تسبيب القرارات والأحكام والأوامر القضائية

تسبيب القرارات والأحكام والأوامر القضائية

تسبيب القرارات والأحكام والأوامر القضائية

تمهيد

إن إلزامية تسبيب القرارات والأحكام والأوامر القضائية له أهمية كبيرة، ويعتبر من أهم الضمانات التي قررها القانون وفرضها على القضاة، والتسبيب أداة فعالة في إظهار عدالة الأحكام وصحتها بما يجعلها محل واعتبار من الناس في المجتمع وخاصة الخصوم والرأي العام والقضاة، فواجب العدالة يحتم على محكمة أول درجة تسبيب أحكامها ضمانا ضد تعسف القاضي وانحرفه، بل أن تسبيب الأحكام يعتبر تطورا هاما لصالح حقوق الإنسان وأداة فعالة لتفادي استبداد القضاة، إذا ما سعوا إلى ذلك كما أنه ضمانة هامة وجادة تكفل للمحكوم عليهم التحقق من شرعية الإجراءات والأحكام الصادرة ويتيح تسبيب الأحكام للرأي العام أن يعرف لماذا قضى في الدعوى على وجه معين فيدعم ثقته في جدية عمل القضاء واعتماده فيه على عمل صحيح (1).
ومن خلال ما سبق سنحاول التوسع في تناول مبدأ تعليل القرارات والأحكام والأوامر القضائية في المطلب الأول و إلى أهميته في الفرع الثاني.

المطلب الأول: مبدأ تعليل القرارات والأحكام والأوامر القضائية

إن تعليل القرارات والأحكام والأوامر القضائية يتيح الفرصة أمام المتهم لإعمال رقابته المباشرة على المحكمة من أجل التعرف على ما إذا كانت قد أحاطت بوجهة نظره في الدعوى إحاطة كافية، واستطاعت أن تفصل فيها سواء بما يتفق أو يتعارض معها، وذلك يستطيع الوقوف على الأسباب التي حملها على الأخذ بوجهة النظر هذه دون غيرها وفي حالة عدم اقتناعه بما ذهبت إليها المحكمة، بإمكانه استعمال حقه في الطعن المقرر له قانونا (2).
مما تقدم يتضح جليا الأهمية البالغة لتسبيب الأحكام وفعاليتها في تكريس العدالة الجنائية رغم أن هناك من يرى بأنه لا داعي لتسبيب الأحكام الجنائية اعتقادا منه بأنه مضيعة للوقت حيث أن الخصوم ليسوا بحاجة إلى ذكر الأدلة في الحكم لأن كلا منهم سبق وأن اطلع على أدلة وحجج خصمه أثناء المرافعة فلا داعي لذكرها مرة أخرى عند إصدار الحكم وكذا الحال بالنسبة للجمهور، هم أيضا ليسوا بحاجة إلى معرفة أسباب القضايا التي لا تهمهم (3).
وقد عنيت أغلب القوانين الإجرائية بإلزامية تعليل الأحكام القضائية ومنها قانون الإجراءات المصري في المادة 310 منه وقانون الإجراءات الجنائية الفرنسية في المادة 485 منه.
أما المشرع الجزائري فقد تميز عن التشريعات السابق ذكرها بتكريسه هذا المبدأ دستوريا قبل أن ينص عليه في قانون الإجراءات الجزائية بحيث نصت المادة 144  من الدستور : (تعلل الأحكام القضائية وينطق بها في جلسات علانية).
ليأتي نص المادة 379 من قانون الإجراءات الجزائية وينص (كل حكم يجب أن ينص على هوية الأطراف وحضورهم أو غيابهم في يوم النطق بالحكم، ويجب أن يشتمل على أسباب ومنطوق وتكون الأسباب أساس الحكم).
وأكدت عليه المادة الأولة من ق إ ج الفقرة السادسة ".. وجوب أن تكون الأحكام والقرارات والأوامر القضائية معللة .."
وسنحاول من خلال هذا المطلب تناول مفهوم التسبيب في الفرع الأول و الشروط الواجب توافرها في التسبيب في الفرع الثاني.

الفرع الأول: مفهوم التسبيب

يعتبر التسبيب في اللغة العربية مصدر كلمة سبب والسبب هو الحبل، فالسبب يطلق على كل حبل انحدر من فوق ولا يدعى الحبل سببا حتى يصعد به وينحدر به وهو أيضا الحبل الذي يتوصل به إلى الماء، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى شيء فالسبب كل شيء توصل به إلى غيره، والجمع أسباب فهو اسم يتوصل به إلى المقصود والسبب كل شيء يتوصل به إلى غيره (4).
وإذا ما أردنا التوصل إلى معرفة المقصود بتسبيب الأحكام الجنائية، علينا أن نتعرف على ما يقصد بأسباب الحكم : لأن الأخيرة هي المحور الذي تدور عليه عملية تسبيب الأحكام.
ولمعرفة المقصود بالتسبيب أو بأسباب الحكم نتطرق إلى جملة من التعريفات، عرف الدكتور مأمون سلامة أسباب الحكم بأنها : "ما يستند إليه الحكم في التدليل على  النتائج إلى وصل إليها من منطوقه"(5).
وعرفه الدكتور أحمد فتحي سرور:"الأدلة التي اعتمدت عليها المحكمة كمصدر لاقتناعها وإصدار حكمها"(6).
وعرفها الأستاذ ملياني بغدادي: "هي الأساليب التي يقوم عليها المنطوق من الناحيتين الموضوعية والقانونية"(7).
من مجمل التعريفات المشار إليها أعلاه يتضح أن ما قصده الشراح بأسباب الحكم هو الأدلة التي يبنى عليها الحكم(8).

الفرع الثاني: الشروط الواجب توافرها في التسبيب

يحتاج التسبيب إلى عناية خاصة إذ يجب أن يتضمن التسبيب بيانا كافيا عن الواقعة المسندة إلى المتهم، فضلا عن بيانات أخرى تعتبر جوهرية فيه، وإلا كان معيبا مستوجب نقضه (9)، ولذا وجب تقرير شروط جوهرية لهذه التسبيب وأهمها:

أولا: أن تكون الأدلة المعتمدة كأسباب للحكم مأخوذة من أوراق الدعوى

يتوجب على المحكمة أن تبني حكمها على أدلة مستمدة من أوراق الدعوى، بعد أن تم طرحها على بساط البحث بالجلسة فإذا ما استندت المحكمة إلى دليل لا أصل له في التحقيقات أو غير موجودة في الدعوى عند ذالك تكون أسباب الحكم التي تذكرها مشوبة بعيب الخطأ في الإسناد، ويترتب على ذلك بطلان حكمها نتيجة خلوه من أسباب حقيقية أي بمعنى عدم قيامه على أساس قانوني صحيح (10).
والخطأ في الاستناد يمكن أن يتحقق كلما استند الحكم إلى واقعة جوهرية ادعت الحكمة بوجودها وهي غير موجودة مثال ذلك أن يستند الحكم على أقوال منسوبة إلى شاهد وهو لم يقلها أو إلى اعتراف متهم وهو لم يصدر منه أو عبارة مهمة إلى تقرير طبي غير واردة فيه وهو ما نشهده شخصيا في بعض الأحكام القضائية (11).

ثانيا: يجب أن تكون الأسباب واضحة لا يشوبها غموض ولا إبهام

من أجل أن نكون أمام تسبيب قانوني صحيح للأحكام الجنائية لابد وأن تكون أسباب الحكم واضحة جلية بعيدة عن كل إجمال وإبهام يحول دون معرفة مدى صحة الحكم في التطبيق القانوني على واقعة الدعوى وذلك يجب إيراد أسباب الحكم أو ملخصها الوافي لأن ذلك سيساعد من يطلع على الحكم بأن يقتنع بصحته فضلا على مساهمته في تسهيل رقابة المحكمة المختصة بنظر الطعن المقدم إليها بصدد ذلك الحكم (12).
وهذا ما أقرته المحكمة العليا بالقول " لما كان الثابت، في قضية الحال، أن قضاة المجلس لم يبينوا العناصر المعتمدة في تقدير التعويض فإن قرارهم القاضي على الطاعن بدفع تعويضات إضافية يعد مشوبا بالقصور في التسبيب "قرار الصادر عن غرفة الجنح والمخالفات بتاريخ 04/07/1988 فصلا في الطعن رقم 48235 ( منشور بمجلة المحكمة العليا، العدد 1991/2، الصفحة 218) (13).

ثالثا: ألا يكون هناك تناقض بين أسباب الحكم

هي أن تكون متماسكة غير مشوبة بأي تناقض فيها بينها أو بين المنطوق فإذا ما وردت على مثل هذه الصورة الأخيرة فعند ذاك يمكن وصف الحكم وكأنه خال من الأسباب.
والتناقض بين الأسباب الذي يعيب الحكم، يمكن أن يتحقق عندما يكون بعض هذه الأسباب من شأنه أن ينفي ما أثبته البعض الآخر ولا يعرف معه أي الأمرين قصدته المحكمة مثال ذلك أن تورد المحكمة دليلين متعارضين تعارضا ظاهرا وتأخذ بهما معا وتجعلها الأساس في ثبوت إدانة المتهم دون أن تزيل هذا العارض أو تبين أنها كانت على بينة منه وأنها اقتنعت بعد تحقيق وجه الخلاف بعدم وجوده في الواقع فبعملها هذا تكون قد اعتمدت على دليلين متناقضين الأمر الذي يجعل من حكمها كأنه غير مسبب وبالتالي يستلزم نقضه، أما بالنسبة للتناقض الذي يقع بين أسباب الحكم ومنطوقة فيحصل عندما ينتهي الحكم في منطوقة إلى ما يخالف ما جاء بأسبابه وعلة بطلان الحكم الذي تتناقض أسبابه مع منطوقة تكمن في كون المنطوق وثيق الارتباط بتلك الأسباب ويعتبر نتيجة لها(14).

المطلب الثاني: أهمية تعليل القرارات والأحكام والأوامر القضائية

تعليل الأحكام القضائية صار مبدأ عالميا وقد نصت المادة 162 من دستور الجزائر لعام 2016 على تعليل الأحكام القضائية والنطق بها في جلسات علنية، اما المشرع الفرنسي فقد وجد نفسه مضطرا للتراجع عن عدم تعليل الأحكام الجنائية بعد الانتقادات الموجهة لفرنسا من طرف المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فاوجد المادة 365-1 بقانون 10 أوت 2011 المعدل لقانون الإجراءات الجزائية والتي تفرض ذكر الأعباء التي توصلت اليها المحكمة ضد المتهم والمستخرجة من الوقائع المنسوبة اليه وذلك في ورقة التسبيب الملحقة بورقة الأسئلة والتي يحررها الرئيس او أحد القضاة المساعدين له ومن خلال الاطلاع على هذا النص يستخلص ان التعليل يكون في حالة الإدانة بذكر الأعباء ولم يذكر أي شيء حول البراءة لكن المشرع الجزائري أشار صراحة الى تعليل الحكم بالبراءة أيضا (15).
ومما سبق سنتناول هذا المطلب من خلال فرعين بحيث سنتناول في الفرع الأول القاعدة في تسبيب الأحكام و الغاية من التسبيب في الفرع الثاني.

الفرع الأول: القاعدة في تسبيب الأحكام

يتعلق تعليل وتسبيب الحكم بحيثيات المحكمة بالسندات التي يتضمنها ملف الدعوى وبيانها بشكل مفصل متى كانت هي الأدلة الحاسمة في تكوين قناعة المحكمة بالبراءة أو الإدانة (16).
يرد التسبيب عادة بعد عبارة : (وعليه فإن المحكمة) أو (وعليه فإن المجلس) للدلالة على إنتهاء مرحلة وبداية مرحلة أخرى، و التسبيب هو تبرير للنتيجة التي توصل إليها الحكم  (ومن الناحية اللغوية فإن السبب هو كل ما يتوصل به إلى الغير)، وهذا التبرير يجب أن يعتمد على المنطق السليم وعلى الأحكام القانون، ويعتبر بالرد على طلبات ودفوع الأطراف ومذكراتهم المودعة بصفة قانونية، وإعطاء التكييف القانوني السليم للوقائع، وبذلك فهو يعبر على جدية المحكمة وإطلاعها على تفاصيل النازلة وتطبيق القانون بشئنها بصفة سليمة والتسبيب ينصب على الوقائع والقانون، فيتعرض للأفعال والأقوال ، تم ينتقل إلى التكييف القانوني وتطبيق النصوص على الوقائع والرد على الدفوع، ويستحسن أن تكون بداية التسبيب بمهيد يلخص مزاعم الأطراف والوسائل التي يعتمدون عليها وتسمى إصطلاحا بالفرنسية Exorde  أو Préliminaire ، ولا مانع إذا كانت الوقائع المتعددة والمتشعبة أن يوردها القاضي في شكل فقرات ذات عناوين تم تتبعها مباشرة حيثيات المناقشة والتحليل الهادف إلى تبرير المنطوق(17).

الفرع الثاني: الغاية من التسبيب

ليس جديدا من أن النص على أي إجراء أو إحتلال لموقع ما في أي مرحلة من مراحل الخصومة الجزائية ، إنما يكون بغرض الوصول إلى أهداف معينة من خلاله، وكذلك الشأن بالنسبة لإجراء تسبيب الأحكام إذ لا يخلو من الأهداف المرجوة الذي أراد المشرع تحقيقها من خلال سنه لهذا الإجراء، وهي أهداف من الإجتهاد الفقهي أخذ الإجتهاد القضائي بكثير منها وهي عمومها لا تخرج عن الأهداف التالية (18):
- إن تسبيب الأحكام من أعظام الضمانات التي فرضها القانون على القضاة وهي تشكل ضمانا للقضاة على حسن قيامهم بعملهم وضمان للخصوم ، إذ يمكنهم من معرفة مبررات الحكم حتى إذا رضوا به قبلوه وإذا رفضوه تضلموا منه أمام الجهات القضاء الأعلى.
- إنه يدفع القاضي إلى العناية بحكم وتوخي العدالة في قضاءه حتى لا يصدر الحكم تحت تأثير العاطفة أو على أساس فكرة مبهمة لم تستبن معالمها وخفيت تفاصيلها ، إذ لابد من أن يكون الحكم بعد التفكير والتروي ونتيجة لأسباب واضحة محصورة كانت النتائج تمحيص مزاعم الخصوم ووزن ما إستندو إليه من أدلة واقعية وحجج قانونية
- إقناع الخصوم بعدات الأحكام مما يؤدي بهم إلى احترامها على إقتناع بعادلتها.
- تمكين المحكمة العليا من ممارسة حقها في الرقابة على الأحكام والقرارات القضائية على أحسن وجه ،إذ أن عدم تضمين الأحكام والقرارات والأوامر لأسباب التي أستند عليها يشكل  عائقا أمامها للقيام بمهمتها في الرقابة(19).

التهميش

1- علي فضل البوعينين، ضمانات المتهم في مرحلة المحاكمة، القاهرة دار النهضة العربية، 2006، ص 435.
2- حسن شبيت خوين، ضمانات المتهم في الدعوى العمومية أثناء مرحلة المحاكمة، رسالة الماجستير ، كلية القانون- جامعة بغداد ، 1989، ص 170.
3- حسن بشيت خوين، المرجع السابق ، ص 170.
4- المعجم الوسيط مجمع اللغة العربية، الجزء الأول ، الطبعة الثانية، 1960، ص411.
5- مأمون سلامة ، الإجراءات الجنائية، ج2، بيروت، مطبعة دار الكتب، 1972، ص 252.
6- أحمد فتحي سرور، أصول قانون الإجراءات الجنائية، المرجع السابق، ص 755.
7- مولاي ملياني بغدادي، الإجراءات الجزائية في التشريع الجزائري، الجزائر، المؤسسة الوطنية للكتاب، 1992، ص 405.
8- علي فضل البوعينين ، المرجع السابق،  ص 435.
9- د. عمرو عيسى الفقى، ضوابط تسبيب الأحكام الجنائية، المكتب الفني للإصدارات القانونية، طبعة 1999، مصر،    ص 9.
10- رؤوف عبيد، ضوابط تسبيب الأحكام الجنائية و أوامر التصرف في التحقيق، القاهرة ، دار الفكر العربي، 1977، ص6.
11- شهيرة بولحية،، الضمانات الدستورية للمهم في مرحلة المحاكمة، أطروحة مقدمة لنيل دكتوراه علوم في الحقوق ، تخصص عام ، السنة الجامعية 2015/2016،.ص 35.
12- عبد الأمير العيكلي، أصول الإجراءات الجنائية، بغداد ، مطبعة جامعة بغداد، 1977، ص 233.
13- نجيمي جمال، قانون الإجراءات الجزائية الجزائري على ضوء الإجتهاد القضائي، الجزء الثاني ، دار هومة ، طبعة الثالثة 2017، ص209.
14- محمد مصطفي القللي، مرجع سابق ، ص 393.
15- مختار سيدهم ، من الاجتهاد القضائي للغرفة الجنائية للمحكمة العليا ، ص 172.
16- علي شملال، المستحدث في قانون الإجراءات الجزائية الجزائري، التحقيق والمحاكمة، الكتاب الثاني ، دار هومة ، طبعة 2017، الجزائر ، ص 218.
17- نجمي جمال ، دليل القضاة في الحكم في الجنح والمخالفات في التشريع الجزائري على هدي المبادئ الدولية للمحاكمخة العادلة ، الجزء الثاني ، دار هومة للطبع والنشر والتوزيع ، الجزائر 2014 ، ص 393.394.
18- محمد زاكي أبو عامر، الإثبات في الواد الجزائية، الفنية للطباعة والنشر، الإسكندرية، من دون سنة الطبع، ص 239.
19- د. عمرو عيسى الفقى، المرجع السابق ، ص 132.
google-playkhamsatmostaqltradent