مكانة الشريعة الإسلامية في القانون الوضعي الجزائري

مكانة الشريعة الإسلامية في القانون الوضعي الجزائري

مكانة الشريعة الإسلامية في القانون الوضعي الجزائري
تنص المادة الثانية من الدستور الجزائري على أن: "الإسلام دين الدولة"، وحسنا فعلت السلطة التأسيسية بإدراجها هذا النص عل عكس ما ذهب إليه المؤسسون في الدول الغربية ذلك لأن الأوضاع في المجتمعات الإسلامية غير الأوضاع في المجتمعات الغربية.
حق، لم يتضمن الإنجيل من قواعد القانون سوى آيتين في الزواج والطلاق مفادهما "ما يجمعه الله لا يفرقه الإنسان، ومن تزوج بمطلقة أخيه فقط زنى"، لذلك ترك المسيح عليه السلام ما يتعلق بالدنيا للمجتمع فجاء في الآية 17 من الإصحاح الثاني عشر من إنجيل مرقس على لسان السيد المسيح: "أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله"، كما جاء في الآيات 13-15 من الإصحاح الثاني عشر من إنجيل لوقا: "وقال له – أي للمسيح – واحد من الجمع: يا معلم قل لأخي أن يقاسمني الميراث، فقال له: يا إنسان من أقامتي عليكما قاضيا أو مقسما، وقال لهم انظروا وتحفظوا من الطمع".
رغم ذلك استغل رجال الدين في أوروبا فرصة ضعف الحكومات فاستولوا على السلطة الزمنية وظلوا يستغلون الشعوب بتحالفهم مع النبلاء –بل تحكموا في السلطة الحاكمة- إلى أن قامت الثورة الفرنسية سنة 1789م وما ترتب عنها من فصل الدين عن الدولة.
وبالتالي يتخلص الأفراد من الشعارات المزيفة لرجال الدين كقولهم: "اعتقد وأنت أعمى" أو "أغمض عينيك ثم اتبعني" ذلك لأن تعاليم الكنيسة تصطدم وتناقض مع العقل والفكر، أما الشريعة الإسلامية فهي بمنأى عن كل ذلك لأنها تقوم على العلم، قال تعالى: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
كما أنها تضمنت الأحكام في مختلف فروع القانون كما أسلفنا الذكر.
ولقد أعجب صاحب العقد الاجتماعي بالنظام المحمدي بعدما بين مساوئ فصل السلطة الدينية عن السلطة الزمنية قائلا: "في هذه الظروف أسس المسيح مملكة روحية على الأرض، وتم فصل النظام الديني عن النظام السياسي، مما جعل الدولة ليست واحدة، وسبب الانقسامات الداخلية التي لم تتوقف أبدا عن فتنة الشعوب المسيحية، "كانت لمحمد نظرة صائبة جدا، إذ أوثق جيدا نظامه السياسي وما دام شكل حكومته مستمرا في عهد خلفائه التابعين ظلت هذه الحكومة في الحقيقة واحدة، وهو أمر حسن."[1]
فالواقع الاجتماعي والتاريخي يفرض إذا إدراج العنصر الديني في دساتير العالم الإسلامي لتهدي إليه السلطات العامة أثناء تسيير الشيء العام، لكن صياغة المادة الثانية من الدستور الجزائري هل تفيد أن الشريعة الإسلامية تعتبر مصدرا ماديا للقانون أم مصدرا رسميا؟
للإجابة عن هذا السؤال تجدر الإشارة في بادئ ذي بدء إلى المادة الأولى من التقنين المدني الناصة على أنه: "وإذا لم يوجد نص تشريعي، حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية"، وعليه قد يقول قائل إن مبادئ الشريعة ليست لها قوة إلزام ذاتية وفقا للمبدأ الدستوري إلا إذا تدخل المشرع وأعطى الصفة الإلزامية لأحكامها سواء ببيان درجتها بين مصادر القانون الأخرى كما هو الشأن في المادة الأولى من التقنين المدني إذ جاءت في المرتبة الثانية بعد ةالتشريع فيليها العرف فمبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، أو بتقنينها كما هو الوضع في التشريع العائلي والوقف وفي هذه الحالة تطبق قواعد الشريعة الإسلامية فحسب خاصة وأن المادة 222 من قانون الأسرة تنص على أنه: "كل ما لم يرد النص عليه في هذا القانون يرجع فيه إلى أحكام الشريعة الإسلامية".
على هذا الأساس فإن النص الوارد في المادة الثانية من الدستور جاء لينير المشرع ليأخذ من الشريعة الإسلامية ما يراه ملائما للمجتمع وعلى هذا استقر القضاء والفقه المصريان عند تفسير المبدأ الدستوري القاضي باعتبار مبادئ الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسيا للتشريع إذ أكدا على أنها لا تعدو أن تكون مصدرا موضوعيا أو ماديا للتشريع.
إذا كان المشرع له سلطة تقدير واسعة في الرجوع إلى أحكام الشريعة الإسلامية وفقا لتطور المجتمع فإنه ليس المخاطب الوحيد بأحكام المادة الثانية من الدستور لأن صياغتها غير مقصورة على سلطة دون أخرى وبالتالي فإن كل سلطات الدولة ملزمة بمراعاتها في الحدود التي لا تتعارض مع البناء القانوني للدولة.
حقا، يمكن للقاضي أن يرجع إلى مبادئ الشريعة الإسلامية في المجال الذي يفلت عن القاعدة الجنائية المقررة في المادة الأولى من قانون العقوبات الناصة على أنه: "لا جريمة ولا عقوبة أو تدابير أمن بغير قانون"، إذ له أن يهتدي إلى ما قرره الفقه الإسلامي لاستبعاد العقاب عن الجاني كما هو الشأن في أسباب الإباحة وموانع المسؤولية أو أن يختار رأيا فقهيا لإعمال الظروف المخففة، ففي هذه الأحوال لا يوجد أي تعارض مع مبدأ شرعية الجريمة والعقوبة ما دام لم يخلق جريمة ولم يؤسس عقوبة بل عمل فقط على درء العقاب أو تخفيفه تحقيقا لمصلحة المشتبه فيه أو المتهم وفقا لمقاصد الشريعة من تيسير ورفع الحرج.
بالرجوع إلى التشريع الجزائري نجده لم ينص على حالة السكر كمانع من موانع المسؤولية أو حالة الضرورة كسبب من أسباب الإباحة، وفي هذا الإطار يمكن للقاضي أن يغوص في تلك الثروة الفقهية العظيمة لاستقاء الحلول الفقهية التي تتماشى مع مصلحة الجاني والمصلحة العامة أو لبناء أحكام جديدة على أساسها.
كذلك يمكن للقاضي أن يستنير بأحكام الفقه الإسلامي عند تفسير بعض المصطلحات الواردة في قانون العيوبات ومن ذلك ماورد في نص المادة 333 التي تعاقب على الفعل العلني المخل بالحياء، وفي هذا نخالف الأستاذ عادل قورة عندما قال بان معيار تحديد ما يخل بالحياء يستشف من العرف وقواعد الآداب ذلك لأن الأعراف والآداب لا تخالف الدين أو تتأثر به بشكل كبير، كما يمكن للقاضي أن يكون اقتناعه الشخصي عند إثبات الجرائم وفقا لمقتضيات الشريعة الإسلامية بما يخدم العدالة والمصلحة العامة فله مثلا أن يتقيد بأربعة شهداء من الرجال عند نظر قضية الزنا وما إلى ذلك من الشروط المشددة التي وضعتها الشريعة لدرء العقاب عن المشتبه فيه أو المتهم.
إذا كانت المادة الثانية من الدستور تخاطب كل السلطات في الدولة، فإن المواطن من حقه أن تمكنه هذه السلطات من أن تحترم مشاعره كمسلم وعدم شيوع المنكرات، وهو ما اهتدت إليه بعض السلطات الإدارية لأن ذلك يجد أساسه في المادة التاسعة من الدستور التي تنص على أنه: " لا يجوز للمؤسسات أن تقوم بما يأتي:
- ................
- ................
- السلوك المخالف للخلق الإسلامي ..." هكذا، فمبمقتضى قرار مؤرخ في 7 نوفمبر 1987 صادر عن وزير المالية، تلتزم إدارة أملاك الدولة برفض تسليم المنقولات والسلع التي لا يمكن بيعها بسبب مضايقات يتعلق الأمر على وجه الخصوص بالخمور المحجوزة التي ترفض هذه الإدارة بيعها لما في عملية البيع من استفزاز للسكان في بعض المناطق.
بناء على ما تقدم يمكن القول إن الشريعة الإسلامية تعتبر مصدرا موضوعيا أو ماديا للقانون قبل أن يضفي عليها المشرع الطابع الإلزامي أي قبل أن يقنن قواعدها أو يبين درجة الأخذ بها بين مصادر القانون، أما عند تقنينها أو بيان درجتها بين مصادر القانون فتعتبر مصدرا رسميا للقانون، كما تعتبر كذلك – أي مصدرا رسميا للقانون- وتتمتع بقوة إلزام ذاتية تجاه جميع سلطات الدولة بمقتضى المادة الثانية من الدستور إذا كانت لا تتعارض مع القواعد السارية المفعول في الدولة الجزائرية ذلك لأن الشريعة الإسلامية منذ نزولها لم تكن لتحرج المجتمع أو السلطة العامة بل سنتها التدرج والتيسير.
إذا كان المشرع قد قنن قواعد الشريعة الإسلامية كما هو الشأن في قانون الأسرة والقانون المتعلق بالأوقاف ومسائل أخرى مثل الشفعة وتحريم الربا فيما بين الأفراد، فإن القاضي ينفذ إرادة المشرع دون إشكال، لكن عندما يحيل المشرع إلى الشريعة الإسلامية سواء في المادة الأولى من القانون المدني أو المادة 222 من قانون الأسرة، فإن البعض يرى أن القاضي يرجع فقط إلى المبادئ الكلية التيلم يختلف بشأنها الفقهاء، وفي هذا الصدد يقول أستاذنا الفاضل محمد سعيد جعفور: "إن المقصود بمبادئ الشريعة الإسلامية التي يرجع القاضي إليها هي المبادئ الكلية لهذه الشريعة وحدها التي لا يختلف جوهرها باختلاف المذاهب، دون حلولها التفصيلية أو أحكامها الجزئية التي تتفاوت الآراء بشأنها باختلاف المذاهب وتباين آراء الفقهاء نظرا لتغير ظروف كل مجتمع وشؤونه".
والرأي عندنا هو أن القاضي له الحرية في اختيار الحل الملائم للقضية المعروضة أمامه سواء تعلق الأمر بمبدأ كلي أو حل جزئي لما توصل إليه الفقهاء بغض النظر عما اتفقوا أو اختلفوا عليه بل أكثر من ذلك يمكن للقاضي أن يتبنى حلولا جديدة بناء على الأسس والحلول التي وضعها الفقهاء كافة لأن المهم هو خدمة العدالة بما يحقق المصلحة العامة وينفي الحرج عن الناس.
من المقرر في المادة 180/2 من قانون الأسرة أنه لا تقسم التركة بين الورثة إلا بعد سداد ديون المورث أي المتوفى ولم يحدد النص ماهية هذه الديون وبالتالي نستعين بما ورد في المادة 222 من قانون الأسرة التي تحيلنا إلى أحكام الشريعة الإسلامية، وبمقتضى هذه الأحكام نجد الفقهاء قد قسموا الديون إلى دين الله مثل الزكاة والكفارات والنذور ودين العباد كالقرض والثمن في عقد البيع، وفي هذا الصدد يذهب جمهور الفقهاء، ويؤديهم الأستاذ سعيد بويزري في ذلك، إلى ضرورة أداء دين الميت سواء كان خالصا لله أو للعباد قبل تقسيم تركته، إلا انه من مصلحة الورثة تمكينهم من الأخذ بما استقر عليه المذهب الحنفي الذي قصر هذه الديون على ديون العباد أما ديون الله فهي عبادة تسقط بالموت، وهو الرأي الذي نميل إليه لأن العبادات يؤديها العباد أنفسهم حينما يكونون على قيد الحياة ولقد أشار إلى ذلك الله تعالى في كتابه العزيز على لسان نبيه عيسى عليه السلام قائلا: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا)، ولا يمكن أن تؤدى بالنيابة عملا بقوله تعالى: (وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى)، وعليه فإن زكاة المال تكون من قبل صاحب هذا المال كما هو ظاهر في الآية عندما أضاف المال محل الزكاة إلى صاحبه.
وفي الوقت الحالي كثيرا ما تشتكي النساء من سوء معاملتهن وضربهن من قبل الأزواج، وبالرجوع إلى مؤلفات القانون الجنائي نجد المفسرين يدرجون فيها تأديب الزوجة كحق للزوج إذ اعتبروه كسبب من أسباب الإباحة وهو الجاري بع العمل قضاء، وقد استند في ذك إلى قوله تعالى: (وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ).
إن الزواج وتكوين الأسرة قد أحاطهما الشارع بمجموعة من الضمانات مثل الإحسان إلى الزوجات عملا بقوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) ورويت أحاديث كثيرة تقضي بمعاملة المرأة بالحسنى حتى قالت عائشة رضى الله عنها: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة قط"، ونظرا لإكثاره من النهي عن ضرب الزوجة، ذهب البعض إلى القول بأن الحكم القاضي بالضرب الوارد في القرآن الكريم قد نسخته السنة النبوية الشريفة، فيمكن العمل بهذا الرأي لزجر الأزواج عن سلوكاتهم السيئة، رغم انه رأي محل خلاف، لأنه يتفق مع تطور المجتمع كما أن ذوي المروءات يترفعون عن إيذاء أزواجهم، فلماذا إذا الرجوع فقط إلى ما هو متفق عليه ولو كان مما قد يقوض بناء الأسرة؟! إن الضرب قد يبعث جوا من عدم الاستقرار والتنافر بين أفراد العائلة مما يفضي إلى سوء العاقبة...
إذ، فالرجوع إلى الشريعة الإسلامية بجزيئاتها سواء أثناء تطبيق نص المادة الأولى من القانون المدني أو المادة 222 من القانون الأسرة أو حتى بصدد إعمال أسباب الإباحة وموانع المسؤولية، مما فيه مصلحة للمجتمع وتدعيم لحقوق وحريات الأفراد، أمر مطلوب من القاضي عملا بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)، (إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، وعلى ذلك فإن الرأي القائل بالأخذ بالمبادئ الكلية مما اتفق عليه الفقه فقط مردوده من الأوجه التالية:
1- إن مبادئ الشريعة الإسلامية، كما ورد في المادة الأولى من القانون المدني أو "أحكام الشريعة الإسلامية" كما ورد في المادة 222 من قانون الأسرة، عبارتان جاءتا عامتين، فمبادئ وأحكام جمع معرف بالإضافة إلى الشريعة الإسلامية فيفيد العموم إذ هو شامل ويستغرق جميع المبادئ والأحكام دون حصر بمبادئ أو أحكام معينة.
2- إن العام يظل مستغرقا لجميع أفراده إلا إذا ورد دليل يخصصه ويحصره في بعض الأفراد، الشيء الذي امتنع عنه المشرع إذ لم ينص قط على أن القاضي يرجع إلى بعض الأحكام دون غيرها، وعليه لا يجوز للمفسر أن يحمل النص ما لا يحتمل.
3- ليس من مصلحة المتقاضي أن نحرمه من الحلول الجزئية التي وضعها الفقهاء رغم الاختلافات التي كانت بينهم في مسائل مختلفة لأن هذه الحلول ترتبط بأسس الشريعة القائمة على التيسير ورفع الحرج

تأسيسا على ما تقدم يمكن للقاضي أن يأخذ من الشريعة والفقه ما يناسب القضية محل النزاع دون التقيد بأي مذهب وبغض النظر عما هو محل خلاف بين الفقهاء لأن المهم هو إحقاق الحق وبعث الاستقرار الاجتماعي والاطمئنان إلى ما قضي، وبالتالي تتحقق المعاني السامية المذكورة في قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)، ولكننا نؤكد أن السلطة التقديرية للقاضي في استقاء الحلول والأحكام من هذه الثورة الفقهية العظيمة لا ينبغي أن تصطدم بالتشريع الجاري به العمل وإلا كانت أحكامه مشوبة بعيب مخالفة القانون وبالتالي فتستوجب النقض.

المرجع:


  1. د. أعمر يحياوي، الخصائص العامة للشريعة الإسلامية، نموذج من الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم، دار هومة، الجزائر، 2009، من ص 65 إلى ص 76.


[1] Jean-Jacques ROUSSEAUk DU CONTRAT SOCIALk SNEDk ALGERk 1980k P 125 انظر:
google-playkhamsatmostaqltradent