نشأة علم الإجرام وتطوره

 نشأة علم الإجرام وتطوره

نشأة علم الإجرام وتطوره

بدأت الإرهاصات الأولى لدراسة الجريمة والمجرم في عهد فلاسفة اليونان، حيث يعتبر هؤلاء الفلاسفة أول من حاول تفسير السلوك الإجرامي، وكانت الجريمة وفقَ المنطق الإغريقي قدرًاً ألاهيا، واعتبر المجرم إنسانًا إصابته لعنة الآلهة.

وقد ربط سقراط الخطيئة والشر بالجهل؛ وارتأى في المعرفة حماية من دوافع اللذة والشهوات، وبذلك فهي تحقيق للسعادة.

أما أفلاطون، فقد ذهب إلى أن السماء ليست مسؤولة عن الأخطاء التي يأتيها البشر، باعتبارها مخيرين بين الرذيلة و الفضيلة؛ والمجرم –في اعتقاده- لا يقوم بنشاطه إلا لنقص في تكوينه أو في قواه العقلية، أو لتأثير دوافع خبيثة تسيطر عليه و تحيد به عن اختيار الصواب (الفضيلة). لذلك، فالإنسان المجرم حسب أفلاطون مريض يحتاج إلى علاج يتمثل في العقاب.

وقد بقي هذا الفكر قائما و مسيطرًا حتى نهاية العصور الوسطى، حيث تغير مع بزوغ معرفة جديدة.

وابتداءً من القرن السادس عشر، وإلى القرن التاسع عشر، سادت دراسات مختلفة حاولت تفسير السلوك الإجرامي، ومن ابرز شراحها دي لابورطا (De la porta / 1535-1615) الفيزيائي والفيلسوف؛ الذي وضع سنة 1586 مؤلفا في علم الإجرام، ربط فيه الجريمة بطباع فريدة تكشف عنها عيوب خلقية ظاهرة في الوجه. وفيرجيليو (virgilio) وبيكاريا (cesare Beccaria/ 1736-1794) في ايطاليا، وكذلك (Fraz-Joseph Gall/1758-1828) الذي حاول توضيح تأثير مراكز معينة في المخ على السلوك؛ من خلال تقسيمه إياه إلى مناطق أو مراكز محددة centres cérébraux)) ، فهو الذي أسس لما يعرف اليوم بالفرينولوجيا Phrénologie ou Craniologie ، وتوماس مور (Thomas) وداروين (Darwin) في بريطانيا، وموريل(Morel) في فرنسا.

إلا أن الدراسات الجدية لعلم الإجرام، لم تبدأ إلا في أوائل القرن التاسع عشر حيث اصدر العالم الفرنسي ( Guerry / 1802-1866) كتابًا تناول فيه أسباب الجريمة الفردية المتعلقة بشخص المجرم (كسنه و جنسه...) ، ثم أضاف الأسباب الاجتماعية المحيطة بالمجرم (كمهنته ومستوى تعليمه وعوامل المناخ...) معتمدا في كل ذلك على الإحصاءات الجنائية.

وفي المرحلة نفسها  اصدرا لعالم البلجيكي Adolph Quetelet/1796-1874 كتابه في علم الإجرام اعتمد فيه الأسلوب الإحصائي، وأكد بدوره أن الظاهرة الإجرامية محكومة بعوامل مختلفة (سن المجرم، جنسه ومستوى وتأثير العوامل المناخية...).

ويؤخذ على أبحاث الفرنسي Guerry والبلجيكي Quetelet الإسراف في الاعتداد بالعوامل الاجتماعية على حساب العوامل الفردية.

و رغم الانتقادات التي وجهت للدراسة التي قام بها كل من كَيري و كتليه. فلا ينكر فضلهما في إلقاء الضوء على العوامل الاجتماعية للسلوك الإجرامي؛ بعد أن هيمنت العوامل التكوينية لدى المجرم (جسمه، نفسيته ...). في الدراسات السابقة, فإليهما يرجع الفضل في وضع اللبنات الأولى لعلم الاجتماع الجنائي.

وفي سنة 1876، أخذت الدراسات المرتبطة بالسلوك الإجرامي منحًى تطوريًّا، حيث قام الطبيب الايطالي لمبروزو( Lambroso) بدراسة بيولوجية لسلوك المجرم في كتابه  »الإنسان المجرم/ «L’homme criminel .

ثم جاء كتاب« السوسيولوجيا الجنائية La sociologie criminelle» 1881 سنة للأستاذ انريكو فيري (Enrico Ferri ) تلميذ الطبيب لمبروزو، وأستاذ القانون الجنائي وعلم الإجرام. وبعده بأربع سنوات ظهر كتاب «علم الإجرام «La criminologie/ لأستاذ القانون الجنائي والقاضي رفاييل كاروفالو (R.Garofalo). ويعتبر هؤلاء الثلاثة بحق أقطاب علم الإجرام؛ فبفضل أعمالهم عرف هذا العلم طريقه نحو التطور.

وقد كان لمبروزو أستاذا للطب الشرعي بجامعة Turin، وعمل في خدمة الجيش الايطالي فترة من الزمن؛ درس فيها الخصائص العضوية للمرضى ثم المجرمين فلاحظ فيها وجود شذوذ في التكوين الجسماني لعدد من مرتكبي جرائم العنف. كما قام بفحص جماجم عدد كبير من المجرمين، عاين فيها شذوذا في الأسنان وحجم الجمجمة وشكل الجبهة... وقد انتهى لمبروزو، من خلال مقارنة جماجم المجرمين بجماجم بعض الحيوانات المتوحشة وجمجمة الإنسان البدائي، إلى أن المجرم الحقيقي هو «المجرم بالفطرة Le criminel-né /The Born criminel»؛ وهو ذلك الإنسان الذي يولد مجرمًا بطبيعته، نتيجة ما ورثه عن أصوله الأولى من خصائص بيولوجية دفعته بالتفاعل مع شخصيته إلى ارتكاب الجريمة.

وفي بحوث لاحقة، أضاف لمبروزو إلى العيوب الخلقية الظاهرة وظائف الأعضاء الداخلية، والخصائص النفسية للمجرمين، فخلص إلى قطعية الصلة بين الخلل العضوي والعيب النفساني والسلوك الإجرامي، وهو ما سجله في الطبعة الثانية من كتابه الأول. التي ظهرت سنة 1879، والتي وصف فيها المجرم «بالمجنون النفساني».

وقد كان للمبروزو كبير الفضل في إنشاء علم «الانتروبولوجيا» وازدهاره؛ حيث قسم المجرمين إلى طوائف بحسب اختلافهم، محاولا دراسة كل مجموعة، وبيان الصلة بينها وبين السلوك الإجرامي. وبذلك يعد لمبرورزو المنشئ الأول لعلم الطبائع الإجرامية، كما كان له الفضل في الدعوة إلى اتخاذ التدابير الوقائية لحماية المجتمع من جريمة مرجح احتمال ارتكابها.

غير أن دراسة لمبروزو قد جانبت الصواب حين اختزلت أسباب الجريمة في شخصية المجرم، مهملة كل تأثيرها للعوامل الاجتماعية، التي لا يمكن بأي حال إغفال تأثيرها وقوتها الدافعة إلى السلوك الإجرامي.

أما انريكو فيري، فرغم اعتماده الخط العلمي الذي وضعه أستاذه لمبروزو، إلا انّه اختلف معه في تحديد أسباب الجريمة، مرتئيًّا أنها ترتكب بسبب ثلاثة عوامل˸ أولها شخصي عضوي Organico، وثانيها طبيعي جغرافي Cosmico, وآخرها اجتماعي Socialo.

وهو ما حاول إبرازه في كتابه «علم الاجتماع»، الذي وضعه سنة 1881 و أظهره في صورته النهائية سنة 1929؛ حيث أكد فيه أن الجريمة خلاصة تفاعل ثلاثة أنواع من العوامل˸

1) العوامل الطبيعية و الجغرافية (الجنس، المناخ، و الموقع الجغرافي...).

2) العوامل الانتروبولوجية؛ وتضم (السن والنوع والخصائص العضوية والفيزيولوجية).

3) العوامل الاجتماعية ويدخل فيها (كثافة السكان والانتماء الديني والسياسي والظروف الاقتصادية...).

وقد أدى إدخال العامل الاجتماعي إلى جانب العوامل العضوية والطبيعية، إلى حدوث ثورة في الدراسات الإجرامية كما سيأتي بيانه لاحقا.

أما كاروفالو، فقد أضاف هو الأخر إلى التكوين الجسمي و النفسي المعيب لدى المجرم الظروف الاجتماعية، و قسم الجرائم إلى طبيعية تمس بالشعور العام للمجتمع و أخرى اعتبارية، هي من صنع المشرع الذي يفرضها في ظروف زمنية ومكانية معينة.

وإذا كان لمبروزو وفيري وكاروفالو أقطاب علم الإجرام، فٳن تفسير الظاهرة الإجرامية عرف نقلة نوعية بعدهم؛ حيث تلاقحت الأفكار و تمازجت في ما بعد و تعددت الإصدارات المتعلقة بهذا العلم، ومن ذلك الكتاب الذي أصدره دي توليو "Di Tullio " سنة 1929 عن «التكوين الجرمي في سببية الجريمة و علاجها». وفي السياق عينه صدر سنة 1963 كتاب علم الإجرام للأستاذ الفرنسي بيناتيل Pinatel، وهو لا يختلف في طرحه عن نظرية الاستعداد الإجرامي وان ركز في دراساته على العناصر المكونة لما أسماء النواة المركزية للشخصية الإجرامية Noyau central de la personnalité criminelle.

أما الدراسات الحديثة، فقد حاولت توحيد الجهود السابقة والتنسيق بينها؛ من خلال مقارنة النتائج التي وصل إليها علماء الإجرام في القرن الماضي، كما تم إنشاء هيئات علمية مختلطة؛ حيث انشئت الجمعية الدولية لعلم الإجرام سنة 1934، وعقدت العديد من المؤتمرات في السياق نفسه، أولها مؤتمر روما سنة 1938، ثم تلاه مؤتمر باريس سنة 1950، وفي سنة 1955 انعقد المؤتمر الدولي الثالث لعلم الإجرام في لندن، وتلاه بعد ذلك المؤتمر الرابع في لاهاي سنة 1960...

المرجع:

  1. د. سميرة أقرورو، الوجيز في أسس علم الإجرام وأهم مدارسه، الناشر صوماديل، طبعة 2015 ، المغرب، ص19 إلى ص23.
google-playkhamsatmostaqltradent