مبدأ المشروعية الإدارية

مبدأ المشروعية الإدارية

مبدأ المشروعية الإدارية

تمهيد:

يعتبر مبدأ المشروعية الإدارية الضمانة الأساسية لحماية وصون حقوق الأفراد وحرياتهم من تجاوزات السلطة العامة وتعسفها، ويقصد به الخضوع التام للقانون سواء من جانب الأفراد أو من جانب السلطة العامة، وهو ما  يعبّر عنه بخضوع الحاكمين والمحكومين للقانون وعلو أحكامه وقواعده على المحكوم والحاكم،على نحو تكون تصرفات هذه الهيئات وأعمالها وعلاقاتها المختلفة متفقة مع أحكام القانون وضمن إطاره.
فيتعين على جميع السلطات الإدارية وهي بصدد مباشرة أوجه نشاطاتها ضرورة الالتزام بالخضوع لما تقتضي به تلك القواعد القانونية من أحكام، وٕإلاّ اتسمت تصرفاتها بعدم المشروعية وأصبحت بالتالي محلا للإلغاء المقرر قانونا.
ولقد أكد الفقه القانوني بالإجماع على أن مبدأ المشروعية هو معيار التفرقة بين دولة القانون والدولة الاستبدادية، ويجمع الفقه كذلك على أن هذا المبدأ بما يعنيه من خضوع الإدارة العامة في الدولة للقانون يمثل الحاجز الذي يحمي حقوق وحريات الأفراد في مواجهة السلطات العامة.
و يمتد سريان مبدأ المشروعية الإدارية ليشمل كل مصادر المشروعية من قواعد مكتوبة فيشمل التشريع لما يحتويه من قواعد متدرجة من حيث القوة والإلزام من قواعد دستورية تشريعية وتنظيمية، ومصادر غير مكتوبة وتشمل العرف والمبادئ العامة للقانون (المطلب الأول)، إلا أن مبدأ المشروعية الذي تقوم عليه أعمال الإدارة لا يعتبر مبدأً  مطلقًا بل يجوز أن ترد عليه بعض الاستثناءات، لتيسير السبيل أمام الإدارة في تحقيق النفع العام، حيث يضيق العمل بمبدأ المشروعية ويتعذر حينها على القضاء ممارسة رقابته على أعمال الإدارة (المطلب الثاني).

المطلب الأول: مصادر المشروعية الإدارية

يجد مبدأ المشروعية الإدارية أحكامه وقواعده في مصادر متنوعة ومتعددة وتنقسم إلى مصادر مكتوبة ومصادر غير مكتوبة، وعليه يتعين تبيان أهم المصادر المكتوبة التي تشكل أساسا قانونيا للمشروعية الإدارية (الفرع الأول)، ثم إظهار المصادر غير المكتوبة التي تجسد المشروعية الإدارية (الفرع الثاني).

الفرع الأول: مصادر المشروعية المكتوبة

يقصد بالمصادر المكتوبة مجموعات مدونة تحتوي على قواعد قانونية ملزمة تتفاوت في درجة قوتها القانونية وتتمثل هذه المصادر المكتوبة في الدستور (أولا)، المعاهدات الدولية (ثانيا)،التشريعات العادية (ثالثا) والتنظيمات (رابعا)

أولا: الدستور (التشريع الأساسي)

تشكل القواعد الدستورية القانون الأعلى أو الأسمى في الدولة، ذلك أنها تتعلق بنظام الحكم في الدولة، فهي التي تحدد شكل نظام الحكم في الدولة، وتبين السلطات الأساسية في الدولة تشريعية تنفيذية وقضائية، وكذلك كيفية مباشرة كل من هذه السلطات لاختصاصاتها وعلاقة كل منها بالأخرى، كما تبين حقوق الأفراد وحرياتهم، وهي موضوعة من قبل السلطة التأسيسية. ولهذا فهي تمثل الإطار القانوني العام الذي تدور أو يجب أن تدور في فلكه جميع أوجه النشاط القانوني في الدولة، مما يجعل لها مكان الصدارة على سائر القواعد القانونية الأخرى.
ومادام الدستور هو الذي أوجد السلطات الأساسية للدولة، وهو الذي يحدد اختصاصاتها فليس لأي منها أن تخرج عليه، حيث أنها تستمد وجودها منه وشرعيتها من نصوصه وبالتالي تعد نصوص الدستور الأساس لكل قاعدة قانونية تليها في المرتبة بما يحقق الانسجام في البناء القانوني للدولة، بمعنى لا بد أن  يتقيّد التشريع الأدنى بالتشريع الأعلى ولا يجوز أن يتعارض القانون مع القواعد الدستورية، بحيث إذا ما خالفت قاعدة ما الحدود التي رسمها الدستور كانت مخالفة لمبدأ المشروعية.
لقد تم تأكيد مبدأ المشروعية في صلب الدستور الجزائري حيث نصت المادة 158 منه على "أساس القضاء مبادئ الشرعية والمساواة " كما أكدت المادة 161 من الدستور على أن "ينظر القضاء في الطعن في قرارات السلطات الإدارية".
وهكذا يصبح من الواجب على جميع السلطات في الدولة ضرورة الالتزام و التقيّد بقواعد الدستور، ومن ثم عدم الخروج على ما تقرره من أحكام وذلك فيما تباشره من مهام واختصاصات ومعنى ذلك أنه يجب على السلطة التشريعية أن  تتقيّد بها فيما تصدره من تشريعات، ويجب على السلطة القضائية احترامها في مجال الدعاوى التي تطرح أمامها، كما يتعين على السلطة الإدارية كذلك التقيّد بتلك القواعد فيما تجريه من تصرفات وأعمال، وٕإلا عدّت هذه الأعمال وتلك التصرفات غير مشروعة.
ولقد ثار الخلاف في الفقه بشأن القيمة القانونية لديباجة الدستور والتي تحتل مقدمة الدستور وتأتي قبل استعراض مواد الدستور بصفة تفصيلية، والتي غالبا ما تحتوي على الإيديولوجيات والفلسفات التي يتبناها الدستور والغايات والطموحات التي يستهدف تحقيقها فذهب رأي من الفقه إلى اعتبار أن الأحكام التي جاءت بها مقدمات الدساتير لا تعتبر قواعد قانونية ملزمة وٕإنما هي بمثابة مبادئ عامة ذات قيمة سياسية أو فلسفية بحتة.
وهناك جانب أخر من الفقه ذهب إلى اعتبار مقدمة الدستور لها قيمة قانونية تعلو على النصوص الدستورية ذاتها، انطلاقا من أنها تعد تعبير عن الإرادة العليا للأمة تحتوي على المبادئ الأساسية والأهداف العامة وترسم الإطار العام للنظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة، في حين ذهب جانب أخر من الفقه إلى اعتبار مقدمة الدستور تأخذ نفس القوة القانونية التي تتمتع بها الدستور النصوص الدستورية، انطلاقا من أنها تعبر عن إرادة السلطة التأسيسية ومن ثم فإن للديباجة من قدسية وحصانة ما تتمتع به النصوص الدستورية.
ومن هذا المنظور فإن لديباجة الدستور نفس القيمة القانونية لنصوصه، حيث لا يمكن فصلها عن القواعد الموضوعية فهي جزء أساسي في الوثيقة الدستورية وتتمتع بذات الحجية.

ثانيا: المعاهدات الدولية

تعتبر المعاهدات الدولية مصدرا لمبدأ المشروعية الإدارية وهذا بعد أن يتم التصديق عليها من جانب السلطة المختصة داخل الدولة، وفور التصديق عليها تصبح المعاهدة جزءا من التشريع الداخلي، بل إن بعض الدساتير كالدستور الجزائري يعترف لها بطابع السمو على القانون وهو ما أقرت عليه المادة 150 من الدستور والتي جاء نصها كما يلي: "المعاهدات التي يصادق عليها رئيس الجمهورية، حسب الشروط المنصوص عليها في الدستور، تسمو على القانون."
إن سمو المعاهدة الدولية على القانون تجعل سلطات الدولة ملزمة بالتقيّد والالتزام بأحكامها عند القيام باختصاصاتها وٕإلا اتسمت بعدم المشروعية، وأصبحت بهذه المثابة المشروعية محلا للطعن أمام الجهة المختصة بتصحيح الوضع الخاطئ ومن ثم حماية مبدأ المشروعية.
وعليه فإن بعد عملية التصديق ونشر المعاهدة الدولية في الجريدة الرسمية، يلتزم القاضي الإداري بتطبيق نصوصها، بحيث يمكن اعتبار قرارات الإدارة المخالفة للمعاهدة الدولية عملا غير مشروعا، لأن المعاهدة الدولية في هذه الحالة لها قوة القانون بل تعد أسمى منه.

ثالثا: التشريعات العادية

التشريعات العادية هي التي تقوم بوضعها السلطة صاحبة الاختصاص الأصيل في ممارسة الوظيفة التشريعية، وذلك في حدود اختصاصها وطبقا للإجراءات التشريعية المنصوص عليها، ويقصد بالتشريع في هذا المجال مجموعة القواعد القانونية التي تقررها السلطة المختصة بالتشريع في الدولة وفقا لأحكام الدستور، وتهدف تلك القواعد في الغالب إلى بيان تحديد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الدولة.
ولهذا فإنه يجب علي الإدارة أيضا أن تحترم وتلتزم بالحدود المرسومة لها في النصوص الدستورية تحت طائلة مسؤولية خرقها لمبدأ المشروعية، وهذه القواعد تأتي في المرتبة التالية للقواعد الدستورية، ويقع على عاتق الحكام والمحكومين الخضوع لها والتقيّد بأحكامها، فهي إذًا قواعد عامة وشاملة في إلزامها لمختلف الهيئات العامة والخاصة والأفراد وبالتالي يمكن تحقيق العدل واستقرار النظام وسيادة مبدأ المشروعية في الدولة. وتشمل التشريعات العادية كل من القوانين الصادرة من البرلمان  صاحب الحق الأصلي في المجالات التي خولها له الدستور وكذا الأوامر الصادرة من رئيس الجمهورية.
وفي إطار الحفاظ على مبدأ المشروعية، يجب على الإدارة العامة في مختلف مستوياتها أن تلتزم بما تضعه السلطة التشريعية من قوانين في المجالات التي يخولها إياها الدستور، وحتى تتقيد الإدارة العامة بالقوانين يجب أن تكون تلك القوانين مطابقة للدستور.
فتلتزم السلطة الإدارية بما تتضمنه القوانين من قواعد وأحكام في كل من أعمال وتصرفات قانونية حتى تكون هذه الأعمال صحيحة ومشروعة، فإذا ما أصدرت الإدارة عملا من الأعمال القانونية المخالفة لحكم من أحكام القانون، فإن هذا العمل يعتبر غير مشروع ويحكم بإلغائه عند الطعن فيه أمام القضاء الإداري أو التعويض عما تحدثه من أضرار للأفراد.

رابعا: التنظيمات

عبارة عن قرارات تنظيمية تتضمن قواعد عامة ومجرّدة ولا تخص مركزا بذاته، تصدر عن الجهة الإدارية المختصة وتشترك اللائحة مع القانون في أن كل منها يصدر بشكل عام ومجرّد، ويختلفان من زاوية التدرج أو الحجية. فاللوائح تحتل مكانة أدنى من التشريع العادي، وهي تنقسم إلى تنظيمات مستقلة تأخذ شكل مراسيم رئاسية وأخرى تنظيمات تنفيذية تأخذ شكل المراسيم التنفيذية.
تكتسب التنظيمات الطابع التشريعي من الناحية الموضوعية، وتكون عملا إداريا من حيث النظر إلى الجهة المصدرة لها وهي السلطة التنفيذية، مما يجعل القرارات الإدارية التنظيمية أحد عناصر البناء القانوني للدولة، وبالتالي مصدرا من مصادر المشروعية الإدارية، حيث تأتي في المرتبة الثالثة بعد النصوص الدستورية والتشريعات البرلمانية في سلم التدرج القانوني.
الأمر الذي يجعل من واضعي النصوص التنظيمية ملزمين بالتقيّد بأحكام القواعد القانونية التي تعلوها في الدرجة من حيث الشكل والمضمون، وٕإلا أصبحت محلا للطعن أمام القضاء حماية لمبدأ المشروعية الإدارية. كما أن الإدارة ملزمة بأحكام النصوص التنظيمية الصادرة عنها وبالتالي لا يجوز لها إصدار قرارات فردية مخالفة لها تحت طائلة عدم مشروعيتها.
وبهذا فإن التنظيمات تعمل في إطار النصوص الدستورية والتشريعات العادية وفقا لمبادئها، وٕإذا مـا خالفـت ذلـك اتسـمت ووصـفت بعـدم المشـروعية، وبالتـالي أصـبحت عرضة للمخاصمة والإلغاء من طـرف الجهـات المختصـة والتعـويض عـن الأضـرار التـي سببتها.

الفرع الثاني: مصادر المشروعية غير المكتوبة

يتخذ مبدأ المشروعية من المصادر غير المكتوبة مصدرا لقواعد المشروعية في حالة عدم وجود قواعد مكتوبة، فإلى جانب المصادر المكتوبة التي بيّناها في الفرع الأول لمبدأ المشروعية توجد مصادر غير مكتوبة والتي تتمثل في العرف (أولا) والمبادئ العامة للقانون (ثانيا).

أولا: العرف

يعتبر العرف من أقدم مصادر القانون بصفة عامة، فإذا كان دور العرف لم يعد يحتل كما كان في الماضي تلك الأهمية، حيث انتشرت حاليا ظاهرة القواعد القانونية المكتوبة، إلا أنه لازال رغم ذلك يلعب دوار هاما وأساسيا في هذا الخصوص، إذ هناك قواعد عرفية دستورية وقواعد عرفية تجارية وقواعد عرفية إدارية ومما يؤكد تلك الأهمية اعتداد القانون الوضعي به، والنص على اعتباره مصدرا منشئا للقواعد القانونية في المجتمع.
يعرف العرف بصفة عامة بأنه مجموعة القواعد الناجمة عن الاستعمال الراسخ المتأصل في مجتمع ما  والواجبة الاحترام واللازمة التطبيق كالقانون فهو يشمل قاعدة حقوقية عامة ومجردة نابعة عن تعامل الناس بشكل ثابت ومطرد.
وما يهمنا في الدراسة هو العرف الإداري الذي  يعبّر عن سلوك الإدارة المطرد في مسألة معينة على نحو معين فترة من الزمن بحيث تصبح الإدارة والمتعاملون معها ملزمين باحترام القاعدة المتولدة عن ذلك السلوك، أي أنه نتيجة لسير الإدارة على نمط معين في عملها مع تكرار السير على هذه القاعدة بشكل منتظم ومستمر بما يرسخ الاعتقاد لدى الإدارة والأفراد بأنها قد أصبحت ملزمة وواجبة الإتباع.
يشترط لاعتبار العرف ملزما للإدارة أن يتوافر فيه شرطان وهما: المداومة على فعل معين من خلال الممارسة الإدارية وتفاعلها مع ظروف الواقع، أي الاعتياد وتكرار هذه الممارسة الإدارية، فإذا اتبعت إحدى الجهات الإدارية في الدولة سلوكا معينا فترة من الزمن ثم أعرضت عن إتباعه في فترة أخرى، لا نكون بصدد عرف إداري وهذا نتيجة غياب صفة التواتر والاستمرارية .ولذا يجب أن لا ينقطع اعتياد الإدارة في إتباع سلوك معين حتى لا يؤدي ذلك إلى عدم توافر المكوّن للركن المادي للعرف.
أما الشرط الثاني فهو أن يستقر في الأذهان الاعتقاد بضرورة احترام وتطبيق هذه القاعدة وتوقيع الجزاء بمعنى إلزامية القاعدة العرفية الإدارية، الأمر الذي يستوجب أن يكون العرف عاما وأن تطبقه الإدارة بصفة دائمة ومستمرة، وأن لا يكون العرف مخالفا لنص تشريعي نافذ، لأن القاعدة العرفية تأتي في المرتبة الثانية بعد القاعدة القانونية، ويستوي في ذلك أن تتخذ القاعدة القانونية صورة نص تشريعي أو تنظيمي أو قرر إداري أو أي نص قانوني مكتوب.
ومن هذا المنظور إذا توافر للعرف ما تقدم من شروط أصبح ملزما ووجب على الإدارة تطبيقه، وأصبح مصدرا من مصادر المشروعية الإدارية وذلك أمر يختص به القضاء الإداري وحده، فهو الذي يقرر ما إذا كانت القاعدة التي تتمسك بها الإدارة أو صاحب المصلحة في الدعوى المطروحة أمامه تعد من قبيل الأعراف الإدارية المستقرة أم لا.

ثانيا: المبادئ العامة للقانون

توجد إلى جوار القانون المكتوب في كافة مجتمعات العالم تقريبا مجموعة من القواعد القانونية غير المكتوبة يطلق عليها اسم المبادئ العامة للقانون المجسدة للأفكار الفلسفية والقيم الاجتماعية، القائمة في ضمير الجماعة والمهيمنة على الروح العامة للتشريع أو على النظام القانوني السائد في المجتمع ،يلجأ إليها القاضي عندما لا يجد حلا للنزاع المطروح أمامه في النصوص التشريعية الوضعية، ويستنبط منها ذلك الحل ويقرره في أحكامه فيكتسب بذلك قوة إلزامية، ومن ثم يصبح مصدرا من مصادر المشروعية.
ويقصد بالمبادئ القانونية العامة القواعد القانونية غير المكتوبة التي يقرها أو يستنبطها القضاء ضمنيا من واقع النظام القانوني في الدولة، ومن المفاهيم الأساسية السياسية والاقتصادية الاجتماعية والفكرية والروحية المعتمدة في المجتمع ،حيث يقررها القضاء في أحكامه، فتكسب قوة إلزامية وتصبح بذلك مصدرا من مصادر المشروعية، فهي مبادئ تمليها العدالة المثلى ولا تحتاج إلى نص يقررها وبذلك يتحتم على الإدارة احترام تلك المبادئ والعمل بمقتضى ما تقرره من أحكام وذلك فيما تتخذه من أفعال وتصرفات، وٕإلا كانت هذه الأفعال والتصرفات معيبة ووقعت باطلة لمخالفتها لمبدأ المشروعية ومن أمثلة تلك المبادئ : مبدأ مساواة المواطنين أمام القانون أو أمام التكاليف العامة ومبدأ عدم رجعية القرارات الإدارية ومبدأ الحرية الشخصية.
استقر الفقه والقضاء في كل من فرنسا ومصر والجزائر على أن للمبادئ العامة للقانون قوة قانونية ملزمة، وبالتالي يكون باطلا كل قرار أو إجراء تتخذه الإدارة العامة بالمخالفة لمبدأ من هذه المبادئ، كما أنها ليست كلها على درجة واحدة من القوة وٕإنما تختلف بحسب اختلاف المصدر الذي استقاها القضاء منه فإذا كانت هذه المبادئ تعتبر مماثلة في قوتها الإلزامية النصوص الدستورية، فإنه لا يجوز للسلطة التشريعية أن تخرج عن هذه المبادئ.
أما إذا كانت المبادئ العامة للقانون تستمد كيانها من مجموعة القواعد التشريعية المطبقة داخل الدولة، ففي هذه الحالة تأخذ المبادئ العامة للقانون قوة التشريع العادي ولا تعدل إلا بنص تشريعي.
ويكون لهذه المبادئ نفس القيمة القانونية التي تكون للمصدر التي تستقى منه، فإذا كان القاضي استخلص المبدأ القانوني العام من النصوص الدستورية كمبدأ المساواة فيكون لهذه المبادئ نفس القيمة التي تكون للدستور، ولا يجوز للسلطة التشريعية مخالفتها وهي بصدد سن القوانين، أما إذا كان القاضي استخلص المبدأ القانوني العام من مجموع النصوص التشريعية السائدة داخل المجتمع كمبدأ عدم رجعية القرارات الإدارية أو مبدأ حجية الأحكام، فيكون لهذه المبادئ نفس القيمة التي تكون للتشريع العادي.
وعليه فإن المبادئ العامة في المجال الإداري التي يرسخها القضاء تستمد قوتها الملزمة من مجموع المبادئ المحددة في النصوص الدستورية، التشريعية والتنظيمية خاصة وأن هذه الأخيرة حوت الكثير من القواعد التي تهم الإدارة بشكل عام.
وهكذا نخلص إلى أن مصادر المشروعية تشمل كافة القواعد القانونية في المجتمع أيا كان مصدرها أي سواء كانت مكتوبة أم غير مكتوبة.

المطلب الثاني: قيود المشروعية الإدارية

تلتزم الإدارة مبدئيا القيام بأعمالها في حدود القوانين النافذة، أي طبقا لمبدأ المشروعية الذي يضمن للأفراد حماية حقوقهم ضد تعسف الإدارة، وتعد رقابة القاضي الإداري من أبرز صور الرقابة على السلطات العامة في الدولة وأكثرها ضمانا لحقوق الأفراد وحرياتهم. غير أنه لا يعني وجوب تقييد الإدارة في ممارسة وظائفها بقيود صارمة تمنع عليها الابتكار وتعرقل تحقيق الأهداف المطلوبة منها بما يؤدي إلى الإضرار بالنفع العام. فلا بد من منح الإدارة قدرا من الحرية في ممارسة نشاطها في سبيل تحقيق النفع العام، باختيارها للوسائل الأكثر ملائمة والوقت المناسب لمباشرة هذا التصرف متأثرة بالظروف التي تحيط بها وسالكة بذلك السبيل السليم لتحقيق الصالح العام على أفضل وجه.
وعلى هذا الأساس فإن مبدأ المشروعية الإدارية الذي تقوم عليه أعمال الإدارة لا يعتبر مبدأً مطلقا، بل يجوز أن ترد عليه بعض الاستثناءات لتيسير السبيل أمام الإدارة في تحقيق النفع العام، إذ يتخذ السبيل الذي تنتهجه الإدارة في تحررها من مبدأ المشروعية الصور الآتية: مباشرة السلطة التقديرية، وقيام الظروف الاستثنائية مع ممارسة أعمال السيادة.
يمنح المشرع للإدارة حق ممارسة السلطة التقديرية عند الضرورة وجعلها تخضع لرقابة القاضي الإداري، لكن هذه الرقابة مقيّدة لكونها تنصب على مبدأ المشروعية دون الجانب التقديري للإدارة (الفرع الأول)،  أما في الظروف الاستثنائية فإن الإجراءات التي تتخذ في هذه الحالة تعتبر غير مشروعة وتكون رقابة القاضي الإداري على الإدارة في الظروف الاستثنائية ضيّقة النطاق (الفرع الثاني)، كما أن هناك أعمال صادرة من الإدارة تكون بمنأى من الرقابة القضائية بمعنى  محصّنة من الرقابة القضائية والتي تدعى بأعمال السيادة (الفرع الثالث).

الفرع الأول: حدود سلطة القاضي الإداري في الرقابة على السلطة التقديرية للإدارة

بالرغم من تمتع القاضي الإداري بصلاحيات واسعة في رقابة أعمال الإدارة، إلا أنه في مقابل ذلك هناك العديد من القيود تجعل الرقابة القضائية تمارس في إطار ضيق، بحيث أن مبدأ المشروعية لا يؤدي إلى إضفاء الطابع الآلي على أعمال الإدارة فدواعي العمل الإداري تتطلب منح الإدارة هامشا متفاوتا من حرية التصرف في إجراء أو عدم إجراء العمل الإداري، الأمر الذي يستلزم منا تبيان مفهوم السلطة التقديرية (أولا)، ثم تبيان مدى رقابة القاضي الإداري للسلطة التقديرية للإدارة (ثانيا).

أولا: مفهوم السلطة التقديرية للإدارة

يقصد بالسلطة التقديرية للإدارة تمتعها بقسط من حرية التصرف عند مباشرة نشاطها، بحيث يكون للإدارة تقدير اتخاذ التصرف أو الامتناع عن اتخاذه أو اتخاذه على نحو معين، أو اختيار الوقت الذي تراه مناسبا للتصرف، فمثلا تتمتع الإدارة بقدر من الحرية فيما يخص قرارات الترقية فموقعها يؤهلها من معرفة المعني بالترقية وقدراته ومؤهلاته ومدى التزامه وأدائه الوظيفي، ولها أن تقدر عما إذا كان يستحق هذه الترقية من عدمها، كما تتمتع الإدارة بسلطة تقديرية في توقيع الجزاءات التأديبية وتكييف الأخطاء الوظيفية.
وتتمتع الإدارة بقدر من الحرية بخصوص تقييم كفاءة وأداء الموظف المعني عما إذا كان يستحق التثبيت في منصب عمله من عدمه، كما تتمتع الإدارة بسلطة تقديرية فيما يخص توزيع المهام بين الموظفين، وتنظيم المصالح ومنح الإجازات وسلطة التنقيط ووضع العلامات الخاصة بالموظفين.
وتختلف السلطة التقديرية عن السلطة المقيدة بكون هذه الأخيرة لا تترك للإدارة أي قدر من الحرية في التصرف، حيث يحدد لها سلفا الهدف وكيفية الوصول إلى هذا الهدف ومن ثم لا يكون أمامها إلا إتباع وتنفيذ الأوامر أو التعليمات المحددة لذلك وٕإلا كان تصرفها باطلا.
وعلى ذلك لمعرفة ما إذا كانت الإدارة تتمتع بسلطة تقديرية إزاء تصرف ما من عدمه يجب الرجوع إلى النظام القانوني الخاص بهذا التصرف، فإذا كان قد تخلى عن تنظيم جانب أو أكثر من جوانبه، كنّا بصدد سلطة تقديرية للإدارة فيما يتعلق بهذه الجوانب، أما إذا تولى بذاته تنظيم كافة جوانب هذا التصرف فإننا نكون بصدد سلطة مقيدة للإدارة، بمعنى إذا كان مسلك الإدارة تجاه تصرف ما قد تحدد سلفا بواسطة التشريع كانت سلطتها مقيّدة، أما إذا لم تحدد قواعد القانون سلفا مسلك الإدارة كانت سلطتها تقديرية كالترقية بالاختيار إن لم يحدد المشرع شرطا أخر كالأقدمية أو المسابقة.
ومن هذا المنظور فإن السلطة التقديرية للإدارة مسألة ضرورية لابد من التسليم بها، إذ هي ترتبط بطبيعة الوظيفة الإدارية ويفرضها الصالح العام ويؤكدها عجز المشرع عن تنظيم جزئيات وتفصيلات الأعمال الإدارية.

ثانيا: مدى رقابة القاضي الإداري للسلطة التقديرية للإدارة

المبدأ العام أن رقابة القضاء الإداري تنصب على مبدأ المشروعية بالنسبة لما تصدره الإدارة من أعمال وتصرفات، حتى لا تتعسف في استعمال سلطاتها، ولا تمتد الرقابة للسلطة التقديرية للإدارة، فمثلا في مجال الحقوق والحريات الأساسية للأفراد، إذا كان القانون منح للإدارة حرية في منح ترخيص بالقيام بالمظاهرات ففي هذه الحالة تتمتع الإدارة بسلطة تقديرية واسعة لكونها الأقدر من أية هيئة أخرى بتقدير الظروف الملائمة لمنح الترخيص للقيام بالمظاهرات من عدمه في حالة تهديدها للنظام العام في المجتمع.                     
ومرد استبعاد القاضي الإداري من رقابة الملائمة مبدأ الفصل بين القاضي والإدارة المترتب عن مبدأ الفصل بين السلطات، فلا يستطيع القاضي أن يقدّر ملائمة التصرف للظرف والوقائع التي صدرت لمواجهتها لعدم إلمامه بالوظيفة الإدارية والظروف التي تحيط بالإدارة وهي بصدد ممارسة سلطتها التقديرية. 
إن للقاضي الإداري الجزائري صلاحيات خاصة يضطلع بها ولا يتعداها للقيام بصلاحيات أخرى من اختصاص الإدارة، ومن أجل ذلك يعاقب القانون القضاة الذي يتجاوزون حدود سلطاتهم وفقا للمادة 116 فقرة 2 من قانون العقوبات والتي جاء نصها كما يلي : "يعاقب بالسجن المؤقت مرتكبو جريمة الخيانة من خمس إلى عشر سنوات:
2- القضاة وضباط الشرطة القضائية الذين يتجاوزون حدود سلطاتهم بالتدخل في القضايا الخاصة بالسلطات الإدارية سواء بإصدار قرارات في هذه المسائل أو بمنع تنفيذ الأوامر الصادرة من الإدارة أو الذين يصرون بعد أن يكونوا قد أذنوا أو أمروا بدعوة رجال الإدارة بمناسبة قيامهم بمهام وظائفهم على تنفيذ أحكامهم أو أوامرهم بالرغم من تقرير إلغائها".
وعليه كقاعدة عامة مهمة القاضي الإداري تقتصر في دعوى الإلغاء على التحقق من مدى مشروعية القرار الإداري وليس له أن يصدر القرار الصحيح محل القرار المعيب المتخذ من الإدارة، أو يعدله ليزيل ما لحقه من عدم الملائمة.
غير أن هذه القاعدة ليست مطلقة بل ترد عليها استثناءات، حيث اتجه القضاء الإداري الجزائري إلى تمديد وبسط رقابته على مجال الملائمة أي فرض رقابته على تقدير الإدارة لخطورة الوقائع التي تدعيها، ومدى تناسب العقوبة التأديبية مع الخطأ المهني الذي ارتكبه الموظف، بحيث يجب أن لا تكون هناك مفارقة كبيرة بين درجة المخالفة الإدارية وبين نوع ومقدار الجزاء أي تكون العقوبة الموقعة على الموظف العام معقولة فلا تكون مشددة ولا يجوز من الإدارة العامة الإفراط في اللين.
ومن بين الأحكام القضائية الإدارية الصادرة في هذا المجال القرار الصادر عن مجلس الدولة الجزائري بتاريخ 29/1/2001 حيث أقر: "بأن رفض تسليم مفاتيح الشقة لا يعد خطأ مهنيا يستوجب عقوبة التوبيخ وأن هذه العقوبة تعسفية وغير شرعية، وعليه يتم تأييد القرار المستأنف، حيث أن قضاة الموضوع قدروا الوقائع تقديرا سليما، لذا يتعين تأييد القرار المستأنف ورفض الاستئناف لعدم تأسيسه".
كما توسعت رقابة القاضي الإداري في رقابة الملائمة لتشمل قرارات نزع الملكية للمنفعة العامة، حيث أصبح القاضي الإداري مؤهلا لفرض رقابة الملائمة عليها من خلال الموازنة بين المزايا والتكاليف في مجال نزع الملكية للمنفعة العامة، ضمانا لحقوق الأفراد من تجاوزات الإدارة، فيمكن للقاضي الإداري إلغاء القرارات الإدارية المتعلقة بنزع الملكية التي من شأنها إحداث خسائر جسيمة للمعنيين أكثر من نفعها وعلى هذا الأساس تطور الدور الموضوعي للقاضي الإداري في الرقابة على أعمال الإدارة لتشمل الملائمة، فبعدما كان دور القاضي الإداري يقتصر على المشروعية الإدارية فقط، أصبح يراقب حتى مدى الملائمة لكن في مجالات محددة أقرها القضاء.

الفرع الثاني: الظروف الاستثنائية وأثرها على رقابة القاضي الإداري

من المسلم به أن القوانين وضعت لكي تواجه وتطبق في الظروف العادية للجماعة وفي مثل تلك الظروف تلتزم الإدارة بتطبيق القوانين والتنظيمات القائمة، ولا تملك أن تخرج عليها في تصرفاتها، وٕإلا كانت مخالفة للقانون وباطلة غير أنه قد تطرأ ظروفا استثنائية طارئة كالزلازل والفيضانات، لا تستطيع الإدارة مواجهتها وفقا لأحكام التشريع العادي وٕإتباع أساليبه وٕإجراءات طويلة فمن شأن ذلك تعطيل المصالح العامة وتوقف سير المرافق العامة.
ولذا فإنه يسمح للإدارة في مثل تلك الظروف بالخروج على قواعد القانون السارية، بحيث تصبح الأفعال غير المشروعة في الظروف العادية تصرفات مشروعة في الظروف الاستثنائية، الأمر الذي يستوجب تبيان مفهوم الظروف الاستثنائية (أولا) مع إظهار حدود سلطات القاضي الإداري على أعمال الإدارة في الظروف الاستثنائية (ثانيا)

 أولا: مفهوم الظروف الاستثنائية

يقصد بالظروف الاستثنائية كل إخلال أو تشويش خطير للحياة الاجتماعية وينتج عن ذلك على الخصوص أنه يستحيل على السلطات العامة احترام كل متطلبات المشروعية، فإذا كان الهدف من المشروعية هو ضمان النظام العام في المجتمع المدني فإنه بإمكان الظروف المضطربة أن تبرر المساس بالمشروعية بغية إعادة النظام الاجتماعي كما كان في السابق والظروف الاستثنائية هي تلك أحداث الحرب والفتن والثورات والانقلابات وكل الحالات الخطيرة التي من شأنها المساس بالنظام العام وتهديده، كما قد تكون ظروفا دولية كالحروب أو داخلية كحدوث أزمات اقتصادية أو سياسية أو انتشار وباء إلى غيرها من حالات المساس الخطير بالنظام العام
لقد تم تطبيق هذه النظرية من قبل القاضي الإداري الفرنسي في قضية "كويتياس" حينما امتنعت الإدارة عن تنفيذ حكم قضائي بطرد عائلة تونسية كانت تقيم على أرض مملوكة للسيد كويتياس تحت ذريعة الحفاظ على الأمن العام والنظام العام، حيث قضى مجلس الدولة الفرنسي ب "أن لكل متقاض حصل على حكم لصالحه، الحق في مساعدة القوة العمومية له، للحصول على حقوقه فإن هي امتنعت بحجة الحفاظ على الصالح العام، فإنه يستحق التعويض تجسيدا لمبدأ المساواة أمام الأعباء العامة"، والمسلك نفسه أخذ به القضاء الإداري الجزائري حيث أقرت الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا سابقا ب:"...يحق للسلطة الإدارية رفض دخول كل مسافر ترى في دخوله إلى تراب الجزائر مساس بالأمن العام".
ولذا فإن الحفاظ على النظام العام يؤدي حتما حسب القضاء الإداري إلى توسيع امتيازات الإدارة المكلّفة بمهمة الضبط الإداري في اتخاذ الإجراءات اللازمة والضرورية من أجل مواجهتها.

ثانيا: حدود رقابة القاضي الإداري على أعمال الإدارة في الظروف الاستثنائية

إذا كانت نظرية الظروف الاستثنائية يترتب عليها تحرر الإدارة من قواعد المشروعية بالقدر اللازم لمواجهة هذا الظرف، حيث تتوازى المشروعية العادية لتحل محلها المشروعية الاستثنائية تبرر أعمال الإدارة، إلا أن ذلك ليس مطلق من كل قيد وٕإلا أصبحت النظرية مبررا لاعتداءات متكررة من جانب الإدارة ولذلك وضع القضاء شروطا وضوابط محددة تلتزم الإدارة بها عند ممارستها لسلطاتها الاستثنائية وٕإلا غدت أعمالها مشوبة بالبطلان وتتمثل هذه الشروط فيما يلي:
- وجود ظرف استثنائي يهدد قيام الإدارة بوظائفها سواء تمثل ذلك في إدارة المرافق العامة أو المحافظة على النظام العام في الدولة مع استحالة دفع الخطر بالطرق القانونية العادية، بمعنى أن تكون الإدارة عاجزة عن مواجهة الخطر الذي يهدد أمن الدولة وسلامتها، بحيث يعد الإجراء أو التدبير الذي اتخذه الإدارة إعمالا لنظرية الظروف الاستثنائية الإجراء الوحيد والملائم لدفع الخطر.
ويجب أن تهدف الإدارة من تصرفاتها المتخذة في حالة الظروف الاستثنائية إلى تحقيق الصالح العام، أما إذا خرجت عن هذا الهدف وبحثت عن رغبات ومصالح شخصية فإنها تكون قد تعسفت وانحرفت بالسلطة وبالتالي تعرض تصرفاتها للإلغاء والتعويض.
كما حرص القضاء الإداري على وجوب أن تتناسب السلطات الواسعة المستخدمة من جانب الإدارة مع الظرف الاستثنائي المراد مواجهة أخطاره، بمعنى أن لا تضحي الإدارة بمصلحة الأفراد في سبيل المصلحة العامة إلا بمقدار ما تقتضيه الضرورة وأن تختار من الوسائل أقلها ضرار بالأفراد، فإذا تجاوزت وتعسفت في استعمال سلطتها بما يفوق القدر اللازم والضروري لمواجهة الظرف الاستثنائي، فإن قراراتها تعد غير مشروعة.
وعلى هذا الأساس تتقوى سلطات الإدارة في الظروف الاستثنائية ويمكن أن تتجاوز ما يقرره مبدأ المشروعية العادية، لكن الإدارة ليست طليقة في ذلك بل مقيّدة بالضوابط المحددة أنفا.

الفرع الثالث: انتفاء دور القاضي الإداري في الرقابة على أعمال الإدارة

تعد أعمال السيادة من أهم المفاهيم التي تتناقض إلى حد كبير مع مبدأ المشروعية الإدارية أو خضوع الإدارة للقانون، حيث يتم في إطار أعمال السيادة استبعاد رقابة القاضي الإداري على أعمال الإدارة، فيقف القضاء أمامها عاجزا معلنا فقط عدم اختصاصه بالنظر حتى ولو كانت تمس حقوق الأفراد وحرياتهم.
وهكذا يمكن القول أن أعمال السيادة تشكل على عكس كل من نظرية السلطة التقديرية ونظرية الظروف الاستثنائية، استثناءً حقيقا وخروجا صريحا على مبدأ المشروعية الإدارية، الأمر الذي جعل من أعمال السيادة تعد سلاحا قويا في يد السلطة التنفيذية، وسندرس هذا النوع من التصرفات للإدارة بشيء من التفصيل من خلال إبراز مفهوم أعمال السيادة (أولا)  وتبيان موقف القاضي الإداري من أعمال السيادة (ثانيا).

أولا: مفهوم أعمال السيادة

يقصد بأعمال السيادة طائفة من القرارات صادرة عن السلطة التنفيذية محصنة من الرقابة القضائية، بحيث لا يمكن أن تكون محلا للطعن بالإلغاء أو التعويض سواء كان ذلك في الظروف العادية أو في الظروف الاستثنائية، فهي تمثل حجر عثرة في رقابة القضاء على أعمال السلطة الإدارية بل ويلتزم القاضي التصريح برفض الدعوى وعدم التصدي لها.
لقد اختلف الفقهاء في تحديد معيار تمييز أعمال السيادة عن الأعمال الإدارية الأخرى، فتعددت المعايير التي فيل بها في هذا الخصوص، فهناك معيار الباعث السياسي وهو أول معيار أخذ به مجلس الدولة الفرنسي وبمقتضاه يعتبر العمل الذي قامت به السلطة التنفيذية من أعمال السيادة إذا كان الدافع إليه دافع سياسي وبالتالي لا يخضع لرقابة القضاء، أما إذا كان الباعث غير سياسي فإن العمل الصادر يعتبر إداري وبالتالي يخضع للرقابة القضائية.
انتقد معيار الباعث السياسي على أساس أن السلطة التنفيذية تستطيع التذرع بأن الباعث من وراء غالبية ما تصدره من أعمال سياسيا مما يؤدي إلى استبعاد هذه الأعمال من رقابة القضاء الأمر الذي أدى إلى ظهور معيار أخر ألا وهو معيار طبيعة العمل الصادر عن السلطة التنفيذية، حيث إذا كان العمل حكوميا منصوص عليه في الدستور فهو من أعمال السيادة ويخرج من نطاق الرقابة القضائية، في حين أن العمل الإداري لا يدخل ضمن تلك الأعمال وعليه تخضع للرقابة القضائية غير أن الفقه اعتبره معيارا غامضا وغير واضح حيث يصعب التفرقة بين ما يدخل في اختصاص الحكومة وما يندرج في اختصاص الإدارة.
إزاء فشل كافة المحاولات الفقهية السابقة في الوصول إلى معيار جامع ومانع لتمييز أعمال السيادة عن الأعمال الإدارية، اتجه بعض الفقهاء في فرنسا إلى استقراء الأحكام القضائية الصادرة من مجلس الدولة ومحكمة التنازع، حيث يصبح تحديد أعمال الحكومة ونطاقها أمرا متروكا للقضاء وحصرها وتجميعها في قائمة تضمنها جميعا، وتتضمن هذه القائمة أساسا مجموعة الأعمال المتعلقة بعلاقة السلطة التشريعية بالسلطة التنفيذية كقرار حل البرلمان، الدعوة للانتخاب، الأعمال المتعلقة بشؤون الدولة الخارجية كإبرام المعاهدات، إنشاء وتنظيم المرافق الدبلوماسية، قطع العلاقات الدبلوماسية وتطبيعها بالإضافة إلى الأعمال المتعلقة بالدفاع الوطني كقرار إعلان الحرب.

ثانيا:إرساء القاضي الإداري لنظرية أعمال السيادة

بالرغم من وجود نص دستوري يؤكد على رقابة القضاء على كل أعمال السلطة التنفيذية إلا أن هناك طائفة من الأعمال بالرغم أنها تمس بالمركز القانوني إلا أنها لا تخضع للرقابة بفعل الطابع السياسي
وتعود جذور نظرية أعمال السيادة إلى الاجتهاد القضائي الإداري الفرنسي، فهي نظرية قضائية محضة من ابتكار مجلس الدولة الفرنسي كوسيلة لتفادي الاصطدام بالسلطة التنفيذية ليحافظ على وجوده، وذلك عن طريق إبعاد بعض أعمالها عن مجال رقابته، وتم إرساء النظرية في قضية "لافييت" في سنة 1822 وقضية "الدوق دومال" في سنة 1867، وبعد ذلك أصبحت النظرية تتقلص وتنحصر في طائفة معينة من الأعمال وأخذت القائمة القضائية تنحصر.
وعليه في فرنسا إلى جانب تقليص من نطاق أعمال السيادة فإن القضاء الفرنسي أقر بالتعويض عن الأضرار المترتبة عن تحصين أعمال السيادة من الرقابة القضائية.
ولقد اعترف القضاء الإداري الجزائري بأعمال السيادة واستبعدها من الرقابة القضائية في أحكام قضائية قليلة ولعل أبرزها  قضية (ي.ج . ب) بتاريخ 17/ 01/ 1984 بمناسبة الطعن الموجه ضد قرار وزير المالية المؤرخ في 8/ 04/ 1982المتضمن سحب الأوراق المالية من فئة 500 دج من التداول، حيث قضت الغرفة الإدارية ب: "حيث أن الرقابة التي يباشرها القاضي الإداري على أعمال الإدارة لا يمكن أن تكون عامة ومطلقة، حيث أن إصدار التداول وسحب العملة تعد إحدى الصلاحيات المتعلقة بممارسة السيادة، حيث أن القرار المستوفي من باعث سياسي غير قابل للطعن فيه بأي طريقة من طرق الطعن وأن القرار الحكومي المؤرخ في 04/08/1982 والقاضي بسحب الأوراق المالية من فئة 500 دج من التداول وكذلك قرار 01/06/ 1982م الصادر عن وزير المالية المتضمن تحديد قواعد ترخيص بالتبديل خارج الأجل هما قراران سياسيان يكتسبان طابع عمل الحكومة ومن ثم فإنه ليس من اختصاص المجلس الأعلى فحص مدى مشروعيتها ولا مباشرة الرقابة على مدة التطبيق"
وما يعاب على القضاء الإداري الجزائري أنه لم يحصر أعمال السيادة في قائمة وٕإنما تتطور وتتشكل وفق الظروف المحيطة بالدولة، إضافة إلى عدم إقرار تعويض عن الأضرار التي يعرض لها المخاطبين بالقرارات السياسية، وهو ما يتعارض مع الوظيفة الأساسية للقضاء والمتمثلة في حماية المشروعية في الدولة ضد تعسف السلطة العامة كونه الملجأ الوحيد للأفراد لحماية حقوقهم.

المرجع:

  1. د. كمون حسين، محاضرات في مقياس "المنازعات الإدارية"، جامعة أكلي محند أولحاج –البويرة، السنة الجامعية: 2018-2019، ص4 إلى ص25.
google-playkhamsatmostaqltradent