مفهوم الضبط الإداري

مفهوم الضبط الإداري 

مفهوم الضبط الإداري

إن المحافظة على النظام العام في الدولة في ظل الإفراط من بعض المواطنين في استغلال الحياة بصفة مطلقة ودون ضوابط حتى صار الأمر ينقلب إلى ضده, أدى إلى ضرورة وجود سلطة مختصة تعمل على تحقيق أغراض الوظيفة الإدارية في الدولة سميت بالضبط الإداري أو البوليس الإداري لضبط الحريات حتى لا يساء استعمالها من اجل المحافظة على النظام العام. 

تعد كلمة الضبط كلمة مبهمة إذ تشمل في طياتها معاني متباينة لغويا وفلسفيا وقانونيا.

وما يزيد في غموض المصطلح هو عدم تعرض المشرع إلى تعريفه بصورة محددة وقاطعة، بل اكتفى بتحديد غرضه المتمثل في النظام العام بمختلف عناصره.

فالمشرع الفرنسي عرف الضبط الإداري بالنظر إلى هدفه والمتمثل في حماية حسن النظام، السكينة، الأمن والنظافة العمومية، وهذا طبقا المادة 12-22 من التقنين العام للهيئات المحلية.

ونفس النهج انتهجه المشرع الجزائري والذي يظهر من خلال المادة 114 من قانون الولاية التي نصت على أن الوالي مسؤول على المحافظة على النظام والأمن والسلامة والسكينة العمومية.

ونفس الشيء بالنسبة لرئيس المجلس الشعبي البلدي حيث نصت المادة 88 من قانون البلدية على التزام هذا الأخير بالسهر على المحافظة على النظام والسكينة والنظافة العمومية نفس الالتزام تم التأكيد عليه بموجب المادة 94 من نفس القانون وذلك بتكليف رئيس المجلس الشعبي البلدي بالسهر على المحافظة على النظام العام....الخ.

فعدم تعرض المشرع إلى تعريف فكرة الضبط الإداري فتحت المجال أمام الفقه ليستكمل النقص وتوضيح الغموض الذي يكتنف هذه الفكرة، وان اختلفت توجهاتهم وذلك باختلاف الزاوية التي ينظر منها إلى الضبط الإداري.

ويتمثل البوليس أو الضبط في إحدى نشطات السلطة الإدارية فيكون الضبط الإداري وهذا المعنى هو الأهم في القانون الإداري, لأنه يمثل إحدى النشطات الأساسية لهذه السلطات وهذا النشاط هو مجموع التدخلات الإدارية التي تجسد في شكل التنظيمات.

وفي الحقيقة نجد عدة تعاريف للضبط الإداري منها:

حسب الدكتور عبد الغني بسيوني عبد الله (الضبط الإداري يقصد به مجموع الإجراءات والأوامر والقرارات التي تتخذها السلطة المختصة بالضبط من اجل المحافظة على النظام العام في المجتمع).

ويرى الدكتور جمال مطلق الذنيات (يعرف الضبط الإداري بأنه مجموعة من الأنظمة والقرارات التي يتطلبها تحقيق أهداف الجماعة بالمحافظة على النظام العام بعناصره الأساسية الآمن العام والصحة العامة والسكينة العامة والأخلاق والآداب العامة).

وكذلك تعريف الأستاذ جين ريفيرو بان (نقصد بالضبط الإداري مجموعة التدخلات الإدارة التي تهدف إلى فرض على حرية الأفراد الانضباط المطلوب للعيش في المجتمع الإطار المحدد من المشرع).

وكذلك تعريف الأستاذ اندري دي لوبادر الذي جاء فيه (إن البوليس الإداري هو شكل من أشكال تدخل بعض السلطات الإدارية يتضمن فرض حدود على حريات الفرد بغرض ضمان حماية النظام العام).

رغم كل هده التعاريف يمكن إرجاع تعريف الضبط الإداري الى الفقه التقليدي والفقه الحديث: 

1/ التعريف التقليدي للضبط الإداري:

كلمة بوليس أو الضبط مشتقة من الكلمة اللاتينية politia، والتي اشتقت من الكلمة الاغريقية polis، والتي كانت تعني دستور المدينة أو دستور الدولة. ثم أصبحت تعني إدارة الإغريقية إدارة الدولة أو الحكومة وأخيرا استعملت بمعنى مجموعة الأنظمة التي ترمي إلى المحافظة على النظام والأمن في الدولة ولقد ارتبط تطور معنى الضبط الإداري بالتطورات الهامة التي حصلت في وظيفة الدولة.

ففي المرحلة الأولى كانت سلطة الضبط مندمجة بسلطة الحكم، من اختصاص السلطة السياسية اذ تتكفل الأولى بحماية النظام العام في حين تتكفل الثانية بوضع قواعد الحظر أو الدفاع الاجتماعي.

فبالنسبة للفقه التقليدي كان يعرف الضبط الإداري تعريفا واسعا، حيث عرفه أفلاطون بأنه "الحياة، النظام، والقانون للمحافظة على المدينة" كما عرفه أرسطو بأنه "حسن النظام، حكومة المدينة، ودعامة حياة الشعب وهو أول وأكبر الخيرات".

أما الفقيه هوريو فيرى أن "الضبط الإداري بمعناه الواسع هو نظام المدينة بمعنى الدولة، فكل وسائل الحكم ما عدا القضاء تعد وسائل الضبط".

يظهر جليا أن الضبط الإداري وفقا لهذه التعاريف تشمل كل قواعد الحياة وقواعد تنظيم المدينة أو الدولة، نظرا لتداخل مختلف الوظائف في الدولة، واعتبار أن كل المؤسسات تهدف بطريقة أو بأخرى إلى حماية النظام في الدولة، وهذا غير سليم وفقا للتصور الحال ويفقد الضبط معناه. 

غير أن نطاق الضبط أخذ يتقلص مع بداية مرحلة تخصص السلطات العامة، فأصبح مصطلح الضبط يستعمل لتميز الدولة البوليسية التي تتميز بعدم وجود قانون ينظم إطار تدخل الدولة في النشاطات الفردية للأفراد مما فتح الباب أمام التعسف والاستبداد ودولة القانون التي تعني خضوع كل مؤسسات الدولة للقواعد القانونية السارية وضبط مجال وكيفي تدخل السلطات العامة في مجال النشاط الفردي، فالضبط مرادف للقانون.

2/ التعريف الحديث للضبط الإداري:

حاول الفقه الحديث حصر الضبط الإداري في إطاره القانوني غير أنه ظهرت اختلافات بينهم وتباينت مواقفهم، وذلك للتباين في النظرة إلى هذه الصورة من صور النشاط الإداري ووظيفتها والغاية منها والمعايير المعتمدة.

فمنهم من ينظر إلى الضبط الإداري من زاوية الهدف من وجودها والمتمثل في الحفاظ على النظام العام بصفة وقائية وفي هذا الإطار يقول الأستاذ طعيمة الجرف بأن "الضبط الإداري وظيفة من أهم وظائف الدولة تتمثل أصلا في المحافظة على النظام العام بعناصره الثلاثة الأمن العام، الصحة العامة والسكينة العامة عن طريق إصدار القرارات اللائحية والفردية واستخدام القوة المادية مما يتتبع ذلك من فرض قيود على الحريات الفردية تستلزمها الحياة الجماعية"  كما عرفته الدكتورة سعاد الشرقاوي الضبط الإداري بأنه "مجموعة الأنشطة التي تتخذها الإدارة منفردة بهدف المحافظة على النظام العام أو إعادة هذا النظام في حالة اختلاله".

يعد الضبط الإداري وفقا هذا الاتجاه غاية سامية ونبيلة يجب على سلطات الدولة تحقيقها دوما فإقرار النظام والأمن داخل المجتمع غاية وهدف الضبط الإداري لهذا يجب وجود جهاز أو تنظيم معين يعمل على استتباب الأمن والطمأنينة والسلام بين أفراد المجتمع.

تعرض هذا الاتجاه إلى عدة انتقادات تتمثل أساسا في عدم كفايتها وصعوبة وضعه موضع التطبيق العملي، إذ يتطلب الأمر تحديد النظام العام تحيدا دقيقا وهو أمر صعب للغاية نظرا لكونه مفهوم نسبي يختلف حسب الزمان والمكان .كما تتسم هذه التعاريف التي تعتمد على غاية الضبط الإداري بعدم الوضوح والتحديد، لكونه يشمل في هذه الحالة كافة أوجه النشاط الإداري، إذ تهدف كلها بطريقة أو بأخرى إلى تحقيق النظام العام.

وهناك جانب أخر من الفقه ينظر إلى الضبط الإداري كنشاط يهدف إلى تقييد حريات الأفراد من خلال القرارات اللائحية أو الفردية التي تتخذها سلطات الضبط الإداري على المستوى المركزي أو المحلي بغرض صيانة النظام العام .وفي هذا يؤكد الدكتور إبراهيم عبد العزيز شيحا بأنه "مجموعة القواعد التي تفرضها سلطة عامة على الافراد بغية تنظيم حرياتهم العامة أو بمناسبة ممارستهم لنشاط معين بقصد صيانة النظام العام في المجتمع أي لتنظيم المجتمع تنظيما وقائيا وعرفه الدكتور سليمان محمد الطماوي بأنه "حق الإدارة في أن تفرض على الافراد قيودا تحد بها من حرياتهم بقصد حماية النظام العام".

كما عرف البعض الأخر الضبط الإداري بكونها صورة من صور تدخل الإدارة لتنظيم نشاطات الافراد في المجتمع وفي هذا الخصوص يقول الأستاذ أندري دي لوبادير أن الضبط الإداري "شكل من أشكال تدخل بعض السلطات الإدارية يتضمن فرض حدود على حريات الأفراد بغرض حماية النظام العام". أما جون ريفيرو فيرى أن الضبط الإداري هو"مجموعة صور التدخل الإداري على حرية نشاط الافراد التي تستهدف تحقيق الانضباط الذي تقتضيه حياة الجماعة". أما لفقيه تيتجن فيرى بأنه "كل تنظيم إداري للحريات الفردية بهدف حماية النظام، أو مصلحة مشتركة سامية يعد بمثابة ضبط بالمفهوم الواسع".

نلاحظ على هذا المفهوم انه واسع يشمل جميع الأعمال القانونية والمادية التي تستهدف تطبيق القواعد التنظيمية الضبطية، فهو نشاط يسمح للإدارة العامة بمراقبة نشاطات الأفراد بهدف حماية النظام الاجتماعي.

يمكن القول أن الضبط الإداري يشمل كل الإجراءات القانونية والمادية التي تتخذها سلطات إدارية محددة مسبقا بموجب نصوص قانونية تتضمن تنظيم ممارسة حرية معينة أو نشاط معين بهدف صيانة وحماية النظام العام بمفهومه الواسع بطريقة وقائية فالضبط الإداري نشاط وقائي مخصص الهدف يتصل مباشرة بحقوق وحريات الأفراد.

و من خلال هذه التعاريف، سنحاول تحليل العناصر المكونة للبوليس الإداري، ثم سنحاول أن نبين أنواع البوليس الإداري، والفرق بينه وبين البوليس القضائي، وذلك من خلال المباحث التالية:

المبحث الأول: الضبط الإداري هو نشاط إداري

يقترب مفهوم البوليس الإداري من مفهوم المرفق العام، ذلك أن كلا منهما عبارة عن نشاط إداري يؤدي خدمات عامة الأفراد، من ذلك مثلا القيام بالإغاثة أثناء الكوارث والتي يقوم بها البوليس الإداري. وبالإضافة إلى ذلك، فإن مهمة الحفاظ على النظام العام يمكن اعتبارها داخلة في التعريف الواسع للمرفق العام.

ولكن على الرغم من هذا التقارب بين مفهوم البوليس الإداري ومفهوم المرفق العام باعتبارهما نشاط إداري، إلا أن طرق عملهما تبقى مختلفة. فبينما تقوم المرافق العامة بتقديم خدمات عامة للجمهور قصد تحقيق المصلحة العامة، فإن البوليس الإداري بتقييده حريات الأفراد، فإنه يهدف من وراء ذلك إلى المحافظة على النظام العام.

وإذا كان البوليس الإداري لا يمكن أن تمارسه سوى الإدارة (ثانيا)، فإن له مع ذلك عدة معان، فقد يقصد به التنظيم، وقد يقصد به النشاط (أولا).

المطلب الأول: المفهوم العضوي والمفهوم المادي للضبط الإداري

يقصد بالبوليس الإداري من الناحية المادية نشاط السلطات الإدارية التي تهدف إلى المحافظة على النظام العام. هذا لمفهوم هو المقصود دائما. وهذا المعنى هو الأهم في القانون الإداري، وهو المعنى الحقيقي للبوليس الإداري، لأنه يمثل إحدى الأنشطة الرئيسية للسلطة التنفيذية. فالمفهوم المادي يقصد به إذن مجموعة التدخلات الإدارية التي تتمثل في وضع حدود للحريات الفردية من أجل المحافظة على النظام العام، لذلك لو استعملت عبارة البوليس الإداري لوحدها، فإن المقصود بذلك هو المعنى المادي.

أما من الناحية العضوية، فيقصد بالبوليس الإداري مجموعة الأشخاص المكلفين بذلك النشاط، أي الذين يقومون بتنفيذ الإجراءات المتعلقة بالنظام العام. إن المظهر التنظيمي هو الذي يظهر هنا، فيجري الحديث عندئذ عن قوات الأمن أو أجهزة الشرطة.

وباستعمال المفهوم العضوي، قد يقع خلط بين المرفق العام وبين البوليس الإداري، ذلك أن البوليس الإداري من الناحية العضوية هو عبارة عن مرفق عام "للبوليس".

هذا وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ليس كل أجهزة البوليس الإداري بالمفهوم العضوي لها الحق في ممارسة اختصاصات البوليس الإداري بالمفهوم المادي. فمحافظ الشرطة مثلا باعتباره من أجهزة البوليس الإداري بالمفهوم العضوي، ليس بإمكانه إصدار قرار بغلق مقهى أو محلا سينيمائيا، وإنما الذي يملك ذلك هو الوالي أو رئيس المجلس الشعبي البلدي باعتبارهما يمارسان اختصاصات البوليس الإداري بالمفهوم المادي. فمحافظ الشرطة لا يملك سوى التنفيذ المادي لقرار الوالي أو رئيس المجلس الشعبي البلدي.

المطلب اللثاني: الضبط الإداري يعتبر احتكارا مطلقا للإدارة

إن الاختصاص المتمثل في وضع قيود على تصرفات الأفراد، لا تتمتع به سوى السلطة التنفيذية ممثلة في أجهزتها، وذلك مع مراعاة أحكام القانون. لذلك فلا يجوز للخواص ممارسة نشاط البوليس الإداري، كما أنه لا يجوز للدولة أن تتنازل عنه –كما هو الشأن بالنسبة لإدارة المرافق العامة-.

المبحث الثاني: الضبط الإداري يضمن تقييد تصرفات (حريات) الأفراد

إذا كان البوليس الإداري يجب أن يستند إلى نصوص قانونية عند قيامه بتقييد حريات الأفراد، فإن هذا شيء منطقي مادام أن تلك الحريات قد منحها المشرع للأفراد. أما السلطة التنفيذية فإن دورها يتمثل في توضح وتحديد ما جاء في القانون، وذلك عن طريق سلطات البوليس الإداري.

على أن سلطات البوليس الإداري قد تتسع أو تضيق، وذلك باختلاف نوع وأهمية الحريات. فمثلا تضيق هذه السلطات إذا ما تم ممارستها على الملكية الخاصة في دولة رأسمالية.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب ألا تؤدي إجراءات البوليس الإداري إلى منع ممارسة حريات الأشخاص بصفة كلية، أو بصفة كاملة.

على أن تقييد البوليس الإداري لتصرفات الأفراد يتم بعدة وسائل. فقد تلجأ الإدارة إلى التنظيمات، أو القرارات الفردية، وقد تجد نفسها مضطرة إلى استعمال وسائل الضغط، ودلك على النحو التالي:

المطلب الأول – القرارات التنظيمية

من أبرز الوسائل التي تمكن البوليس الإداري من تقييد تصرفات الأفراد القرارات الإدارية التنظيمية (اللوائح)، التي تقوم من خلالها هيئات البوليس الإداري بوضع قواعد عامة ومجردة، لا تطبق على أشخاص معينين بذواتهم، وإنما تنطبق على كل الأفراد. على أن مخالفة هذه التنظيمات هو عمل معاقب عليه جزائيا (المادة 453 من قانون العقوبات). 

المطلب الثاني: القرارات الفردية

وهي القرارات الإدارية التي تلزم أفرادا معينين بذواتهم، على خلاف اللائحة أو القرار التنظيمي الذي يخص مجموعة غير محددة من الأفراد. والأصل في القرارات الفردية أنها تكون مستندة على قاعدة عامة، وسواء كانت هذه القاعدة نصا تشريعيا أو كانت نصا تنظيميا.

هذا وتجدر الإشارة إلى أن القرارات الإدارية تأخذ الأشكال التالية:

أ-الأمر: كالأمر الصادر من شرطي إلى سائق السيارة بالتوقف، أو الأمر الصادر من قوات الأمن إلى المتظاهرين بالتفرق.

ب-الحظر أو المنع: كالأمر الصادر برفض السماح بالقيام بمسيرة أو تجمع أو مظاهرة.

ج-الترخيص أو الإذن: كالأمر الصادر بالسماح بالقيام بمسيرة أو تجمع أو مظاهرة.

والقاعدة فيكل هذه الأوامر أن تكون كتابية، ومع ذلك يجوز أن تكون شفهية، كما يمكن أن تكون بالإشارة كإشارة شرطي المرور بالتوقف أو بالسير أو بالمرور. وقد تكون بواسطة الإشارات الضوئية مثل الضوء الملون النظم لحركة المرور.

المطلب الثالث: وسائل الضبط

يجوز لهيئات البوليس الإداري أن تستعمل وسائل الضبط من أجل الحفاظ على النظام العام، سواء من أجل وضع حد لمخلفة معينة، من ذلك التنفيذ المباشر والتنفيذ الجبري، أو من أجل الوقاية من الاضطرابات التي قد تصيب النظام العام.

على أن هناك وسائل أكثر خطورة فد تستعملها هيئات البوليس الإداري، من ذلك استعمال الأسلحة، أو مشاركة الجيش في الحفاظ على النظام العام خارج الحالات الإستثنائية، وذلك بطلب من رئيس الحكومة أصلا، والوالي استثناء، إذا تعلق الأمر بحالة طوارئ قصوى.

ونظرا لخطورة استعمال القوة المادية، ما دام أن الأمر قد يتعلق بالمساس بالحريات العامة للأفراد، فإن هيئة البوليس الإداري لا تلجأ إلى هذه الوسيلة إلا بمراعاة بعض الضوابط.

إن هذه الضوابط وضعتها محكمة التنازع الفرنسية بتاريخ 2 ديسمبر 1902 في قضية (sociétéimmobilière de Saint- Just) والمتمثلة فيما يلي:

1- يجب أن يجد استعمال القوة المادية سنده في نص قانوني، أي أنه يجب على الإدارة أن تستند على نص قانوني يسمح لها باستعمال القوة المادية.

2- لا يجوز للإدارة استعمال القوة المادية إلا إذا تعرضت لمقاومة، سواء كانت تلك المقاومة إيجابية أو كانت سلبية.

3- على أن تلك المقاومة لا يمكن للإدارة التغلب عليها إلا باستعمال القوة، لأن النصوص القانونية لم تضع أي جزاء في هذا المجال، أو أن الجزاء الذي قررته النصوص غير كاف.

4- وإذا كان يسمح للإدارة باستعمال القوة المادية، فإن استعمالها هذا يجب أن يقتصر على الهدف المنشود.

ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أنه على الرغم من عدم توفر هذه الشروط، فإن الإدارة بإمكانها في حالة الضرورة أن تتدخل باستعمال القوة المادية.

المبحث الثالث: هدف الضبط الإداري

يعد النظام العام الهدف الوحيد الذي ترمي إلى تحقيقه هيئات الضبط الإداري سواء كانت وطنية أو محلية، فإذا كانت الإدارة العامة في الدولة تهدف من خلال نشاطها إلى تحقيق المصلحة العامة فان سلطات الضبط الإداري تخضع لقاعدة تخصيص الأهداف.

إذا كان النظام العام هو الهدف الوحيد لنشاط الضبط الإداري فهو بمثابة قيد وضابطا على سلطات الضبط الإداري، إذ يحدد الإطار الذي يجب أن تتوقف عنده في تقييدها وتنظيمها لحريات الأفراد، لا يجوز لها تجاوزه أو الخروج عن حدوده، باعتبار أن كل اجراء لا يهدف إلى تحقيق هذه الغاية يعد تصرفا غير مشروعا حتى ولو تعلق بالمصلحة العامة.

ونشير هنا الى المجلس الدستوري الفرنسي قد اعتبر النظام العام من ضمن المبادئ الدستورية، والتي يقصد بها تلك الضروريات المرتبطة بالحياة في المجتمع والتي يجب أن توجه النشاط التشريعي غير أن فكرة النظام العام كما يصفها بعض الفقهاء فكرة مطاطة ومرنة 5 تتغير بتغير ظروف الزمان والمكان، وتتأثر بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية السائدة في المجتمع. وفي هذا الإطار يقول مفوض الحكومة Letourneur أن كل حل مبدئي في مجال الضبط الإداري يجب استبعاده، فهي مسألة اجراءات وتقدير لظروف الزمان والمكان، ففكرة النظام العام فكرة واسعة.

1/ العناصر التقليدية لفكرة النظام العام:

لقد إرتبط مفهوم النظام العام بمفهوم وظيفة الدولة، حيث كان دورها التقليدي يكمن في الدفاع وحماية المجتمع من كل الاضطرابات، دون التدخل في مجال النشاطات الفردية المتروكة للمبادرة الحرة للأفراد. وعليه جاء المفهوم الكلاسيكي للنظام العام مفهوما سلبيا يقتصر على عدم وجود الاضطراب.

إلا أن هذا المفهوم الكلاسيكي لم يعد يغطي كل جوانب تدخل سلطات الضبط الإداري، التي لم تتوقف عند حد حماية وكفالة الحياة المادية للافراد بل أيضا حماية الحياة المعنوية والأخلاقية استجابة للأفكار الدينية والأخلاقية السائدة في المجتمع .كما توسع نشاط الضبط الإداري، ومنها مضمون النظام العام ليشمل الجانب الجمالي الذي أصبح مطلبا عالميا، تحت تأثير المنظمات والجمعيات المدافعة عن البيئة والطبيعة .فحماية البيئة والطبيعة، وجمال المدن، أصبح مطلبا أساسيا، لاسيما في الدول المتحضرة.

لما كانت وظيفة الدولة مقصورة على الدفاع من أجل ضمان حماية أفراد الجماعة منكل الاضطرابات دون التدخل في نشاطاتهم الخاصة، فإن الفقه التقليدي حدد مفهوم النظام العام تحديدا ضيقا وسلبيا ومن جهة أخرى، فإن التضييق في مفهوم النظام العام يؤدي حتما إلى التضييق في مقوماته و عناصره.

يقصد بالنظام العام وفقا للفقه التقليدي عدم وجود الفوضى والاضطراب فهو ذلك النظام المادي الذي يستهدف تحقيق حالات واقعية ملموسة ولقد أكد الفقيه هوريو على هذا المعنى بقوله أن"النظام العام حالة فعلية معارضة للفوضى".

يتضح جليا من خلال هذا التعريف، أنه إعتمد في تحديد معنى النظام العام على طبيعته، إذ أضفى على النظام العام الطابع المادي دون الجانب الخلقي أي الشعوري إن النظام العام حسب هذا التصور يعني القدر الأدنى من النظام إذ لا يشمل تنظيم الحياة في المجتمع فواجب الفرد هنا سلبي وهو الامتناع عن إحداث أي اضطراب.

إلا أنه يؤخذ عليه غموض فكرة الفوضى من حيث مضمونها ونطاقها، إذ لم يبين ماهيتها ومتى يمكن أن نقول أن هناك فوضى حتى يتسنى لسلطات الضبط الإداري التدخل من أجل القضاء عليها، فضلا عن إهماله للجانب المعنوي للنظام العام.

أما الدكتور زين العابدين بركات، فكان أكثر وضوحا في تحديد العناصر المادية المكونة للنظام العام بقوله أن "النظام العام يعني المحافظة على الأمن العام، الراحة العامة والسلامة العامة".

يستفاد من خلال هذا التعريف، أن وظيفة سلطات الضبط الإداري تكمن في حماية الجماعة، من كل ما من شأنه أن يمس في أمنها وطمأنينتها وصحتها، ضمانا لأفرادها لممارسة حقوقهم وحرياتهم وفق ما كفلها وحددها القانون وعليه لا يمكن لسلطات الضبط الإداري أن تخرج عن هذا الإطار والا كانت إجراءاتها وتصرفاتها غير مشروعة.

وكنتيجة لهذا، فإن النظام العام الذي تهدف سلطات الضبط الإداري إلى حمايته هو ذلك النظام المادي أو الطبيعي، وذلك من كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تعكيره، وليس النظام الذي تعمل الدولة على إقامته، فهذا الأخير يخرج من نطاق أغراض سلطات الضبط الإداري ولقد أكد على هذا المبدأ الأستاذJean Yves CHEROT  بقوله أن "النظام العام هو النظام الطبيعي الذي يجب حمايته وصيانته وليس النظام الذي تعمل الدولة على إقامته".

إن النظام العام وفقا للنظرة التقليدية ينصرف إلى عناصر ومقومات ثابتة، تتمثل أساسا في الأمن، الصحة، والسكينة العمومية ولقد أكد الفقيه فالين على ذلك بقوله أن "الأمن السكينة، والصحة العامة هي العناصر الوحيدة التي يمكن لسلطة الضبط البلدي اتخاذها عند تحديد حرية المواطنين".

أما المشرع الفرنسي فلم يحمل نفسه مشقة تحديد مفهوم النظام العام، بل اكتفى بتحديد العناصر المادية المكونة لمضمون النظام العام . وذلك بمناسبة تحديد اختصاصات وأهداف سلطة الضبط الإداري العام البلدي، بموجب القانون البلدي الصادر في 28 أوت 1791 والذي تم تعديله بموجب القانون المؤرخ في 22 أفريل 9994 حيث نصت المادة 12 منه على أن "هدف البوليس البلدي هو ضمان حسن النظام، الأمن العام، والصحة العامة.

غير أن هذه المادة تثير مسألة جوهرية تتمثل في معرفة ما إذا كان المشرع قد حدد هذه العناصر بصفة حصرية أم أنها جاءت على سبيل المثال وفي هذا الشأن اختلف الفقه الفرنسي حيث يرى الفقيه تيتجن أن المادة 97 جاءت بصفة حصرية إذ لا يحق لسلطة الضبط البلدي تجاوزها، في حين يرى الفقيه جون كاستاني أن المادة جاءت على سبيل المثال، مبررا موقفه بالفقرة الثانية من نفس المادة التي جاء فيها" وتختص سلطات الضبط الإداري البلدي بما يلي ....". 

بالرجوع إلى أحكام القضاء الإداري الفرنسي نجد أنه اعتمد على هذه العناصر الثلاثة كمقومات للنظام العام وهذا ما اكد عليه مجلس الدولة في قراره الصادر بتاريخ 08 أوت 1919 في قضية Labonne   غير انه مع مرور الوقت لم يعد يتقيد فقط بالعناصر التي حددها المشرع في المادة 97 من القانون البلدي لعام 1884 بل وسع من مقومات النظام العام.

إن تحديد المشرع للعناصر المادية المكونة للنظام العام جاء بهدف تقييد سلطات رئيس البلدية، باعتباره سلطة ضبط إداري عام على المستوى المحلي، وبالتالي تحديد الإطار والحدود التي لا يجوز تجاوزها وإلا كانت تصرفاته غير مشروعة وعرضة للإلغاء، ولو كان يهدف إلى تحقيق مصلحة عامة وذلك تطبيقا لقاعدة تخصيص الأهداف. 

يتضح من خلال هذا التحديد الضيق لمضمون النظام العام، أنه ليس لسلطات الضبط الإداري أن تقيد حريات الافراد بهدف صيانة النظام العام الجمالي، أو حماية الآداب العامة، لكونها لا تدخل في نطاق أهداف سلطات الضبط الإداري وفقا للمفهوم التقليدي للنظام العام.

وهذه القاعدة لا تقتصر فقط على سلطات الضبط الإداري العام المحلية، بل تنطبق أيضا على سلطات الضبط الإداري العام المركزية أما سلطات الضبط الإداري الخاص فإن تدخلها ينصب على عنصر محدد من عناصر النظام العام وذلك وفقا للقانون المنشأ لها، بحيث لا تملك الخروج عن الهدف المحدد لها والذي أنشأت من أجله.

أما المشرع الجزائري فلقد ساير نظيره الفرنسي، إذ لم يتكفل بتحديد مفهوم النظام العام، بل اقتصر على تحديد العناصر المادية الثلاثة المكونة للنظام العام، بموجب القانون رقم 11-10 المؤرخ في 22 جوان 2011، حيث نصت المادة 88 منه على أن"يقوم رئيس المجلس الشعبي البلدي تحت إشراف الوالي بما يأتي:

• السهر على النظام والسكينة والنظافة العمومية.."

كما أكد المشرع الجزائري على هذه العناصر باعتبارها مقومات النظام العام، وذلك من خلال القانون رقم 90-09 المؤرخ في 07 أبريل 1990 المتعلق بالولاية، حيث نصت المادة 96 منه على أن: "الوالي مسؤول عن المحافظة على النظام، الأمن، السلامة والسكينة العمومية.

وتتمثل العناصر المادية التقليدية المكونة لفكرة النظام العام كهدف وحيد لنشاط الضبط الإداري في العناصر الآتية: الأمن العام، السكينة العامة، الصحة العامة.

ونفس الموقف تبناه القاضي الإداري الجزائري في العديد من القرارات نذكر منها قراره الصادر بتاريخ 16 سبتمبر 2003 والذي جاء فيه.." حيث انه يستخلص من معطيات الملف أن القرار المراد إبطاله يدخل ضمن صلاحيات رئيس المجلس الشعبي البلدي في إطار أعمال الضبط الإداري المخولة له من اجل المحافظة على النظام العام والآمن العام والصحة العامة بموجب مداولاته...".

تتفق أغلب النظم القانونية وكل من الفقه والقضاء على هذه العناصر الثلاث المادية باعتبارها المكونات المادية الأصلية للنظام العام.

أ /الأمن العام

من المسلم به أن استتباب الأمن العام يعد الشرط الأساسي لأي حياة جماعية، لذا كان وما يزال من أول وألح مهام الدولة قديما وحديثا ومستقبلا .فالأمن العام باعتباره عنصرا ماديا من عناصر النظام العام، يقصد به طمأنينة أفراد الجمهور على أشخاصهم وأموالهم من خطر أي عدوان يمكن أن يقع عليهم .ويتحقق ذلك باتخاذ ما يلزم من الحيطة لمنع وقوع الحوادث أو احتمال وقوعها على الأشخاص، كحجز المصابين بأمراض عقلية، واتخاذ ما يلزم للوقاية من خطر الأشياء كانهيار المباني أو الحرائق، أو ما ينشأ عن مخاطر الطبيعة كالفيضانات، ولعل أهم اعتبار من المقصود بالأمن العام، هو درء الفتن والاضطرابات الداخلية.

يتضح أن مصدر الأخطار والمخاطر متعددة فقد تكون طبيعية، مثل: الزلازل، الفيضانات والحرائق وقد تكون مصادر هذه الأخطار الأشياء والآلات الخطرة، مثل: السيارات وكافة المركبات، والأسلحة، المتفجرات والمصانع الكيميائية وقد تكون مصادر هذه المخاطر طبيعة الحياة الاجتماعية مثل: المظاهرات، التجمعات، القلائل والاضطرابات الاجتماعية كما قد يكون مصدر هذه المخاطر الإنسان كما هو الحال في ظاهرة الإجرام والجرائم على الأشخاص وعلى الأموال الخاصة والعامة ...الخ.

وعلى هذا الأساس، فإن المشرع الجزائري كلف هيئة الضبط الإداري البلدي وذلك من خلال المواد 88، 89، 94 من القانون رقم 11-10 المؤرخ في 22 جوان 2011، باتخاذ كافة التدابير الوقائية والاجراءات اللازمة، لإقرار الأمن العام وسلامة الأشخاص والأموال على المستوى البلدي، بالقضاء على كل ما من شأنه الإخلال بهما مهما كان منبته.

فطبقا للمادة 94 فانه يتخذ رئيس المجلس الشعبي البلدي ... كل الاحتياطات الضرورية وكل التدابير الوقائية لضمان سلامة الأشخاص والممتلكات...".

هاما المادة 14 فجاء فيها "في إطار احترام حقوق وحريات المواطنين، يكلف رئيس المجلس الشعبي البلدي على الخصوص بما يأتي:

• السهر على المحافظة على النظام العام وأمن الأشخاص والممتلكات."..

كما أكد المشرع الجزائري على التزام هيئة الضبط الإداري البلدي بحماية سلامة الأشخاص وهذا من خلال المادة 06 من المرسوم رقم 81-267 المؤرخ في 10 أكتوبر1981 التي تقرر على أنه "يجب على رئيس المجلس الشعبي البلدي أن يتخذ إجراءات الاستعجال الرامية إلى دعم أو هدم الأسوار والبنايات والعمارات المهددة بالسقوط".

يتضح من خلال هذه المواد، أن رئيس المجلس الشعبي البلدي ملزم بما له من سلطة الضبط الإداري على مستوى البلدية، باتخاذ كافة الإجراءات الوقائية اللازمة لحماية أمن الأشخاص والممتلكات الخاصة والعامة وكل تقصير أو إهمال يحمل البلدية مسؤولية التعويض عن الأضرار المترتبة من جراء ذلك.

كما يضطلع الوالي بمهمة حماية الأمن العام باعتباره سلطة ضبط إداري على مستوى الولاية، استنادا الى المادة 114 من القانون رقم 12-07 المتعلق بالولاية. وأكثر من ذلك فان المشرع الجزائري عمد إلى تحديد سلطات الوالي في ميدان الأمن، وذلك بموجب المرسوم 83- 373 المؤرخ في 28 ماي 1983 ، حيث نصت المادة 01 على أنه" :عملا بالمواد 150 و ما يليها من قانون الولاية يجسم الوالي سلطة الدولة على صعيد الولاية، ويتخذ في إطار القوانين والتنظيمات المعمول بها، جميع الإجراءات التي من شأنها أن تضمن في كل الظروف، السلم ، الاطمئنان والنظافة العمومية".

كما نصت المادة 20 من هذا المرسوم على إحداث لجنة للأمن في الولاية تحت رئاسة الوالي، بهدف متابعة تطور الوضعية العامة في الولاية وتوفير انسجام التداخلات وتماسكها.

وتجتمع هذه اللجنة مرة كل شهر وكلما دعت الحاجة إلى ذلك وتختتم اجتماعاتها بتحرير محضر ترسل نسخة منه إلى وزارة الداخلية ووزارة الدفاع الوطني.

يتضح من خلال هذا أن الوالي ملزم بحكم القانون باعتباره سلطة ضبط إداري على مستوى الولاية، بحماية أمن الأشخاص والممتلكات وكل تقصير أو إهمال يحمل الولاية مسؤولية التعويض عن الأضرار المترتبة عن ذلك فضمان أمن الأشخاص والممتلكات التزام على عاتق الدولة.

ب/ السكينة العامة

وهي مرادفة لمصطلح الراحة أو الطمأنينة العامة، ومفاد المحافظة على السكينة العامة كعنصر مادي من عناصر النظام العام، اتخاذ كافة التدابير والإجراءات الوقائية للقضاء على أسباب ومصادر الإزعاج والقلق، بهدف ضمان راحة المواطنين، والتمتع بأوقات فراغهما في جو تسوده السكينة والطمأنينة العامة.

وبمعنى أخر يقصد بها المحافظة على الهدوء والسكون في الطرق والأماكن العامة، لوقاية الأفراد من الضوضاء وعدم التعرض لمضيقات الغير كالمتوسلين أو من يستعملون مكبرات الصوت، وتوقيف الآليات والمركبات التي لا تستجيب للشروط التقنية في خفض معدلات الأصوات والضجيج الصادر عنها، أو منع استعمال المنبهات الصوتية للسيارات قرب الأماكن التي تتطلب هدوءا خاصا كالمستشفيات والمدارس، أو خلال أوقات محددة كمنع استعمالها خلال الليل، أو منع أنشطة مزعجة قرب التجمعات السكنية أو المهنية أو غيرها مما يخل بالهدوء اللازم للراحة المعتادة للجمهور سواء في الشوارع أو المساكن أو أماكن العمل.

ولتحقيق ذلك، فان المشرع الجزائري، ألزم هيئة الضبط الإداري البلدي بضرورة حماية السكنية العامة، وهذا من خلال المادة 94/2 من القانون رقم 11-10 المتعلق بالبلدية، و التي جاء فيها" في إطار احترام حقوق وحريات المواطنين، يكلف رئيس المجلس الشعبي البلدي على الخصوص بما يأتي:

"...التأكد من الحفاظ على النظام العام في كل الأماكن العمومية التي يجري فيها تجمع الأشخاص، ومعاقبة كل مساس بالسكينة العمومية وكل الأعمال التي من شأنها الإخلال بها...الخ. "

كما منح المشرع لرئيس المجلس الشعبي البلدي من خلال المرسوم رقم 81-267 المتعلق بصلاحيات رئيس المجلس الشعبي البلدي فيما يخص الطرق والنقاوة والطمأنينة العمومية، لاسيما أحكام الباب الثالث المتعلقة بالطمأنينة العمومية، سلطة اتخاذ وتنفيذ كل التدابير والإجراءات التي من شأنها الحفاظ على الراحة العامة، أو الطمأنينة العامة، وهذا بقمع كل عمل يخل بذلك، عن طريق تنظيم الأسواق والمعارض وكل التجمعات التي من شأنها تعكير الراحة العامة، وذلك بضبط:

 - ساعات فتح هذه المحلات وإغلاقها.

 - الأماكن المخصصة للعرض والبيع.

 - وقوف السيارات ومرورها.

وينسحب ذلك على الحفلات والعروض الفنية العمومية، عن طريق تسليم رخص قبلية متضمنة القواعد الخاصة بالمحافظة على السكينة العمومية.

يتضح جليا من خلال هذه الأحكام، أن رئيس المجلس الشعبي البلدي ملزم باتخاذ كافة الإجراءات الوقائية اللازمة لضمان راحة المواطنين، وذلك عن طريق القضاء على كل ما من شأنه تعكير أو إزعاج يخل بهما.

كما يتمتع الوالي باعتباره سلطة ضبط إداري على مستوى الولاية، بسلطة اتخاذ كافة التدابير الوقائية من أجل راحة المواطنين، استنادا إلى المادة 114 من القانون رقم 12-07 المتعلق بالولاية.

وإلى جانب ذلك، فلقد أخضع المشرع الجزائري ممارسة بعض الحقوق والحريات العامة إلى إجراء الترخيص المسبق، بهدف صيانة وحماية السكينة العامة .هذا ما نص عليه القانون رقم 91-19 المؤرخ في 20 ديسمبر 1991 المعدل والمتمم للقانون رقم 89-28 القانون المؤرخ في 31 ديسمبر 1989 المتعلق بالاجتماعات والمظاهرات العمومية، حيث نصت المادة 15 على أن: "المظاهرات العمومية هي المواكب و الاستعراضات، أو تجمعات الأشخاص، وبصورة عامة جميع المظاهرات التي تجري على الطريق العمومي  ... تخضع المظاهرات العمومية إلى ترخيص مسبق ..."

كما نصت المادة 20 مكرر 2 على أنه: "يخضع تركيب أو استعمال الأجهزة الصوتية الثابتة، المؤقتة أو النهائية إلى رخصة مسبقة يمنحها الوالي. تمنع الأجهزة الصوتية الثابتة بقرب المؤسسات التعليمية والمستشفيات".

أما المادة 20 مكرر 3 تنص على أنه: "دون الإخلال بأحكام الفقرة الثانية من المادة 20 مكرر2، يخضع استعمال الأجهزة الصوتية المتنقلة، ومكب ا رت الصوت التي يمكن أن تزعج راحة السكان إلى رخصة مسبقة يمنحها الوالي.

يتضح من خلال أحكام هذا القانون، أن للوالي سلطة اتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لضمان راحة المواطنين وذلك من خلال إخضاع استعمال بعض الأجهزة التي قد تمس براحة السكان إلى إجراء الترخيص المسبق وعليه يحق للوالي أن يمنع المظاهرة إذا كان من شأنها أن تخل بالنظام العام، سواء بالأمن العام أو السكينة العامة أو منع استعمال الأجهزة الصوتية، سواء كانت ثابتة أو متنقلة، بهدف المحافظة على راحة المواطنين، باعتباره واجب والالتزام على عاتق سلطات الضبط الإداري.

ج /الصحة العامة

يعتبر الحق في الصحة أو الرعاية الصحية، إحدى الحقوق الأساسية للمواطن ويعتبر التزام على عاتق الدولة تسهر على ضمانه لكل الأفراد دون تمييز .وهناك من يطلق عليه تسمية النظام العام الصحي ولقد جسدت المادة 54 من تعديل دستور 28-11-1996 هذا الالتزام حيث نصت على أن: "الرعاية الصحية حق للمواطنين .تتكفل الدولة بالوقاية من الأمراض الوبائية والمعدية ومكافحتها."

ويقصد بالصحة العامة وقاية الأفراد من الأمراض أو اعتلال الصحة، ومنع انتشار الأوبئة، والاحتياط من كل ما قد يكون سببا، أو يحتمل أن يكون سببا للمساس بالصحة العامة.

ويدخل في ذلك رقابة الأغذية وإعداد المياه الصالحة للشرب والمحافظة عليها من التلوث، وتصريف الفضلات، وعزل المرض بأمراض معدية، وتحصين المواطنين ضد الأمراض الوبائية إلى غير ذلك من الأعمال التي تلزم للمحافظة على صحة الأفراد.  

لقد كلف المشرع الجزائري هيئة الضبط الإداري البلدي بحماية الصحة العامة من كل ما من شأنه الإخلال بها، حيث نصت المادة 94 من القانون رقم 11-10 المؤرخ في 22 جوان 2011 المتعلق بالبلدية على أنه: في إطار احترام حقوق وحريات المواطنين، يكلف رئيس المجلس الشعبي البلدي على الخصوص بما يأتي:

  • السهر على نظافة العمارات وضمان سهولة السير في الشوارع والساحات والطرقالعمومية.
  • السهر على احترام التنظيم في مجال الشغل المؤقت للاماك التابعة للأملاك العمومية والمحافظة عليها.
  • اتخاذ الاحتياطات والتدابير الضرورية لمكافحة الأمراض المنتقلة أو المعدية والوقاية منها.
  • منع تشرد الحيوانات المؤذية والضارة.
  • السهر على سلامة المواد الغذائية الاستهلاكية المعروضة للبيع.
  • السهر على احترام تعليمات نظافة المحيط وحماية البيئة.
  • ضمان ضبط الجنائز والمقابر طبقا للعادات وحسب مختلف الشعائر الدينية، والعمل فورا على دفن كل شخص متوفى بصفة لائقة دون تميز للدين أو المعتقد...".

أما المرسوم 81-267 المتعلق بصلاحيات رئيس المجلس الشعبي البلدي فيما يخص الطرق والنقاوة والطمأنينة العمومية، فنصت أحكام الباب الثاني منه الخاص بالنقاوة وحفظ الصحة العمومية على تكليف هيئة الضبط الإداري البلدي بالسهر على تنفيذ التنظيم الصحي، واتخاذ كافة الإجراءات التي تخص النقاوة وحفظ الصحة العمومية بهدف المحافظة على صحة الجماعة وذلك عن طريق:"

 - اتخاذ كل الإجراءات الرامية إلى مكافحة الأمراض الوبائية والمعدية وحاملات الأمراض المتنقلة.

 - السهر على تنفيذ العمليات المتعلقة بالتطهير.

 - السهر على تموين السكان المنتظم بالماء الصالح للشرب، بكميات كافية للاحتياجات المنزلية وحفظ الصحة.

 - تنظيم تنظيف الأنهج وجمع القمامة حسب توقيت دقيق وملائم.

 - تنظيم المزابل العمومية و احراق القمامة ومعالجتها في أماكن ملائمة...".

 - ومن أجل تدعيم حماية الصحة العامة أصدر المشرع الجزائري القانون رقم 85-05 المؤرخ في 16 فيفري 1985 والمتعلق بحماية الصحة وترقيتها ، حيث حدد مفهوم الصحة العامة بأنها مجموع التدابير الوقائية والعلاجية والتربوية والاجتماعية التي تستهدف المحافظة على صحة الفرد والجماعة وتحسينها .ولقد كلفت المجموعات المحلية من أجل حماية الصحة العامة على المستوى المحلي بتطبيق الاجراءات الرامية إلى ضمان مراعاة و احترام القواعد و المقاييس الصحية في كل أماكن الحياة.

كما ألزمت أحكامه الولاة، ورؤساء المجالس الشعبية البلدية، ومسئولي الهيئات العمومية والمصالح الصحية بتطبيق التدابير الملائمة في الوقت المناسب، للوقاية من ظهور وانتشار الأوبئة والقضاء على مختلف أسباب الأمراض.

يستفاد من خلال هذا القانون، أن حماية الصحة العامة باعتبارها عنصرا من عناصر النظام العام، مسؤولية تقع على عاتق سلطات الضبط الإداري، سواء على المستوى المحلي أو الوطني، وذلك بحملها وإلزامها باتخاذ كافة الإجراءات الوقائية لضمان صحة الأفراد والجماعة.

ونشير أن حماية الصحة العامة لا تخص فقط سلطات الضبط الإداري العام، بل تخص أيضا سلطات الضبط الإداري الخاص، حيث يتمتع وزير الصحة والسكان واصلاح المستشفيات بسلطات واسعة في مجال حماية الصحة العامة، وكذا مديرو المستشفيات والقطاعات الصحية.

كما يتمتع وزير البيئة وتهيئة العمران بسلطة اتخاذ كافة التدابير الرامية إلى حماية الصحة العامة، نظرا للعلاقة الوطيدة بين حماية البيئة وحماية الصحة العامة.

وكمثال على ذلك تنص المادة 04 من المرسوم رقم 10-258 المؤرخ في 21 أكتوبر 2010 على انه: "يكلف وزير التهيئة العمرانية والبيئة في ميدان البيئة بما يأتي:

- يبادر بالقواعد والتدابير الخاصة بالحماية والوقاية من كل أشكال التلوث وتدهور البيئة والإضرار بالصحة العمومية وبإطار المعيشة ويتصور ذلك ويقترحه بالاتصال مع القطاعات المعنية، ويتخذ التدابير التحفظية الملائمة...الخ".

ومن جهة أخرى، نجد آن بعض الأنشطة تخضع غالى إجراءات خاصة وصارمة لما لها من خطر كبير على صحة الإنسان، ونذكر على سبيل المثال ما جاء في القانون رقم 03-10 المتعلق بحماية البيئة في إطار التنمية المستدامة حيث نجد المادة 15 تنص على انه تخضع مسبقا وحسب الحالة، لدراسة التأثير أو لموجز التأثير على البيئة، مشاريع التنمية والهياكل والمنشات الثابتة والمصانع والأعمال الفنية الأخرى، ...الخ". وتضيف المادة 16 على انه يجب أن يتضمن محتوى دراسة التأثير على الأقل وصف للتأثير المحتمل على البيئة وعلى صحة الإنسان...الخ.

يتضح جليا أن حماية الصحة العامة، التزام على عاتق سلطات الضبط الإداري سواء كانت عامة أو خاصة بحيث يترتب على تهاونها وتقصيرها في اتخاذ الإجراءات اللازمة والملائمة تحميلها المسؤولية عن الأضرار المترتبة من جراء ذلك.

تعتبر هذه العناصر التقليدية الثلاثة المقومات المادية الأصلية للنظام العام الذي تسهر سلطات الضبط الإداري على حمايته وصيانته، من كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تعكيره.

إلا أنه إذا كانت هذه العناصر ثابتة في كل زمان ومكان، فإنها لم تعد تساير تطور وظيفة الضبط الإداري وتوسع مجالها بحكم توسع مفهوم النظام العام ذاته.

2/العناصر الحديثة لفكرة للنظام العام:

إن مفهوم النظام العام في القانون الإداري قد تطور بتطور الوظيفة الإدارية للدولة، فالدولة الحديثة لم تعد متدخلة فقط، بل أصبحت فضلا عن وظائفها السابقة، طرفا هامة في المعادلة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مما تبع ذلك توسع هام في وظائف الإدارة العامة، وتطور لمختلف المفاهيم السائدة، بما فيها فكرة النظام العام.

لقد توسع مفهوم النظام العام، بحيث لم يعد يقتصر على مجرد حماية ووقاية المجتمع من الاضطرابات المادية الخارجية لإقامة الأمن، السكينة والصحة العامة، بل تعدى هذه الحدود التقليدية إلى مجالات أخرى استجابة لتطور المجتمع وازدياد تدخل الدولة في مجال النشاطات الفردية.

على هذا التوجه، بقوله أن: "النظام العام Paul BERNARD ولقد أكد الفقيه بول برنارد التقليدي قاصرا نظرا لسلبياته التي تجعله يتوقف عند حد النتيجة المباشرة المتمثلة في عدم وجود الاضطراب المادي في المجتمع، بل هو نظام حي ديناميكي لأنه نتيجة وثمرة لعمل بناء ومجهودات كبيرة مدعمة بوسائل كثيرة وموجهة لأهداف متعددة من أجل هدف اجتماعي عام وشامل. فهو تنظيم منسجم لكل العلاقات الإنسانية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الفكرية والأخلاقية الكائنة في حياة مجموعة معينة".

أ/ النظام العام الأخلاقي أو الأدبي:

أكد الفقه على ضرورة تدخل السلطات الإدارية الضبطية لحماية كل ما يمس بالآداب والأخلاق العامة، والذي من شأنه أن يعكر النظام العام المادي للمجتمع، وذلك بهدف كفالة الحياة المادية والمعنوية على حد سواء.

على هذا بقوله أن ...": علاوة على النظام Maurice Hauriou ولقد أكد الفقيه موريس هوريو المادي الذي يعني عدم وجود الفوضى، يوجد النظام الخلقي الذي يرمي إلى المحافظة على ما يسود من معتقدات وأحاسيس وأفكار .فإذا كان الاضطراب في النظام الخلقي قد بلغ درجة من الخطورة تهدد كيان النظام العام المادي، يستوجب تدخل السلطات الإدارية الضبطية لوضع حد لذلك الاضطراب"...  

أما الأستاذ لوي لوك فلقد ذهب إلى أبعد من ذلك بقوله أن: "كل فكرة عن النظام العام متغيرة وعائمة، فهي أقرب صلة بالشعور منها بالواقع القانوني...".

ورغم هذا، ظلت العديد من التشريعات ولاسيما في الدول غير الإسلامية، متحفظة في هذا المجال، إذ استبعدت فكرة الأخلاق من مضمون النظام العام، ومن ثمة من نطاق تدخل سلطات الضبط الإداري .ومن بينها التشريع الفرنسي إذ لم يتضمن القانون البلدي لعام 1884 في مادته 97 أية إشارة إلى الآداب والأخلاق العامة.

ونفس الموقف تبناه القاضي الإداري الفرنسي، إذ لم يعتبر الآداب والأخلاق العامة عنصرا من عناصر النظام العام، وبالتالي كان يلغي إجراءات وتصرفات سلطات الضبط الإداري التي تمس بحقوق وحريات الأفراد بحجة حماية الآداب والأخلاق العامة، كما يحملها مسؤولية التعويض عن الأضرار الناجمة عن هذه الإجراءات والتصرفات.

غير أن القضاء الإداري الفرنسي تراجع عن موقفه هذا، لمسايرة موقف الفقه الذي ظل ينادي بضرورة تكفل الدولة عن طريق سلطات الضبط الإداري بحماية الأخلاق العامة، باعتباره عنصرا من عناصر النظام العام. ومن أهم القرارات الشهيرة التي أصدرها القاضي الإداري الفرنسي والتي أكد فيها على اختصاص سلطات الضبط الإداري والتزامها بحماية الأخلاق والآداب العامة، قرار مجلس الدولة الفرنسي المؤرخ في 18 ديسمبر 1959 في قضية شركة -أفلام لوتيسيا lutetia - و النقابة الفرنسية للمنتجين ومستثمرين الأفلام.

تتلخص وقائع هذه القضية في أن رئيس بلدية -نيس Nice - أصدر قرارا إداريا ضبطيا  يقضي بمنع عرض فيلم حصلت على ترخيص قانوني من طرف وزير الإعلام بعد موافقة لجنة الرقابة على الأفلام السينمائية المنظمة بموجب قانون 03 جويلية 1947.

ويتعلق هذا الإجراء بفيلم: النار في الجسد Le feu dans la peau. لقد اتخذ رئيس بلدية نيس هذا القرار تحت تأثير قوى الضغط الاجتماعي في المدينة المتكونة في هذه القضية أساسا من جمعية المعلمين وأولياء التلاميذ الذين هددوا بالقيام بمظاهرات في المدينة لمنع عرض هذه الأفلام التي تهدد تربية وأخلاق وآداب التلاميذ الصغار.

وبتاريخ 11 جويلية 1956 تقدمت شركة أفلام لوتيسيا والنقابة الفرنسية بدعوى قضائية ضد رئيس البلدية أمام المحكمة الإدارية لنيس، ملتمسة منها الحكم بعد مشروعية قرار المنع لتجاوز السلطة، ومن ثمة إلغائه .إلا أن المحكمة الإدارية قضت بمشروعية القرار الإداري الضبطي البلدي، وبالتالي حكمت برفض الدعوى.

وبناء على ذلك، استأنفت الشركة قرار المحكمة الإدارية أمام مجلس الدوّلة، مطالبة بإلغاء القرار الذي أصدره رئيس بلدية نيس، والحكم بتعّويض الأضرار والخسائر المترتبة عن عدم عرض هذه الأفلام.

وبتاريخ 18 أكتوبر1959 أصدر مجلس الدولة الفرنسي قراره برفض إلغاء قرار رئيس البلدية، لأنه من سلطاته الضبطية أن يتعرض للمحافظة على الآداب والأخلاق العامة. وجاء في حيثيات هذا القرار على وجه الخصوص": ... حيث أنه يتضح من خلال التحقيق أن الظروف المحلية التي أثارها رئيس بلدية نيس تبرر قرار منع عرض هذه الأفلام على مستوى هذه البلدية.

... حيث أنه يتضح من خلال كل ما سبق أن شركة أفلام لوتيسيا والنقابة الفرنسية للمنتجين ومستثمرين الأفلام غير محقين في التمسك بأن المحكمة الإدارية غير محقة في قرارها المتضمن رفض الدعوى الرامية إلى إلغاء قرار رئيس بلدية نيس... وعليه يرفض الطعن". يتضح من خلال هذا القرار، أن القاضي الإداري الفرنسي اعتبر الآداب والأخلاق العامة عنصرا من عناصر النظام العام، و بالتالي من حق سلطات الضبط الإداري، بل ومن واجبها التدخل من أجل حمايته وصيانته.

ومهما كان الأمر، فإن القاضي الإداري عندما أقر بضرورة حماية الآداب العامة والأخلاق العامة، فإنه لا يتعدى إلى الأخلاق المثالية التي تعتبر مبادئ ثابتة في الضمير الإنساني، بل الحد الأدنى منها الذي إذا لم يصن ترتب عنه الإخلال بالطابع المادي للنظام العام.

وهذا ما أكده الفقيه فليب فويلارPhilippe FOILLARD بقوله أن ":إذا كان حماية الآداب العامة أمرا ضروريا فإنه يجب أن يكون في حدود صيانة الأمن والسكينة العامة فقط ". وبتعبير آخر حسب الفقيه هنري تيتجين Henry TEITGEN فهو عدم وجود الفضائح أو عدم وجود أي اعتداء، أو مساس أو أذى عام بالقدر الأدنى من الأفكار الخلقية، التي رضي بها واحترمها متوسط الأفراد خلال فترة زمنية معينة  .فمعيار هذه المبادئ يقاس بما يحرص الناس على احترامه والإبقاء عليه.

ومن هذا المنطلق، يمكن القول أن الآداب والأخلاق العامة نسبية، تتغير من زمن إلى آخر، ومن مكان إلى آخر .وهذا ما يظهر جليا من خلال قرار مجلس الدولة الفرنسي المشار إليه أعلاه، والذي أكد فيه أن الظروف المحلية تبرر اتخاذ الإجراءات المناسبة قصد حماية الآداب والأخلاق العامة .وبالمقابل فإن عدم توفر هذه الظروف لا يسمح لرئيس البلدية منع عرض هذه الأفلام ما دامت أنها تخضع لرقابة مسبقة من طرف الجهة المكلفة بمنح رخصة الاستغلال.

وبناء على ذلك، ألغى مجلس الدولة الفرنسي عدة قرارات إدارية ضبطية، تضمنت منع عرض بعض الأفلام بهدف حماية الآداب والأخلاق العامة، حيث أكد فيها أن الطبيعة غير الأخلاقية للفيلم لا تبرر لوحدها قرار المنع، مادام ليس من شأنها تعكير وتهديد النظام العام المادي .ومن بين هذه القرارات، قرار مجلس الدولة المؤرخ في 19 أبريل 1963 في قضية شركة أفلام مارصو Marceau.

تتلخص وقائع هذه القضية في أنه بتاريخ 12 فيفري 1960 اتخذ رئيس بلدية Landerneau قرارا إداريا ضبطيا يتضمن منع عرض فيلم" العلاقات الخطيرة 1960"، وذلك بحجة حماية الآداب والأخلاق العامة.

وبتاريخ 23 أكتوبر1961 أصدرت المحكمة الإدارية لمدينة Rennes حكمها القاضي برفض دعوى الإلغاء، ومن ثمة الحكم بمشروعية القرار. طعنت الشركة في هذا الحكم أمام مجلس الدولة الذي أصدر قراره بتاريخ 19-04-1963 يتضمن إلغاء القرار الإداري الضبطي.

ولقد جاء في حيثيات هذا الحكم على وجه الخصوص":.. حيث يتضح من خلال التحقيق أن عرض الفيلم في تاريخ اتخاذ القرار محل الطعن ليس من شأنه أن يحدث اضطرابات مادية مجدية في مدينة Landerneau.

ومن جهة أخرى، لم يثبت التحقيق أية ظروف محلية من طبيعتها أن تجعل عرض الفيلم مهما كانت طبيعته غير الأخلاقية تهديدا على النظام العام.

وعليه، فإن شركة أفلام مارصو مؤسسة في التمسك بأن المحكمة الإدارية Rennes غير محقة في حكمها الصادر بتاريخ 23 أكتوبر 1961، والقاضي برفض دعوى إلغاء القرار محل الطعن". 

يتضح أن فكرة النظام العام الأخلاقي صعبة التحديد، لذا فان سلطة هيئات الضبط الإداري ليست مطلقة فيما يتعلق بتحديد الطبيعة غير الأخلاقية للفيلم، بل تخضع لتقدير القاضي الإداري الذي يبحث في مدى خطورة عرض الفيلم على الأخلاق العامة، وهل ثمة ظروفا محلية مجدية من شأنها أن تبرر منع عرضه .فالقاضي الإداري الفرنسي يراقب مدى التوفيق بين ضرورة حماية الآداب والأخلاق العامة وبين ضرورة حماية حرية المعتقد وحرية التعبير المكرسة دستوريا .ويترتب على ذلك، أن مجال ونطاق الآداب والأخلاق العامة يضيق و يتسع تبعا لتغير الأزمنة، والأمكنة، وحسب شخصية كل أمة وانتمائها الحضاري، والظروف المحلية الخاصة بكل منطقة.

أما المشرع الجزائري، فباعتبار أن المجتمع الجزائري مجتمع مسلم، فإنه كان من المنطقي أن يساير موقف الفقه والقضاء، حيث أدرج الآداب العامة ضمن عناصر النظام العام، تتكفل سلطات الضبط الإداري بحمايته وصيانته، غير أن فكرة الآداب والأخلاق العامة في الجزائر تختلف عما هو عليه الأمر في فرنسا .أولا تتدخل سلطات الضبط الإداري عندما يؤدي المساس بالآداب العامة إلى اضطراب مادي للنظام العام، وهذا يتماشى مع موقف القضاء الإداري الفرنسي .ثانيا عندما يؤدي مخالفة الآداب العامة إلى اضطراب في عقيدة الجماعة.

ففي الحالة الأولى تلجأ سلطات الضبط الإداري إلى منع كل الأعمال والتصرفات التي تخل بالآداب والخلاق العامة والتي من شأنها أن تؤدي إلى اضطراب مادي يفهم من هنا أن الإخلال بالأخلاق العامة يمس بالضرورة إحدى العناصر المادية للنظام العام والمثال على ذلك فرغم أن بيع الكحول وشربه في أماكن خاصة مسموح به إلا أن استهلاكه في الأماكن العمومية يعد تصرفا مخل بالآداب العامة ويمس بالصحة والسكينة العامة.

أما في الحالة الثانية فان تدخل سلطات الضبط الإداري لا يهدف إلى حماية الأخلاق العامة الذي يؤدي إلى اضطراب مادي، وإنما إلى حماية الآداب العامة بصفة مستقلة. ويقصد بالأخلاق العامة بهذا المعنى مجموعة المبادئ الأخلاقية التي تقبلها وطبقها عامة الأفراد في المجتمع في وقت معين وفي مكان معين، والتي تضمن الدولة حمايتها.

تعتبر الأخلاق العامة بهذا المعنى فكرة نسبية تتغير بتغير ظروف الزمان والمكان، بل وحتى بالعادات والتقاليد السائدة في منطقة معينة والمثال على ذلك العلاقات الجنسية غير المشروعة أو ما يصطلح عليه بالدعارة، فهي مخالفة للآداب والأخلاق العامة وللدين الإسلامي ومعاقب عليها قانونا .وهنا نلاحظ أن سلطات الضبط الإداري من خلال خلية شرطة الآداب تسهر على صيانة المجتمع من هذه الآفة التي تمس بمبادئ وأخلاق المجتمع الجزائري باعتباره مجتمع متدين.

بالرجوع إلى التشريع الجزائري نجد هناك عدة قوانين تتعلق بمجال الضبط الإداري، فالمادة 237 الفقرة الأولى من القانون البلدي لعام 1967 نصت على أن: "رئيس المجلس الشعبي البلدي مكلف على وجه الخصوص لتحقيق النظام، الأمن، السلامة، والصحة العامة بما يلي":  -المحافظة على الآداب العامة...".

كما أكد المشرع الجزائري على تكليف هيئة الضبط الإداري البلدي بالتزام حماية المتعلق بصلاحيات - وصيانة الآداب العامة، وذلك في المادة 14 من المرسوم رقم 81-567 رئيس المجلس الشعبي البلدي فيما يخص الطرق والنقاوة والطمأنينة العمومية، والتي جاء فيها " :يتخذ وينفذ رئيس المجلس الشعبي البلدي في إطار التنظيم المعمول به، كل الاجراءات التي من شأنها أن تضمن حسن النظام والأمن العمومي، وكذلك الحفاظ على الطمأنينة والآداب العامة .كما يجب عليه أن يقمع كل عمل من شأنه أن يخل بذلك".

إن حماية الآداب العامة ليس إلتزام على سلطات الضبط الإدارية العامة فقط، بل حتى سلطات الضبط الإداري الخاصة نصيب من ذلك، ولقد أشار المشرع إلى ذلك في العديد من القوانين الخاصة نذكر على سبيل المثال قانون رقم 2000/03 المحدد للقواعد العامة المتعلقة بالبريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، إذ تنص المادة 04 منه على انه: تسهر الدولة في أطار الصلاحيات المرتبطة بمهامها العامة بالخصوص على:

°احترام الأحكام المقررة في مجال الدفاع الوطني والآمن العمومي،

°احترام مبادئ الآداب العامة..." 

كما أكد القانون العضوي المتعلق بالإعلام على أهمية عدم المساس بالأخلاق العامة من قبل كل من يتدخل في مجال الإعلام، حيث تنص المادة 92 على أنه ":زيادة على الأحكام الواردة في المادة 2 من هذا القانون العضوي، يجب على الصحفي على الخصوص:

 °الامتناع عن نشر أو بث صور أو أقوال تمس بالخلق العام أو تستفر مشاعر المواطن." 

أن الآداب والأخلاق العامة التي تتكفل سلطات الضبط الإداري بحمايتها، هي تلك الآداب العامة ذات المظهر الخارجي التي يجب أن يتحلى بها الفرد اتجاه الجماعة، سواء أدى الإخلال بها بالفعل أو الكلمة أو اللباس أو الصورة إلى إلحاق الضرر بالطابع المادي للنظام العام، كفالة للحياة المادية والمعنوية للجماعة، ولا دخل لسلطات الضبط الإداري في أخلاق الشخص اتجاه نفسه .فتلك تخضع لدرجة إيمانه ومدى رقابة ضميره.

وكمثال على ذلك، فإنه إذا كان من حق الفرد الخروج إلى الإلحاد وعدم اعتناق أي دين، فإنه ليس من حقه في الدولة الإسلامية الدعوة إلى الإلحاد وانكار الشرائع السماوية لأن في ذلك مساسا بالدين الإسلامي الحنيف، ومساسا بمبادئ وأخلاق الأمة الإسلامية.

فممارسة حرية العقيدة المكرسة دستوريا تكون في إطار حماية الآداب والأخلاق العامة التي يتمسك بها أفراد المجتمع.

ومهما كان الأمر، فإن للقاضي الإداري سلطة تقديرية في تكيف العمل أو التصرف الذي يأتيه الفرد ومدى مساسه بالآداب والأخلاق العامة، وبالتالي يبرر الإجراء الإداري الضبطي فالقاضي الإداري يوازن ويوفق بين صيانة الآداب العامة وبين ضرورة حماية حرية المعتقد والتعبير.

إلا أن الملاحظ هو تراجع المشرع الجزائري عن موقفه هذا إثر تعديل قانون بموجب القانون رقم 90-08 المؤرخ في 07 أفريل 1990، بحيث لم يدرج حماية الآداب العامة ضمن اختصاصات رئيس المجلس الشعبي البلدي عكس ما كان عليه سابقا .كما استقر على نفس الموقف في ظل قانون البلدية الحالي رقم 11-10 المؤرخ في 22 جوان 2011.

ونحن نعتقد أن هذا التراجع يفقد رئيس البلدية السند القانوني الذي يستند إليه في ممارسة صلاحياته كسلطة ضبط على مستوى البلدية قصد صيانة الآداب العامة إلا إذا قلنا بكفاية نص المادة 14 من المرسوم رقم 81-267 المشار اليه سابقا. وما يؤكد قولنا هو أن فكرة الآداب والأخلاق العامة فكرة نسبية تتغير من منطقة إلى أخرى، فإن هيئة الضبط الإداري البلدي أدرى من كل جهة أخرى، بالعادات والتقاليد والمبادئ التي يتمسك بها أفراد الجماعة على المستوى المحلي.

ب/ النظام العام الجمالي "جمال الرونق والرواء"

لقد كان مجلس الدولة الفرنسي حريصا على عدم الخروج عن الاغراض المشار إليها سابقا، وذلك رغبة منه في تعزيز حماية الحريات العامة ولذا، فإن حماية النّظام الجمالي لم يكن يعتبره من ضمن أغراض سلطات الضّبط الإداري، ولا يشكل عنصر من عناصر النظام العام.

ولقد كان لمجلس الدولة الفرنسي فرصة للتأكيد على هذا الموقف وذلك من خلال قراره المؤرخ في 04 ماي 1928 في قضية Leroy ولقد جاء في حيثيات هذا القرار أن: "... السلطة القائمة على وظيفة الضبط الإداري لا يحق لها أن تستهدف صون المظهر المنمق والمحافظة على جمال الرواء، إلا في الحالات التي يرخص بها القانون بذلك بنصوص قاطعة..." ونفس الموقف أكد عليه مجلس الدولة الفرنسي رافضا اعتبار الجمال الرونقي من ضمن عناصر النظام العام وذلك في قراره الصادر بتاريخ 18 فيفري 1972. 

إلا أن موقف مجلس الدولة الفرنسي تغير في فترة قصيرة، وذلك تحت تأثير المنظمات والجمعيات المدافعة عن الجمال، بحيث يرى أنصارها أن الجمال يدخل ضمن مهام الإدارة التي تتكفل بحراسة الصالح العام .ومما لاشك فيه أن الجمال يعد من المصالح العامة للدولة شأنه شأن الفن أو الثقافة .فكل مساس به يكون اضطرابا في النظام يتعين المحافظة عليه عن طريق وقاية الجمال.

ومن أهم القرارات التي أصدرها مجلس الدولة الفرنسي، والتي أكد فيها على اعتبار حماية الجمال عنصر من عناصر النظام العام، ومن ثمة يدخل في نطاق أغراض سلطات الضبط الإداري، قراره المؤرخ في 92 أكتوبر 1963 في قضية إتحاد نقابات المطابع والنشر بباريس. تتلخص وقائع هذه القضية في أن مدير ضبط مدينة السين أصدر قرارا إداريا ضبطيا يتضمن حظر توزيع الإعلانات "Prospectus" على المارة في الطرقات العامة خشية إلقاؤها بعد تصفحها، فيشوه هذا الإلقاء مظهر الطرقات ويفض من جمال روائها وأناقة مظهرها.

وعلى إثر ذلك، طعن إتحاد نقابات المطابع والنشر بباريس ضد هذه اللائحة أمام مجلس الدولة طالبا إلغاءها لتجاوزها الأغراض المحدودة الموكلة لسلطات الضبط الإداري لتحقيقها، اعتمادا على السوابق القضائية التي صدرت عن مجلس الدولة في هذا الشأن.

إلا أن مجلس الدولة سلم في قراره المؤرخ في 23-10-1936، بحق هيئات الضبط الإداري في إصدار لوائح من هذا القبيل، تحمي جمال مظهر الطرقات وتحافظ على حسن الأحياء السكنية.

يتضح من خلال هذا القرارّ، أن القاضي الإداري الفرنسي وسع من مضمون النظام غرضا من أغراض سلطات الضبط الإداري، استجابة لتزايد متطلبات أفراد المجتمع التي ما ظلت تطالب بضرورة تدخل الدولة من أجل حمايته وصيانته.

والى جانب هذا، فإن المشرع الفرنسي ساير موقف القضاء، وهذا بإدماج الجمال في المجال القانوني، عن طريق إحداث العديد من أنواع البوليس الخاص تتكفل بحماية الجمال.

كما أن حماية الجمال يدخل في إطار سياسة عامة تتعلق بحماية البيئة التي أصبحت تشغل مركزا هاما في إطار إنشغالات الدولة.

وكمثال على ذلك، فإن المادة 07 من القانون المؤرخ في 12 أفريل 1943 المتعلق بشرطة الملصقات، "Police de l’affichage" تنص على أن "للمحافظ سلطة منع وتنظيم تنص على أن للمحافظ سلطة منع وتنظيم الإشهار على مستوى الطرق السريعة قصد حماية جمال المناطق التي يعبرها .كما يمكن للمحافظ أن ينظم الإشهار عن طريق الملصقات في كل أو جزء من إقليم البلدية...". 

أما المشرع الجزائري، فإنه لم يخرج على هذا الاتجاه، بل ساير هذا التطور وأعتبر الجمال عنصرا من عناصر النظام العام، تتكفل سلطات الضبط الإداري بحمايته وصيانته.

وهذا ما يظهر جليا من خلال استعراض أحكام المرسوم رقم 81-267 المؤرخ في 10 أفريل 1981 المتعلق بصلاحيات رئيس المجلس الشعبي البلدي في مجال الطرق والنقاوة والطمأنينة العمومية.

فالمادة 02 الفقرة السادسة تنصص على أنه ".. يقوم فضلا عن ذلك بتجميل الطرق وينشئ في المناطق الحضرية، مساحات للراجلين".

كما نصت المادة 04 على أنه "يسهر رئيس المجلس الشعبي البلدي على إنارة الطرق العمومية وصيانة شبكة الإنارة .ويسهر بالإضافة إلى ذلك، على تشذيب المغروسان وتصفيفها، وكذا إنشاء وصيانة المساحات الخضراء، الحدائق العمومية وحظائر التسلية".

أما المادة 08 الفقرة 08 فإنها نصت على أنه " .. يسهر على نظافة البلدية وتجميلها".

يتضح من خلال استعراض هذه المواد، مدى الأهمية التي أولاها المشرع الجزائري لحماية النظام العام الجمالي، وذلك بتكليف هيئة الضبط الإداري البلدي باتخاذ كافة التدابير الوقائية اللازمة من أجل ضمان نظافة وجمال البلدية.

وأكثر من ذلك، فإن المشرع الجزائري ألزم سلطة الضبط الإداري البلدي باتخاذ كافة التدابير الضرورية من أجل حماية البيئة وتحسينها وهذا ما نصت عليه المادة 10 من المرسوم المشار إليه أعلاه، حيث جاء فيها "يتخذ رئيس المجلس الشعبي البلدي كل الإجراءات التي من شأنها أن تحمي البيئة وتحسنها.   

يضبط إثر مداولة المجلس الشعبي البلدي كل الإجراءات التي يمكن أن تشجع إنشاء كل منظمة أو جمعية لحماية البيئة وتطويرها وتحسين نوعية حياة المواطن، والقضاء على التلوث والأضرار، ويسهر على تنفيذ هذه الإجراءات".

ومن أجل بلوغ هذه الغاية، عمد المشرع الجزائري إلى إصدار القانون رقم 83-03 المؤرخ 05  فيفري 1983 المتعلق بحماية البيئة، حيث حدد فيه الجهات المكلفة بحماية البيئة، والإجراءات التي يجب اتخاذها، وهذا تحت رعاية الوزير المكلف بالبيئة وتهيئة العمران وحسب المادة 07 من هذا القانون، فإن المجموعات المحلية تعد المؤسسات الرئيسية لتطبيق تدابير حماية البيئة.

أصبحت حماية البيئة في الجزائر تشغل مركزا هاما في انشغالات الحكومة، إذ تتولى وزارة البيئة وتهيئة العمران، وذلك عن طريق مختلف الهيئات المنشأة لهذا الغرض، سواء على المستوى الوطني أو المحلي، باتخاذ كافة الإجراءات الوقائية من أجل تحقيق التوازن الضروري الذي تتطلبه التنمية الاقتصادية، والحفاظ على إطار معيشة السكان وتحسين نوعيتها.

وما يثبت هذا التوجه هو ما تضمنه القانون رقم 03-10 المتعلق بحماية البيئة في اطار التنمية المستدامة، والذي نص في المادة 2 على جملة من الأهداف من بينها الوقاية من كل أشكال التلوث البيئي والأضرار الملحقة بالبيئة، وذلك بضمان الحفاظ على مكوناتها.

كما أكد المشرع الجزائري من خلال هذا القانون على الأهمية القصوى الممنوحة للبيئة من خلال تحديد المبادئ التي تقوم عليها السياسة الوطنية لحماية البيئة منها مبدأ النشاط الوقائي وتصحيح الأضرار البيئية بالأولوية عند المصدر، ومبدأ الحيطة، مبدأ الملوث الدافع، مبدأ الإعلام والمشاركة...الخ.

يترتب على ذلك، أن حماية البيئة بما فيها صيانة جمال المدن والطرقات، والمحافظة على المساحات الخضراء والغابات، مسؤولية تقع على عاتق الدولة وذلك عن طريق سلطات الضبط الإداري العام والى جانب هذا، توجد أنواع عديدة من هيئات الضبط الإداري الخاص تتكفل بحماية النظام العام الجمالي، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كشرطة الغايات، شرطة الشواطئ...الخ.

إلى جانب ذلك نجد قوانين عديدة تضمن حماية الجمال باعتباره من مقومات النظام العام ، فالمادة 08 من القانون رقم 11-04 المنظم للنشاط الترقية العقارية تنص على أنه ": يجب أن تسعى كل عملية تجديد عمراني إلى جمال الإطار المبني وتحسين راحة المستعملين وكذا مطابقته للمعايير العمرانية السارية."

وتضيف المادة 10 منه "يجب أن يؤخذ في الحسبان الانسجام المعماري والعمراني والطابع الجمالي بالنسبة للمجموعة العقارية الأصلية عند تصميم البناية أو البنايات التي تكون موضوع عملية توسيع مشروع عقاري". 

إن حماية البيئة لا تستهدف صيانة النظام العام الجمالي فحسب، بل كذلك حماية الصحة العمومية، وهذا بالحد والقضاء على كل مصادر التلوث الذي يشكل مصدر معظم الأوبئة والأمراض.

ومهما كانت الجهة المكلفة بصيانة النظام العام الجمالي من هيئات الضبط الإداري العام والخاص، فإن للقاضي الإداري سلطة تقديرية كاملة في فحص مدى ملائمة الإجراءات المتخذة بفضل الرقابة التي يسلطها على الاجراءات والأعمال الصادرة عن تلك الهيئات.

فالقاضي الإداري يوازن بين مقتضات حماية وصيانة النظام العام الجمالي وبين متطلبات حماية الحقوق والحريات المقرّرة والمضمونة للأفراد في قوانين الدولة ومنها حرية الصناعة والتجارة.

إن فرض رقابة مشددة على إجراءات الضبط الإداري يؤدي حتما بسلطات الضبط الإداري إلى التحري بالحذر والمسؤولية، وبالتالي تفادي إساءة استعمال السلطة والتلاعب في الأذواق والألوان والميول.

أما بالنسبة للقضاء الجزائري فلقد أكد على حق الإدارة في حماية النظام العام الجمالي وذلك في العديد من المناسبات نذكر على سبيل المثال قراره الصادر بالتاريخ 15 أفريل 2003، في قضية (ه م) ضد بلدية حاسي مسعود والذي جاء فيه "حيث اتضح لمجلس الدولة بعد الاطلاع على كل ما احتوى عليه ملف الدعوى من وثائق ومستندات أنه حقيقة تحصل المستأنف على ترخيص من المستأنف عليها بوضع كشك جاهز بشرط أن يكون هذا الأخير في حالة ملائمة لا تشوه المنظر العام و احترام قواعد النظافة .حيث أن الإدارة لها سلطة الضبط الإداري والمحافظة على جمالية عمران البلدية....الخ".

ج/ الكرامة الإنسانية

اعتبر مجلس الدولة الفرنسي في قرار حديث له أن احترام كرامة الإنسان من النظام العام، حيث قضى أن القرار الذي يمنع مسرحية تسيء إلى الأقزام تمس بكرامة الإنسان، ويحق للإدارة منعها حفاظا على النظام العام .كما اعتبر مجلس الدولة احترام الكرامة الإنسانية عنصرا من عناصر النظام العام  في قراره المؤرخ في 27 أكتوبر 1995.

ومن جانب أخر، أكد المجلس الدستوري الفرنسي في قراره الصادر بتاريخ 27 جويلية 1994 على أن حماية كرامة الإنسان ضد كل أشكال الاستغلال يعد من ضمن المبادئ ذات قيمة دستورية.

أما في الجزائر فانه بالرجوع إلى النصوص التشريعية نجد أن المشرع عبر في العديد من النصوص القانونية صراحة عن موقفه في منه المساس بكرامة الإنسان وبالتالي اعتبارها من العناصر المكونة لفكرة النظام العام، ونذكر على سبيل المثال نص المادة 8 من القانون رقم 15-13 المتعلق بأنشطة وسوق الكتاب والتي جاء فيها "تمارس الأنشطة الخاصة بنشر الكتاب وطبعه وتسويقه في إطار احترام ما يأتي:

* متطلبات الأمن والدفاع الوطني، متطلبات النظام العام، ك ا رمة الإنسان والحريات الفردية والجماعية...".

 د: النظام العام الاقتصادي

 لقد تطور مفهوم التطام العام بعد ذلك، حيث أصبح يشمل – بالإضافة إلى المواضيع السابقة – النظام العام الإقتصادي. إن هذا التطور كان نتيجة تغير وظيفة الدولة. فبعد الأزمة الإقتصادية العالمية، تزايد تدخل الدولة من أجل القضاء على مخلفات الحرب العالمية الأولى، وترتب على ذلك أن أصبحت القطاعات التي كانت تهيمن عليها المبادرة الفردية ،والمنافسة الحرة، خاضعة لأحكام تنظيمية، وذلك من أجل تأمين إدارة الإقتصاد، والتنظيم الإقتصادي للمنافسة... ونتيجة لهذه الظروف تغيرت وسائل تدخل الإدارة، فبدلا من استعمال الوسائل التقليدية للمنع، أخذت الإدارة تطبق مجموعة من الأساليب القانونية الجديدة، كالتنظيم والمراقبة وتحديد الحرية التعاقدية. 

المبحث الرابع: تمييز الضبط الإداري عن الضبط التشريعي وعن الضبط القضائي

ويقتضي التعريف بالضبط الإداري تمييزه عن صور الضبط الأخرى كالضبط التشريعي والضبط القضائي.

المطلب الأول: الضبط الإداري والضبط التشريعي

يقصد بالضبط التشريعي مجموع القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية والتي يكون موضوعها الحد من نطاق مباشرة بعض الحريات الفردية فمصدر المنع أو القيد أو الضبط هو السلطة التشريعية. وعليه وعند مقابلة تعريف الضبط الإداري بالضبط التشريعي يتبين لنا أن الهدف في النوعين واحد هو المحافظة على النظام العام. والاختلاف بينهما يكمن في أن الضبط الإداري تباشره وتشرف عليه سلطة إدارية، والضبط التشريعي مصدره السلطة التشريعية.

وقد يحدث التداخل بينهما عندما تبادر السلطة التشريعية إلى سن تشريعات ضبطية وتتولى السلطة التنفيذية ممثلة في الإدارة بتنفيذ هذه التشريعات وفرض قيود على حريات الأفراد بالكيفية المحددة في التشريع.

المطلب الثاني: الضبط الإداري والضبط القضائي

سبق البيان أن الضبط الإداري يتضمن مراقبة نشاط الأفراد وتوجيهه على نحو يكفل المحافظة على النظام العام. فهو على ذلك إجراء وقائي. بينما الضبط القضائي يهدف الى البحث عن الجرائم ومعرفة مرتكبيها لتتولى أجهزة الضبط تقديمهم الى السلطة القضائية المختصة وفقا للإجراءات المحددة قانونا. فالضبط القضائي يتخذ ويباشر بعد وقوع الجريمة أو المخالفة وليس قبلها.

1/ تميز الضبط الإداري عن الضبط القضائي

يقسم بعض الفقهاء الضبط إلى ضبط إداري وضبط قضائي، حيث تتولى مهمة الضبط الإداري أجهزة إدارية تابعة للسلطة التنفيذية، في حين تتكفل بمهمة الضبط القضائي أجهزة تابعة للسلطة القضائية أي النيابة العامة .غير أنه في الواقع الحدود والفاصل بينهما غير واضح نظرا للتداخل الذي يطبع وظيفة الضبط بنوعيها لاسيما من ناحية الأشخاص المكلفين بممارستها، فنفس السلطة ونفس الموظفين يتصرفون حسب الحالات كسلطة ضبط إداري أو سلطة ضبط قضائي .مما يستدعي بيان الأهمية النظرية والعملية من عملية التميز والبحث عن المعايير التي يمكن اعتمادها لتحقيق هذه النتيجة.

2/ أهمية التميز بين الضبط الإداري والضبط القضائي:

تكتسي عملية التمييز بين الضبط الإداري والضبط القضائي أهمية بالغة وذلك من عدة نواحي:

- تحديد الجهة القضائية المختصة بنظر المنازعات الناشئة عن نشاط كل منهما، إذ تعد أعمال الضبط الإداري أعمال إدارية يعود الاختصاص فيها كأصل عام إلى القضاء الإداري، أما أعمال الضبط القضائي فهي أعمال قضائية تدخل في اختصاص القضاء العادي.

- اختلاف النظام القانوني الذي يحكم كلا منهما، فالضبط الإداري يخضع لأحكام القانون الإداري، في حين الضبط القضائي يخضع لأحكام قانون الإجراءات الجزائية.

- فيما يتعلق بقواعد المسؤولية، فان الإدارة مسؤولة عن تعويض الأضرار الناجمة عن أعمال الضبط الإداري سواء اتخذت شكل عمل قانوني أو عمل مادي وفقا لأحكام وقواعد المسؤولية الإدارية، بينما الدولة لا تتحمل التعويض عن الأضرار المترتبة عن نشاط الضبط القضائي التي تخضع لأحكام خاصة إذ يكون الموظف المعني مسؤول مدنيا وجنائيا على عمله.

- وما يزيد في أهمية التميز بينهما هو التداخل بين الهيئتين من حيث الأشخاص المكلفين بممارسة وظيفة الضبط الإداري و وظيفة الضبط القضائي. فرئيس البلدية مثلا يعد سلطة ضبط قضائي طبقا للمادة 92 من قانون الاجراءات الجزائية وسلطة ضبط إداري طبقا للمادة 31 من قانون البلدية.

- ومن الناحية النظرية يمكن القول أن الضبط القضائي تمارسه سلطات محددة مسبقا بنصوص صريحة، تتقيد بالقيام بالتحري في الجرائم المرتكبة من قبل الأفراد والمخالفة للقوانين السارية في الدولة، دون أن تشارك في وضع هذه القواعد، فالضبط القضائي يطبق قواعد موجودة مسبقا .في حين سلطات الضبط الإداري تساهم في صنع القواعد القانونية، وذلك من خلال ما يصدر منها من قرارات لائحية وفردية ملزمة تهدف إلى تنظيم ممارسة الافراد لحقوقهم وحرياتهم بما يتماشى مع اعتبارات صيانة النظام العام في الدولة.

تعد مسألة معرفة طبيعة العمل الذي اتخذه عون الضبط من حيث ما إذا كان تصرف ضبطي إداري أو تصرف ضبطي قضائي مسألة هامة، باعتبار أن عون الضبط القضائي يخضع لرقابة وكيل الجمهورية أو النائب العام بحسب الحالة، في حين عون الضبط الإداري يخضع للرقابة الإدارية عن طريق ما يصطلح عليه بالرقابة الرئاسية.

كما أن المنازعات الناشئة عن نشاط الضبط الإداري تخضع لرقابة القضاء الإداري إلغاءا وتعويضا، في حين المنازعات الناشئة عن نشاط الضبط القضائي تخضع في الأساس للقضاء العادي. أبعد من ذلك، فان القواعد التي تحكم ممارسة وظيفة الضبط الإداري تختلف عن القواعد التي تحكم الضبط القضائي.

3/ معيار التميز بين الضبط الإداري والضبط القضائي:

يظهر جليا أن إيجاد معيارا للتمييز بين الضبطين الإداري والقضائي أمر بالغ الدقة والصعوبة نظرا للتداخل الموجود بينهما، لذا فقد قدم الفقه عدة معايير للتمييز بينهما يمكن حصرها فيما يلي:

أ /المعيار العضوي:

يقوم هذا المعيار على أساس تحديد نوع العمل بالنظر إلى مركز القائم به والجهة التي أصدرته، فمتى صدر العمل عن السلطة التنفيذية ممثلة في هيئاتها الإدارية وموظفيها فهو عمل ضبط إداري، أما إذا صدر العمل عن إحدى الهيئات القضائية فهو عمل ضبط قضائي.

بالرجوع إلى التشريع الجزائري، نجد أن المشرع حدد على سبيل الحصر الجهات المخول لها ممارسة وظيفة الضبط القضائي طبقا للمادة 92 من قانون الاجراءات الجزائرية والمتمثلة في رؤساء المجالس الشعبية البلدية، ضباط الدرك الوطني، ضباط الشرطة، ذوي الرتب في الدرك الوطني ورجال الدرك الذين أمضوا في سلك الدرك مدة ثلاثة سنوات كاملة والذين تم تعيينهم بموجب قرار وزاري مشترك بين وزير الدفاع الوطني ووزير العدل وبعد موافقة لجنة خاصة، مفتشوا الأمن الوطني الذين أمضوا مدة ثلاثة سنوات كاملة وتم تعيينهم بموجب قرار وزاري بين وزير الداخلية والجماعات المحلية ووزير العدل وبعد موافقة لجنة خاصة، ضباط وضباط الصف التابعين للأمن العسكري الذين تم تعيينهم خصيصا بموجب قرار وزاري مشترك بين وزير الدفاع الوطني ووزير العدل .والجهات المخول لها قانونا ممارسة وظيفة الضبط الإداري والمتمثلة أساسا في رئيس الجمهورية ،الوزراء، الولاة، رؤساء البلديات.

يعد هذا المعيار معيار قاصر للتمييز بين الضبط الإداري والضبط القضائي بسبب الازدواجية التي تطبع سلطات الضبط، إذ نجد سلطة واحدة تتدخل تارة كسلطة ضبط إداري عندما تتخذ إجراءات بهدف صيانة النظام العام بصفة وقائية، وتارة أخرى كسلطة ضبط قضائي عندما تتدخل من اجل ضبط الجرائم المرتكبة من قبل الأفراد أو السهر على المحافظة على أثار الجريمة من الاندثار والزوال حتى تتم عملية التحري من قبل الجهات المختصة.

فرئيس البلدية مثلا يعد سلطة ضبط إداري وسلطة ضبط قضائي.

فأعوان الشرطة يتولون مهمتي الضبط الإداري والضبط القضائي، إذ عندما يتولى الشرطي تنظيم حركة المرور فهو يقوم بعمل ضبط إداري إذ يهدف من ورائه إلى حماية النظام العام، في حين إذا اصطدمت سيارة احد المارة فان الشرطي يتحول إلى عون ضبط قضائي إذ يتولى إثبات الحالة والقيام بالتحقيق المبدئي والقبض على الجاني.

كذاك ما يقوم به أعوان الأمن من عمليات التفتيش أثناء دخول الجمهور إلى الملاعب، فهي إجراءات ضبطية إدارية تهدف إلى ضمان وحماية النظام العام بصفة وقائية، لكن قد تتحول العملية إلى لإجراءات ضبطية قضائية في حالة ما تم حجز أسلحة بيضاء أو مخدرات لدى احد الأنصار إذ تتخذ بشأنهم الإجراءات المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجزائية بحيث يتم تحرير محضر في مركز الشرطة ويقدم إلى الجهة القضائية المختصة لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة.

ب /المعيار الموضوعي:

يقوم هذا المعيار على أساس اختلاف كل من الضبط الإداري والضبط القضائي في هدف نشاط كل منهم، فنشاط الضبط الإداري وقائي في جوهره يستهدف وضع إجراءات وتدابير وقائية غايتها منع وقوع الإخلال بالنظام العام، بينما نشاط الضبط القضائي نشاط ردعي قمعي ولاحق على وقوع الإخلال بالنظام العام وبالنظام القانوني في الدولة، حيث تتحدد مهمته في البحث عن أسباب وظروف وملابسات وقوع الجريمة، والتحري من اجل إلقاء القبض على مرتكبيها وإحالتهم على العدالة.

لذا قيل وبحق أن الحاجة إلى الضبط القضائي لا تظهر إلا بعد فشل الضبط الإداري في تحقيق أهدافه وغاياته في منع وقوع الجريمة .وهذا ما أكده مجلس الدولة الفرنسي في قراره الصادر عام 1951. 

يسمح هذا التصور بوضع فاصل بين ما يمكن إدخاله ضمن أعمال الضبط الإداري وما يدخل ضمن أعمال الضبط القضائي، وان كان في الواقع فان الضبط الإداري قد يتدخل بعد حدوث المساس بالنظام العام، وذلك باتخاذ إجراءات ردعية من اجل استتباب الوضع كاستمرار عمل الضبط الإداري بعد وقوع المظاهرة المحظورة حتى يتم تفريق المتظاهرين نهائيا، مما يجعل هذا التصور عاجز للفصل بين كلا الضبطين.

يتضح جليا أن هذا المعيار لا يأخذ بعين الاعتبار صفة الشخص المتخذ للتصرف بل يبحث في جوهر التصرف في حد ذاته أي بالنظر إلى الهدف الذي يبتغيه الإجراء، وهو نفس الاتجاه المطبق من قبل مجلس الدولة ومحكمة التنازع الفرنسي. كما تبنى القضاء الإداري الجزائري هذا المعيار في التمييز بين أعمال الضبط الإداري وأعمال الضبط القضائي.

يظهر ان هذا المعيار سهل من الناحية النظرية، ولكنه يثير العديد من الصعوبات في التطبيق .وكمثال على ذلك فان قيام أعوان الشرطة بالتفتيش قد يكون الغرض منه حماية النظام العام، وقد يكون البحث عن مرتكبي الجريمة لإحالته على العدالة .وفي بعض الحالات فان القضاء يبحث في الهدف الردعي لدى رجال الشرطة، حتى في حالة عدم ارتكاب أية مخالفة.

بل أبعد من ذلك، يمكن لنفس العملية أن تتغير طبيعتها أثناء عملية التنفيذ .فيمكن لعملية ضبط إداري أن تتحول إلى عملية ضبط قضائي .ويمكن لنفس العملية أن تتضمن عدة خطوات تشمل على كلا من الضبطين .وكمثال على ذلك توقيف المركبات ووضعها في المحشر، فتوقيف المركبات يشكل عمل ضبط قضائي يهدف إلى معاقبة مخالفة التوقف غير المشروع، ووضع السيارة في المحشر يعد قرار ضبط إداري .فيقع على عاتق القاضي الإداري إعادة تكييف الإجراءات الضبطية المقدمة لتحديد ما إذا كانت تعتبر من ضبط إداري أو ضبط قضائي .وهذا ما أكده مجلس الدولة الفرنسي في قراره الصادر بتاريخ 24 جوان 1960 في قضية تتعلق بحجز عددين من جريدة France soir.

كما أن للتميز بين الضبط الإداري والضبط القضائي أهمية قصوى من حيث تحديد المسؤولية والجهة القضائية المختصة وسنوضح هذه المسألة من خلال هاتين القضيتين:

* المثال الأول: قضية Le Profil 

تتلخص وقائع هذه القضية أن شركة تحويل الأموال تم سرقتها من قبل مجرمين .ففي هذه القضية خطأين .الخطأ الأول خطأ ضبط الإداري حيث لم يقوم أعوان الشرطة بمنع حدوث السرقة والاعتداء .وخطأ ضبط قضائي بحث لم يقوم الأعوان بمتابعة المجرمين.

فإذا طبقنا معيار الغاية، يمكن القول أنه يمكن للشركة الضحية برفع دعوتين قضائيتين، الأولى أمام القاضي الإداري للحصول على التعويض على خطأ سلطة الضبط الإداري، والثانية أمام القاضي العادي للحصول على تعويض على أساس خطأ سلطة الضبط القضائي .حسب محكمة التنازع فإن الضرر مصدره الأساسي الخطأ الأول -خطأ سلطة الضبط الإداري- وبالتالي للقاضي الإداري أن يفصل في هذا النزاع الذي يهدف إلى الحصول على التعويض الناتج عن الخطأين .ومن هنا نستخلص أن في مثل هذه الحالات يجب أن نأخذ بالخطأ الأكثر تأثيرا.

* المثال الثاني: قضية Delle Motsch وقضية Lecomte 

تتلخص وقائع هذه القضية في قيام الشرطة بإطلاق النار على سيارة حاولت أن تخرق حاجز أمني، مما أدى الى وفات السائق .هذا العمل يعد عمل ضبط إداري، لأن عملية اطلاق النار تمت أثناء تجاوز الحاجز الأمني، ولم يصاحبها مطاردة من طرف الشرطة.

هذا ما أكده مجلس الدولة الفرنسي بتاريخ 24 جوان 1949 في قضية 97Lecomte.

أما إذا تم إطلاق النار بعد خرق الحاجز الأمني وأثناء عملية المتابعة والمطاردة بسبب الهروب وعدم الاستجابة لتعليمات الشرطة التي كانت تأمره بتوقيف السيارة، فان العملية تدخل ضمن عمليات الضبط القضائي .هذا ما أكدت عليه محكمة التنازع في حكمها الصادر بتاريخ 05 ديسمبر 1977 في قضية Delle Motsch.

المطلب الثالث: التمييز بين الضبط والمرفق العام

غالبا ما نجد التمييز بين الضبط الإداري والمرفق العام قائما على أن الأول يقيد من حريات الأفراد والثاني يقدم لهم خدمات لذلك وصف الفقه الضبط على أنه نشاط سلبي والمرفق على أنه نشاط ايجابي. فالضبط يترتب عليه المساس بحرية الفرد أو الأفراد على النحو السابق الإشارة إليه خلافا للمرفق إذ يقف الفرد موقف المنتفع من خدماته مجانا أو برسوم يلزم بدفعها. وتختلف الجهة التي تتولى مباشرة إجراءات الضبط عن الجهة التي تتولى ضمان توفير الخدمة للمنتفعين، ففي الحالة الأولى نجد الجهة دائما سلطة عامة ممثلة في رئيس الجمهورية أو وزير معين أو والي أو رئيس مجلس شعبي بلدي، فهذه الهيئات هي من يعود لها الحق في أن تضرب على الحريات العامة قيدا أو قيودا لاعتبارات تمليها المصلحة العامة. وبالكيفية التي حددها القانون.

والأمر غير كذلك بالنسبة للمرفق العام حيث أن النشاط قد يعهد به إلى شركة أو إلى فرد وتقوم العلاقة مباشرة بين الشركة أو الفرد من جهة والمنتفع من جهة أخرى.

وبالنتيجة ننتهي أن طبيعة إجراءات الضبط من الخطورة حيث لا يمكن إسنادها إلى أشخاص القانون الخاص. خلافا للمرفق العام يمكن نقل نشاطه وإسناده إلى فرد أو شركة تتولى القيام به وفق ما بيناه سابقا.

إن البوليس الإداري كما عرفناه فيما سبق، قد يكون خاصا أو عاما. إلا أن البوليس الإداري بنوعيه يختلف عن البوليس القضائي، وهذا ما سنتعرف عليه الآن، إذ سنميز بين كل من البوليس الإداري العام والبوليس الإداري الخاص، ثم نميز بعد ذلك بين البوليس الإداري والبوليس القضائي.

المطلب الرابع: الضبط العام والضبط الإداري الخاص

يستنتج مما سبق أن البوليس الإداري العام، معناه تنكين بعض الهيئات الإدارية من إقامة النظام العام، عن طريق اتخاذ الإجراءات اللازمة. إلا أن هيئات البوليس الإداري المنوط بها تحقيق هذا الغرض مقيدة – كما سنرى – لأن أغراضها محددة – النظام العام بالمفهوم السابق – ولهذا يحق للمشرع – تحقيقا للمصلحة العامة – أن ينشئ بجوار هذا النوع من البوليس الإداري – العام – أنواعا أخرى من البوليس الإداري تدعى البوليس الإداري الخاص، ينيط بها تحقيق أهداف محددة، يمنحها من السلطات ما يساعدها على أداء مهامها، وما يتلاءم مع أغراضها. فإذا كانت الهيئات الإدارية مسؤولة على الحفاظ على النظام العام بصفة عامة، في إقليم معين   – وطني أو محلي – فإنها تتمتع بمجموعة من الإختصاصات ووسائل التدخل، وفي هذه الحالة نكون بصدد البوليس الإداري العام – الوطني أو المحلي –

إن سلطات البوليس الإداري العام، إذن تكون مسندة للهيئات الإدارية بهدف ممارستها بصفة عامة تجاه كل نشاط وفي كل ميدان، إذ تستطيع هذه الهيئات أن تتدخل لتنظيم كل ما يمس الأمن والصحة والسكينة العامة في إقليم معين. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد أن هذه الهيئات محددة على سبيل الحصر، إذ تتمثل في رئيس الدولة على المستوى الوطني، والوالي ،ورؤساء المجالس الشعبية البلدية على المستوى المحلي.

ومع ذلك قد توجد بعض النصوص التي تنظم الوقاية من الاضطرابات والإخلال بالنظام العام في مجالات محددة، أو ميادين معينة بالذات، إذ تمنح هيئات إدارية خاصة وسائل خاصة ذات فعالية تتماشى مع تلك المجالات. وفي هذه الحالة نكون بصدد البوليس الإداري الخاص.

إن البوليس الإداري الخاص، قد يستهدف نوعا خاصا من الأشخاص، مثل بوليس الأجانب وبوليس البدو الرحل وبوليس الباعة المتجولين، وقد يستهدف نوعا خاصا من النشاط، مثل بوليس الصيد البحري وبوليس العلاقة الجوية وبوليس الحرائق، وقد يستهدف غاية محددة ،مثل بوليس الأخلاق، وبوليس حماية المواقع والنصب التذكارية...

ويجب أن نشير أخيرا إلى أن كل أنواع البوليس الإداري الخاص، يجب أن تكون موضوعا لنص خاص، ينظمها ويحدد الهيئات المختصة لممارستها والإجراءات التي يمكن أن تمليها.

المرجع:

  1. د. بن عودة حسكر مراد، محاضرات في مقياس سلطات الضبط الإداري، جامعة أبو بكر بلقايد، كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجزائر، السنة الجامعية: 2017-2018، ص3 إلى ص33.

google-playkhamsatmostaqltradent