تنازع القوانين (التعريف، النشأة، المصادر)

 تنازع القوانين (التعريف، النشأة، المصادر)

تنازع القوانين (التعريف، النشأة، المصادر)

المبحث الأول: المقصود بتنازع القوانين

يعرّف بأنّه تزاحم قانونين أو أكثر بشأن حكم علاقة قانونية تشمل على عنصر أجنبي.

بالتالي يبدو واضحا من خلال التعريف أنّه يشترط لإعمال قاعدة التنازع ما يلي:

- وجود عنصر أجنبي، مما يجعلنا أمام قانونين أو أكثر يتنازعان حل النزاع.

- عدم الأخذ بمبدأ إقليمية القوانين بشكل مطلق.

- عدم الأخذ بمبدأ شخصية القوانين بشكل مطلق.

- اختلاف القواعد التي تحكم العلاقة محل النزاع من قانون إلى آخر.

- أن يكون القانون الأجنبي صادرا عن دولة تعترف بها دولة القاضي.

يظهر تنازع القوانين في القانون الدولي الخاص بين قوانين دول مختلفة، فهو لا يهتم بالتنازع الداخلي، إنّما نطاقه هو التنازع الدولي. ثمّ لا يهم إن كانت الدول معترف بها أم لا، بل المهم وجود سلطة نظامية وتشريع وعلاقة ذات عنصر أجنبي.

كما ينحصر التنازع في القانون الخاص بمختلف فروعه (مدني، تجاري...) دون القانون العام، لأنه ينظم العلاقات الخاصة بين الأفراد والتي لا تكون الدولة طرفا فيها بصفتها سلطة عامة.

فالقانون العام مستبعد من التنازع، لأن دور القاضي في مواضع القانون العام ينحصر في البحث عما إذا كان قانون دولته يطبق من حيث المكان، ولا يؤدي ذلك أبدا إلى تطبيق قانون أجنبي على النزاع، عكس المراكز القانونية التي يحكمها القانون الخاص، فلا يكفي أن يقرر القاضي مثلا أن النزاع المتعلق بحالة الشخص الأجنبي أو أهليته يخرج عن أحكام القانون الوطني، إنما عليه أن يحدد القانون المختص، أجنبيا كان أو وطنيا بمقتضى قاعدة الإسناد الموجودة في قانونه الوطني.

المبحث الثاني: مصادر قواعد تنازع القوانين

ككل القواعد القانونية كانت قواعد التنازع نتاج الاجتهادات القضائية والفقهية، والتي ترجمها المشرعين في شكل قواعد قانونية يتظمنها القانون المدني، حيث نجد قواعد التنازع في أغلب التشريعات، منها التشريع الجزائري، في ضمن التقنين المدني، إلا أن التشريع ليس المصدر الوحيد لقواعد التنازع بل لها مصادر عدة رسمية واحتياطية نوردها فيما يلي.

المطلب الأول: المصادر الرسمية

المصادر الرسمية للقانون هي تلك المصادر التي يرجع إليها القاضي للبحث عن القاعدة القانونية، وهي الاتفاقيات الدولية، التشريع، ومبادئ القانون الدولي الخاص.

الفرع الأول: الاتفاقيات الدولية الدولية

وهي المعاهدات الثنائية أو المتعددة الأطراف، والتي تضع قواعد تخص الدول المنظمة لها فقط لا غير، فهي ليست معاهدات شارعه، إنّما معاهدات تعتمد على مبدأ المعاملة بالمثل. وتنظم هذه المعاهدات نوعين من المواضيع:

- معاهدات لتوحيد قواعد الإسناد.

- معاهدات لتوحيد الحلول الموضوعية المتعلقة النزاعات التي لها علاقة بالقانون الدولي الخاص.

الفرع الثاني: التشريع

وهو المصدر الأساس والأكثر أهمية، إذ نجد قواعد التنازع في التشريعات الوطنية، سيما القانون المدني.

الفرع الثالث: مبادئ القانون الدولي الخاص

هي المبادئ التي تتصف بالشيوع والثبات والاستقرار والاشتراك بين مختلف التشريعات في القانون المقارن في مسائل تنازع القوانين، فهي بالتالي مصدر خاص بتنازع القوانين دون غيره من مواضيع القانون الدولي الخاص. والذي نصت عليه م23 مكرر2 ق.م.ج التي بوجوب رجوع القاضي إليها في حال غياب نص في القانون يحل مسألة التنازع.

وقد راعى المشرع في إيراد هذا المصدر أن يكون للقضاء دور فعال يرقى إلى درجة إنشاء القواعد القانونية، بعدما كان يقتصر دوره على الكشف عنها فقط. ومرد ذلك السرعة الهائلة التي يتطور بها موضوع تنازع القوانين، حيث يصعب معه استيعاب كافة فروض التنازع بنصوص تشريعية، فكان إفساح المجال للاجتهاد القضائي، يساعده في ذلك الفقه الذي يلعب دوار هاما في الكشف عن هذه المبادئ.

المطلب الثاني: المصادر الاحتياطية

والتي تسمى كذلك المصادر التفسيرية، والتي يتم اللجوء إليها عند انعدام القاعدة القانونية أو غموضها، تؤدي دوار هاما قد يصل إلى خلق القاعدة القانونية، وهي الاجتهاد القضائي والفقه القانوني.

الفرع الأول: الإجتهاد القضائي

رغم ما يشمله هذا المصدر من أهمية لدى بعض الدول، ورغم مساهمته الفعالة في تشكيل قواعد القانون الدولي الخاص، إلاّ أنّ دوره تراجع أمام التشريع.

الفرع الثاني: الفقـه

وهو يعدّ مصدرا استئناسي لا يلجأ إليه القضاء إلا عند وجود فراغ أو غموض في القانون. ويتضمن آراء الفقهاء واجتهاداتهم.

المبحث الثالث: نشأة تنازع القوانين

عرف تنازع القوانين في المجتمعات القديمة، حيث كانت لغة العقد الذي يتم بين اليوناني والمصري هي التي تحدد القانون الواجب التطبيق عليه، فإن كانت اللغة يونانية طبق القانون اليوناني، واذا كانت اللغة مصرية طبق القانون المصري. أمّا المجتمع الروماني فلم يعرف تنازع القوانين إلاّ في المرحلة التي استقلت فيها الأقاليم البربرية عن بعضها البعض، فكان يطبق على الرومان القانون الروماني، وعلى الأجانب قانونهم الخاص بهم.

واختفى تنازع القوانين في عهد النظام الإقطاعي، إذ كان سيد الإقطاعية يفرض نظامه على مقاطعته دون منازع، إلاّ في شمال ايطاليا أين لم يعرف الإقطاع، حيث ظهرت جمهوريات صغيرة وكانت مركزاً للتجارة، فدخل التجار من مختلف المقاطعات في علاقات تجارية، وتشكلت طبقة برجوازية رأسمالية تريد الإطاحة بالنظام الإقطاعي الذي يعيق الحركة التجارية، بالتالي بدأت تستقل المدن الايطالية وأصبح لكل مدينة قانونها، الأمر الذي نشأ عنه من جديد تنازع للقوانين، مما دفع الفقهاء إلى محاولة إيجاد الحلول الملائمة لمسائل التنازع فظهرت عدّة مدارس، نلخص اتجاهاتها فيما يلي.

المطلب الأول: المدارس الفقهية القديمة

هي المدارس الأولى التي حملت المفاهيم التقليدية لتنازع القوانين، والتي حاولت تبرير الأحكام القضائية التي طبق فيها القضاة قوانين أجنبية في حالات، وقوانينهم القضائية في حالات أخرى على الرغم من وجود عناصر أجنبية في الخصومة. ونورد أهمها فيما يلي.

الفرع الأول: مدرسة الأحوال الإيطالية القديمة

ظهرت في القرنين الثاني عشر والثالث عشر في ايطاليا، وعلى أرسها الفقيه  Bartole، وهي قائمة على أساس تحليل القوانين المتزاحمة لحكم العلاقة، من حيث كونها قوانين إقليمية تطبق على من يقطنون الإقليم، أم شخصية تتبع الشخص أينما ذهب، بالتالي اعتمدت على مبدئي الإقليمية والشخصية معًا. وهذه النظرية قائمة على دراسة كل حالة على حدة، دون محاولة إيجاد حلول عامة تطبق في كل زمان ومكان.

 وقد جاءت هذه النظرية بفكرة الفئات المسندة، حيث قسمت القواعد إلى موضوعية تخضع لقانون المحل،   وإجرائية تخضع لقانون القاضي. كما ميّز فقهاؤها بين الأحوال العينية التي يطبق عليها قانون مكان إبرام العقد، والأحوال المالية الخاضعة لقانون المحل، والأحوال الشخصية الخاضعة لقانون الجنسية، كما أخضعت هذه النظرية الجرائم جنائية كانت أو مدنية لقانون مكان وقوعها.

وجاءت هذه النظرية أيضًا بفكرة النظام العام كعامل يحول دون تطبيق القانون الأجنبي، حيث ميّز أنصارها بين أحوال مستحسنة يمكن تطبيقها، وأخرى مستهجنة يتم استبعادها.

غير أنّه عيب على هذه النظرية عدم وضوح مبدئها العام، وعدم وضع قواعد مسبقة لحل مشكلة التنازع، إنّما اكتفت بوضع حلول خاصة لحالات معيّنة.

الفرع الثاني: مدرسة الأحوال الفرنسية

تزعمها الفقيهان D’Argentré وDumoulin  أمّا الأوّل فقد اعتمد مبدأ الإقليمية كأصل عام لحل مسائل التنازع ومبدأ الشخصية كاستثناء. بحيث قسّم الأحوال إلى عينية وشخصية، أخضع الأولى إلى مكان وجود العقار والثانية لمكان الموطن، وأخضع المنقول أيضًا لمكان الموطن.

 أمّا Dumoulin فقد كان من أهم إسهاماته ابتداعه لفكرة التكييف، وقد لاقت هذه النظرية نجاحًا في أوروبا، حيث أنّها اعتمدت معيار عام تبنى عليه الحلول بدلاً من التفكير في كل نزاع على حدا، وهو تطبيق مبدأ الإقليمية كأصل  ومبدأ الشخصية كاستثناء وتقسيم الأحوال إلى عينية وشخصية.

غير أنّ هذه النظرية تعاني من نقص، إذ ظهرت أحوال مختلطة لها علاقة في آن واحد بالأحوال العينية  والأحوال الشخصية، عجزت عن حلها.

الفرع الثالث: المدرسة الهولندية

ظهرت في القرن السابع عشر بزعامة   Bourgogne،Bourgundus   وغيرهما، وهي تدعو إلى تطبيق القانون الوطني تجسيدا لسيادة الدولة، وأنّه لا يمكن للقاضي أن يطبق القانون الأجنبي إلا على أساس فكرة المجاملة الدولية التي يقدّرها هو أو المشرع الوطني. بالتالي تعد قواعد التنازع التي على أساسها يطبق القانون الأجنبي غير ملزمة. وقد قسمت هذه المدرسة الأحوال إلى عينية، شخصية ومختلطة، وكانت لا تميل كثيراً إلى مبدأ شخصية القوانين.

وقد أخذ على هذه النظرية اعتمادها على فكرة المجاملة الدولية والتي لا تملك ضوابط أو حدود لمداها، فيمكن التوسيع أو التضييق من مجالها، كما لا تعترف بإلزامية قواعد التنازع.

إن ما يمكن ملاحظته، أنّه عدا المدرسة الإيطالية التي اعتمدت كلا من مبدئي شخصية القوانين واقليمية القوانين، فإنّ المدارس الأخرى قد اعتمدت كأصل عام مبدأ إقليمية القوانين، الأمر الذي يحد من إعمال قواعد التنازع، مما أدى إلى ظهور المدارس الفقهية الحديثة.

المطلب الثاني: النظريات الفقهية الحديثة

ظهرت في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وهي نظريات بدأت بوضع مبدأ عام مسبق تخضع له العلاقات، ويتم اللجوء إليه لإيجاد الحلول، عكس النظريات القديمة ،كما اتجهت إلى الأخذ بمبادئ جديدة كمبدأ الشخصية ومبدأ العالمية.

الفرع الأول: المدرسة الألمانية (فقه Savigny )

انتقد Savigny فكرة المجاملة الدولية وذهب إلى القول بأنّ الدولة تطبق القانون الأجنبي في إقليمها بناءً على التزام دولي، فالدول الأوروبية، باعتبار وحدة الديانة (المسيحية) ووحدة القانون (القانون الروماني) الذين يجمعانها، ذات تشريعات متقاربة، مما يؤدّي إلى إمكانية إيجاد قواعد مشتركة ومقبولة بينها تساعد على تطبيق قوانين بعضها البعض، ويجعل من الحل منهجًا عالميا. وهذا ما عبّر عنه بـ "مبدأ الاشتراك القانوني"

وبعد وضع المبدأ العام لفكرة التنازع، اتّجه Savigny إلى البحث عن كيفية تعيين القانون الواجب التطبيق، ولجأ إلى فكرة التركيز المكاني للعلاقات القانونية. فيكون مقر الشخص موطنه، ومقر الأموال مكان تواجدها،  ومقر الالتزامات التعاقدية مكان تنفيذها ، ومقر الأفعال الضارة مكان وقوعها.

غير أنّ ما يؤخذ على هذه النظرية اعتمادها على التركيز المكاني للعلاقات القانونية الأمر الذي يصعب تحديده.

الفرع الثاني: المدرسة الإيطالية الحديثة (فقه Mancini )

انطلق Mancini في صياغة نظريته من مبدأ القومية، حيث من حق الأفراد الذين تجمعهم مقومات العرق والدين واللغة والتقاليد أن يطبقوا قوانين مستمدة من هذه المقومات، وهذا أينما حلوا  وحيثما وجدوا، وهذا هو مبدأ شخصية القوانين. غير أنّه استثناءً يمكن تطبيق مبدأ الإقليمية فيما يتعلق بالنظام العام، الشكل الخارجي للتصرفات، وكذا ترك حرية للمتعاقدين في اختيار القانون الواجب التطبيق على عقدهما. كما وسعت هذه النظرية من مجال الأحوال الشخصية ليشمل المواريث والنظم المالية المقترنة بعقد الزواج.

لكن يعاب على هذه النظرية اعتمادها الكبير على مبدأ الشخصية مما يجعلها مقتصرة على الدول المصدّرة للأفراد التي تكثر الهجرة منها، وعدم إمكانية تطبيقها عمليا. كما أنّ اتساع مجال الأحوال العينية جعل الاستثناءات تفوق الأصل فمن الأفضل أن تعدّ كلها قواعد عامة.

الفرع الثالث: المدرسة الفرنسية (فقه Pillet )

أرى الفقيه Pillet أنّ القانون إمّا أنّه وضع لحماية مصلحة الفرد، أو أنّه وضع لحماية مصلحة المجتمع. فإذا كنا بصدد قانون يهدف إلى حماية الفرد، فإننا نطبق القانون الشخصي لهذا الفرد (مبدأ الشخصية)، أمّا إذا كنا بصدد قانون يهدف إلى حماية المجتمع، فنطبق القانون الوطني على العلاقة مهما كان أطرافها وموضوعها (مبدأ الإقليمية)، ولأجل ذلك لا بدّ من تكييف العلاقة القانونية محل النزاع، فهل تعني حق الفرد أم حق المجتمع، ثمّ نختار القانون الأكثر ملائمة لحلها.

وحسب هذه المدرسة فإنّ الحقوق التي تنشأ صحيحة في ظل قانون ما تبقى سارية في دول أخرى، طالما كان هذا الحق معترّف به في هذه الدولة وكان لا يخالف النظام العام فيها.

الفرع الاربع: نظرية  Bartin

وكان متأثراً بالفقيه  Savigny، وقد رآى أنّ  تنازع القوانين هو تنازع بين السّيادات. وقد ربط نظام القانون الواجب التطبيق على نزاع متعلق بعلاقة ما بالقسم القانوني الذي تنتمي إليه هذه العلاقة، وهو ما جعله يضع نظريته المشهورة في التكييف، والذي يعرّف بأنّه وضع العلاقة القانونية في نظام معيّن، ومثال ذلك وضع الطلاق في فئة الأحوال الشخصية.

الفرع الخامس: نظرية Devareilles- Sammieres

رآى هذا الفقيه أنّ الميراث يخضع لقانون الموقع إذا تعلق بعقار، وبقانون الموطن إذا تعلق بمنقول. وقد اعتنق مبدأ الإقليمية في نظريته حيث يرى أنّ القانون شرع ليطبق على العلاقات التي تنشأ في النطاق الإقليمي للمشرع، وأنّه لابدّ من تطبيق القانون الفرنسي على ما يقع في فرنسا ولو رفع النزاع أمام قضاء غير فرنسي، ولا يعتبر ذلك في أي حال من الأحوال امتدادّا للقانون الفرنسي، وأنّ الحقوق التي تكتسب صحيحة في ظل قانون ما تبقى كذلك في مواجهة كل الدول.

واذا كان الأصل لديه هو إقليمية القوانين فقد وضع الاستثناءات التالي:

- يطبق على الحالة والأهلية قانون دولة الشخص.

- طبق على ميراث المنقول قانون الموطن الأخير للمتوفى.

- يطبق على العقد القانون الذي يختاره المتعاقدان.

- يطبق على الشكل الخارجي للتصرفات قانون محل إبرامها.

وتعتبر هذه النظريات منطلق الاتجاه الحديث في تنازع القوانين ولا يزال العمل بها حتى الآن.

المرجع:

  1. د. بشور فتيحة، محاضرات في القانون الدولي الخاص تنازع القوانين، محاضرات لطلبة السنة الثالثة ليسانس تخصص القانون الخاص، جامعة أكلي محند أولحاج – البويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم الحقوق، السنة الجامعية: 2016/ 2017، ص3 إلى ص11.

التحميـل PDF

google-playkhamsatmostaqltradent