة قضائية ما، تنحصر في جمع المعلومات الفنية، التي تساعد القاضي على حسم النزاع وتصور له القضية بصفة أعم و أشمل، وأنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتحول هذه المهمة إلى منح الخبير صلاحية القاضي مثل سماع الشهود وإجراء تحقيق، ولما كان كذلك فإن القضاء بما يخالف هذا المبدأ يعد خرقا للقانون.

إن مهمة الخبير الذي تعينه المحكمة تنحصر في جلاء أمر تقني يرى القاضي الاطلاع عليه ضروري للفصل في النزاع المعروض عليه، أما الإجراءات التي تتعلق بالقانون كمعرفة الأرض المتنازع عليها، هل هي من الأملاك العمومية أو من الأملاك الخاصة، وهل المدعون يتصرفون في الأرض عن طريق الحيازة والاستغلال فقط أو عن طريق التملك، فهذه كلها مسائل قانونية من صميم أعمال القاضي.

واعتبارا لكون أن موضوع الخبرة قد يتطلب مجهودا كبيرا أو تتعدد جوانبه فقد سمح المشرع للمحكمة استثناء بأن تعين في النزاع أكثر من خبير واحد ويستشف ذلك من خلال الفقرة الأولى من المادة 127 من ق إ م و إ التي تنص على أنه: ( في حالة تعدد الخبراء المعينين يقومون بأعمال الخبرة معا ويعدون تقريرا واحدا ) .

*ومن أوكد البيانات التي يجب أن يتضمنها قرار تعيين الخبير تحديد أجل إيداع تقرير الخبرة بأمانة الضبط طبقا للمادة 128 فقرة 4 من ق إ م و إ. وهذا مرتبط بمبدأ أساسي في القضاء وهو الأجل المعقول للفصل في القضايا، ذلك أنه لا يمكن أن تسند المهمة للخبير دون تقييده بمدة زمنية لإنجاز مهمته. وهذا المبدأ لا يمنع الخبير من طلب تمديد المهلة التي منحه إياها القاضي وذلك طبعا عند الضرورة طبقا للمادة 136 من ق إ م و إ.

وعدم احترام الخبير للأجل الممنوح له من طرف القاضي قد يترتب عنه إلزام الخبير بما كان قد تسبب فيه من مصاريف والأخطر من ذلك أنه قد يحكم عليه بالتعويضات المدنية وهذا ما جاءت به المادة 132 فقرة 2 من ق إ م و إ.

وقد تستجد ظروف طارئة تحتم تغيير الخبير الذي سبق للمحكمة أن عينته بكيفية قانونية كوفاته أو عزله من منصبه أو رفضه للمهمة التي أنيطت به، أو ألم به مرض أقعده عن تنفيذ المأمورية الموكلة إليه، أو تجريحه بكيفية قانونية فيتم استبداله بغيره بموجب أمر على ذيل عريضة صادر عن القاضي الذي عينه وهذا ما أشارت إليه المواد 132 و 133 من ق إ م و إ.

 وهنا نلاحظ أن القاضي لا يمكنه تلقائيا تغيير الخبير إلا بعد عريضة يقدمها صاحب المصلحة عكس بعض التشريعات المقارنة التي تعطي للقاضي إمكانية تغيير الخبير تلقائيا.

 ويبلغ قرار تعيين الخبير كما يبلغ قرار استبداله للخصوم حتى تكون لهم مهلة 08 أيام لإمكان طلب رد الخبير إلى القاضي الآمر الذي يفصل في طلب الرد في الحين بأمر غير قابل لأي طعن طبقا للمادة 133 من ق إ م و إ. (المادة تنص على: دون تأخر وهي عبارة عامة وفضفاضة عكس التشريعات المقارنة التي حدد أجلا للفصل في الطلب).

ولم يحصر المشرع أسباب رد الخبير إلا أنه ذكر بعضها في الفقرة 02 من المادة 133 من ق إ م و إ فذكر علاقة القرابة المباشرة أو غير المباشرة لغاية الدرجة الرابعة أو لوجود مصلحة شخصية أو لأي سبب جدي آخر كأن يكون الخبير قد سبق و أن طرح عليه النزاع أو يكون قد أدلى فيه بشهادة في النزاع. وتقدير سبب الرد متروك للسلطة التقديرية للقاضي الأمر.

ونشير إلى أنه إذا كان من حق المحكمة أن تختار من بين الخبراء من تراه الأصلح لإنجاز المهمة التي تطلبها فإن هذا الاختيار قد يقيده المنطق أحيانا وهكذا مثلا فلا يمكن في المادة الاجتماعية أن يكون خبيرا قضائيا الطبيب الذي عالج العامل المصاب ولا طبيب صندوق الضمان الاجتماعي، وغير ذلك من المحددات التي تفرض نفسها على القاضي الآمر والتي تهدف كلها إلى ضمان عدم تحيز الخبير في مهمته.

  وبديهي أنه من واجب الخبير أيضا أن يجرح نفسه إذا توفر فيه سبب من أسباب التجريح، وذلك حتى يكون وفيا لليمين التي أداها، وهنا نلاحظ ظاهرة التعاقد المسبق لمجموعة من الخبراء مع بعض الشركات كما هو الشأن بالنسبة لشركات التأمين، أو النقل، أو شركات المحاسبة، أو البنوك، والتي غالبا ما تلجأ إلى اعتماد خبراء قارين في إطار تعاقدي لقاء أجرة شهرية أو مقابل ما تم إنجازه من مهام، وقد تعمد المحكمة إلى تعيينهم ضد الشركات التي يعملون لفائدتها.

ونشير إلى أن المادة 142 من ق إ م و إ نصت على أنه إذا تبين للخبير أن مهمته أصبحت بدون موضوع بسبب تصالح الخصوم يتعين عليه إخبار القاضي عن ذلك بموجب تقرير.

فلم تنص المادة على أن الخبير يمكنه مصالحة الخصوم، لكن طبقا للقواعد العامة فمحاولة الصلح هي مهمة قضائية مخولة للمحكمة دون غيرها، ولا يمكن إقرارها أو تفويضها لأي جهة أخرى ولو كانوا مساعدي العدالة، ومن هذا المنطلق فإن الصلح لا يعتبر مسألة تقنية حتى نسلم بأهلية الخبير في القيام بها. وقد نص ق إ م و إ على الصلح في المواد 990 وما بعدها وهي من صميم العمل القضائي.

وأقر المشرع إجبارية استدعاء الخصوم عن طريق محضر قضائي يخطرهم فيها بيوم وساعة ومكان تنفيذ الخبرة طبقا للمادة 135 من ق إ م و إ التي أقرت بمبدأ وجاهية الخبرة. إلا أن المشرع لم يقرر جزاء عن تخلف هذا الإجراء، وعليه فإننا نرى أنه ليس من النظام العام وبالتالي لا تثيره المحكمة تلقائيا، ويتعين على من له المصلحة في ذلك أن يثيره قبل الإدلاء بملاحظاته في الموضوع.

*ونتطرق إلى ما يسمى الخبرة الاستعجالية فأصبح من الجائز لقاضي الاستعجال أن يأمر بتعيين خبير في إطار دعوى إقامة الدليل و حفظه. وتعتبر هذه الدعوى من قبيل إجراءات التحقيق.

 لقد أصبحت إجراءات التحقيق والحصول على الإثبات حتى قبل رفع الدعوى من أهم المسائل التي خول المشرع القاضي أن يأمر بها متى توافرت الشروط بموجب أمر على عريضة أو عن طريق دعوى استعجالية.

وكرس المشرع دعوى إقامة الدليل وحفظه وأكد طابعها الاستعجالي من خلال المادة 77 من ق إ م وإ.

إن أهم إجراءات التحقيق التي يمكن أن تكون موضوعا لهذه الدعوى بصفة خاصة طلب المعاينة أو الخبرة خشية ضياع معالم الواقعة للتحقق مثلا من توافر وجه الخطر في الطلب المعروض عليه، وحالة تقديم دعوى استعجالية بإخلاء عمارة لكونها آيلة للسقوط، فيجوز ندب خبير لإثبات ذلك أو   للتأكد من حالة البضائع إثر تفريغها من الباخرة نظرا لحالة الاستعجال التي تستلزمها ظروف البضائع المفرغة على أرصفة الميناء لأنها تعد من الإجراءات التي يجوز الأمر بهما في نطاق المادة 77 ق إ م وإ.

ولئن نص المشرع على جواز الأمر بالخبرة أمام القضاء الاستعجالي العادي ضمنيا من خلال المادة 77 السابق الإشارة إليها فإنه نص صراحة على جواز ذلك أمام القضاء الاستعجالي الإداري إذ نصت المادة 939 من ق إ م و إ على أنه : يجوز لقاضي الاستعجال مالم يطلب منه أكثر من إثبات حالة الوقائع بموجب أمر على عريضة ولو في غياب قرار إداري مسبق أن يعين خبيرا ليقوم بدون تأخير بإثبات حالة الوقائع التي من شأنها أن تؤدي إلى نزاع أمام الجهة القضائية.

 وجاء تأكيد ذلك في المادة 940 بالنص على أنه: يجوز لقاضي الاستعجال بناءا على عريضة ولو في غياب قرار إداري مسبق أن يأمر بكل تدبير ضروري للخبرة أو للتحقيق.

وأكد المشرع في المادة 134 من قانون إ م وإ إمكانية استعانة الخبير القضائي بالمترجم عند وجود ضرورة لذلك، ويتعين عليه اختيار مترجم مدرج بجدول المترجمين المعتمدين أو اللجوء إلى القاضي لتعيين مترجم.

- دور النيابة العامة أثناء تنفيذ الخبرة القضائية:

 تجدر الإشارة إلى أنه يمكن للنيابة العامة أن تحضر أعمال الخبرة انسجاما مع مقتضيات المادة 88 من قانون إ م وإ التي تنص على أنه " يجوز لممثل النيابة العامة حضور إجراءات التحقيق في القضايا التي يتم إشعاره بها، وعند الاقتضاء إبداء ملاحظاته".

كما نصت المواد 256 و 257 و 260 من ق إ م و إ على دور النيابة عموما في القضايا المدنية وحددت المادة 260 نوعية القضايا بالتحديد التي يجب أن يتم إبلاغ النيابة بها حتى تتخذ ما تراه مناسبا، ومن بين هذه القضايا القضايا التي تكون الدولة أو إحدى الجماعات المحلية طرفا فيها وفي قضايا الإفلاس والتسوية القضائية وفي قضايا المسؤولية المالية للمسيرين الاجتماعيين. وهذا الدور الذي قرره المشرع للنيابة العامة زيادة على كونها طرفا أصليا أو منظما أو متدخلا في القضايا التي حددها المشرع ويستمر هذا الدور للنيابة العامة أمام جهة الاستئناف.

المطلب الثاني: مناقشة تقرير الخبرة ومدى حجيته؟

عند انتهاء الخبير من إنجاز المهمة المنوطة به في إطار الضوابط القانونية المنظمة لسير عمل الخبرة القضائية، يودع تقريره مكتوبا بكتابة الضبط للمحكمة المختصة التي تتولى التأشير عليه، وبه يضمن الخبير كل الملاحظات العلمية أو الفنية والخلاصة التي توصل إليها حسب ما ورد في الأمر التمهيدي والإجابة على الأسئلة الفنية المحددة من طرف قاضي الموضوع. ونصت المادة 138 من قانون إ م و إ على أن الخبير يسجل في تقريره على الخصوص أقوال الخصوم وملاحظاتهم ومستنداتهم، وعرض تحليلي عما قام به وعاينه في حدود المهمة المسندة إليه، وأخيرا نتائج الخبرة التي توصل إليها.

وهنا نشير إلى أن المشرع لم يشترط إمضاء الخصوم على أقوالهم وملاحظاتهم مما قد يفتح الباب على توقعات غير محتملة ليست في صالح الخبير خاصة من الطرف الذي يخسر الدعوى بعد ذلك فيمكن أن يكون محل شكوى جزائية من هذا الخصم وينفي تصريحه الذي قدمه للخبير وكان الأجدر بالمشرع أن ينص على وجوب إمضاء الخصوم على أقوالهم.

وأشار المشرع كذلك في المادة 141 من ق إ م و إ أنه إذا تبين للقاضي أن العناصر التي بني عليها الخبير تقريره غير وافية، له أن يتخذ جميع الإجراءات اللازمة كما يجوز له على الخصوص أن يأمر باستكمال التحقيق أو بحضور الخبير أمامه ليتلقى منه الإيضاحات والمعلومات الضرورية.

وهكذا فإن تقرير الخبرة يكون دائما محلا لمناقشة أطراف النزاع وموضوعا لطعونهم ولذلك يمكن مثلا لمن قدم التقرير في مصلحته أن يستند إلى ما تضمنه من أبحاث وحجج وآراء وما توصل إليه الخبير من نتائج وما اشتمل عليه محضر الأعمال من الأقوال والملاحظات للتدليل على صحة ادعائه وسندا له كما يكون لهذا الخصم أن يفسر ما غمض من عبارات التقرير بما يتفق مع مصلحته في الدعوى المثارة أمام المحكمة.

أما الخصم الآخر فله الحق أيضا في مناقشة مضمون هذا التقرير فيفند ما جاء فيه مبرزا ما يحتوي عليه من تناقض بين أجزائه أو خطأ في بياناته أو فساد في الرأي أو الاستدلال أو في الاستنباط   انطلاقا من الهفوات التي يشملها تقريره، ولمحكمة الموضوع كذلك الحق في مناقشة تقرير الخبرة على النحو الذي أشارت إليه المادة 141 من قانون إ م و إ.

وفي هذا الصدد يمكن أن نتساءل عن مدى حجية تقرير الخبرة من حيث الإثبات؟ ومتى يتقرر بطلان تقرير الخبرة القضائية وماهي سلطة المحكمة إزاء تقرير الخبير؟ وما هو مركز الخبرة أمام محكمة الاستئناف كدرجة ثانية من درجات التقاضي وأمام المحكمة العليا باعتبارها محكمة قانون؟

إن التقرير الذي ينجزه الخبير بناء على أمر من المحكمة كقاعدة عامة له قوة الإثبات التي تكون عادة للأوراق الرسمية في شأن ما أثبته هذا الخبير من الوقائع التي شاهدها أو سمعها أو علمها أو استنتجها في حدود الاختصاصات التي أوكلت إليه.

فمادام الخبير يقوم بمهمته في التحقيق والتقصي والبحث بمثابة الوثيقة الرسمية التي لا يمكن إثبات عكس ما ضمن بها مبدئيا إلا عن طريق الطعن بالتزوير، خاصة وأن الخبير لا يباشر مهمته هذه إلا بعد تأديته لليمين القانونية.

وهكذا فتقرير الخبير حجة في الإثبات بشأن مختلف بياناته المتعلقة بتاريخه وبحضور الخصوم في الدعوى أمامه أو تخلفهم عن ذلك الحضور، وبجميع الأمور المادية التي حققها الخبير والأعمال الشخصية التي أنجزها في حدود المهمة الفنية أو العلمية التي عين من أجلها. فنصت المادة 144 ف01 من ق إ م وإ على: يمكن للقاضي أن يؤسس حكمه على نتائج الخبرة.

وفي نفس الوقت فإن ما يتوصل إليه الخبير من نتائج فنية أو علمية ويضمنها في صلب تقريره لا تكون لها القوة المطلقة وإنما يحق لأطراف الدعوى دائما إثبات خطئه أو سهوه أو عدم مطابقته للواقع ولهم في ذلك اللجوء إلى كافة وسائل الإثبات الممكنة وخاصة متى اطمأن قاضي الموضوع إلى ذلك الإثبات.

وعمليا كثيرا ما يلجأ المتقاضون في هذا الإطار إلى طلب إجراء خبرة مضادة محاولة منهم لكشف خلاف ما قرره الخبير أو على الأقل إبراز الهفوات والثغرات التي لامست التقرير المنجز والمعترض عليه، والأكثر من ذلك فإنه لا يوجد ما يمنع قاضي الموضوع من اللجوء إلى خبرة جديدة، إذا لم يقتنع بالخبرة الأولى وعلى هذا نصت الفقرة 02 من المادة 144 من ق إ م وإ على أن : القاضي غير ملزم برأي الخبير غير أنه ينبغي عليه تسبيب استبعاد نتائج الخبرة.

وفيما يتعلق ببطلان تقرير الخبير ومن خلال تعريف الفقه للبطلان بأنه جزاء يلحق الأعمال الإجرائية   كلما جاءت مخالفة للنموذج الذي وضعه المشرع ويترتب عن ذلك تجريد هذا الإجراء من كل أثر قانوني.

والملاحظ على أن المشرع الجزائري تناول نظرية البطلان بشكل مقتضب في قانون الإجراءات المدنية والإدارية و كرس مبدأ أساسي بأن بطلان إجراء رهين بإحداث ضرر للخصم وهو ما تم النص عليه في المادة 60 من قانون إ م وإ " لا يقرر بطلان الأعمال الإجرائية شكلا إلا إذا نص القانون صراحة على ذلك وعلى من يتمسك به أن يثبت الضرر الذي لحقه" .

وكنتيجة حتمية لما أقره المشرع فالخبرة لا تبطل إلا إذا أثبت من يتمسك بذلك البطلان الضرر، ولعل من جملة الأسباب التي يمكن الاعتماد عليها للدفع ببطلان الخبرة نذكر على سبيل المثال: عدم آداء الخبير غير المسجل بجدول الخبراء اليمين القانونية، أو عدم التقيد بأحكام المادة 135 من قانون إ م و إ فيما يتعلق باستدعاء الخصوم لحضور إنجاز الخبرة. 

وتجدر الإشارة إلى أن إثارة الدفع ببطلان إجراء من إجراءات الخبرة يجب التمسك به مباشرة بعد إيداع التقرير وليس بعد مناقشة موضوعه، تحت طائلة عدم قبوله لوقوعه بعد فوات وقته، طبقا للمادة 61 من قانون إ م وإ.

ومن خلال المادة 145 من ق إم و إ التي تنص على أنه " لا يجوز استئناف الحكم الآمر بالخبرة أو الطعن فيه بالنقض إلا مع الحكم الفاصل في موضوع النزاع ".

وباعتبار أن جهة الاستئناف تعد درجة ثانية للتقاضي تنشر الدعوى أمامها من جديد بحيث يسمح لها دائما أن تعيد النظر في استخلاص وقائع النزاع واستعمال إجراءات التحقيق الممكنة في هذا المجال، و ينجز المستشار المقرر تقريره لجعل القضية جاهزة للحكم، ويمكن بناء على طلب الأطراف أو حتى تلقائيا الأمر بأي إجراء للتحقيق من سماع شهود أو القرار بإجراء خبرة.

ومما لا شك فيه وطبقا للقواعد العامة للإجراءات يبقى دائما من حق قضاة الاستئناف أن يتبنوا الخبرة التي تم إنجازها على مستوى الدرجة الابتدائية ولهم إلغاؤها كليا أو جزئيا حسب ما يقتنعون به، بل ولهم الأمر بخبرة جديدة كلما ظهر لهم أن في ذلك فائدة بشرط تسبيب قرارهم، وفي حالة تعدد الخبرات لها أن توازن فيما بينها وتأخذ بما اطمأنت إليه وتستبعد ما لم تطمئن إليه بكيفية مسببة.

- ولا تفوتنا الإشارة إلى الخبرة القضائية أمام المحكمة الإدارية و أمام المحكمة الإدارية للاستئناف حيث أن الأحكام المتعلقة بالخبرة القضائية المنصوص عليها في المواد 125 إلى 145 من ق إ م وإ تطبق أمام المحاكم الإدارية طبقا لما نصت عليه المادة 858 من ق إ م و إ.

ونصت المادة 844 من ق إ م وإ على دور القاضي المقرر في تحديد أجل للخصوم من أجل تقديم مذكراتهم وملاحظاتهم وأوجه الدفاع عنها ويجوز له أن يطلب من الخصوم كل مستند أو وثيقة تفيد في فض النزاع.

ونصت المادة 846 من ذات القانون على أنه إذا كانت القضية تقتضي القيام بالتحقيق عن طريق خبرة أو سماع شهود أو غيرها يرسل الملف إلى محافظ الدولة لتقديم التماساته بعد دراسة الملف من قبل القاضي المقرر.

أما ما يتعلق بمركز الخبرة القضائية أمام المحكمة العليا أو مجلس الدولة باعتباره محكمة قانون فإنه لا بد من إبداء مجموعة من الملاحظات من أهمها:

- انه لا يمكن مطلقا إجراء خبرة أمام المحكمة العليا أو مجلس الدولة بحكم أن الخبرة لها ارتباط وثيق بجانب الواقع في الدعوى وليس بجانب القانون فيها.

- لا يمكن مطلقا للخصم في الدعوى الطعن ولأول مرة أمام المحكمة العليا أو مجلس الدولة في مسائل لم يسبق عرضها أمام قضاة الموضوع كالطعن في الخبرة مثلا.

- الخبرة في جوهرها أي فيما خلص إليه الخبير واقتنع به قاضي الموضوع أو لم يقتنع به من مسائل الواقع التي يندرج استخلاصها ضمن السلطة التقديرية لمحاكم الموضوع سواء تعلق الأمر بالمحاكم الابتدائية أو محاكم الاستئناف والتي تخرج بالتالي عن المجال القانوني الذي تراقبه المحكمة العليا.

- يمكن الطعن في القرار بسبب خرق ما يتعلق بقواعد التسبيب كأن تأمر محكمة الموضوع بإجراء خبرة ثم تتخلى عن الأخذ بنتائجها دون أن تعلل موقفها هذا طبقا للمادة 144 من ق إ م وإ.

المبحث الثاني: الخبرة القضائية في المادة الجزائية وفقا لنصوص قانون الإجراءات الجزائية:

تعرضت المواد من 143 إلى 156 من قانون الإجراءات الجزائية لإجراء الخبرة، وسنتناول في هذا المبحث الجهات المختصة للأمر بإجراء الخبرة في المطلب الأول ثم النظام القانوني للخبرة من المادة الجزائية في المطلب الثاني.

المطلب الأول: الجهات المختصة للأمر بإجراء الخبرة:

الجهات التي يمكن لها أن تأمر بإجراء الخبرة هي:

أولا: قضاة النيابة

لا بد من التذكير في هذا الصدد بأن الأوامر الصادرة عن السيد وكيل الجمهورية بإجراء خبرة في إطار البحث التمهيدي طبقا للمادة 36 من ق إ ج كالأمر بفحص الجثة أو تشريحها لتحديد أسباب الوفاة أو غيرها من أوامر الخبرة المأمور بها تخضع كلها للأحكام التي سوف نتطرق لها.

ثانيا: قضاء التحقيق

يملك قاضي التحقيق كما تملك غرفة الاتهام صلاحية الأمر بندب الخبير، إذ يأمر قاضي التحقيق بإجراء الخبرة تلقائيا أو بطلب من النيابة العامة أو من الأطراف، وفي حالة رفض قاضي التحقيق للطلب المقدم إليه لإجراء خبرة يتعين أن يسبب أمره الذي يكون قابلا للطعن بالاستئناف من طرف النيابة العامة والأطراف. و أما الأمر الصادر عن قاضي التحقيق بإجراء خبرة فلا يقبل الطعن بالاستئناف.

وبما أن الخبرة تعد وسيلة إثبات مباشرة فقد أوجبت المادة 144 من ق إ ج أن يختار الخبير من بين الخبراء المسجلين بجدول الخبراء القضائيين، وإذا تعذر ذلك وتم تعيين خبير من خارج الجدول فيجب على هذا الخبير أن يؤدي اليمين المنصوص عليها في المادة 145 من ق إ ج.

ويتم تعيين الخبير بمقتضى أمر يصدره القاضي والذي يحدد له النقاط التقنية التي يتعين عليه فحصها طبقا للمادة 146 من ق إ ج التي نصت على أنه: يجب أن تحدد دائما في قرار ندب الخبراء مهمتهم التي لا يجوز أن تهدف إلا إلى فحص مسائل ذات طابع فني.

وفي خصوص القضايا البنكية تحديدا فإنه لا يمكن حصر هذه القضايا نظرا لتعدد الجرائم البنكية وتشعبها ونذكر منها على سبيل المثال قضايا الإختلاس والتي ترتبط عادة بجرائم التزوير في محررات تجارية أو مصرفية وجرائم الفساد وجرائم تبييض الأموال هذه الأخيرة التي تعد في نظرنا من بين أخطر الجرائم الاقتصادية لإرتباطها بالجريمة المنظمة والجريمة الإرهابية وجرائم الفساد وغيرها من الجرائم الأخرى المتولدة عنها. فكل الجرائم الاقتصادية تنتهي بجريمة غسل الأموال.

و تعد البنوك القناة الرئيسية لتنظيف الأموال ذات المصدر غير المشروع وذلك بفضل العمليات المصرفية الحديثة التي تقدمها لزبائنها كالتحويلات المالية وتقديم القروض وفتح الحسابات تحت أسماء وهمية، وتوفير بطاقات الإئتمان . ومن جهة أخرى فإن هذه البنوك تلعب دورا مهما في مكافحة جريمة تبييض الأموال من خلال مراقبة عمليات إيداع وسحب النقود.

وعليه تتعدد و تتعقد في نفس الوقت المهام التي تناط بالخبراء في الجرائم البنكية وليس من سبيل لتذليلها سوى أن يكون القاضي الآمر بالخبرة على قدر كبير من الإطلاع على موضوع القضية وهو ما لا يتسنى له سوى بالتخصص (وهو الأمر الذي تجسد قانونا في نظامنا القضائي) حتى يستطيع أن يعطي مأمورية محددة للخبير الذي يجب أن يكون بدوره متخصصا في القضايا البنكية.

 كما يجوز للقاضي ندب خبير واحد أو عدة خبراء طبقا للمادة 147 من ق إ ج. وينفذ أمر قاضي التحقيق الرامي إلى تعيين خبير فورا دون حاجة إلى تبليغه للأطراف. وأهم بيان يجب أن يتضمنه أمر تعيين الخبير هو تحديد مهلة لإنجاز الخبرة التي يمكن تمديدها إذا اقتضت الضرورة بقرار مسبب من القاضي الآمر وهذا طبقا للمادة 154 من ق إ ج.

ثالثا: قضاء الحكــم

إن مجال إجراء الخبرة من طرف قضاء الحكم واسع جدا اذ يمكن أن تأمر بها في مختلف الجرائم: من مخالفات وجنح وجنايات وقضاء الحكم هنا هي محكمة الجنح الابتدائية والغرفة الجزائية بالمجلس وهي تبت في الجنح المستأنفة ومحكمة الجنايات الابتدائية والاستئنافية وجهات الحكم الخاصة كالمحكمة العسكرية وذلك انسجاما مع المقتضيات القانونية المنظمة للخبرة في إطار نصوص قانون الإجراءات الجزائية.

وان الخبرة القضائية التي يمكن الأمر بها في هذا الصدد سواء من طرف قضاء التحقيق أو قضاء الحكم عديدة بتعدد الجرائم البنكية.

المطلب الثاني: النظام القانوني للخبرة في المادة الجزائية

إن الأمر التمهيدي القاضي بإجراء خبرة سواء صدر عن السيد وكيل الجمهورية أو عن هيئة التحقيق أو هيئة الحكم في المادة الجزائية يتحتم فيه أن يكون منسجما مع القواعد القانونية المؤطرة لمجال الخبرة والمنصوص عليها في قانون الإجراءات الجزائية.

وفيما يتعلق بكيفية اختيار الخبير فيلاحظ أن نفس القاعدة الواردة في المادة 126 من ق إ م و إ هي التي نصت عليها المادة 143 من ق إ ج والتي جاء فيها " لجهات التحقيق أو الحكم عندما تعرض لها مسألة ذات طابع فني أن تأمر بندب خبير إما بناء على طلب النيابة العامة أو من تلقاء نفسها أو من الخصوم. 

ويتعين على الخبير المنتدب أن يبقى على اتصال مستمر مع القاضي خلال مزاولته للمهمة المعهود بها إليه وإخباره بتطور عمله ما يجعل القاضي قادرا على إتخاذ ما يلزم من إجراءات وهذا ما نصت عليه المادة 148 فقرة 02 من ق إ ج.

وفي حالة ما إذا اعترضت الخبير مسألة لا تدخل في اختصاصه، فلقاضي التحقيق أن يأذن له في الاستعانة بتقنيين تتم تسميتهم من بين التقنيين المؤهلين لذلك، يؤدون اليمين أمام قاضي التحقيق وفق الصيغة المنصوص عليها في المادة 145 من ق إ ج ؛ إذا لم يكونوا مسجلين بجدول الخبراء القضائيين، ويضاف التقرير المنجز من طرفهم إلى تقرير الخبير المعين وذلك انسجاما مع المقتضيات المنصوص عليها في المادة 149 من ق إ ج ويتضمن تقرير الخبير وجوبا وصف العمليات التي قام بها ونتائجها مع إشهاده أنه قام بها شخصيا أو قام بمراقبتها في حالة استعانته بتقنيين.

كما ألزمت المادة 150 قاضي التحقيق أن يعرض على المتهم الأشياء المختوم عليها التي لم يتم فتحها أو لم يقع إحصاؤها وفقا للمادة 84 وذلك قبل تسليمها للخبير وعليه أن يقوم بإحصاء الأشياء المختومة في المحضر الذي يثبت بمقتضاه تسليمها للخبير.

كما يشمل التقرير ذكر الأشياء المختومة التي فتحها الخبير أو أعاد فتحها، وإحصاء الأشياء التي فتحت أختامها من طرفه، ويتضمن أيضا ملخصا للتصريحات التي قد يدلي بها إلى الخبير من أجل قيامه بمهامه طبقا للمادة 150 فقرة 02 ق إ ج. و يحرر الخبير عند انتهاء مهمته تقريرا شاملا بما قام به من أعمال ونتيجة تلك الأعمال بعد التوقيع عليه، ويودع التقرير المنجز والأشياء المختوم عليها أو ما تبقى منها لدى كتابة الضبط مقابل إشهاد. وفي حالة تعدد الخبراء ولم يتفقوا على رأي واحد وإنما اختلفت آراؤهم أو كانت لديهم تحفظات في شأن النتائج المشتركة، فإن كل واحد منهم يقوم بتوضيح رأيه في التقرير المشترك ويبدي تحفظاته مع تعليلها وذلك انسجاما مع ما تنص عليه المادة    153 ق إ ج.

وعند تقديم الخبير المنتدب لتقريره لدى كتابة الضبط يرد الأشياء والمستندات والوثائق التي قد يكون عهد إليه بها لإنجاز الخبرة، وسيثبت وضع التقرير ورد الأشياء بواسطة إشهاد من كتابة الضبط طبقا للمادة 148 ق إ ج.

ويقوم قاضي التحقيق باستدعاء الأطراف لاطلاعهم على تقرير الخبير ولإبداء ملاحظاتهم حولها في أجل يحدده كما يقوم بإبلاغ النيابة العامة بشأن نتائج الخبرة.

ويمكن للأطراف طلب إجراء خبرة تكميلية أو مضادة، ويحق لهم الحصول على نسخة من تقرير الخبير، وعلى قاضي التحقيق في حالة رفض طلب الخبرة التكميلية أو المضادة أن يصدر أمرا معللا بالرفض في أجل 30 يوما و يكون قابلا للطعن بالاستئناف طبقا للمادة 154 فقرة 02 من ق إ ج. وإذا لم يبت قاضي التحقيق في طلب الخبرة المضادة في الأجل المذكور يكون من حق المعني في أجل 10 أيام رفع إخطاره إلى غرفة الاتهام التي لها أجل 30 يوما للفصل فيه بقرار غير قابل لأي طعن في أجل 10 أيام طبقا للمادة 154 فقرة أخيرة.

كما يمكن إستدعاء الخبير للجلسة لعرض أعمالهم الفنية التي باشروها وهنا المشرع ألزمهم بإعادة حلف اليمين على أن يقوما بعرض نتائج أبحاثهم ومعاينتها بذمة وشرف وهذا ما نصت عليه المادة 155 من ق إ ج.

وتجدر الإشارة إلى أنه يمكن أن يواجه الخبير أثناء أطوار الجلسة وسريانها بمعطيات وبيانات تقنية جديدة فإن رئيس الجلسة يطلب من الخبير ومن النيابة العامة والأطراف عند الاقتضاء أن يقدموا ملاحظاتهم، وتصرح المحكمة بحكم معلل إما أنها لن تأخذ هذه الملاحظات بعين الاعتبار أو أنها تؤجل القضية لجلسة مقبلة، وفي هذه الحالة يحق للمحكمة أن تحدد بالنسبة للخبرة كل التدابير التي تراها مفيدة حسب المادة 156 من ق إ ج.

ولا يجوز للخبير أن يستمع إلى الأطراف والشهود للتثبت من وقائع يعود اختصاصها للمحكمة التي عينته، ولاسيما إذا تعلق الأمر بالمتهم فلا يصوغ للخبير سماعه مطلقا (طبعا إذا لم يكن الأمر متعلق بخبرة طبية أو نفسية عقلية).

وحيث أن مهمة الخبير تقنية ولا حق له في التدخل فيما يخص دراسة الموضوع بالاستماع إلى الأشخاص إلا حيثما له علاقة بالجانب التقني إذ يجوز للقاضي أن يكلف الخبير بسماع شخص مذكور بالاسم من أجل مد الخبير بمعلومات ذات طابع فني وهذا طبقا للمادة 152 من ق إ ج.

وان الحديث عن دور الخبير في تحسين أداء القضاء الجنائي لا يقتصر على المستوى التقني للخبرة التي يقوم بها، ولكن يتحدد أيضا من خلال التزام الخبير بالأجل الممنوح له والقيام بكافة الإجراءات الشكلية المتطلبة لصحتها تفاديا لأي طعن فيها من الأطراف أو إعادتها مما سوف يكرس من تأخير الفصل في الدعوى العمومية.

وإذا كان الدور الفعال للخبير في القضايا البنكية يصب بشكل مباشر في اتجاه تعزيز أسس المحاكمة العادلة وتحسين مستوى أداء العدالة الجنائية، إلا أن هذه الغاية تتأثر ببعض النقائص المسجلة على الصعيد العملي المتمثلة أساسا في نقص عدد الخبراء المتخصصين في القضايا البنكية، كذلك من بين المحددات التي نعيشها قضايا الطعن بالتزوير في تقارير الخبراء والتحيز بالإضافة إلى ما يرفعه الخبراء من انشغال يتعلق بعدم كفاية الأتعاب التي يقررها القضاء نظير أعمالهم الفنية وهي الانشغالات التي منها المؤسس ومنها التعسفي.

ومن دون شك فإن مثل هذا ينعكس سلبا على سير العدالة الجنائية من حيث عرقلة البت في القضايا بالسرعة المطلوبة لا سيما إذا كان أحد أطرافها محبوس مؤقتا.

خاتمـــة:

من نافلة القول ان ما خلصنا إليه من خلال هذا العرض المختصر هو التأكيد على أن العلاقة القائمة بين مؤسسة القضاء ومهمة الخبير القضائي ما هي علاقة تعاون وتآزر، الغاية منها تحقيق المحاكمة العادلة ، بتسهيل تنفيذ مأمورية الخبير ورفع الحواجز التي تعترضه أثناء إنجاز المهمة المنوطة به ، وأن اختيار الخبير يستند طبعا إلى قدراته العلمية أو الفنية وتنحصر مهمته في إبداء رأيه في المسائل الفنية المحددة له من طرف القاضي والتي لا علاقة لها بالقانون ويتمتع باستقلال في إنجاز مهمته ولا يخضع في ذلك إلا لضميره المهني ومعلوماته الفنية .

غير أن الخبير رغم استقلاله يبقى تابعا للسلطة القضائية التي انتدبته لمساعدتها مما يتوجب عليه التقيد بالنقاط المحددة له بموجب القرار المعين بمقتضاه دون الإدلاء برأي أو بيان في مسألة لم ترد في هاته المهمة .

فالمسؤولية التي يضطلع بها الخبير أثناء ممارسته لمهامه تعد مسؤولية جسيمة تتطلب منه التحلي بقدر كبير من الموضوعية والقيام بجميع التحريات اللازمة قبل ترتيب النتائج عن المعطيات المتوفرة لديه، وذلك بعد التأكد بطبيعة الحال من توصل الأطراف بالاستدعاء بصفة قانونية.

وهكذا فالخبير يعتبر مستشارا تقنيا للمحكمة وهو المحلل لكثير من المسائل وهو الحاسم في مسائل لا يمكن للمحكمة أن تتخذ بشأنها قرار بدون الاهتداء والارتكاز إلى خبرته ومعرفته، ولهذا فإنه من الضروري فتح الحوار بين الخبير والمحكمة لمعالجة وتوضيح ما استعصى عليه من أمور ولاستكمال كل عناصر البحث ليبرهن عن أحقيته وجدارته بالثقة التي وضعت فيه.

والقضاء غالبا ما لا يلجأ إلى الخبير إلا بغاية إرشاده ومساعدته على استجلائه ما التبس عليه من جزئيات في ملف القضية، وبذلك فإن المحكمة في هذه الحالة تسند إليه و ترتكز عليه في فصلها في موضوع الدعوى، ولا يجادل اثنان حول مدى خطورة نتيجتها، ومن ثم تصبح مهمة الخبير والمحكمة على حد سواء معقدة ما دام أن البلوغ إلى نتيجة الحكم سوف يكون بناء على تقدير مشترك لجهة قضائية موكول إليها أصلا الفصل في الدعوى، ولجهة فنية أو علمية موكول إليها إبداء الرأي فقط.

google-playkhamsatmostaqltradent