عوامل السلوك الإجرامي

 عوامل السلوك الإجرامي

عوامل السلوك الإجرامي

تمهيد˸

تنقسم العوامل الإجرامية إلى عوامل داخلية أو فردية (ذاتية)، وأخرى خارجية (بيئية).

فإما العوامل الداخلية فتمثل مجموع الصفات والخصائص التي ترتبط بالتكوين الطبيعي للمجرم، وتحديدًا منها (الوراثة، النوع، الجنس...).

ويطلق على مجموع هذه الصفات العوامل الداخلية الأصلية؛ باعتبارها تتوافر في الشخص منذ ولادته، إلى جانبها توجد العوامل الداخلية المكتسبة أو العارضة، وهي التي يكتسبها الإنسان بعد ولادته؛ سواء بإرادته أو رغما عنه، ومنها الأمراض العضوية والعقلية التي تصيب الشخص أثناء حياته والإدمان على المخدرات وغيرها.

وأما العوامل الخارجية، فتشمل مجموع الظروف التي ترتبط بوسط المجرم وبيئته التي يعيش فيها، وهي حتما عوامل تؤثر في شخصيته وسلوكه الإجرامي. ولذلك يصطلح على تسميتها أيضا البيئة الإجرامية "le milieu criminogène"

وتنقسم هذه العوامل هي الأخرى إلى عوامل طبيعية وأخرى اجتماعية، وتعود الأولى إلى الظواهر الطبيعية (كالمناخ حالة الطقس، الفيضانات، الزلازل...). والثانية للصلات والعلاقات الإنسانية التي تربط مختلف الأشخاص. وعليه، سنحاول تقسيم الدراسة إلى فصلين˸ نتناول في الأول العوامل الداخلية وفي الثاني العوامل الخارجية.

الفصل الأول: العوامل الداخلية أو الفردية

تمهيد˸

سوف نبحث في هذا الفصل أهم العوامل الفردية وهي˸ الوراثة، السلالة أو الجنس، النوع، السن، التكوين العضوي، العقلي والنفسي، المرض والإدمان على التوالي.

المبحث الأول: الوراثة L’hérédité

يراد بها انتقال خصائص معينة من الأصول إلى الفروع في اللحظة التي يتكون فيها الجنين. هذه الحقيقة التي أثبتتها الملاحظة والتجربة منذ القدم، قبل أن يتمكن العلم الحديث من إثباتها بالدليل العلمي القاطع.

ولعل مرجع ذلك، كما يؤكد علماء الوراثة، خضوع الكائن الحي لقوتين متعارضتين تريد كل منهما أن تصبغه بصبغتها؛ هما قوة الوراثة ومشابهة الأصل، وقوة التغير والتطور؛ حيث تسمى القوة الأولى باستمرار، إلى المحافظة على الأصل حتى يصير الفرع امتدادا عبر الزمان للأصل، بينما تسعى القوة الأخرى إلى تغيير شكل الكائن الحي وخصائصه؛ بحيث تنقطع صلته عن أصله، وهو ما يفسر وجود التشابه بين الأصول والفروع في بعض الخصائص فقط.

والوراثة كما وصفها العالم "كريكور مندل Gregor-Mendel"، هي عملية بالغة التعقيد والدقة، تبدأ منذ لحظة الإخصاب؛ التي تتم باتحاد الخلية التناسلية الذكرية والخلية التناسلية الأنثوية واندماجها، وتكون البويضة الملقحة أو المخصبة zygote لتبدأ بعد ذلك عملية الانقسام حتى يتكون الجنين الحي في صورة خلية واحدة...

أما عن كيفية انتقال الصفات من الأصل إلى الفرع، فان علماء الوراثة ينطلقون من الخلية "Cellule"، وهي الوحدة البنيوية الوظيفية الأولية والأساس في بنيان الجسم باعتبارها اصغر كتلة لمادة حية في جسم الإنسان، وتنقسم الخلايا في الجسم إلى خلايا جسدية Somatic cells وخلايا جنسية Sexual  cells˸ الحيوانات المنوية والبويضات التي تصنع في الخصيتين والمبيضين. وتكمن وظيفة الخلايا الجنسية في˸

1) إدامة الحياة بإكثار النوع.

2) نقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء.

ومن مجموع الخلايا تتكون الأنسجة "Tissu"، التي هي مجموعة من الخلايا المتمايزة ذات البنية الوظيفية الواحدة، والمشكلة لوحدة آلية داخل عضو معين، ومن مجموع الأنسجة يتكون العضو، ومن مجموع الأعضاء يتكون الكائن الحي.

وحسب علماء الوراثة دائما، تتكون نواة الخلية من صبغيات أو كروموزومات chromosomes. وكل كروموزوم يحتوي على جزيئات أدق تسمى الجينات«المورثات».

وتضم كل خلية في الإنسان الطبيعي ستة وأربعين (46) كرموزوما مقسمة، إلى ثلاثة وعشرين (23) زوجًا، نصفها آت من الأب والنصف الآخر من الأم، وتحمل هذه الجزيئات الصغيرة الخصائص الوراثية من الشخص الذي انتقلت منه.

ولما كان من الضروري ألا يزيد عدد الكرموزومات في الخلية الواحدة عن ستة وأربعين كروموزومًا، فانه يتحتم أن تفقد كل خلية (ذكرية كانت أو أنثوية) أثناء اللقاح نصف عدد كرموزوماتها؛ بحيث يتم خلق خلية جديدة منها مكونة من النصف المتبقي لكل من خلية الذكر وخلية الأنثى. وتتكرر العملية نفسها في جميع خلايا الجسم التي تتكاثر كلما نما ذلك الجسم. ولذلك، فكل صفة وراثية-عضوية كانت أو نفسية- هي حتما نتيجة تفاعل زوج من العينات، احدهما مصدره الأب والآخر مصدره الأم.

فإذا كانت هذه العينات متماثلة؛ بحيث تتفق جينات الأبوين في صفة وراثية معينة ظهرت هذه الصفة أو الخاصية في الابن حتما. أما إذا كانت جينات الأبوين متباينة، أو مختلفة بالنسبة إلى خاصية معينة، فان صراعًا ينشٲ بينهما؛ إذ يريد كل جين إبراز الصفة الخاصة بأحد الأبوين وطمس الآخر حتما. وينتهي الصراع بتفوق احد الجينين واختفاء الآخر، الذي قد يعود إلى الظهور في فروع لاحقة.

ولذلك، فانه ليس من الغريب أن نجد لدى احد الأبناء صفة لم تكن ظاهرة لدى والده أوجده، إذ ربما ترجع إلى حد أعلى. ويلاحظ أن هذه الصفة قد لا يرجع ظهورها إلى الوراثة، وإنما إلى عامل التغير والتطور –المشار إليه سابقا- الذي قد يؤثر في جينات الجنين، فيكسبها صفات جديدة لا وجود لها عند الأسلاف.

وتصنف الوراثة حسب العلماء إلى عدة أصناف أبرزها˸ الوراثة المرضية، الوراثة التشويهية، الوراثة المتفاقمة، الوراثة المباشرة وغير المباشرة، الوراثة التشابهية والوراثة التماثلية.

المطلب الأول: مدى الصلة بين الوراثة والسلوك الإجرامي

كان لمبروزو على رأس قائمة العلماء الذين ربطوا الجريمة بالوراثة، حيث قرر أن المجرم رجل ورث الصفات الهمجية أو البدائية من أسلافه، وٲن هذه الصفات تدفعه بشكل محتوم نحو الجريمة.

وقد قابل الاتجاه الذي تزعمه لمبروزو اتجاه آخر، أنكر أي ٲثر للوراثة في إحداث السلوك الإجرامي. ويعد عالم الاجتماع الأمريكي سذرلاند "Sutherland" من ابرز القائلين بهذا الرأي؛ حيث رد التشابه الكبير بين خصائص السلف والخلف إلى تأثر كل منهما بظروف بيئية واحدة، دفعت بهم في النهاية إلى المسلك الإجرامي.

وضرب سذرلاند لرأيه مثل استعمال الشوكة والسكين في بعض الأسر لعدة أجيال، فلا تفسر الوراثة في نظره هذا الاستعمال، وإنما يرجع ذلك إلى تأثر الأبناء برؤية أبائهم يستعملونها. على أن الرأي السليم، هو الذي يحاول الجمع والتوفيق بين الطرحين او النظريتين؛  فالسلوك الإجرامي لا ينتقل بشكل حتمي بالوراثة، كما أن ظروف البيئة وحدها غير قادرة على تفسيره. فالذي قد يورث هو الاستعداد الإجرامي بما قد يحتويه من إمكانات وقدرات تنقل من الأصل إلى الفرع، والتي قد تدفع إلى ارتكاب الجرائم إذا ما صادفت ظروفًا أخرى تتفاعل معها وتزيد من حدثها، أما السلوك الإجرامي فلا يورث.

كما أن فكرة الجريمة فكرة نسبية في حد ذاتها، فما يعد جريمة في مكان وزمان معينين، قد لا يكون كذلك في أمكنة وأزمنة أخرى، ولذلك، فمن غير المقبول أو المنطقي القول إن السلوك الإجرامي يورث، لٲن السلوك الإجرامي المنحرف قد يعد جريمة أو لا يعد كذلك باختلاف التشريعات في الزمان والمكان.

المطلب الثاني: أساليب دراسة الاستعداد الإجرامي الموروث

هناك ثلاث وسائل للتحقق من مدى تأثير الوراثة في السلوك الإجرامي، وهي كما وصفها الباحثون˸

أولا˸ فحص أشجار الأسر Arbres généalogiques

يعد هذا الأسلوب من أكثر الأساليب استعمالا في إثبات وراثية الإجرام، ويستهدف كطريقة بيان السيرة الإجرامية لذرية احد المجرمين، ومقارنتها بسيرة إحدى اسر الأشخاص الأسوياء.

ولعل من أشهر الدراسات التي أجريت في هذا الصدد، دراسة أسرة المجرم "Max Jukes" التي قام بها كل من Arthur. H. Estabrook و Richard Louis Dugdale في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وقد أظهرت الدراسة أن Jukes، وهو من مواليد 1720م، كان مدمنا على الخمور، أما زَوجُهُ المدعوة "Margaret" فكانت سارقة، كما أثبتت الأبحاث أن هذه الأسرة أنجبت خلال سبعة أجيال تسعا وسبعمائة (709) من البنين والأحفاد، كان من بينهم ستة وسبعون (76) مجرمًا وعشرون ومائة (120) ممتهنة للدعارة واثنان وأربعون ومائة (142) متشرد، فضلا عن عدد من المتسولين والمتخلفين عقليا.

وفي دراسة أخرى، اثبت عالم الاجتماع Goddard، من خلال بحث أجراه على أسرة كانت تدعى "The Kallikak"، أن السلوك الإجرامي ينقل بالوراثة عندما يكون الأصل مصابا بضعف عقلي؛ حيث أبانت هذه الدراسة أن الذرية المنحدرة من زواج المدعو "Martin" بمتخلفة عقليا كانت تضم ثمانين وأربعمائة (480) شخص، أربعة وثلاثون ومائة (134) منهم يتميزون بالضعف العقلي وستة وثلاثون (36) طفلاً غير شرعي وثلاثا وثلاثين (33) باغية وأربعة وعشرين (24) مدمنا واثنين وثمانين (82) شخصًا ماتوا في مرحلة الطفولة، فضلا عن المصابين بالصرع...

وفي المقابل، كانت الذرية المنحدرة من الشخص نفسه (Martin) المتزوج بامرأة أخرى سوية، والبالغ عدد أفرادها ستة وتسعين وأربعمائة (496) شخص جلهم من الأسوياء، ماعدا اثنين منهم كانا من المدمنين، وشخص واحد كان مصابا بمرض عقلي....

وفي دراسة مقابلة أجريت على عدد من الأسر المعروفة بالاستقامة، كانت النتائج مختلفة تمامًا عما أثبتته الدراسات السابقة. ولعل أسرة الواعظ الأمريكي E.Janathan خير دليل على ذلك؛ حيث تبين من فحص ذرية هذا الواعظ انه لم يوجد بينهم مجرم واحد، بل إن ٲغلبهم وصل إلى مناصب عليا في الولايات المتحدة الأمريكية (حكام/ قضاة/مشاهير الكتاب/وعاظ....)

تقدير هذا الأسلوب˸

لا شك أن لهذه الوسيلة أهمية كبيرة في بيان دور الوراثة في السلوك الإنساني عامة، ومع ذلك فهي لم تسلم من النقد.

ومن ٲبرز الانتقادات التي وجهت إليها افتقاد نتائجها للدقة، لذلك لا يمكن قبولها دليلاً علميًّا ثابتًا، فكل ما يمكن أن تدل عليه هذه الدراسة هو توافر صفة أو علامة معينة تبدو في أجيال معاقبة، ولكنها لا تثبت لنا أن تلك العلامة أو الصفة ذات صبغة وراثية.

من ناحية أخرى، فالابن يرث كما سبق القول، صفات والديه معا، فيكون نصيب كل من الأصلين نصف ما ينتقل إلى الابن من خصائص، وعندما يتزوج الابن وينجب ولدًا تنتقل إلى هذا الأخير الخصائص الوراثية مناصفة (أي نصف يأتي من الأب ونصف آخر من الأم) ، وبذلك يصبح نصيب الجد، في ما ينتقل إلى حفيده من خصائص، الربع فقط. وهكذا، فكلما بعد الفرع عن الأصل المجرم، كلما قل تأثيره الوراثي، لتدخل أصول أخرى تنقل إليه خصائصها أيضا.

يؤخذ أيضا على هذه الوسيلة اعتمدها على حالات فردية منتقاةٍ. مما لا يجوز معه استخلاص قواعد عامة تعتمد نتائج يجري تعميمها على الظاهرة الإجرامية بشكل عام.

ويبقى أهم انتقاد وجه لهذه الوسيلة، استبعادها أو تجاهلها لكل تأثير للبيئة التي يعيش فيها أفراد الأسرة، التي غالبا ما تكون ظروفا متشابهة، إن لم تكن واحدة عبر الأجيال. والحال أن تأثير البيئة لا يقل أهمية عن تأثير عامل الوراثة، بل هو في نظر بعض علماء الإجرام أمثال سذرلاند، السبب الأساس الدافع إلى الإجرام.

ولعل ما يؤكد ذلك، الدراسة التي قام بها "Dahlstorm" سنة 1928؛ حيث أوضح كيف أن ستة من أطفال إحدى الأسر، ذات التاريخ الإجرامي المعروف، قد ابعدوا عنها قبل بلوغهم سن السابعة، فتمكنوا من بلوغ مراكز مرموقة في المجتمع، بينما لم يتمكن اثنان منهم من تخطي عالم الجريمة؛ لأنهم ابعدوا عن أسرتهم بعد سن السابعة، وهذا يدل على تضاؤل أهمية عامل الوراثة في مقارنته بعامل البيئة.

ثانيا˸ الدراسة الإحصائية لأسر المجرمين

لا تتقيد هذه الدراسة، بخلاف سابقتها، بحالة محددة سلفا. إنما يتسع مجالها ليشمل حالات غير منتقاة، وبذلك تتفادى تأثير البيئة الخاصة؛ باعتبار أن ذلك من المأخذ التي نسبت إلى الطريقة الأولى. كما أن البحث فيها لا يقتصر على ذرية احد المجرمين، وإنما يتسع ليشمل، بالإضافة إلى الفروع، جميع أقرباء المجرم (بما في ذلك أبناء العم والعمة، الخال والخالة...) وتعتمد في هذه الدراسة إحدى الوسيلتين˸

الأولى˸ تكمن في اختيار مجموعة من المجرمين للبحث عن مدى انتشار الإجرام والأمراض النفسية أو العصبية لدى أسلافهم أو أقاربهم.

والثانية˸ تتمثل في اختيار مجموعة من الشواذ للتأكد من مدى انتشار الإجرام بين أسرهم وأقاربهم.

وتهدف هذه الدراسة إلى تبيان مدى الصلة الوراثية بين الإجرام من جهة، وبين إدمان المخدرات من جهة أخرى.

ومن ٲبرز البحوث التي أجريت في هذا الصدد، تلك التي خصت سبعة وأربعين وأربعمائة (447) مجرم؛ حيث أظهرت أن ثمانية وثمانين (88) من أسلافهم سلكوا سبيل الجريمة، وٲن ما يناهز سبعين ومائة (170) شخص منهم كان نصفهم مصابا بأمراض عقلية، والنصف الآخر بأمراض نفسية، وٲن ثلاثة وثلاثين (33) منهم كانوا مصابين بالصرع.

كما كشف الزوجان « اليانور وشيلدون كَلوويك» "the Glueck"  في بحثهما خلال الخمسينات الذي شمل خمسمائة (500) جانح "Jeunes délinquants" وخمسمائة (500) طفل سوي "Jeunes non délinquants" من إحدى الأحياء المهمشة في بوسطن عن ارتفاع نسبة الإجرام عند أباء الأطفال المنحرفين، مقارنة  به عند أباء الأطفال غير المنحرفين.

لذلك، فأهمية الدراسة الإحصائية، تتجلى عند مقارنة الإحصاءات الخاصة بأسر المجرمين بمثيلتها في ٲسر غير المجرمين؛ لإلقائها الضوء على مدى تأثير الوراثة في السلوك الإجرامي. وقد أثبتت الدراسات انتشار الإدمان، وغيره من مظاهر الانحراف السلوكي، وكذلك الشذوذ العقلي والنفسي في اسر المجرمين، لذا، خلص الباحثون إلى وجود صلة وراثية بين الإجرام والشذوذ.

تقدير هذه الطريقة˸

مع التسليم بأهمية هذه الوسيلة في تحديد دور الوراثة، كعامل من عوامل الجريمة فإنها لم تسلم من النقد؛ بسبب تجاهلها لعامل البيئة، ودوره الأساس في توجيه الأبناء نحو الانحراف. وقد حاول بعض الشراح دحض هذا النقد من خلال حجتين˸ تتخلص الأولى في أن نسبة ارتكاب الأبناء لجرائم السرقة، التي قد يكون فيها الآباء قدوة سيئة لأبنائهم. لا تزيد على نسبة ارتكابهم للجرائم الجنسية التي يخفيها الآباء عن أبنائهم، وبذلك لا يتحقق بالنسبة إليها عامل البيئة، وإنما الذي يتوافر هو عامل الوراثة فقط.

أما الحجة الأخيرة لديهم، فتثبت أن الأطفال الذين أدين آباؤهم، وابعدوا عنهم في سن مبكرة. أصبحوا أكثر إجراما ممن اُبعدُوا عن أبائهم وهم اكبر سنا.

وإذا كان الهدف من الحجة الأخيرة هو تأكيد دور عامل الوراثة كعامل أساس ووحيد في الدفع إلى سبيل الإجرام، فإنها على العكس من ذلك، تثبت من جانب آخر أهمية الظروف البيئية المحيطة بالحدث في الدفع به إلى الإجرام، بعد الحكم على عائلة وتفكك أسرته بشكل يمنعها من القيام بدورها في التنشئة والتربية والتوجيه.

ثالثا˸ دراسة التوائم Etude des Jumeaux

بسبب الانتقادات التي وجهت إلى الوسيلتين السابقتين، لجا الباحثون في علم الإجرام إلى وسيلة ثالثة لإثبات الصلة بين الوراثة والإجرام، تكمن أساسا في دراسة التوائم. وتعد هذه الطريقة في نظرهم، أكثر الوسائل دقة في دراسة اثر الوراثة في نقل الاستعداد الإجرامي من الأصول إلى الفروع.

وتقوم دراسة التوائم على المقارنة بين التوأمين، الناتجين من بويضة واحدة Jumeaux monozygotes  ويسميان التوأمين المتحدين (المتماثلين) Jumeaux univitellins  وبين التوأمين الناتجين من اتحاد بويضتين بحيوانين منويين Jumeaux dizygote. ويسميان التوأمين الأخوين (غير المتماثلين) .Jumeaux bivitellins فإذا أوضحت المقارنة توافق التوأمين المتحدين على الإجرام، بدرجة اكبر من درجة توافق التوأمين الأخوين. فٳن ذلك يعد دليلا قويًّا على انتقال الإجرام بالوراثة من السلف إلى الخلف، أما إذا كان إجرامهما متباينا، فٳن ذلك يعني انقطاع الصلة بين الوراثة والإجرام.

وقد أجرى العالم الألماني لانج "Lange" سنة 1929 دراسة على ثلاثين زوجا من التوائم البالغين ثلاثة عشر (13) زوجا من التوائم المتطابقة، وسبعة عشر (17) زوجا من التوائم الأخوة غير متطابقة.

وكان هدفه من هذه الدراسة، أن يتبين ما إذا كان التوافق على الجريمة يتوافر لدى التوائم المتحدة، بنسبة اكبر من توافره لدى التوائم الإخوة، وقد خلص من دراسته هذه إلى وجود عشرة توائم من المتطابقين متوافقين في مسلكهم الإجرامي، وثلاثة فقط منهم غير متوافقين. أما التوائم غير المتطابقين، وعددهم سبعة عشر زوجا فمنهم زوجان فقط متوافقين في مسلكهم الإجرامي، والباقي غير متوافقين.

فالتشابه الكبير بين التوائم المتحدة في السلوك الإجرامي يعتبر في نظر "Lagras" دليلا على وراثية الإجرام.

وفي عام 1932م قام الباحث "Lagras" «بدراسة أربع حالات من التوائم المتماثلة وخمس حالات من التوائم غير المتماثلة، وخلص إلى أن الصنف الأول من التوائم كانوا جميعا متوافقين في مسلكهم الإجرامي، بينما التوائم غير المتطابقة، كانوا متنافرين في مسلكهم الإجرامي».

 كما قام الباحث "Stumpli" سنة 1936م بدراسة مماثلة شملت ثمانية عشر زوجا من التوائم المتحدة، وتسعة عشر من التوائم الإخوة، فكانت نتيجة دراسته أن ٲحد عشر زوجا من التوائم المتطابقين قد اتفقوا في مسلكهم الإجرامي. أما فئة التوائم غير المتطابقة، فقد تماثل منهم في مسلكهم سبعة فقط، في ما اختلف اثنا عشر منهم في المسلك الإجرامي.

تقدير هذه الطريقة˸

رغم أن هذا الأسلوب قد ٲثر في العديد من علماء الإجرام، حيث وجدوا في نتائجه دليلا كبيرا على وراثية الإجرام، فانه مع ذلك لم يسلم من النقد؛ فقد دحض العديد من العلماء النتائج التي خلصت إليها الدراسات السابقة، المرتبطة بدراسة التوائم لجملة من الاعتبارات أهمها˸

عدم دقة الأساس الذي تستند إليه هذه الأبحاث، إذ من الصعب معرفة ما إذا كان التوأم ناتجًا عن بويضة واحدة أو أكثر، ولذلك، فمن المتصور وقوع الباحث في الخطأ بإدخال بعض توائم البويضة الواحدة داخل مجموعة التوائم الأخرى أو العكس، مما يؤدي إلى عدم دقة النتائج التي يصل إليها الباحث.

ضآلة عدد التوائم المشمولة بالدراسة، بشكل لا يسمح باستخلاص قاعدة عامة يمكن اعتمادها لتقديم تفسير كلي للظاهرة الإجرامية.

إن الإحصاءات السابقة أكدت أن نسبة تعادل ثلث التوائم المتطابقة، غير متوافقين في السلوك، رغم عيشهم في ظروف بيئية واحدة، فكيف يفسر ذلك مادامت الخصائص الوراثية واحدة؟؟

وقد اعتبر بعض الباحثين هذا النقد كافيًّا في حد ذاته، للتقليل من أهمية النتائج التي خلص إليها أنصار عامل الوراثة، ومع لذلك، لا يمكن نفي دور الوراثة كعامل ضمن عوامل أخرى، تساهم كلها في إحداث الظاهرة الإجرامية.

المبحث الثاني: الجنس/ السلالة La race

يسود الاعتقاد عند بعض الباحثين بوجود علاقة وثيقة بين عدد من الجرائم ونوعها وبين الخصائص البيولوجية التي تميز الأجناس أو السلالات المختلفة، فأفراد كل سلالة يختلفون عن غيرهم في الملامح، الطول، لون البشرة ولون الشعر والعيون... وكيفية استجابتهم للمؤثرات الخارجية.

والسلالة هي وراثة جماعية، فهي ليست وراثة خصائص فرد من الأفراد، وإنما هي وراثة خصائص جماعية، تتفق في مميزاتها البدنية النفسية او العقلية...

والسلالة قد تكون شعبًا بأسره، وقد تشمل عدة جماعات داخل شعب واحد. وتعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أوضح مثال للدول التي تعيش فيها سلالات عديدة (الزنوج، الهنود، الصينيون، اليابانيون....). فمثلا، يعتقد أهالي الولايات الشمالية أن الزنوج جنس متآخر، لديه ميل قوي إلى الإجرام، ومنبع هذا الاعتقاد تكوين الزنوج الذي تحكمه الغرائز العنيفة، ولذلك، فهم كثيرًا  ما يرتكبون جرائم الاعتداء على الأشخاص.

ولعل أهم ما يطبع سلالة معينة بمميزات خاصة، بدنية كانت أو نفسية، الظروف البيئية المحيطة بها، سواءٌ أكانت طبيعية، كدرجة حرارة الجو، ومدى خصوبة الأرض أم اجتماعية، كنوع التقاليد والعادات السائدة فيها.

فتأثير هذه الظروف في السلالات، عبر أجيالها المتعاقبة، هو الذي يميزها عن غيرها من الأجناس عند مقارنتها بها، وقد تكون من بين هذه الخصائص خصيصة تساعد على الإجرام أو على نوع محدد منه.

إلا انه ينبغي النظر إلى المقارنات بعين الحذر، وعدم المبالغة عند استنباط النتائج منها. فالمقارنة الدقيقة بين الأجناس المختلفة. تقتضي تحديد نسبة حالات الإجرام التي تخص كل جنس إلى مجموع أفراده في المجتمع. ولعله أمر من المتعذر حصوله. فهل بالفعل يتأثر نوع الإجرام وكمه. في أي مجتمع. تبعًا لاختلاف السلالات المتواجدة فيه؟

ولتحديد اثر السلالة على كم الإجرام ونوعه، يتبع الباحثون أساليب معينة، أشهرها˸

- المقارنة بين السلالات التي تعيش في دول مختلفة.

- المقارنة بين السلالات التي تعيش في دولة واحدة.

المطلب الأول: المقارنة بين السلالات التي تعيش في دول مختلفة

هي مقارنة تقوم على تحديد نسبة الإجرام في دولة معينة، من خلال إحصاءات جنائية، واستخلاص نسبة كل نوع من أنواع الجرائم؛ من خلال الكمية الكلية (النسبة الكلية)، ثم مقارنة ذلك بكم الإجرام ونوعه في دولة أخرى.

وقد ٲخذ على هذه الوسيلة عدم دقة نتائجها، بالنظر إلى أن المقارنة فيها تشمل شعوبا مختلفة تقيم في دول مختلفة، متأثرة بظروف بيئية متباينة؛ ما يتعذر معه تحديد تأثير السلالة دون غيرها من العوامل على الإجرام؛ فقد يتأثر الأخير بالبيئة فقط، أو بالبيئة والسلالة معا، وبذلك، يكون من الصعب تحديد نصيب كل منهما في التأثير على كم الإجرام ونوعه، ومن هنا تأتي عدم دقة نتائجها.

المطلب الثاني: المقارنة بين السلالات التي تعيش في دولة واحدة

حاول الباحثون في علم الإجرام، من خلال هذه الوسيلة، تفادي النقد الموجه للوسيلة السابقة، فانطلقوا في أبحاثهم من سلالات مختلفة، تعيش في دولة واحدة وتخضع لظروف بيئية واحدة. وقد شكلت الولايات المتحدة الأمريكية على مر السنين أفضل نموذج لهذه المقارنة؛ إذ تعيش على أرضها أجناس مختلفة (كالجنس الأبيض، الأصفر، الأسود...).

وقد أكدت الدراسات، التي طبقت فيها هذه الوسيلة، أن نسبة إجرام الزنوج تزيد على نسبة إجرام البيض، وانَّ بِنِسَبٍ متقاربة بحسب السن والنوع والمكان....).

فالإحصاءات أكدت أن نسبة إجرام الزنوج تختلف بشكل كبير، باختلاف الولايات الأمريكية، فبينما ترتفع هذه النسبة في الولايات الغربية المنعزلة، فإنها تنخفض بشكل ملحوظ في الولايات الجنوبية، ولعل سبب ارتفاع معدل الجريمة بين الزنوج في الولايات الغربية يعود. كما يؤكد بعض الباحثين، إلى ارتفاع نسبة الشبان الزنوج في هذه الولايات، فضلا عن التمركز في المدن، والذي من شانه أن يتيح فرصا اكبر للإجرام. غير أن الاختلاف في نسبة الإجرام بين الرجل الزنجي والرجل الأبيض، اقل منه بصفة عامة بين المرٲة الزنجية والمرأة البيضاء.

ففي دراسة أجريت ما بين 1935 م و1945 م، بلغت نسبة المقبوض عليهم من الرجال الزنوج إلى مجموع الشعب الزنجي في أمريكا، ما يقرب من ثلاثة أمثال المقبوض عليهم من الرجال البيض. بينما تجاوزت نسبة المقبوض عليهن من الزنجيات، هذه النسبة أو المعدل، مقارنة مع من وقع عليهن القبض من الأمريكيات، ولعل تفسير ارتفاع نسبة إجرام المرأة الزنجية، يعود إلى عدم اختلاف أوضاعها الاجتماعية، عن تلك الخاصة بالرجل الزنجي، بخلاف المرأة الأمريكية.

وفي دراسة أخرى خصت الزنوج الأحداث، أكدت الإحصاءات أن نسبة إجرام الأحداث الزنوج تميل إلى الارتفاع بصفة عامة في بعض المدن الأمريكية؛ ففي مدينة شيكاغو مثلا، تضاعفت هذه النسبة في خلال ثلاثين عاما بما يقرب سبع مرات، في حين لم يتضاعف مجموع الشعب الزنجي سوى ثلاث مرات.

وفي المقابل، أكدت دراسة أخرى أن نسبة إجرام الأحداث الزنوج تكون منخفضة كلما انتقلوا من قلب المدينة إلى أطرافها (اختلاف مكان الإقامة)، وكلما كانت فترة الإقامة في المدن قصيرة (مدة الإقامة).

وقد تساءل بعض الأساتذة من خلال هذه الإحصاءات، حول مدى ارتباط السلالة أو الجنس بالإجرام؟

فذهب البعض إلى رد ارتفاع معدل إجرام الزنوج في أمريكا، إلى أنهم يمثلون أقلية في هذه الدولة، وقد تكون الحالة الاقتصادية للأقليات الناجمة عن التمييز العنصري السبب الرئيس في ارتفاع معدل الإجرام لدى هذه الأقليات.

في ما ذهب آخرون إلى أن مرجع الزيادة في نسبة إجرام الزنوج، يكمن بالأساس في ما يتميزون به من خصائص نفسية؛ حيث يتصفون بسرعة الانفعال، وضعف السيطرة على الدوافع الغريزية... فخصائص من هذا القبيل، من شٲنها أن تؤدي إلى ارتكاب جرائم العنف والمال...

تقدير هذه الوسيلة˸

رغم أن هذه الوسيلة تبدو منطقية، مقارنة مع التي سبقتها؛ إذ تنطلق من سلالات تعيش في دولة واحدة، وتخضع لتشريع واحد، ما يوحي بوحدة الظروف البيئية الاقتصادية والقانونية... بين مختلف السلالات موضوع الدراسة، إلا أنها في الحقيقة لم تستطع تحديد مدى الارتباط بين السلالة والإجرام، بل إن فشلها هذا يعود في الأصل إلى اعتمادها أساسا ظاهريا غير حقيقي.

فرغم أنها تهتم بدراسة السلالات المختلفة، التي تعيش في إقليم دولة واحدة؛ أي دولة تسود فيها ظروفا اقتصادية، صحية، اجتماعية وسياسية معينة (وحدة الظروف السائدة) حتى تصبح السلالة وحدها هي مناط اختلاف معدل الإجرام بين مختلف الأجناس داخل البلد الواحد، إلا أنها في الواقع، بعيدة عن كل ذلك؛ فالظروف التي تحيط بمختلف السلالات محل الدراسة ليست واحدة على الرغم من أن تلك السلالات تعيش في دولة واحدة، يسري فيها تشريع واحد وظروف واحدة. ولعل النموذج الأمريكي أوسع مثال لتفسير ذلك؛ فهذا الأخير يعرف ارتفاعا في نسبة إجرام الزنوج كما سبق توضيحه، رغم أنهم يعيشون في دولة من المفروض إن ظروفها السياسية، الاقتصادية الاجتماعية والصحية ... واحدة، ومع ذلك، فان نسبة إجرام الزنوج فيها تزيد عن نسبة إجرام البيض؛ ما يفيد حتما عدم صحة فرضية وحدة الظروف السائدة، إذ لو كانت كذلك، لما كان هناك تفاوت في نسبة إجرام الزنوج ونسبة إجرام البيض، بل إن الظروف الاقتصادية، الاجتماعية والصحية التي كان يعيشها الزنوج داخل المجتمع الأمريكي، كما يؤكد بعض الباحثين. هي التي تفسر نسبة إجرامهم؛ فالتحيز ضدهم، والنظر إليهم نظرة ادنى من تلك التي ينظر بها إلى الأمريكيين البيض، فضلا عن ضالة الحقوق الممنوحة لهم. والأعمال البسيطة ذات الأجر الزهيد التي كان يسمح لهم بها... هي التي جعلت بعضهم يضمرون شعورًا عنيفًا بالسخط والحقد، بسبب التفرقة بينهم وبين الرجال البيض، وهو ما كان يولد سلوكا عنيفا ضد مجتمع البيض.

كما انه من الصعب القول أن زيادة نسبة إجرام الزنوج تعود إلى اختلاف تكوينهم عن الأمريكيين البيض، لان فرضية كهذه، تستوجب طبع مجتمع الزنوج بكامله بخاصية الإجرام، والحال أن معدل الجريمة يختلف في ما بين أفراد الجنس الواحد باختلاف البيئة (الثقافية ومستوى التعليم وغير ذلك من العوامل المؤثرة...) فقد أوضحت دراسة قديمة في أمريكا أن ثمانمائة (800) طالب زنجي تخرجوا في جامعة َAtlanta وثلاثين ومائة (130) من معهد Water لم يسلك ولا واحدٌ منهم سبيل الإجرام. وان من بين خمسمائة وثلاثة آلاف (3500) طالب تخرجوا في جامعة الضرائب، أودع السجن واحد منهم فقط.

وهو ما يؤكد، دون شك، انتقاء الصلة بين السلالة والإجرام؛ فمعدل الأخير لا يمكن أن يفسر بالاعتماد على دراسة مقارنة في المجال تشمل مختلف سلالات العالم. فليس هناك دليل علمي حاسم يؤكد أن السلالة عامل من عوامل الإجرام ، وكل ما في الأمر، أن نسبة الإجرام تختلف من سلالة إلى أخرى داخل الدولة نفسها، تبعا للظروف المختلفة التي يعيش فيها أبناء تلك السلالات المتعددة. والدليل على ذلك انخفاض معدل إجرام  التي يعيش فيها أبناء تلك السلالات المتعددة. والدليل على ذلك انخفاض معدل إجرام الجنس الياباني، الذي يعيش في أمريكا، مقارنة مع الأمريكيين البيض، فلا فرضية الأقلية، ولا فرضية الاختلاف في التكوين، بل ولا حتى فرضية الميز العنصري، تبرر الصلة بين السلالات والإجرام في هذه الحالة؛ لأنه لو كان الأمر كذلك، بالاستناد إلى الفرضيات السابقة (الأقلية، التكوين، الميز العنصري) لكان من المنطق ارتفاع نسبة إجرام الجنس الياباني، بما انه يشكل أقلية في الشعب الأمريكي قد يعاني من الميز العنصري، والحال ان الواقع يؤكد غير ذلك.

المبحث الثالث: النوع Le sexe

أكدت الدراسات التي قام بها الباحثون في علم الإجرام، على وجود علاقة وثيقة بين ظاهرة الإجرام وبين عامل النوع أو جنس المجرم (ذكر أو أنثى)؛ فنسبة إجرام الذكور تجاوزت بنسب كبيرة إجرام الإناث منذ القدم، ولعل هذا التفاوت في معدل الجريمة بين الجنسين (الذكر والأنثى)، راجع إلى الفروق الجوهرية بين الرجل والمرأة، سواء من حيث التكوين العضوي أو النفسي، أو من حيث الدور الاجتماعي المنوط بكل واحد منهما. وفي مايلي، نوضح مظاهر الاختلاف بين إجرام الرجل والمرأة في مطلب أول، ثم نبحث في مطلب ثاني أسباب هذا الاختلاف.

المطلب الأول: مظاهر الاختلاف بين إجرام الرجل وإجرام المرأة

يختلف إجرام الأنثى عن إجرام الذكر كمّا، نوعًا وجسامةُ.

أولا˸ الاختلاف من حيث الكم

أثبتت الدراسات الإحصائية في العديد من دول العالم، عبر حقب زمنية مختلفة انخفاض معدل الجريمة بين النساء، مقارنة بنظيره عند الرجال.

ففي دراسة أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية، أفادت الإحصاءات الجنائية أن عدد المحكوم عليهن من النساء، يبقى منخفضا مقارنة بعدد المحكوم عليهم من الرجال، وان كانت نسب الانخفاض تتغير باختلاف مراحل العمر؛ فمثلا يبلغ عدد المحكوم عليهم من الذكور بين سن خمسة عشر وسبعة عشر عاما، ثلاثة عشرة أمثال المحكوم عليهن من الإناث في ما بين الستين والرابعة والستين.

وفي فرنسا، أثبتت الدراسات الإحصائية التي قام بها الباحث البلجيكي «كيتليه» أن نسبة إجرام المرأة لا تشكل إلا خمس إجرام الرجل.

وفي دراسة حديثة نشرتها وزارة الداخلية الفرنسية، تعتمد بالخصوص على الإحصاءات البوليسية (التي أجرتها الشرطة والدرك) ما بين سنتي 2008 و2009 أكدت أن إجرام المرأة يشكل نسبة 15.2% من مجموع الإجرام الكلي، بينما تشكل نسبة إجرام الرجل 84.8% من المجموع الكلي.

وفي إحصاءات أخرى أجريت في فترات مختلفة، منها تلك التي أجريت في جمهورية مصر العربية، أكدت الأبحاث أن إجرام المرأة يشكل 4% فقط من الإجرام الكلي، في ما تصل هذه النسبة إلى 17% في ايطاليا و14% في ألمانيا...

وفي المغرب، أكدت إحصاءات وزارة العدل المتعددة، أن معدل إجرام المرأة يقل عن معدل إجرام الرجل، ولعل الإحصاءات الأخيرة التي قامت الوزارة المعنية؛ وتحديدا مديرية الشؤون الجنائية والعفو (مركز الدراسات والأبحاث الجنائية) خلال العشرية الأخيرة (2002 – 2011) خير دليل على ذلك، فمن مجموع الجنايات والجنح المرتكبة ضد الأشخاص، خلال العشر سنوات الأخيرة بحسب الجنس، لا تشكل نسبة إجرام المرأة سوى 18% وذلك على النحو الأتي˸

ومن مجموع الجنايات والجنح المرتكبة ضد الأموال حسب الجنس، لم تتجاوز نسبة إجرام المرأة 8% على النحو الآتي˸

ومن مجموع الجنايات والجنح المرتكبة ضد الأمن والنظام العام حسب الجنس، لم تتعدّ نسبة إجرام المرأة 7% على النحو الآتي˸

ومن مجموع الجنايات والجنح الماسة بنظام الأسرة والأخلاق العامة حسب الجنس بلغت نسبة إجرام المرأة 47%، كما يلي˸

ويدخل في هذا الباب جرائم الاغتصاب وهتك العرض، قضايا الفساد، الخيانة الزوجية، قضايا البغاء والدعارة، قضايا الإجهاض، قضايا الشذوذ الجنسي، قضايا إهمال الأسرة، قضايا اختطاف القاصرين، قضايا قتل الوليد.

وتشكل جريمة الفساد نسبة 44% من العدد الإجمالي لقضايا الأخلاق العامة؛ إذ يشكل عدد المتابعين فيها أعلى نسبة من بين عدد المتابعين في قضايا الأخلاق العامة، وبذلك تحتل هذه الجريمة المرتبة الأولى ضمن مجموع جرائم الأخلاق العامة، تليها جرائم البغاء والدعارة بنسبة 22%،  في ما تحتل قضايا إهمال الأسرة 16% من مجموع عدد قضايا الأخلاق العامة.

وفي ما يتعلق بجرائم المخدرات، فنسبة إجرام المرأة لا تتعدى من مجموع المتابعات المرتبطة بهذه الجرائم 2% كما يبين الجدول˸

وقد رد بعض الباحثين هذا التفاوت وبالأحرى انخفاض معدل إجرام المرأة إلى طبيعة الجرائم التي ترتكبها هذه الأخيرة؛ إذ غالبا ما ترتكب خفية، أولا يتم الإبلاغ عنها كما هو الشأن بالنسبة إلى بعض الجرائم الأخلاقية كالبغاء، الفساد... خصوصا وٲن هذه الأخيرة هي التي ترفع من معدل إجرام المرأة عامة، وهو ما يرفع معدل الرقم الأسود أو المظلم في إجرام المرأة.

ومن ناحية أخرى، فٳن نسبة كبيرة من الجرائم التي يرتكبها الرجال تكون بسبب المرأة إن لم تكن ضالعة فيها قانونا. فبعض الإحصاءات أكدت أن 10% من جرائم السرقة التي يرتكبها الرجال تتسبب فيها المرأة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جرائم القتل بنسبة 20 %،  والجرائم الأخلاقية بنسبة 40%. ويذهب بعض الباحثين إلى أن هذه النسب تؤثر بشكل مباشر في معدل إجرام المرأة؛ إذ لو أخذت بعين الاعتبار لتقلصت الهوة بين إجرام الرجل وإجرام المرأة.

والحقيقة ٲنه لا يمكن التسليم بهذه الآراء، لمجموعة من الاعتبارات أهمها˸

إن الإحصاءات أفادت انه حتى في الدول التي تجرم البغاء (كجرائم خاصة بالنساء) لم تتجاوز فيها نسب إجرام المرأة نسب إجرام الرجل، إذ يظل نصيب المرأة في الكم الإجرامي اقل من نصيب الرجل.

أما الجرائم التي ترتكب خفية، فلا يجوز المبالغة في تقدير نسبها؛ إذ تشكل نسبًا محدودة، فحتى لو أضيفت إلى إجرام المرأة (المعدل الرسمي المكشوف عنه) فإنها لا تقضي على الفرق الكبير بين إجرام المرأة وإجرام الرجل. وفي ما يتعلق بكونها السبب في بعض جرائم الرجل، فهو قول يتعارض مع الشرعية المطلوبة قانونا، فمادام القانون لا يجرم سلوكها ذاك، فلا يمكن اعتماده في تحديد كمية إجرامها، ولذلك لابد من التسليم بالحقيقة التي تؤكد أن إجرام الرجل يفوق بكثير نسبة إجرام المرأة، وان عرف معدل إجرامها ارتفاعا في نوع معين من الجرائم، كتلك الماسة بالأخلاق العامة (كالفساد والبغاء...) خصوصا في الدول التي تجرم ممارسات كهذه.

ثانيا˸ الاختلاف النوعي

أثبتت الدراسات الإحصائية، تحديدا في أوروبا الغربية، ارتباط إجرام المرأة بأنواع معينة من الإجرام، تتصل بوضعها الأنثوي كجرائم الإجهاض، السب والقذف، القتل بالسم... بينما يقل اهتمامها بجرائم العنف عموما، الاعتداء على العرض السرقة بالإكراه، خيانة الأمانة والجرائم المضرة بالمصلحة العامة ...

فمثلا، في دراسة أجريت في ايطاليا، أثبتت الإحصاءات

كما تتسم جرائم النسوة عموما، بضآلة جسامتها؛ إذ غالبا ما تكون جنحا ومخالفات أو جرائم خطئيه. وفي ما يتعلق بالجنايات، فقد أثبتت الإحصاءات المتعددة ضآلة عدد الجنايات التي ترتكبها النساء، ولعله ما تأكد من خلال الإحصاءات التي نشرت في فرنسا في هذا الخصوص منذ سنة 1964.

المطلب الثاني: أسباب اختلاف إجرام الرجل والمرأة

اختلفت أراء العلماء في تعليلهم لاختلاف إجرام المرأة عن إجرام الرجل كمًّا، نوعًا وجسامة؛ فمنهم من رد هذا الاختلاف إلى التكوين العضوي والنفسي لكل منهما، ومنهم من فسر ذلك بتدين المرأة وسمو خلقها. في ما ذهب رأي ثالث إلى أن سبب الاختلاف مرده الدور الاجتماعي المنوط لكل منهما. وفي ما يلي، نعرض هذه الآراء تباعا.

أولا˸ الاختلاف في التكوين

على مستوى التكوين العضوي، ذهب فريق من الباحثين إلى أن المرأة ٲضعف تكوينا واقل قدرة من الرجل، منطلقين من مقارنة جسم الرجل بجسم المرأة ( من حيث الطول، الوزن، الأعضاء الداخلية والخارجية). وقد خلص بعض هؤلاء الباحثين إلى أن قوة المرأة تعادل نصف قوة الرجل، ولعله ما يفسر في اعتقادهم انخفاض نسبة إجرام المرأة. وعدم إقدامها على الجرائم التي تتطلب جهدًا بدنيًّا (جرائم العنف عموما) وميلها في المقابل إلى جرائم القذف والسب... بل إن أسلوبها الإجرامي عموما يتسم بالغدر والخديعة واستعمال الحيل، ولذلك، فغالبا ما تلجا إلى بعض هذه السبل كوسيلة للتنفيذ حتى في اخطر الجرائم التي يمكن أن تقترفها، كما هي الحال بالنسبة إلى جريمة القتل، إذ غالبا ما تلجٲ إلى وسيلة السم.

وعلى مستوى التكوين النفسي، فٳن المرأة تمر بحالات خاصة (كالطمث، الحمل والرضاعة) تؤثر بشكل كبير في الجانب العاطفي والغريزي لديها، فتجعلها قابلة للانفعال والتقلب المزاجي، وهو ما قد يدفعها إلى ارتكاب بعض الجرائم، لاسيما جرائم الإجهاض وقتل الوليد... ففي إحصاءات أجريت في فرنسا وانجلترا، ثبت أن 63% من جرائم السرقة ارتكبتها نساء في باريس وهن في حالة حيض، وٲن 41% من جرائم النساء في انجلترا قد ارتكبت وهن في الحالة نفسها.

يبدو إذا لدى أنصار هذا الرأي، أن المرأة اضعف من الرجل تكوينًا واقل منه قدرة، وهو ما يفسر انخفاض إجرامها كمًّا وخطورة مقارنة بإجرام الرجل. والواقع انه لا يمكن اعتماد هذا الرأي بشكل مطلق وان أصاب قدرا من الحقيقة، وسبب انتقاده كما ذهب إلى ذلك بعض الباحثين، عدم صحة تفوق الرجل جسديًّا على المرأة، بل إن بعض الدراسات تفيد العكس؛ فمتوسط العمر لدى النسوة أطول منه لدى الرجال، ونسبة الوفيات بين الرجال اكبر منه نظيرتها لدى النساء.

وحتى مع التسليم بضعف المرأة البدني، مقارنة بالرجل، فان هذا الضعف لا يفسر لاختلاف الكبير بين نسب إجرام كل منهما؛ والذي يبلغ كحد ادني خمس إجرام الرجل، والحال انه لا يتعدى النصف، اعتمادا على الطرح الذي يؤكد أن قوة المرأة تعادل نصف قوة الرجل.

فالنتيجة المنطقية لهذه المقارنة، تقتضي أن تبلغ نسبة إجرام المرأة نصف معدل إجرام الرجل. بل انه حتى في الجرائم، التي لا تتطلب جهدًا عضليًّا. والتي من المفروض أن نسب اقترافها مرتفعة بين النساء، فان نسبتها لا ترفع معدل إجرام المرأة مقارنة بالرجل؛ إذ يبقى إجرامها بصفة عامة اقل من إجرامه كمًّا وجسامةً.

ثانيا˸ اختلاف الدور الاجتماعي المنوط بكل منهما

رد بعض الباحثين اختلاف إجرام المرأة عن الرجل إلى الدور الاجتماعي المنوط بكل منهما. فمن جهة، فالمسؤولية المنوط بالمرأة اخف من تلك المنوطة بالرجل، بل إنها تحظى بحمايته في كل مراحل عمرها؛ سواء كان أبا أم أخا أم ابنا أم زوجا وهي بذلك تنأى بنفسها عن العوامل والمؤثرات الخارجية التي قد تدفعها إلى الإجرام. ولعل هذا الرأي يفسر انخفاض إجرام المرأة في الدول التي لا تحتك فيها المرأة بالحياة (العملية) بشكل واسع، بينما ترتفع نسبة إجرامها في الدول التي تشارك فيها بشكل كبير، إن لم نقل مناصفة في تحمل أعباء الحياة، كما هو الوضع في الدول الغربية عموما.

وقد انتقد البعض هذا الرأي، استنادا إلى بعض الإحصاءات التي أثبتت أن نسبة إجرام النساء المتزوجات، اللاتي يتمتعن بحماية الرجال، أكثر من نسبة إجرام النساء غير المتزوجات. والحال أن منطق الرأي المنتقد، يقضي بانخفاض معدل إجرام النساء المتزوجات؛ لوجودهن في حماية الرجل ولقلة مسؤولياتهن، مقارنة بتلك التي يتحملها الرجل، والتي قد تكون سببا مباشرا في ارتفاع معدل إجرامه.

بل على العكس، فبعض الإحصاءات أثبتت أن زيادة أعباء النساء، ونزولهن إلى مختلف ميادين الحياة. بما في ذلك الميادين التي كانت حكرا على الرجال، لم يصاحبه زيادة في نسبة إجرامهن كما يقضي منطق الرأي الأول، بل إن نسبة إجرامهن تتجه نحو الانخفاض مقارنة بما كانت عليه في السابق.

ثالثا˸ تدين المرأة وسمو أخلاقها

ذهب أنصار هذا الرأي إلى أن اختلاف إجرام الرجل عن المرأة، مَرَده استعدادها الفطري الذي جبلت عليه، والكامن في استجابتها لتعاليم الدين، وَرِقَّة مشاعرها واتسامها عموما بالعطف والحنان والإيثار والتضحية، وهذه كلها سمات دينية أخلاقية تحد بطبيعتها من الوقوع في براثين الإجرام.

وقد انتقد هذا الرأي بشدة، بالاستناد إلى نوعية الجرائم التي ترتكبها النساء بكثرة، وتحديدا منها قتل المواليد أو تعريضهم للخطر، وكذا بعض الجرائم المرتبطة بمخالفة القيم الدينية والأخلاقية كشهادة الزور وخيانة الأمانة، الفساد، الدعارة والبغاء... فمن شٲن هذه الحقيقة هدم الأساس الذي قام عليه هذا الرأي.

الخلاصة إذا، أن انخفاض معدل إجرام المرأة عموما، لا يعود إلى عوامل تكوينية أو نفسية أو اجتماعية محضة، وإنما هو انخفاض تفسره مجموعة من العوامل؛ بعضها داخلي يكمن في تكوينها الذاتي والنفسي، وبعضها الآخر خارجي أساسه الظروف الاجتماعية والبيئية المحيطة بها.

المبحث الرابع: السن L’âge

تتأثر نسبة الإجرام بتغير مراحل العمر التي يمر بها الإنسان، ولذلك حاول بعض المتخصصين تقسيم العمر إلى مراحل عدة، لفهم مدى تأثير السن كعامل من العوامل الذاتية أو الفردية في الظاهرة الإجرامية. فقسموه إلى سبع مراحل عمرية˸

- المرحلة الأولى وهي˸ مرحلة الطفولة، وتمتد إلى غاية اثنتي عشرة سنة.

- المرحلة الثانية وهي˸ مرحلة المراهقة، وتمتد من الثانية عشرة إلى غاية الثامنة عشرة.

- المرحلة الثالثة وهي˸ مرحلة النضج الفكري المبكر، وتمتد من الثامنة عشرة إلى الخامسة والعشرين.

- المرحلة الرابعة وهي˸ مرحلة النضج المتوسط، وتمتد ما بين الخامسة والعشرين والثلاثين.

- المرحلة الخامسة وهي˸ مرحلة النضج الحقيقي، وتمتد ما بين الخامسة والثلاثين والخمسين.

- المرحلة السادسة هي˸ السن الحرجة، وتمتد ما بين الخمسين إلى الخامسة والستين.

- المرحلة الأخيرة˸ مرحلة الشيخوخة.

وفي ما يلي، نبحث هذه المراحل تباعا، لنوضح خصائص كل مرحلة منها.

المطلب إلٲول: مرحلة الطفولة

تمتد هذه المرحلة ما بين الميلاد والبلوغ، وحسب علماء النفس والاجتماع، فهي مرحلة هامة في تكوين شخصية الفرد.

وتتميز شخصية الإنسان في هذه المرحلة بضعف القوى البدنية، ونقص المدارك العقلية، وقلة الخيرات الحياتية، بما في ذلك نطاق العلاقات الاجتماعية. ولذلك فالطفل وفق مختلف التشريعات-سماوية كانت أو وضعية- غير مسؤول جنائيا عما يرتكبه من أفعال خلال هذه المرحلة العمرية.

وقد أثبتت الإحصاءات المتعددة –القديمة والحديثة- ضآلة الجرائم التي ترتكب في هذه المرحلة مقارنة بغيرها من المراحل. ويذهب بعض المحللين النفسيين إلى ٲن انحراف الأطفال في هذه المرحلة، مؤشرٌ على وجود خلل في الشخصية.

المطلب الثاني: مرحلة المراهقة/ الحداثة

وتمتد هذه المرحلة كما سبق بيانه، من سن الثانية عشرة إلى الثامنة عشرة، وتتميز عموما بالتغيرات العضوية (الفيزيولوجية) والنفسية للفرد، كما يتأثر سلوكه بالبيئة الاجتماعية. ومن جملة التغيرات البدنية التي تطرأ على الفرد، ذكرًا كان أو أنثى زيادة القوة البدنية، البلوغ عند الأنثى والذكر، كما يظهر التغير في إفرازات الغدد (الغدتين النخامية والدرقية) ، فضلا عن نشاط الغريزة الجنسية. ويتميز الفرد فضلا عن ذلك بانطلاقه نحو الخارج، أو تمرده على القيود المفروضة عليه في محاولة منه لإثبات ذاته وإشباع غروره.

ولذلك، تتميز هذه المرحلة بحب المغامرة، وسيطرة القوى العاطفية على القوى العقلية؛ ومن ثمة ضعف القوة على ضبط النفس، لذلك ينطبع السلوك عامة فيها بالطيش والتسرع.

فهي إذا، كلها خصائص وصفات بدنية، نفسية وعقلية تؤثر بشكل كبير في سلوك الإنسان في هذه المرحلة العمرية.

إضافة إلى العوامل الفردية الداخلية سالفة الذكر، فالعوامل البيئية هي الأخرى تؤثر بشكل كبير في سلوك الفرد؛ فهو بصفة عامة سريع الاستجابة والتأثر بالعوامل الخارجية، فالاتصال مثلا بشخص سيّء السلوك. أو مشاهدة فيلم خليع، أو قراءة مجلة تحتوي صورا مخلة بالآداب والأخلاق العامة، قد لا تؤثر كثيرا في بالغ، لكن تأثيره في الحدث أو المراهق، قد يكون كبيرًا بل أحيانا مصيريًّا.

- علاقة الحداثة بالإجرام

أثارت مرحلة الحداثة العديد من التساؤلات، والتي رافقتها مجموعة من الدراسات ارتبطت بالأساس بالسلوك المنحرف للإنسان في هذه المرحلة. أو ما يطلق عليه جنوح الأحداث، هذا المصطلح الذي آثار اهتمام الأمم المتحدة، وتحديدا في مؤتمر فيينا سنة 1988، وقبلها بكين عام 1986، ومؤتمر الرياض وهافانا في كوبا سنة 1990؛ حيث أكدت كل هذه المؤتمرات أهميته بل وخطورته.

والحدث في نظر الأمم المتحدة، هو طفل أو شخص صغير السن، يحدد القانون عمره يقترف سلوكًا منحرفًا (إجراميا) يقتضي مواجهته بجزاء معين، يتمثل تحديدا في التدابير الوقائية. ولقد اقترح مؤتمر هافانا في كوبا سنة 1990 بٲن عمر الحدث اقل من ثماني عشرة سنة.

فمؤتمر فيينا سنة 1988، في تقرير الاجتماع التحضيري لمؤتمر الأمم المتحدة الثامن لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين، بشٲن موضوع « منع الجنوح وقضاء الأحداث وحماية النشء»، اقر مجموعة من المناهج في السياسة الجنائية، اللازمة للحد من ظاهرة انحراف الأحداث. بل إن بعض الآراء ذهبت إلى حد إلغاء مصطلح «جنوح» استنادا إلى أن الحدث لا يدرك حتى يسمى انحرافا جنوحا. ولذلك، وجب محو صفة الإجرام عن سلوكه المنحرف، واستبعاد العقوبات في مواجهته، واللجوء إلى سياسات ابتكاريه جديدة في مواجهة سلوكه المنحرف، وهي تحديدا التدابير التهذيبية والإصلاحية البعيدة تمامًا عن السياسة العقابية التقليدية. بل ومدربا بشكل فني ومهني، على توجيه سلوك الحدث وتصحيحه. والذي قد يشكل انحرافه عائقا في وجه التنمية عموما.

لذلك، حاولت مجموعة من الدول تنزيل هذه المقتضيات في قوانينها الجنائية أو العقابية، على أمل الحد من ظاهرة انحراف الإحداث (جنوح الأحداث). ويعد المغرب من ضمن الدول التي حاولت التصدي لهذه الظاهرة أو الآفة الاجتماعية، يعد التعديل الأخير لقانون المسطرة الجنائية؛ حيث كان قبل هذه الفترة يزج به في السجن إلى جانب من أجرم من الكبار والراشدين، ففي سنة 1979 دخل السجن من الأحداث الذين تتراوح أعمارهم بين اثنتي عشرة وثماني عشرة سنة حوالي ثلاثمائة واحد عشر ألف (11300) حدث. ومع أن ق م ج لتخويل الحدث الجانح مجموعة من الحقوق أثناء البحث التمهيدي، وكذلك التنصيص على هيئات قضائية مكلفة بالأحداث (قضاء الأحداث) ، أمام كل من  المحاكم الابتدائية والاستنئنافية، مع التركيز على مسالة التناسب بين خطورة الجريمة التي ارتكبها الحدث وظروفه وحاجياته الشخصية ومتطلبات المجتمع، وعدم اللجوء إلى العقوبات السالبة للحرية إلا في حالة خطورة الأفعال المرتكبة وكذا اتخاذ التدابير التربوية والتهذيبية المناسبة للحدث، وتتبع تنفيذها، للتأكد من مدى فاعليتها ونجاعتها في تقويم سلوك الحدث المنحرف، أو مراجعتها وتغييرها عند الاقتضاء... فان كل هذه الإصلاحات المسطرية لم تحدث تغييرا كيفيا في التعاطي مع الظاهرة؛ إذ مازال القضاة يعطون الأولوية للعقوبة على حساب التدبير، وان كان بدرجة اقل مما كان عليه الأمر في ما مضى، بل إن عدم قضاة متخصصين في المجال عامل من العوامل التي تعيق القيام بالوظيفة على أحسن وجه.

وتتسم فترة الحداثة بأنواع معينة من الجرائم، ومنها تحديدا جرائم الاعتداء على الأموال، جرائم الإيذاء البدني وجرائم الاعتداء على العرض، وجرائم المخدرات.

ولعل الاندفاع نحو هذا النوع من الجرائم، يجد تفسيره في المحيط الخارجي المحيط بالحدث، الذي يولد في نفسه رغبات كثيرة، يتطلب إشباعها قدرا من المال قد لا يتوفر أو لا يتوفر لديه في الأغلب في هذه المرحلة؛ التي هي مرحلة التحصيل العلمي والتأهيل المعرفي لا مرحلة الكسب المالي. ولذلك، فجرائم السرقة تعرف ارتفاعا بين الأحداث للأسباب السالفة الذكر، فضلا عن أنها لا تتطلب سوى الجرأة والإقدام.

وفي ما يتعلق بجرائم الإيذاء البدني، وتحديدا منها الضرب والجرح، فهي الأخرى تشكل نسبة مهمة من مجموع جرائم الأحداث ويفسر الاندفاع نحو هذا النوع من الجرائم، الطاقة الحيوية والبدنية التي يشعر بها الأحداث، خصوصا الذكور إذ يلجا بعضهم إلى استعمالها أحيانا للاعتداء على الآخر، كنوع من إثبات الذات، وإشباع الغرور المنبعث من هذه القوة الجديدة، أو التغييرالبدني الحاصل.

أما جرائم الاعتداء على العرض، فهي الأخرى بشكل نسبا مرتفعة من مجموع إجرام الأحداث، ولعل ما يفسر ذلك تفتق الغريزة الجنسية في هذه المرحلة العمرية بحدة، وحاولت إشباعها بأي شكل كان، ولو بكيفية غير قانونية.

المطلب الثالث: مرحلة النضج

يمر نضج الإنسان الفكري، كما تقدم بيانه، بثلاث مراحل هي˸ مرحلة النضج الفكري المبكر، فمرحلة النضج المتوسط، ثم النضج الحقيقي.

فالنضج الفكري المبكر، يمتد ما بين السنة الثامنة عشرة إلى الخامسة والعشرين وتتميز هذه المرحلة من جهة، بالقوة والحيوية، ولذلك توصف بربيع العمر؛ لٲن الإنسان يكون مفعما بالنشاط والحيوية والقوة والاستقرار النفسي.

ومن جهة أخرى، تعد من أخصب المراحل إجراما؛ حيث تمثل ربع كمية الإجرام الكلي أو ثلثها.

وعن نوع الجرائم التي ترتكب في هذه المرحلة، فالإحصاءات أكدت ارتفاع معدل جرائم السرقة بنوعيها (البسيط  والموصوف) ، وجرائم الاعتداء على العرض، وكذا الاعتداء على الحياة وسلامة البدن، فضلا عن جرائم الخطيئة (كالقتل والإصابة الخطأ التي تترتب عن قيادة السيارات بسرعة كبيرة) بسبب الاندفاع والتهور الكبيرين. كما تبلغ جرائم الإجهاض ذروتها في هذه المرحلة. ولعل السبب في ذلك استعداد المرأة للحمل في هذه المرحلة العمرية أو قابليتها له.

وفي ما يتعلق بمرحلة النضج المتوسط، فتمتد من سن الخامسة والعشرين إلى سن الثلاثين. وهي الأخرى لا تختلف عن سابقتها. لا من حيث الخصائص والصفات المميزة للمرحلة، ولا من حيث نوع الجرائم المرتكبة خلالها. أما مرحلة النضج الحقيقي، وهي مرحلة ما بين الخامسة والثلاثين والخمسين، فهي من الناحية الاجتماعية مرحلة الاستقرار؛ حيث تتميز حياة الفرد فيها بمعطيات معينة (نوع العمل –محل الإقامة- الزواج...) وهي كلها بلا شك عوامل تضمن الاستقرار الاجتماعي والمادي، وتعرف جرائم السرقة وخيانة الأمانة انخفاضا في هذه المرحلة، حيث تحل محلها جرائم النصب والاحتيال، فالإحصاءات الفرنسية في هذا الشأن، تؤكد أن معدلات جرائم السرقة ترتفع بين من تقل أعمارهم عن سن الخامسة والثلاثين لتنخفض في ما بعد، بينما تبلغ معدلات جرائم النصب والاحتيال بعد هذه السن 57%.

كذلك تبلغ جرائم الاعتداء على الشرف والاعتبار أقصى نسبة لها في هذه المرحلة العمرية، ولعل اضمحلال القوى البدنية وضعفها في هذه الفترة، هو السبب الرئيس وراء ارتفاع جرائم القذف والسب؛ إذ تعد بديلا عن الضرب أو الجرح الذي قد لا تخوله أو تسمح به خصائص المرحلة. كما ترتفع معدلات جرائم النساء في السنوات الأخيرة من هذه المرحلة. تحديدا سن اليأس (la ménopause) ، بسبب ما يصاحب المرحلة من اضطرابات نفسية وعصبية.

المطلب الرابع: مرحلة الشيخوخة

تمتد هذه المرحلة من سن الخمسين إلى نهاية العمر، وتتميز باضمحلال القدرات البدنية والذهنية والعاطفية، بل وحتى الغريزية، فهي مرحلة الفتور الحقيقي.

ويواكب التغير الداخلي، الذي يطرأ على الفرد خلال هذه المرحلة العمرية، تَغيُّرًا في الظروف البيئية (اعتزال العمل، ابتعاد الأبناء، الخوف من المرض...) وهي كلها ظروف وعوامل قد تؤدي في النهاية إلى الانعزال عن المجتمع، والعيش في ذكريات الماضي.

وقد أثبتت الدراسات الإحصائية انخفاض معدلات الإجرام في هذه الفترة، والسبب في ذلك الخصائص المميزة للمرحلة؛ من ضعف ووهن واضمحلال للقدرات البدنية، العاطفية والذهنية. بل إن نوعا معينا من الجرائم هو الذي يطبع في الغالب هذه المرحلة.

فجرائم السب والقذف، والاحتيال وخيانة الأمانة، هي الأكثر انتشارا بين الشيوخ، يرافقها أيضا ارتفاع في معدلات جرائم الجنس؛ خاصة منها جرائم هتك عرض الأطفال. وهناك من يرد هذا الميل إلى الخصائص المميزة للغريزة الجنسية لدى الشيوخ كعامل أول، وٳلى سهولة الاتصال بالأطفال كعامل ثان.

يبدو واضحا إذًا من كل ما تقدم، تأثير عامل السن في ظاهرة الإجرام كما ونوعا بسبب ما تعرفه الشخصية الإنسانية من تغيرات بيولوجية، نفسية وعقلية في مختلف مراحل العمر، فضلا عما يواكبها من تغيرات في المحيط الاجتماعي، أو الظروف البيئية المحيطة بالفرد. على أن لا يفهم من ذلك أن لهذا العامل دورًا مباشرًا في قيام السلوك الإجرامي، وإنما يبقى دوره غير مباشر، في مقابل العوامل الرئيسية التي يكون لها الدور المباشر في الإجرام عامة.

المبحث الخامس: التكوين

يراد بالتكوين مجموع الصفات التي تميز الفرد في تكوينه العضوي، العقلي والنفسي. وسنحاول في هذا المبحث دراسة هذه العناصر من خلال ثلاثة مطالب على النحو الآتي˸

المطلب الأول: التكوين العضوي

يمثل التكوين العضوي مجموع المميزات الخِلقيَة المتصلة بشكل الأعضاء ووظيفتها. ويتطلب مدى تأثيره في السلوك المنحرف عموما بحث الصلة بين شكل الأعضاء والإجرام أولا، ثم الصلة بين وظائف الأعضاء والجريمة.

أولا˸ العلاقة بين شكل الأعضاء والظاهرة الإجرامية

كان للمبروزو -كما تقدم بيانه- السبق في ربط الجريمة علميا، بتكوين عضوي/ نفسي معين؛ من خلال فكرته المتعلقة بالمجرم بالفطرة أو المجرم بالميلاد "criminel né" وخلاصتها كما وضحنا سالفًا، أن للمجرمين صفات بدنية خاصة بهم، تميزهم عن غيرهم من الأشخاص العاديين، ونقصد تحديدا السمات الانحطاطية كما وصفها لمبروزو (الخاصة بشكل الجمجمة والوجه، ضيق الجبهة، ضخامة الفكين، عدم انتظام الأسنان...)، فهذه السمات أو الصفات، تجعل المجرم شبيها بالإنسان البدائي الأول وتقوده إلى الإجرام بصورة حتمية.

وقد انتقدت هذه النظرية كما وضحنا سالفا، انطلاقا من أنها فشلت في تقديم تفسير علمي على وجود صلة بين تلك الصفات وبين الحتمية الإجرامية. كما أن فكرة المجرم بالفطرة انتقدت بشدة، استنادا إلى نسبية التكييف التشريعي  للسلوك عموما؛ فما قد يشكل جريمة في زمان ومكان معينين، قد لا يكون كذلك في أزمنة وأمكنة مغايرة. ولذلك، فلا يتصور القول بٲن شخصا ما يولد مجرما، لأنه سيُقَدِمُ حتما على اقتراف سلوك قد يشكل جريمة، وقد لا يكون كذلك تبعا للظروف.

وقد تنبه لمبروزو لهذه الانتقادات، فحاول تعديل نظريته من خلال التخفيف من حدة طرحه، فذهب إلى أن هذه الصفات لا تتوفر في كل المجرمين، وإنما في ربع عددهم فقط وهم المطبوعون بالإجرام.

وفي السياق نفسه، أكد كُورنك Goring في أبحاثه التي قام بها خلال ثمانية أعوام، تميز المجرم بسمات وعلامات بدنية ظاهرة، تميزه عن غيره؛ حيث شملت دراسته ثلاثة آلاف مجرم وعددًا كبيرًا من غير المجرمين فيهم الطلبة، الضباط، المهندسون العمال، بغض المرضى...) فخلص إلى تحقق السمات الانحطاطية، كما وصفها لمبروزو الخاصة « بالمجرم بالفطرة» إذ لا صلة بين هذه الصفات أو العلامات وبين الظاهرة الإجرامية.

غير انه أكد الاختلاف بين المجرم وغير المجرم في صفات أخرى، ترتبط تحديدا بالوزن والحجم، فالمجرم في اعتقاده بشكل عام، اقل وزنا واصغر حجما من غير المجرم، كما أن مستوى ذكائه اقل من مستوى ذكاء غيره من الأسوياء. ولذلك انتهى Goring إلى تمييز المجرم عن غيره بانحطاطية بدنية وعقلية، فما من مفسر للسلوك الإجرامي سوى هذه الانحطاطية أو الضعف، كسبب دافع للإجرام، في مقابل الخصائص الايجابية التي يتميز بها الأسوياء الذين يشقون طريقهم بكل نجاح في الحياة، مبتعدين عن مسالك الجريمة وبراثين الانحراف.

وفي دراسة أخرى لإثبات الصلة بين الصفات العضوية والسلوك الإجرامي، قام الباحث الأمريكي والأستاذ بجامعة هارفارد هوتن Hooton  بدراسة شملت أربعة عشر ألفا من المجرمين المودعين بالسجون والإصلاحيات الأمريكية، ونحو ثلاثة آلاف من غير المجرمين، وخلص من هذه الدراسة، في كتاب نشره سنة 1939، إلى وجود فوارق عضوية بين المجرمين وغيرهم؛ من حيث ملامح الوجه (شكل الجبهة والأنف والشفاه والعيون...) كما انتهى إلى وجود سبعٍ ومائة (107) صفة عضوية دنيا لدى المجرمين مصدرها الوراثة.

وفي دراسة لاحقة ميز بين المجرمين وقسمهم إلى طوائف، فتوصل إلى تميز أفراد كل طائفة بصفات معينة (مقترفي السرقات، مرتكبي جرائم العنف...)

ومقابل الدراسات السابقة، نفت دراسات أخرى وجود أية صلة بين التكوين العضوي الظاهري وبين السلوك الإجرامي، ومنها ما أكدته دراسة شيلدون. التي شملت مائتي (200) حدث؛ حيث أكدت عدم وجود ما يميزهم عضويا عن غيرهم من الأطفال والمراهقين الأسوياء.

ومنهم أيضا الزوجان Glueck، حيث قاما بدراسة خمسمائة حدث وعدد مماثل من الأطفال الأسوياء، فانتهت مقارنتهما إلى إن 60% من الٲحداث يتميزون بقوة البدن بينما 31%  فقط غيرهم من الأسوياء يتميزون بذلك، وٲن 14% من الأحداث يتميزون بالضعف بينما 31% فقط غيرهم من الأسوياء يتميزون بذلك. ولعلها نِسَبٌ كافية لدحض الدراسات السابقة.

فمن الصعب إذا إقامة علاقة مباشرة بين السلوك الإجرامي والصفات العضوية الظاهرة (الخارجية) ، فهذه الأخيرة لا يمكن أن تدفع للإجرام كعامل مباشر، وٳن كان ذلك لا ينفي أن يكون للتكوين السليم والمتناسق تأثير على سلوك صاحبه بشكل عام، فالإنسان يتأثر بلا شك نفسيا واجتماعيا بمدى حظه من التكوين الجسدي فيتأثر سلوكه بهذا التكوين.

ثانيا˸ العلاقة بين وظائف الأعضاء والسلوك الإجرامي

يرى المتخصصون في علم الإجرام وجود صلة وثيقة بين وظائف بعض الأعضاء الداخلية، وتحديدا منها الغدد، وبين السلوك الإجرامي، وقد كان للطب الحديث المرتبط بعلم الغدد "Endocrinologie" الفضل في كشف الكثير من المظاهر الوظيفية للأعضاء عامة؛ فكان من نتائج ذلك إن ظهر في علم الإجرام مجال بحثي آخر، أضحى يعرف «بالفسيولوجيا الجنائية» يركز بالأساس في البحث عن صفات ووظائف فسيولوجية معينة، تصلح للكشف عن مظاهر التكوين البيولوجي للإنسان المجرم. فقد تصاب بعض أعضاء الجسم بتلف، أو ضعف ينتج عنه اضطرابات وظيفية في أجهزة الجسم، سرعان ما ينعكس أثرها على التكوين العقلي والنفسي والعصبي. والغدد كما يقرر علماء الطب نوعان˸ غدد قنوية وغدد صماء .

فالأولى بها قنوات تنقلُ عن طريقها إفرازات معينة إلى داخل الجسم (كالغدد اللعابية) والى خارجه (كالغدد الدمعية والعرقية).

أما الثانية، وهي الغدد الصماء، فتجمع موادها الأولية من الدم مباشرة، لتحولها إلى هرمونات تعيدها إلى الدم؛ الذي يقوم بتوزيعها بدوره على الجسم. ومن أمثلتها الغدتان النخامية والدرقية والغدد التناسلية.

ولوظائف الغدد تأثير مباشر في أداء أجهزة الجسم لوظائفها المختلفة، وبصفة خاصة الجهاز العصبي، وتحديدا ما يرتبط برد الفعل الذي يحدثه الجسم في مواجهة المؤثرات الخارجية، بما في ذلك السلوك الإنساني عامة، والإجرامي بصفة خاصة.

ولذلك، فأي خلل وظيفي يشوب هذه الغدد، يكون له تأثير مباشر في سير أجهزة الجسم. والخلل الغددي نوعان أصلي ومكتسب.

فالأصلي منه يولد به الفرد، ويكون له تأثير كبير في طباع الفرد وحالته النفسية فمثلا˸ زيادة إفراز الغدة الدرقية يؤدي إلى التوتر العصبي والانفعال السريع، بينما قلة إفرازها يؤدي إلى الخمول الذهني.

أما الخلل العارض أو المكتسب، فيصيب الإنسان السليم في فترات عمرية معينة تتميز تارة بنشاط الإفرازات الغددية وتارة أخرى بخمولها. ومن قبيل ذلك، إفرازات الغدد التناسلية؛ التي تعرف نشاطا في فترة المراهقة وخمولا في فترة الشيخوخة وكذلك الأمر بالنسبة إلى الإفرازات الغددية لدى المرأة في فترة الحيض؛ حيث أكدت الدراسات أن المرأة تصبح أكثر حساسية وانفعالا في هذه الفترة. فالعلاقة بين الخلل في وظائف الغدد، وتحديدا منها الصماء، وبين السلوك الإجرامي قائمة بالدليل العلمي، وقد كان Nicola Pende  وDi Tullio  من أوائل العلماء الذين نبهوا لهذه الحقيقة، ليؤكدها العلم الحديث بعد التطور الذي عرفته العلوم الطبية في العصر الحديث. والأمل اليوم معقود على تطور الأساليب الطبية لمعالجة مثل هذه الاختلالات التي لها كبير الأثر في السلوك عامة.

المطلب الثاني: التكوين العقلي

يراد بالتكوين العقلي مجموع الإمكانيات المرتبطة بالإدراك والتفكير، التذكر والتصور... التي تمكن الشخص من تكييف سلوكه، بما يتفق والظروف البيئية.

ويختلف الناس من حيث هذه الإمكانات تبعا لذكائهم؛ فالذكاء إما أن يكون فائقا حادا، وإما متوسطا، عاديا وإما ضعيفا.

ومن حيث نوعه، إما أن يكون˸ فكريًّا أو فنيًّا أو عمليًّا، وذلك بحسب ميول الأفراد واتجاهاتهم في مختلف مجالات الحياة.

ومن حيث مداه، يصنف حسب بعض العلماء إلى ذكاء عام، يشمل كافة القدرات وذكاء خاص ينحصر في كفاءة أو قدرة خاصة.

ولتحديد مستوى الذكاء، عمد العلماء إلى استعمال وسائل متعددة لاختبار معدلاته من ذلك ما استعمله العالمان الفرنسيان بيني وتِرمان "Terman et Binet" وكذلك العالم الأماني ستيرن "Stern".

ومن أشهر هذه الاختبارات، تلك التي تقوم على قياس معدل الذكاء باعتماد المعادلة الآتية˸

معدل الذكاء= العمر العقلي × 100 ÷ العمر الزمني

فمثلا، يختبر ذكاء طفل عمره الزمني عشر سنوات، تمكن من الإجابة على اختبار طفل عمره خمس عشرة سنة على النحو الأتي˸

150%= 100 × 15÷10

ويحدد علماء النفس الذكاء العادي في نسبة تتراوح بين %90 و %110 والذكاء الخارق في ما يزيد على .%120 أما الذكاء الأقل من العادي فهو ذكاء ضعاف العقول وهو ما يقل عن 80%.

والمسؤولية الجنائية عموما تتأثر بالإمكانات العقلية، وتحديدًا بالتخلف أو التأخر أو الضعف العقلي  La débilité mentale / oligophrénie على أن الأهم من ذلك علاقة هذه الإمكانات بالسلوك الإجرامي. فالعلاقة بين الجريمة والضعف العقلي كانت ومازالت مثار جدل وخلاف بين الباحثين؛ فٳلي عهد قريب، كان الكثير من الباحثين الأمريكيين يعتقدون أن اغلب المجرمين  يعانون من ضعف عقلي. وقد كان العالم الأمريكي Goddard من الذين أيدوا هذا الرأي، مستندًا في ذلك إلى الإحصاءات التي قام بها، والتي أثبتت أن 89% من الحكومة عليهم في السجون الأمريكية من ضعاف العقول.

وبالمقابل، أكدت دراسات أخرى أن نسبة توزيع الذكاء بين المجرمين لا تختلف كثيرًا عن نسبة توزيعها بين الأشخاص الأسوياء.

وبالمقابل، أكدت دراسات أخرى أن نسبة توزيع الذكاء بين المجرمين لا تختلف كثيرًا عن نسبة توزيعها بين الأشخاص الأسوياء.

كما قام Sutherland في الولايات المتحدة الأمريكية، في عامي 1928 و1929 بمقارنة نتائج خمسين وثلاثمائة (350) اختبار من اختبارات الذكاء أجريت على ما يقرب من خمسة وسبعين ومائة ألف (175000) مجرم، خلص من خلالها إلى أن العلاقة بين الجريمة وبين الضعف العقلي غير وثيقة، والى أن أهمية الضعف العقلي كعامل إجرامي اقل بكثير من أهمية عامل النوع أو السن، وان كان ذلك لا ينفي في نظره ما قد يكون للضعف العقلي من أهمية بالغة في حالات إجرامية خاصة.

وإذا كانت الصلة بين الضعف والتخلف العقلي والسلوك الإجرامي غير مباشرة، فان مستوى الذكاء يؤثر في السلوك الإنساني بصفة عامة والإجرامي على وجه الخصوص وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها. وقد تصدى بعض الباحثين إلى إجلاء هذه العلاقة فانتهوا إلى نتيجتين في غاية الأهمية˸

الأولى˸ إن الضعف والتخلف العقلي ليس بذاته سببا للجريمة، ولكنه بدون شك عامل مساعد على الإجرام ومسهل للانحراف، فكلما ضعفت قدرات الفرد العقلية وانخفض معدل ذكائه، كلما ضعفت قدراته على التحكم في دوافعه الغريزية، وكلما حدث العكس كلما كان أكثر سيطرة على غرائزه، ويبدو الأمر أكثر وضوحا في حالة التخلف العقلي حيث يزداد احتمال وقوع الفرد في براثين الإجرام، بسبب عدم قدرته العقلية على ضبط تصرفاته وتقدير النتائج المترتبة عليها، وهو ما يجعله سهل الخضوع والانقياد للآخر، ضعيف الإرادة ٲمام اشتداد غرائزه، قليل المقدرة على إشباع حاجاته بالوسائل المشروعة، فيلجا إلى السلوك الأيسر والأسهل في سبيل تحقيق ملذاته المتمثل في الجريمة والانحراف.

الثانية˸ أن ذكاء يؤثر بشكل جدري في نوعية الجرائم المرتكبة، ولعل تنوع الجرائم المقترفة خير دليل على ذلك؛ إذ يميز الباحثون في هذا الصدد بين جرائم الذكاء وجرائم الغباء.

النوع الأول يتطلب قدرات ذهنية هائلة، وتدخل فيه جرائم النصب والاحتيال والجرائم الاقتصادية بصفة عامة ويزداد إقبال للمجرمين الأذكياء على هذا النوع من الجرائم.

في ما يقبل ضعاف العقول من المجرمين على النوع الثاني من الجرائم، إذ لا يتطلب تنفيذها قدرات ومهارات عقلية خاصة، ومنها التسول، السرقات البسيطة، هتك العرض....

وقد حاول بعض الباحثين في علم الإجرام التأكد من هذه الحقيقة، فقاموا بدراسة شملت عددًا من مرتكبي جرائم الاحتيال، وعددًا من مرتكبي جرائم السرقة، وعددًا من رجال الشرطة؛ فانتهوا في أبحاثهم إلى أن أكثر العينات من المجموعات المدروسة ذكاءهم المحتالون، يليهم رجال الشرطة، ثم اللصوص باعتبارهم الأقل ذكاء.

وبذلك، يتجلى التأثير غير المباشر للضعف أو التخلف العقلي على الجوانب النفسية والغريزية والاجتماعية من جهة وعلى أنواع الجرائم المرتكبة من جهة أخرى، وان كان لا يشكل وحده سببا للإجرام، وإنما يكون كذلك عندما تتضافر معه عوامل أخرى.

المطلب الثالث: التكوين النفسي

يدخل في التكوين النفسي الجانبان الغريزي والعاطفي، وفي ما يلي نبحث هذين الجانبين في فرعين على التوالي.

الفرع الأول: مدى تأثير الجانب الغريزي في  السلوك

يشكل الجانب الغريزي مجموع الميول الفطرية الكامنة في كل نفس، والتي تدفعها إلى انتهاج سلوك معين. فالدوافع هي القوى المحركة التي تبعث النشاط في الكائن الحي، وتوجهه نحو هدف أو أهداف معينة .

ويصنف علماء النفس المحدثون الدوافع إلى قسمين رئيسين هما˸

أولا˸ دوافع فسيولوجية، وتسمى أيضا الدوافع الاولية، وهي الدوافع الفطرية التي ترتبط بحاجات البدن الفسيولوجية، وما يحدث في أنسجة البدن من نقص أو اختلال الاتزان، وتقوم بتوجيه سلوك الفرد إلى الأهداف التي تشبع حاجات بدنه الفسيولوجية.

ثانيا˸ دوافع نفسية روحية، وتسمى أيضا الدوافع الثانوية، وتتعلق بحاجات الإنسان النفسية والروحية.

والدوافع الفسيولوجية قسمان˸ احدهما ضروري لحفظ الذات، والأخر ضروري لبقاء النوع.

فٲما دوافع حفظ الذات وبقاء الفرد فمثلها الجوع، العطش، التعب، الحرارة، الألم، التنفس، وتعمل دوافع حفظ الذات في خدمة دافع حب البقاء، فهي بإشباعها حاجات البدن الفسيولوجية، إنما تعمل على بقاء الفرد واستمرار حياته.

وأما دوافع بقاء النوع، فتتمثل في الدافع الجنسي الذي يقوم بوظيفة هامة، هي التناسل لبقاء النوع.

إما الدوافع النفسية الروحية، فهي التي تتجه اتجاها واعيا، يرمي إلى هدف معين غالبا ما يكون معنويًّا، ومنها غريزة حب السيطرة. حب الاستطلاع... ، ومنها كذلك ما هو روحي كدافع التدين، حب الحق والخير والعدل وكره الشر والباطل والظلم...

ويذهب بعض الباحثين في علم النفس إلى أن اغلب علماء النفس قد اغفلوا في دراستهم للدافعية، الدوافع الروحية على وجه الخصوص، رغم أنها ما يميز الإنسان عن الحيوان. ويعد A.Maslow من علماء النفس المعاصرين الذين نبهوا لهذه المسالة.

وتجدر الإشارة إلى أن مختلف الدوافع أو الغرائز تولد انفعالات مختلفة كاستجابة لها، فغريزة الطعام انفعالها الجوع، وغريزة الهرب انفعالها الخوف، غريزة المقاتلة انفعالها الغضب، الغريزة الجنسية انفعالها الميل الجنسي، وغريزتا الأمومة والأبوة انفعالهما الحنان...

أولا˸ صلة الغرائز بالسلوك الإنساني

لا شك في أن الغرائز تؤثر بشكل كبير في الإنسان، فهي بالنسبة إليه الدافع إلى انتهاج سلوك معين. ويتخذ موقف الإنسان منها شكلين، فأما يسيطر على غرائزه ويتحكم فيها، فتكون أفعاله المتأثرة بالغرائز متفقة مع القانون، وإما يستجيب لغرائزه الفطرية البدائية، بشكل مطلق دون قيود تضبطها وتهذبها، فيقترف أفعالا تشكل سلوكيات منحرفة أو إجرامية.

ولذلك، فأي اضطراب أو شذوذ يعتري الجانب الغريزي، يكون له صداه على السلوك متخذًا عدة صور أهمها˸ ارتفاع حدة الغرائز عن الحد العادي أو ضعفها عن ذلك الحد أو انحرافها عن الاتجاه الطبيعي.

ثانيا˸ علاقة الشذوذ الغريزي بالسلوك المنحرف أو الإجرامي

لبعض الجرائم علاقة وطيدة بالشذوذ، الذي يمكن أن يعتري الغرائز أو الدوافع، غير أنها ليست صلة حتمية، وإنما هي صلة احتمالية؛ يقتصر نطاقها على الحالة التي يكون فيها الشذوذ أو الاضطراب الغريزي الدافع الأساس إلى ارتكاب الجريمة، في ما تنتفي هذه الصلة في حالات أخرى، ترتبط تحديدا بحالة الإرادة القوية والصلبة، التي يستطيع الفرد من خلالها السيطرة على غرائزه، ومن ثمة سلوكه رغم اضطراب غرائزه أو بعض منها.

وقد أسهب بعض العلماء في بيان اثر الغرائز في تفسير الظاهرة الإجرامية، وتحديدا  الحالات المرتبطة بوجود اضطرابات غريزية، ومن قبيل ذلك، جنون السرقة "Cleptomania" كحالة يندفع فيها الشخص إلى سرقة أشياء تافهة ليس بدافع الحاجة إليها، وإنما إشباعا لغريزة التملك.

ومن الاضطرابات الغريزية أيضا التي حظيت باهتمام الباحثين، تلك المتصلة بحب البقاء، والغريزة الجنسية والتناسلية...

فمن مظاهر الشذوذ الذي تصاب به غريزة حب البقاء، الشراهة إلى الطعام؛ مما يدفع الشخص إلى ارتكاب جرائم الاعتداء على الأموال (سرقة المأكولات، النقود...) ومن ابرز الاضطرابات التي تصيب الغريزة الجنسية؛ الهياج الجنسي، والانحراف في توجيه الغريزة الجنسية، ومن مظاهر الهيجان اندفاع المصاب إلى ارتكاب الجرائم الجنسية كالاغتصاب والمواقعة وهتك العرض... وكذلك من صور الانحراف في توجيه الغريزة، الميل الجنسي إلى إنسان آخر من الجنس نفسه (اللواط والسحاق) والميل نحو الحيوانات والميل نحو الأطفال، "Pédophilie" والميل نحو الأقارب والمحارم. ومن مظاهر الشذوذ الجنسي أيضا الميل نحو إيلام الآخر (السادية Sadisme) ففي هذا النوع من الشذوذ، يلجا الشخص في سبيل إشباع غريزته الجنسية إلى تعذيب الطرف الآخر بالضرب والجرح وربما القتل. ويقابل السادية حالة تسمى (المازوشية Masochisme) تتمثل في السعي إلى الحصول على الارتياح عن طريق تحمل العذاب الناجم عن أفعال قسوة ينزلها به شخص آخر. وتكمن جريمة الماسوكي في ما يقوم به من تحريض للشخص الآخر على توقيع أعمال العنف عليه. فرضاء المعنف لا يبرر ولا يبيح هذه الأفعال الشاذة أو المنحرفة.

الفرع الثاني: مدى تأثير الجانب العاطفي في السلوك

إذا كانت العاطفة  ترمز إلى مجموع الأحاسيس والمشاعر المخزنة في هذا الجانب من النفس البشرية، فإنها تشمل كذلك –كمفهوم- مدى القابلية للانفعال ودرجة القدرة على الاحتمال. وقد يشوب هذا الجانب من الشخصية بعض الاضطرابات والاختلالات التي تكون سببًا في ظهور عقد نفسية.

ويطلق على الخلل، أو الاضطراب الذي يرتب العقد النفسية، السيكوباتية Psychopathie، وهي كما تقدمت الإشارة إليه، اضطرابات تعتري الشخصية الإنسانية دون أن تصل إلى درجة المرض العقلي، وتجعل شخصية المصاب بها غير متلائمة مع القيم والمعايير الاجتماعية "Troubles de la personnalité caractérisés par des conduites antisociales et l’abscence apparente de culpabilité"، فنجده لا يستنكر أفعالا تقرها القيم المذكورة، وفي هذا ما قد يحمله على ارتكاب أفعال إجرامية. وقد عجز العلماء عن تشخيص السبب الرئيس المفسر للسلوك السيكوباتي، ومنهم من رد السيكوباتية إلى عامل الوراثة، فربطها بالتكوين الوراثي كعيب يولد مع الشخص ويلازمه طوال حياته. وسندهم في ذلك بعض الدراسات التي أجريت على بعض الأسر، التي أكدت أن هذا الخلل أو الاضطراب يكاد يلازم شخصية جميع الإفراد الذين ينتمون إلى أسرة واحدة. في ما رده بعض العلماء إلى الظروف البيئية؛ حيث أكدت بعض الدراسات التي أجريت في لندن على مجموعة من الأفراد تتراوح أعمارهم ما بين ثمانٍ وثمانٍ وأربعين سنة ٲن السيكوباتيين عانوا من إهمال اسري بسبب تفكك الأسرة أو عدم اهتمام الوالد أو تعدد أفراد الأسرة بل وحتى رداءة الظروف المعيشية ...

ومن أهم الاضطرابات التي تصيب الجانب العاطفي، عقدة الشعور بالظلم والشعور بالذنب والشعور بالنقص، وهي كلها قد دوافع رئيسة لارتكاب بعض الجرائم. ففي الحالات السابقة، يتجرد المجرم من القيم والمبادئ التي تدين بها الجماعة، فينعدم تأثيرها فيه كضابط اجتماعي.هذا، وقد صنف المختصون الأشخاص السيكوباتيين إلى˸ ضعاف الإرادة – متلبدي العواطف- متقلبي الأهواء- سريعي الانفعال.

المبحث السادس: المرض

أكد الباحثون في علم الإجرام أن المرض، كأحد العوامل الذاتية الفردية، قد يدفع إلى ارتكاب الجريمة، وتختلف درجة تأثير الأمراض في السلوك الإنساني عامة بحسب نوعها بل ودرجتها. وسنحاول في هذه الدراسة، التركيز على الأمراض التي ثبت لدى العلماء صلتها الوثيقة بالسلوك الإجرامي، مصنفين إياها إلى ما هو عضوي، ماهو عقلي وما هو نفسي.

المطلب الأول: مدى الصلة بين بعض الأمراض العضوية والسلوك الإجرامي

من الثابت علميا أن المرض الذي يصيب احد أعضاء الجسم يؤثر في الغالب بقدر أو بآخر، في الأداء الوظيفي لبقية الأعضاء، بسبب ما يوجد بينها من تكامل في التكوين والأداء. ثم تنعكس اثأر الاختلال أو المرض على الجوانب النفسية لدى المريض، فيصير أكثر حساسية وٲشد انفعالا.

ومن أهم الإمراض العضوية التي تؤثر في السلوك عامة˸ السل، الزهري والتهابات أغشية المخ...

و قد أنكر العلماء، في بادئ الأمر، أية علاقة بين مرض السل والظاهرة الإجرامية، ورد بعضهم ذلك إلى عدم توفر الأجهزة الدقيقة القادرة على كشف هذا المرض، وتحديد أثاره. غير أن الأمر تغير في ما بعد، بفضل التقدم العلمي؛ حيث أثبتت الأبحاث التي أجراها العالمان "Di Tullio"و"vervack" وجود علاقة بين مرض السل والسلوك الإجرامي.

فمن الأبحاث التي قام بها دي توليو، والتي خصت ألف مجرم، انتهى إلى أن ما يزيد عن 20% منهم مصابون بهذا المرض، وقد حاول بعض الباحثين التشكيك في هذه النتيجة استنادا إلى أنها أجريت على محكوم عليهم بمدد طويلة، مما يمكن معها القول أن سبب إصابتهم به تعود لسوء التغذية، وقسوة الحياة داخل السجون، بل وانتشار العدوى داخلها، وهو ما يفيد إصابتهم به دخولهم المؤسسة العقابية. غير أن الدراسة التي قام بها فيرفاك، فندت هذا الشك، حيث انتهى في دراسته التي خصت ثلاثة وستمائة وألف (1613) سجين، أن 10% منهم انحدروا من اسر مصابة بالمرض.

وحسب الدراسات السابقة، فهذا المرض يضعف قدرة الشخص على التحكم في سلوكه، كما يصحبه اضطراب نفسي يجعله شديد الحساسية، سريع الانفعال، سهل الانسياق إلى أعمال العنف بشكل قد يصل إلى حد الجريمة.

ومن الأمراض الجنسية كذلك، ما يصيب الجهاز العصبي باضطرابات تضعف القدرة على كبح جماح الغرائز والدوافع، ما قد يَسْهُلُ معه الٳقدام على اقتراف الجرائم، خاصة عندما يكون لدى المريض استعداد إجرامي سابق.

ومن الأمراض كذلك، ما يصيب الإمكانات العقلية، كالالتهابات التي تصيب أغشية المخ بسبب الحمى؛ حيث تحدث الأخيرة اضطرابات في القدرات العقلية، كاضطراب الذاكرة، عدم القدرة على الإدراك والتفكيرالكاملين... وهو ما يؤثر في السلوك عمومًا.

المطلب الثاني: مدى الصلة بين المرض العقلي والسلوك الإجرامي

إذا كانت أهمية الضعف العقلي كعامل إجرامي، محدودة نسبيا كما سبق بيانه، فان الوضع يختلف بالنسبة إلى المرض العقلي، الذي يمثل اختلاطا، وعدم انتظام في القوى الذهنية، يؤدي إلى انحراف نشاطها عن النحو الطبيعي.

والٲمراض العقلية متنوعة، فمنها ما ينال كل القوى الذهنية للمريض ويتصف بالاستمرار، ويطلق عليه الجنون المطبق أو الجنون العام (la folie générale)، ويميزه اعتلال القوى الذهنية للمريض، واختلال الذاكرة وقلة الانتباه، وعجز الإرادة عن التحكم في الغرائز. ويكون من نتيجة ذلك كله، أن يندفع المريض إلى ارتكاب كثير من الأفعال الإجرامية دون محاولة إخفائها كالسرقة في واضح النهار، الحريق والتشرد وجرائم هتك العرض وغيرها.

ومن الجنون أيضا، ما هو متقطع ودوري périodique، حيث يتخذ صورة نوبات دورية تتخللها فترات إفاقة تكون القوى الذهنية فيها طبيعية، وتبدو خطورة الاعتلال في فترات النوبات؛ إذ تتعطل القوى الذهنية للمريض، فيقدم على ارتكاب أفعال إجرامية دون أن يدرك معناها. ولذلك، فهو لا يسال عن أفعاله المجرمة، على إن تثبت الخبرة الطبية إصابته بالمرض وفقدانه الإدراك والإرادة أثناء ارتكابه للسلوك الإجرامي.

ومن الأمراض العقلية. بل وأخطرها ما يعرف ب "la schizophrénie" كما سماها عالم النفس السويسري "Eugéne Bleuler" وتكثر الإصابة بهذا المرض على الخصوص في سن الشباب (ما بين 18 و25). واهم ما يميز المصاب به الانعزال عن المجتمع، والعيش في عالم من الخيال،ويصحب ذلك بلادة في الشعور، اختلال في التفكير وبرودة في الانفعال ... وقد يصاحب تلك الأعراض نوع من الهلوسة "Hellucinations"  تتمثل في سماع المريض اصواتا غير موجودة في الواقع، أو رؤية أشياء غير ماثلة أمامه في الحقيقة. وهذه كلها أعراض مرضية، قد تدفع بالمريض إلى ارتكاب أفعال إجرامية.

ومن الأمراض العقلية أيضا، ما يعرف «بجنون العقائد الوهمية»   أو البارانويا " paranoia "، وهي احد الأمراض التي تصيب الإنسان في أواسط عمره، واهم ما يميز المريض بها، وان كان لا يبتعد عن الواقع كما هو الشأن في الانفصام، انه يعاني من معتقدات وهمية، ومشاعر لا أساس لها تسيطر على تفكيره؛ بحيث يستحيل عليه الفكاك منها. واهم صور هذه المعتقدات،  اعتقاده انه مضطهد من احد الناس أو بعضهم (persécution) ، أو اعتقاده انه احد العظماء أو الشخصيات التاريخية الهامة...

ويتكيف سلوكه في ضوء المعتقدات الخاطئة، وقد يدفعه ذلك إلى ارتكاب بعض الجرائم تحت تأثير الأفكار الخاطئة المسيطرة عليه.

فقد يتوهم المريض مثلا، انه ضحية اضطهاد؛ الأمر الذي قد يدفعه إلى ارتكاب جرائم القتل، أو الحريق ضد من يعتقد أنهم يضطهدونه، كذلك قد يولد لديه شعور شديد بالغيرة نحو من يحب، مما يؤدي به أحيانا إلى قتله مخافة فقدانه.

المطلب الثالث: الصلة بين المرض النفسي والعصبي والسلوك الإجرامي

أولا˸ الأمراض العصبية Nevroses

يراد بها الخلل الذي يصيب الجهاز العصبي، و يؤدي إلى انحراف نشاطه عن النحو الطبيعي. والأمراض العصبية متعددة، وأظهرها الهستيريا Hysetérie ، الصرع Epilepsie والنورستانيا Neurasthénie.

وتمثل الهستيريا نوعا من رد الفعل الذي يصدر عن المريض إزاء ظروف معينة وقد يتخذ رد الفعل هذا صورة هدوء شديد، تعطي انطباعا بٲن المريض لا يحس بالعالم المحيط به،  فلا يلتفت إلى ٲحد ولا يرد على من يناديه. كما  يمكن أن يتمثل رد الفعل في نوبة تشنجية،  أو بكاء وصراخ أو إغراق في الضحك.

ومن ٲخطر صور هذا المرض، ما يعرف بالهستيريا التسلطية؛ حيث تسيطر على المريض فكرة معينة تدعوه إلى إتيان فعل معين دون ما سبب معقول،  فلا يهدا من تسلط الفكرة وسيطرتها عليه إلا بعد ارتكابه الجريمة. وتعد السرقة المرضية (Vol pathologique ) احد مظاهر الأفكار التسلطية المرتبطة بالمرض، إذ تظل فكرة السرقة مسيطرة على المريض حتى يقدم على سرقة آي شيء ولو لم يكن بحاجة إليه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحريق؛ حيث يجد المريض نفسه مدفوعا بقوة لا يقهرها إلا إشعال النار (Pyromanie).

أما الصرع، فهو نوبات يفقد فيها المريض وعيه، ويتعرض بالمقابل لدوافع لا قدرة له على مقاومتها قد تحمله على ارتكاب الجرائم. ويقترن الصرع في الغالب، بمظاهر بدنية تبدو خلال النوبة متمثلة في التشنج، الشعور بالاختناق...

ويسبق هذه النوبات ويعقبها اضطرابات في الإمكانات الذهنية، أهم ما يميزها صعوبة التفكير والإدراك والتذكر والهذيان.

وهناك نوع من الصرع يوصف بالصرع النفسي،  لا تقترن نوباته بمظاهر بدنية إنما يقتصر تأثيرها في القوى النفسية للمصاب؛ فتؤذي إلى انحرافها وارتكاب بعض الجرائم (كجرائم القتل،  الجرائم المنافية للأخلاق، التشرد).

دون أن يدرك معناها. ولذلك،  فهو لا يسال عن أفعاله المجرمة، على أن تثبت الخبرة الطبية إصابته بالمرض وفقدانه الإدراك والإرادة أثناء ارتكابه للسلوك الإجرامي.

أما النورستانيا. فتبدو من خلال أعراض معينة؛ تتمثل في الشعور بانحطاط القوى البدنية وضعف القدرة على أداء العمل، سيطرة الشعور بالاكتئاب والتشاؤم واليأس... وهذه كلها مشاعر نفسية. قد تؤدي بصاحبها إلى ارتكاب أفعال إجرامية.

ثانيا˸ الأمراض النفسية

المرض النفسي هو نوع من الأمراض يصيب الجانب النفسي للإنسان ولكنه لا يؤثر في قواه الذهنية. وغالبا ما تكون أعراضه نفسية وعضوية في الوقت نفسه. واهم الأمراض النفسية القلق أو الخوف المرضي "Les Phobies" الإرهاق النفسي.

فالقلق شعور ينتاب المريض ويجعل المخاوف تسيطر عليه، فيمتنع عن اتخاذ مسلك معين يبدو طبيعيًّا في نظر الناس. وتتطور هذه المخاوف إلى حد يخرج عن الطبيعي والمألوف. ومن ذلك الخوف من الجلوس في مكان مغلق، أو الخوف من السكن في طابق مرتفع... وقد يترتب على الشعور المستمر بالقلق والخوف عجز المريض عن مواجهة الحياة، فيقدم على الانتحار أو أفعال إجرامية أخرى في محاولة منه التخلص مما يؤرق نفسيته. ويرجع بعض العلماء هذا المرض إلى كبت الغريزة الجنسية.

أما الإرهاق النفسي، فتتجلى أعراضه في ضعف الذاكرة، وعدم القدرة على اتخاذ قرار حاسم في المشاكل التي يتعرض لها المصاب به، مع الشعور بالوهم والوسوسة فضلا عن أعراض الصداع و الدوار والاضطرابات المعوية، وتعد الوسوسة من اخطر عوارض هذا المرض ؛ حيث تفرض على المريض إتيان أفعال يعلم إلا ضرورة لها، وأنها استجابة للوسوسة فحسب. ومع ذلك، يقدم على ارتكابها حتى يهدا باله رغم ما قد تشكله من خروج عن القانون.

ويرى بعض العلماء أن إفرازات الغدد الصماء هي المسؤولة عن هذا المرض. في ما يرجعه آخرون، ومنهم فرويد إلى الإفراط في الشذوذ الجنسي، أو في إشباع الغريزة الجنسية.

فالمرض النفسي إذا، اضطراب وشذوذ يصيب القوى النفسية، بما في ذلك الغرائز والعواطف. ويؤدي إلى انحرافها عن النحو الطبيعي. والغالب في هذا الشذوذ أن يجعل شخصية المصاب به غير متلائمة مع القيم الاجتماعية؛ فلا يستنكر أفعالا تنكرها هذه القيم أو يستنكر ما نقره القيم المذكورة، وما قد يشكل خروجا عن القانون ومن اظهر حالاته كما تقدم بيانه «السيكوباتية » حيث يتميز السيكوباتي"Le psychopathe" بخصائص رئيسة أهمها˸

العجز عن التحكم في الغرائز، حيث يندفع المصاب بكل قواه إلى إشباعها دون أن يقيم ما قد يعترضه من صعوبات، أو ما قد يرتبه فعله من نتائج.

كما يتميز السيكوباتي بسلوكه الاجتماعي المنحرف، فهو غالبا ما يرتكب أفعالا عدائية للمجتمع ولا يعبا بالمسؤولية ولا يتأثر بالذم أو المدح.

فضلا عن أن بعض تصرفاته تبدو غير منطقية، إذ قد يكون غنيا ويلجا للسرقة لمجرد اللذة. كما انه أناني بطبعه إلى ابعد حد، ولذلك فهو لا يشعر بمعاناة الآخرين وآلامهم. وهو كذلك شخص يفشل غالبا في التجاوب الوظيفي؛ فهو كقاعدة عامة لا يجيد مباشرة وظيفته أو كثيرا ما يخطئ في مباشرتها ولا يتعلم من أخطائه شيئًا، بل يقع فيها مرارا، دون أن يحاول الاستفادة من تجاربه السابقة. كما يفشل في الغالب في دراسته، بل وحتى في اختيار شريك حياته، وقد يصاحب هذه الاختلالات أو الاضطرابات شذوذ جنسي (Perversion Sexuelle).

فالخصائص المتقدمة توضح لنا إلى أي حد تعد السيكوباتية من عوامل الإجرام فعجز المصاب بها عن ضبط غرائزه وعدم تلاؤم شخصيته مع القيم الاجتماعية واتصافه بالأنانية وعدم قدرته على التكيف الوظيفي.... كل ذلك قد يدفعه إلى ارتكاب أفعال إجرامية بسبب الشذوذ الذي تعرفه شخصيته.

المبحث السابع: المواد المسكرة والمخدرة

من المؤكد علميا أن هناك صلة بين تعاطي المخدرات والسلوك الإجرامي، سواء من حيث الكم أو النوع. ويتضح هذا التأثير بصفة خاصة، حينما يكون لدى المتعاطي استعداد إجرامي كامن؛ إذ المخدر أو المسكر يجعل الشخص أكثر جرأة وإقداما على ارتكاب الأفعال الإجرامية، كما انه يبدد المخاوف التي قد تحول دون ارتكابها. ولذلك يتعمد بعض المجرمين تناول بعض المخدرات أو المسكرات قبل ارتكاب الجريمة حتى يسهل عليهم تنفيذها.

وتعتبر هذه الحالة خصيصة بيولوجية، تنتقل من الأصول إلى الفروع عن طريق الوراثة فيميلون بدورهم إلى شرب الخمر الذي يعد من عوامل الإجرام.

بل الأخطر من ذلك، إن وجود احد الأبوين أو كلاهما في حالة سكر وقت الاتصال الجنسي الذي يتم به الحمل قد يؤدي إلى إصابة الجنين بتشوهات تصيب إمكاناته العقلية والنفسية، التي تعد أيضا من عوامل الإجرام.

ومن الناحية الاجتماعية، يعاني أبناء المدمنين منذ طفولتهم، ظروفا أسرية سيئة بسبب تخلف الأب المدمن عن القيام بدوره في التربية والتوجيه والرعاية، ولذلك تسيطر عليهم نزعة الاستهتار وعدم المبالاة، ناهيك عما يسببه الإدمان أو التعاطي من خلافات بين الزوجين لينعكس ذلك سلبًا على الأبناء، وقد أثبتت الدراسات والأبحاث السوسيولوجية كل ذلك. ولا شك أن ظروفا كهذه، قد تدفع بالأبناء إلى طريق الجريمة. ولذلك ذهب بعض الشراح –ونحن نوافقهم الرأي- إلى حد القول أن علاج ظاهرة الإدمان أو التعاطي هو مفتاح علاج المنحرفين أو المجرمين.

الفصل الثاني: العوامل الخارجية أو البيئية

تمهيد˸

ٲشرنا في ما تقدم إلى أن الجريمة في نهاية المطاف، ما هي إلا نتيجة العوامل الداخلية أو الخارجية. وقد وضحنا بإسهاب اثر العوامل الداخلية في السلوك عمومًا والإجرامي على وجه الخصوص. وفي ما يلي، نفرد هذا الفصل لدراسة العوامل الخارجية والتي لا تخرج عن كونها، إما جغرافية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية...

ولذا سنتناول هذه العوامل تباعا، لبحث مدى تأثيرها في الإنسان، أو بالأحرى مدى علاقتها بالسلوك الإجرامي.

المبحث الأول: مدى الصلة بين العوامل الجغرافية والظاهرة الإجرامية

هي مجموع الظروف الطبيعية التي تسود في منطقة معينة( كالطقس، درجة الحرارة أو البرودة، طبيعة التربة والأرض...). وبالرغم من اختلاف الباحثين حول مدى تأثير هذه العوامل بشكل مباشر في السلوك الإنساني عمومًا، والإجرامي على وجه التحديد. إلا أنهم لم يختلفوا في كونها ذات تأثير غير مباشر بالنسبة إلى الإنسان. فطبيعة التربة مثلا، من حيث كونها صحراوية أو خصبة، سهلة أو وعرة، ذات علاقة وطيدة بالكثافة السكانية، بل ومستوى الغنى والفقر.

فالمناخ (من حرارة وبرودة وأمطار ورياح...) له تأثير كبير في السلوك عموما. ومن الدراسات السباقة لإثبات ذلك، الدراسة التي قام بها كل من كتليه وكيري؛ حيث أكد كل منهما، من خلال قانون عام بحكم حركة الجريمة، ارتفاع جرائم العنف في الجنوب الحار، في مقابل جرائم الاعتداء على الأموال التي تكثر في الشمال البارد.

ولعل السبب في ذلك، تأثير ارتفاع درجة الحرارة على أجهزة الإنسان؛ بما في ذلك قواه الجنسية والعاطفية، ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة جرائم العنف والجرائم الأخلاقية في الأشهر الحارة والعكس صحيح.

ورغم وجاهة هذا الطرح، فانه يبقى في نظرنا متواضعا؛ إذ انه لا يمكن أن يفسر بمفرده السلوك الإجرامي، هذا الأخير الذي يعود، كما ٲشرنا سالفا، إلى تظافر مجموعة من العوامل منها ما هو داخلي وما هو خارجي.

ومن حيث التواجد الجغرافي، فمن المؤكد إحصائيا أن ارتفاع معدلات الإجرام مرتبط بالمدن الكبرى، مقارنة بنظيره في المدن الصغرى أو حتى في القرى. وقد ربط بعض علماء الإجرام ذلك بارتفاع مستويات المعيشة، ومغريات الحياة داخل المدن الكبرى مقارنة بالصغرى أو القرى؛ حيث يسعى الفرد لإشباع تلك الحاجات بصور لا تكون مشروعة دائما (نظرية الأهداف والمعايير كما شرحها ميرتون). فضلا عن التفكك الاجتماعي. وضعف الروابط الاجتماعية والأسرية في المدن مقارنة بالقرى (نظرية التفكك الاجتماعي عند سيلين) ، علاوة على أن المدينة، بحجم سكانها وضخامة أبنيتها، وكبر مساحتها، توفر نوعا من الأمان والسرية للمجرمين للاختفاء فيها. ناهيك عن وجود أماكن اللهو والتسلية ورفقاء السوء، وهي عوامل دافعة ومحفزة على الانحراف. بعكس حياة الريف، المتسمة عموما بتماسك العلاقات الاجتماعية ومثانتها... كما أن الفرد في الريف، تحكمه عادات الجماعة التي ينتمي إليها. فتتأصل في نفسيته وتنعكس على سلوكه.

هذا في ما يتعلق بالاختلاف الكمي بين معدلات الإجرام في المدن ونظيرتها في القرى، أما في ما يخص نوعية الإجرام السائد في كلتيهما، فالاختلاف بينهما واضح في هذا الخصوص؛ إذ غالبا ما ترتكب في الريف جرائم العنف من ضرب وجرح وإيذاء، جرائم الثار، وكذا الحريق، إتلاف المزروعات أو تسميم المواشي، وجرائم السرقات... بينما تسود في المدن جرائم القتل، الاغتصاب، الإجهاض، السرقات، التزوير، الاختلاس، الرشوة، بل إن المدن تعرف جرائم أكثر تعقيدًا كما هي الحال بالنسبة إلى الجرائم الالكترونية، كالسرقة والاختلاس بواسطة بطاقات السحب البنكية، القرصنة المعلوماتية الخ.

المبحث الثاني: مدى الصلة بين المحيط الاجتماعي والظاهرة الإجرامية

إذا كانت كلمة المحيط الطبيعي تشمل الأرض، التربة، المناخ... فٳن عبارة المحيط الاجتماعي أوسع بدورها وأكثر شمولية؛ حيث يدخل فيها مفهوم الأسرة، المسكن (الحي والجيران)، المدرسة والعمل والأصدقاء.

المطلب الأول: الأسرة

لاشك في أن الأسرة هي اللبنة الأساس في بناء شخصية الفرد، بشقيها الوجداني العاطفي والنفسي. والمراد بالأسرة هنا، مفهومها الضيق أي (الأب وإلام)؛ فإما أن تكون عاملا ايجابيا في تنشئة الفرد وبناء شخصيته بشكل متوازن ومتناسق، متى توافرت فيها مقومات الأسرة الصالحة، وإما أن تكون عاملا سلبيا، يؤثر بشكل مباشر في الفرد وبنيانه النفسي والعاطفي متى كانت فاسدة. متفككة أو ممثلة.

ومن هنا، تبدو العلاقة الوطيدة بين الأسرة والسلوك الإجرامي، وتحديدا لدى الجانحين الأحداث، الذين غالبا ما تكون ظروفهم الأسرية غير ملائمة أو غير صحية (كإدمان الأب، الطلاق، الفقر، البطالة، امتهان الأم للدعارة أو التسول...) ، فيسلك الحدث سبيل الجريمة، كرد فعل أو تمرد على الأوضاع السيئة التي عاشها أو يعيشها. ولعل بعض الدراسات الميدانية التي أجريت، في هذا الصدد تؤكد هذا الطرح؛ إذ أثبتت أن مستوى الأسرة (بما في ذلك مستواها الثقافي/ التعليمي، سكنها، دخلها...) كلها عوامل تؤثر بشكل مباشر في تنشئة أطفال هذه الأسر وتربيتهم، بل هي السبب المباشر في انحرافهم، وقد انتهت النتائج في إحدى الدراسات إلى أن نسبة 45% من العينة محل البحث سبب انحرافها الظروف الأسرية، في ما يأتي رفقاء السوء في المرتبة الثانية بنسبة 18,33%، كأحد العوامل المؤثرة وفي المرتبة الثالثة العوامل النفسية بنسبة 15%، ثم الظروف الاقتصادية بنسبة 11,67%، فالإهمال الأسري بنسبة 6,67%، وأخيرا الفشل المدرسي بنسبة 3,33%.

وبذلك يبدو واضحا أن الظروف الأسرية هي التي تحظى بنصيب الأسد من بين العوامل الدافعة للإجرام بالنسبة إلى الأحداث في الدراسة المشار إليها.

المطلب الثاني: المسكن

يشمل المسكن العوامل والمؤثرات المادية المحيطة بالفرد في مضجعه الذي يأوي إليه بما في ذلك (موقعه، سعته، قدر التهوية فيه أو الضوء أو أشعة الشمس، درجة نظافته ومدى مراعاة الشروط الصحية فيه...) فكل هذه العوامل تؤثر بشكل كبير في التكوين الجسماني والنفسي للفرد، وهو ما ينعكس سلبا أو إيجابا على سلوكه.

وقد عبر علماء الإجرام الأمريكيون على المساكن والأحياء الوضيعة التي ينبع منها المجرمون بعبارة  Slum أو (House in an area of dirty ).

كما أثبتت بعض الدراسات الخاصة بالجريمة، وتحديدا التي قام بها Gleek أن الظاهرة الإجرامية ترتبط بشكل وثيق بالوسط غير النقي (dirty area)؛ حيث نسبة المجرمين الذين شبوا في مثل هذه الأوساط اكبر من نسبة من نشٲوا في وسط نقي أو صالح.

المطلب الثاني: المدرسة

تأتي المدرسة في المرتبة الثانية بعد الأسرة في تكوين شخصية الفرد، فالمدرسة تربي وتثقف، وهي الوسط (الاجتماعي/ التعليمي/ التثقيفي) الأول الذي يواجهه، أو من المفروض أن يواجهه الطفل خارج أسرته.

ولا شك أن نجاح الطفل في مدرسته، يتوقف على إمكانياته الذهنية، وعلى طريقة معاملته من قبل معلميه من قبل معلميه وأساتذته، لذا، فإما أن تكون المعاملة جيدة وملائمة فتساعد الطفل على بناء شخصيته وكيانه بكيفية متوازنة، وإما تكون سيئة، فلا يستطيع الطفل التكيف مع وسطه المدرسي، فتكون نتيجة ذلك الهروب من المدرسة، أو عدم الانتظام في الحضور، أو التسكع في الشوارع والتردد على أماكن اللهو. والأخطر من كل ذلك الانضمام إلى رفاق السوء فيبدأ في تقليدهم، بل واتخاذهم قدوة له، بعد فشله في التكيف مع وسطه المدرسي.

المطلب الرابع: العمل

بيئة العمل ونوعه من العوامل التي تؤثر بشكل كبير في ظاهرة الإجرام، فلاشك في أن العمل يقوم بدور كبير وهام  في حياة الإنسان؛ فهو يشغل من حياته اغلب سنواتها ومن نهاره اغلب ساعاته، فضلا عن انه مورد رزقه ومتنفس لطاقاته.

وهو من ناحية أخرى، يتيح للفرد الاتصال بغيره ممن يعملون معه، أخيارهم وأشرارهم، فإما أن يؤثر فيهم وأما أن يتأثر بهم، وإما أن يصادقهم وإما أن يعاديهم...

ومن ٲبرز صور ارتباط العمل بالظاهرة الإجرامية، سوء معاملة رب العمل وقسوته أو عدم تشجيعه له، أو تشغيله أكثر مما يحتمل، وكذلك سوء علاقته بزملائه... فكلها عوامل قد تؤثر في نفسية الفرد ليصبح  قلقا مضطربا؛ ما قد يدفعه لاقتراف سلوكات منحرفة أو إجرامية.

هذا عن بيئة العمل، أما عن نوعه، فبعض الإحصاءات أكدت أن ٲقل الفئات إجراما فئة المشتغلين بالعلوم والفنون والآداب، وٲن أكثرها إجراما فئة المشتغلين بأعمال الصيد والزراعة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، قد توفر بعض المهن فرصًا مواتية لمن لديه استعدادٌ إجرامي لارتكاب الجريمة، من ذلك الموظف الذي يستغل سلطته ونفوذه في ارتكاب جرائم الرشوة، أو الطبيب الذي يستغل مهنته في الإجهاض، وبعض رجال الأعمال الذين يستغلون وضعهم ونفوذهم المالي في التهرب الضريبي، أو جرائم الشيكات والغش التجاري والاحتيال (جرائم ذوي الياقات البيضاء ).

المبحث الثالث: مدى الصلة بين العوامل الاقتصادية والظاهرة الإجرامية

تمهيد

تقتضي دراسة العوامل الاقتصادية بحث الصلة أولا بين الظروف الاقتصادية السائدة والجريمة، وثانيا الوضع الاقتصادي والظاهرة الإجرامية.

المطلب الأول: الصلة بين العوامل الاقتصادية و الجريمة

تضاربت أراء الباحثين حول الصلة بين الجريمة والعوامل الاقتصادية، فذهبت بعض المدارس إلى ربط الجريمة ببعض النظم الاقتصادية (النظام الرأسمالي) باعتباره سببا للإجرام بسبب ما يرتبه من سوء توزيع للثروة بين الأفراد، وهو ما يؤدي إلى وجود فوارق اجتماعية كبيرة، تولد الشعور بالظلم والحقد والسخط على الطبقات البورجوازية، فتنتج عنه سلوكات إجرامية عدائية، من لدن الذين يشعرون بالظلم والحقد ضد من ينعمون بالثروات.

والحقيقة انه لا يمكن قبول هذا الرأي على إطلاقه، لتطرفه وإعطائه كل الأهمية للعامل الاقتصادي، مغفلا باقي العوامل المؤدية للإجرام، والحال انه كما تقدمت الإشارة إليه أكثر من مرة، أن الجريمة نتاج تظافر مجموعة من العوامل من بينها العامل الاقتصادي.

وفي المقابل، أغفلت دراسات أخرى العامل الاقتصادي، مرجعة أسباب الجريمة إلى مدى استعداد الفرد للإجرام (العامل الذاتي العضوي  النفسي) ، وما العامل الاقتصادي بالنسبة إلى هذا الطرح، إلا محفز على الجريمة. وهذا رأي بدوره لا يمكن الاعتداد به على إطلاقه؛ لأنه يؤدي إلى عدم الاهتمام بمكافحة العوامل الاقتصادية الدافعة إلى الجريمة وهو ما يعيب أساليب معالجتها.

ولعل الرأي الراجح، هو الذي يذهب إلى اعتبار العامل الاقتصادي ٲحد العوامل الإجرامية، لكنه ليس بالعامل الوحيد، بل هناك عوامل أخرى، تؤدي بدورها إلى اقتراف الجرائم، وهو ما تقدم شرحه وتوضيحه بإسهاب.

المطلب الثاني: الوضع الاقتصادي السائد والظاهرة الإجرامية

عندما نقول الوضع الاقتصادي، فإننا نقصد حالة الاقتصاد، وٲثر التطور الذي يعرفه أو التقلبات التي تطرأ عليه، وبذلك، فإما أن يكون اقتصادًا متطورًا ومنتعشًا أو راكدًا متدهورًا، وفي كلتا الحالتين، يتأثر الدخل الفردي وكذا المستوى المعيشي للأفراد. وهو ما ينعكس تأثيره بدوره على الظاهرة الإجرامية كما سنوضح في ما سيأتي.

فدخول الأفراد تتفاوت بين الانخفاض والارتفاع والانعدام؛ فكلما كانت الدخول مرتفعة أو متناسبة مع مستوى الأسعار (قدرة شرائية مرتفعة)، فٳن إشباع الحاجات يكون ميسرًا أو سهلا فتقل جرائم السرقة. في المقابل، قد يكون هذا الوضع سببًا في ارتفاع معدل جرائم أخرى كالنصب والاحتيال والرشوة، طمعا في زيادة الثروة ولو بأساليب غير مشروعة. كما أن وجود فائض من الدخل الفردي قد يغري البعض ويدفعهم إلى ارتياد أماكن اللهو وتناول المخدرات، معاشرة بائعات الهوى... ولاشك في أن مظاهر الانحراف هذه، صور من صور الجرائم الخلقية. وبذلك، فالغنى أو الثراء يمكن أن يكون له اثر غير مباشر في اقتراف السلوك المنحرف عموما.

أما إذا كان دخل الفرد منخفضا أو منعدما، بسبب قلة موارده أو بطالته، فان لذلك تأثيرا على الفرد، هذا الأخير الذي يوصف بأنه فقير أو معوز، عاجز عن إشباع حاجاته الضرورية (الحد الأدنى من متطلبات الحياة حسب ما هو سائد في مجتمعه). وهو ما قد يدفعه إلى الوقوع في براثين الإجرام، الجرائم الواقعة على الأموال تحديدا في سبيل إشباع حاجاته.

ومع اعتقاد بعض علماء الإجرام أن الفقر يولد الجريمة، إلا أن بعضا آخر يؤكد العكس تمامًا حيث ينفي وجود أي صلة بين الفقر والجريمة.

ويبدو لنا أن هناك غلوًّا في هذين الطرحين فليست هناك علاقة وطيدة بين الفقر والجريمة، كما انه لا يمكن نفي هذه العلاقة بصفة مطلقة، وإنما يتعين أن يأخذ الفقر كأحد العوامل المؤيدة للإجرام ما يستحقه من العناية في الدراسات والأبحاث، حتى تكون سبل التصدي للإجرام أنجع وأفيد.

فلاشك في أن للفقر أثرا غير مباشر على الظاهرة الإجرامية، إذ تصحبه أثار شخصية واجتماعية متردية؛ فيكون سببا في عدم رعاية الأسر لأبنائهم وعدم الإشراف على تربيتهم بالشكل المناسب (بسبب تغيب الآباء لساعات طويلة عن البيت بحثا على لقمة العيش) ، بل قد يكون سببا في عدم تمدرس الأبناء، وخروجهم للعمل في سن مبكرة، كما أن سوء التغذية له اثأر سلبية على الصحة عموما˸ إذ يترتب عليه ضعف الجسم والعقل. وعدم القدرة على مقاومة المرض. وقد سبق أن رأينا أن المرض من العوامل الدافعة إلى السلوك الإجرامي. كما يمكن أن يولد الحرمان ( (Frustrationعقد نفسية لدى الأبناء المعوزين، هذا ناهيك عن باقي المشاكل والاضطرابات التي يمكن أن يولدها هذا العامل كعدم التكيف، والانطواء ولاشك أن لكل ذلك علاقة بالظاهرة الإجرامية، وتحديدًا إذا ما تظافرت مع عوامل أخرى مؤدية للانحراف.

المبحث الرابع: مدى الصلة بين العوامل الثقافية والظاهرة الإجرامية

الثقافة كمفهوم يشمل مجموعة القيم، التي يتشكل على أساسها الضمير الفردي والجماعي في أي مجتمع. ولذلك، فهي تضم التعليم، الدين، المعتقدات السائدة أو العادات والتقاليد ووسائل الإعلام. وفي ما يلي، نتناول هذه العوامل تباعا.

المطلب الأول: التربية والتعليم Education et Eseignement

التعليم في دراسات علماء الإجرام، لا يعني فقط تعليم القراءة والكتابة وتلقين المعلومات، وإنما يشمل أيضا سبل التهذيب والتشبع بالقيم الاجتماعية، والمثل الأخلاقية التي يكون لها تأثير كبير في توجيه السلوك عمومًا.

ولاشك في أن هناك علاقة وطيدة بين التعليم والظاهرة الإجرامية، هذه العلاقة التي أكدها الشراح والباحثون منذ زمن بعيد، حتى قال ڤيكتور هيكو "Victor Hugo"  "إنشاء مدرسة يعني إغلاق سجن"،  فلا شك في أن انتشار التعليم يقابله انخفاض في معدلات الإجرام، وهو ما أكدته مجموعة من الإحصاءات.

في المقابل، يذهب رأي أخر إلى نفي الصلة بين التعليم والإجرام، استنادا إلى إحصاءات أجريت في كل من المجر، بلجيكا وبلغاريا أثبتت أن نسبة إجرام الأميين اقل من نسبة إجرام المتعلمين.

ويبدو لنا أن للتعليم تأثيرا مزدوجًا في الظاهرة الإجرامية، فأما أن يكون له دورٌ ايجابي، وإما أن يكون له دورٌ سلبيٌّ. فهو مانع من الوقوع في براثين الإجرام متى خول لصاحبه قدرًا من المعرفة العلمية تمكنه من الحصول على عمل محترم، يضمن له دخلا يسد حاجاته. ومن جهة أخرى، فالتعليم يوجه الفرد في اختياراته؛ فيجعله أكثر دقة في اختيار سلوكاته، مقدرًا عواقبها، كما ينور بصيرته ويفتح ذهنه ويسهل عليه حل المشاكل وتحقيق الأهداف بالسبل المشروعة. وبذلك، فهو بمثابة التلقيح أو المصل إن صح التعبير، المحصن من الوقوع في براثين الانحراف والإجرام.

هذا عن دوره الايجابي، أما في ما يتعلق بدوره السلبي، أو تأثيره الدافع إلى ارتكاب الجريمة، فهو لا يتحقق إلا إذا صادف شخصا لديه استعداد انحرافي مسبق؛ حيث يوظف ما تعلمه من معرفة علمية جرائمه (كالجرائم الالكترونية – النصب والاحتيال –التزوير –إخفاء معالم الجريمة بعد وقوعها...).

فهذه كلها جرائم لا يستطيع المجرم الأمي القيام بها، إنما تتطلب قدرًا من المعرفة والعلم والدهاء للقيام بها، ولذلك ميز يعض علماء الإجرام بين إجرام الأميين وبين إجرام المتعلمين؛ فالأول إجرام عضلي يعتمد على العنف (كجرائم القتل، السرقة، الاغتصاب...) ، بينما يوظف في الآخر العلم والمعرفة والذهاء˸ فيرتكب أصحابه أصنافا معينة من الجرائم ( كالجرائم الاقتصادية والجرائم السياسية، الجرائم الالكترونية...).

المطلب الثاني: الدين

يمثل الدين مجموع القيم والمبادئ السامية التي أوجدها الخالق تعالى، وضمنها شرائعه السماوية بواسطة أنبيائه ورسله، فالشرائع السماوية إنما وجدت لدعم الخير بكل أنواعه، ومحاربة الشر بكل أشكاله.

وبذلك، فلا احد ينكر اثر الدين في السلوك الإنساني عمومًا. فهو يدعو إلى السمو بالنفوس؛ من خلال تزكيتها وحسن تخليقها وتهذيبها، في المقابل الابتعاد عن كل شر وإثم صغيرًا كان أو كبيرًا، من سرقة أو زنا أو قتل أو كذب أو أي إساءة كيفما كانت.

ومن ثم، فالعلاقة وطيدة، والصلة متينة بين الدين والظاهرة الإجرامية، فكلما كان المرء متدينا ملتزما  بتعاليم شريعته، كلما ابتعد عن الإثم أو المجرم كيفما كان نوعه، وكلما كانت عقيدته صادقة راسخة، كلما انعكس ذلك بشكل ايجابي على سلوكه.

والفهم الصحيح لتعاليم الدين هو المقصود هنا؛ إذ التصرف أو الغلو أو الفهم الخاطئ للتعاليم الدينية، يمكن أن يكون سببا في اقتراف اخطر الجرائم، وما جرائم الإرهاب التي أضحى يعرفها العالم بأسره اليوم إلا صورة على ما سلف قوله.

ومع أن هذا العامل لم يحظ بالعناية والدراسة اللازمة من قبل علماء الإجرام، بعلة أن العقيدة من المسائل الخفية بين العبد وربه،  التي لا يمكن التوصل إلى حقيقتها،  إلا انه سبب واهٍ لا يمكن الاعتداد به؛ إذ اعتماد الأسلوب العلمي البعيد عن التعبير عن وجهة النظر الشخصية والمسبقة،  من شانه أن يضمن إجراء أبحاث علمية محايدة توضح الدور الحقيقي والفعلي للدين في مكافحة الجريمة.

ومع ذلك، فطنت بعض الأنظمة - في بعض الدول العربية تحديدا- بأهمية هذا العامل في منظوماتها الإصلاحية،  فأصبح الوعظ والإرشاد الديني منتشرا في جميع مراكز التأهيل والإصلاح، عن طريق رجال متخصصين في أمور الدين والشريعة والعقيدة. يلقون دروسهم ومواعظهم في مساجد السجون بهدف إصلاح السجناء وتهذيبهم وإعادة تأهيلهم، تماشيا مع أهداف العقوبة المتمثلة في الردع والتهذيب والتأهيل والإصلاح.

المطلب الثالث: المعتقدات السائدة

قد تكون بعض المعتقدات والأفكار أو الثقافات السائدة في بعض المجتمعات سببا مباشرا في السلوك الإجرامي، بسبب تأصلها داخل ذلك المجتمع، بل ولاعتقاد أفراده الراسخ  بمشروعيتها وقداستها كفكرة أو معتقد، رغم تناقضها الصريح مع التشريعات والقوانين،  ولنأخذ كمثل مسالة الثار والانتقام للعرض.

فالأخذ بالثار في بعض المجتمعات هو أمر مشروع،  بل انه يرقى إلى حد الفضيلة والشهامة، على اعتبار أن عدم الأخذ به هو الذي يشكل ضعفا وجبنا. فعدم الأخذ بالثار مثلا في صعيد مصر، يشكل عارا بالنسبة إلى طالبه، لا يهدٲ له بال، ولا يسترد كرامته (رجولته) إلا بعد الأخذ به ولو كان الجاني في قبضة العدالة.

ومن المعتقدات السائدة أيضا في بعض المجتمعات الشرقية، ما يعرف بالانتقام للعرض؛ فلا يبيح الرجل الشرقي للمرأة ما يستبيحه لنفسه، ولذلك فأي انزلاق منها أو آية علاقة جنسية لها خارج إطار الزوجية، تشكل عارًا خطرًا وفضيحة كبرى، ما من سبيل للتخلص منهما لا بقتل المعنية بهما سواء من قبل أخيها أو أي فرد من أسرتها.

ولاشك في خطورة معتقدات كهذه،  كعامل مساعد على الإجرام. وهو ما يوجب تدخل الدولة في توجيه هذه المعتقدات الشعبية، أو الثقافات (الفرعية)، بهدف تجنب ما تجره من وبال المجتمعات التي تسود فيها.

المطلب الرابع: وسائل الإعلام

تتعدد وسائل الإعلام وتتنوع بحسب التقنية، أو الأسلوب المعتمد لإيصال المعلومة للعموم˸ فتكون إما مسموعة (كالإذاعة) أو مشاهدة (كالسينما، المسرح، التلفزيون) أو مقروءة (كالصحف، المجلات...). ولاشك أنها كلها وسائل تؤثر بشكل كبير في ثقافة كل فرد بإبعادها المختلفة (الاجتماعية،  الدينية،  السياسية،  الاقتصادية...)، وٳن اختلفت في درجة بل وسرعة تأثيرها،  إذ تختلف من وسيلة لأخرى بالنسبة إلى مختلف الفئات العمرية.

على أن الأساليب السمعية البصرية Audio-visiuel  تبقى أهم، بل وأسرع الوسائل الإعلامية، بل إنها اكبر النوافذ التي يطل منها الفرد على العلم والمعرفة والأسرار الكونية.

ولذلك، فهي سيف ذو حدين، فإما أن توظف توظيفًا ايجابيًّا، فتستغل في النوعية ونشر المعرفة والقيم والأخلاق... وإما أن توظف توظيفًا سلبيًّا، فتكون أداة لنشر الرذيلة والعنف والانحلال...

وفي هذه الدراسة سنقتصر على دراسة الأثر السلبي للوسائل السمعية البصرية، من خلال توضيح مدى تأثيرها في السلوك الإنساني، أو بالأحرى مدى صلتها بالظاهرة الإجرامية.

- مدى صلة وسائل الإعلام السمعية البصرية بالظاهرة الإجرامية

وضحنا في ما تقدم، كيف أن السلوك الإجرامي هو مكتسب يتعلمه المرء أو يعايشه خلال حياته، وخاصة في مرحلة الطفولة. وإذا ما انتقينا من السلوك الإجرامي أخطره وأكثره بشاعة –جرائم العنف تحديدا- فإننا سنجد في الشاشة الصغيرة أو الصورة المشاهدة والمسموعة اخطر الوسائل، بل أكثرها نشرًا للسلوك العنيف عمومًا، ويكاد اليوم لا يخلو أي بيت من هذه الوسائل، فهي لا تحتاج إلى معرفة للقراءة كما الصحف أو المجلات، إضافة إلى إن الطفل يبدأ بالاتجاه إليها منذ بداية إدراكه للصوت والصورة لتأثيرها السحري فيه.

بل إن الصوت والصورة يلعبان دورًا مهما في تثقيف الفرد، وتحديد معايير السلوك بالنسبة إليه؛ خصوصا عندما يكون مخططا لذلك في إطار سياسة إعلامية معينة، وهو ما يعني أن التلفزيون يؤثر فينا رغما عنا، ويعيد تشكيل شخصيتنا من الداخل سلبا أو إيجابا. لذلك، فهناك من يصفه بالوالد الثالث يلي في مرتبته مرتبة الأم والأب.

ولإبراز تأثير التلفزيون في الأطفال أكدت دراسة قام بها البريطاني مورداك عند مقارنته ما تقدمه المدرسة وما يقدمه التلفزيون، إن البرامج التلفزيونية تدعو إلى استهلاك الوقت واللعب، بينما تدعو إلى العلم والعمل والإنتاج. فالمدارس تخاطب العقل، بينما يخاطب التلفزيون المشاعر والعواطف، ومن هنا يأتي تأثيره الكبير بل والخطير في الطفل.

وقد تعددت الدراسات الإحصائية التي ركزت على دور (الصوت والصورة) في وتوليد العنف لدى الأطفال. من ذلك دراسة أستاذ علم النفس المعاصر الأمريكي "L.R.Huesmann" الذي أكد سنة 1985 أن مشاهدة العنف التلفزيوني يزيد من معدلات العدوانية لدى الأطفال أيا كان البلد الذي ينتمي إليه، بل انه أكد في دراسات لاحقة، تأثير الوسائل السمعية البصرية المباشرة في الأطفال.

وعن كيفية تأثير التلفزيون في الأطفال، حدد المركز الدولي للطفولة أربع مراحل تدريجية لتمثل العنف المنقول عن طريق الصورة والصوت وهي˸ التقليد imitation/، التشبع/ imprégnation، غياب النواهي الباطنية désinhibition، تبدد الإحساس désensibilisation، حيث تصبح أحداث العنف طبيعية وعادية بالنسبة إلى الطفل.

ولذلك ذهب بعض الباحثين إلى حد القول˸ « انه إذا كان المثل السائد يعتبر السجن الكلية التي تُخرُج المجرمين... فان التلفزيون بالنسبة الى الشباب هو المدرسة الاعدادية لتخريج الاحداث».

فلا احد اذًا ينكر اليوم تأثير هذه الوسائل باختلافها –سواء كانت سينما أو تلفزيون أو انترنت- وان كان للوسيلتين الأخيرتين انتشار اكبر باعتبارهما يتواجدان اليوم بشكل كبير في جل البيوت إن لم نقل كلها، ولذلك، فتأثيرهما ايجابيا كان أو سلبيا أوسع واكبر.

وما دمنا في سياق دراسة التأثير السلبي للوسائل السمعية البصرية، وتحديدا في الجانب الذي يعنينا (الظاهرة الإجرامية)، أو بمعنى آخر كيف يمكن أن تكون هذه الوسائل السمعية البصرية مصدرا للإيحاء الإعلامي الذاتي بفكرة الجريمة، فان ذلك يتخذ صورًا ثلاثًا.

إيحاء قائم على انحراف في التصور الخلقي، وهو ما يتحقق من خلال إعطاء الجريمة صورة الفعل العادل، الجائز أو حتى الذي تتحقق به العدالة الاجتماعية وبذلك يصبح المجرم بطلا في نظر المشاهد سواء تعلق الأمر بالسينما، التلفزيون أو حتى الانترنيت.

إيحاء قائم على الهيام بالشهرة، وهو ما يتحقق من خلال حلم، بل وارتباط بعض الأفراد بالشهرة نتيجة تقديمها بشكل مغرٍ والتحفيز عليها في هذه الوسائل، فتصبح هدفا في حد ذاتها، يسعون إلى الظفر به، بغض النظر عن وسيلة ذلك أكانت قانونية أو لم تكن كذلك.

إيحاء قائم على معرفة تقنية التنفيذ، وينشٲ من خلال الوقوف على أسلوب الجريمة وطريقة تنفيذها، أو كيفية إخفاء أدلتها ومعالمها بصورة أكثر احترافية (نظرية التقليد) ، فيصبح المتأثر أكثر استعدادا، بل وإقداما على اقتراف جريمته بعد ما اقتنع بإمكانية إفلاته من قبضة القانون إذا ما نفذ جريمته بالصورة التي شاهدها.

ولاشك أن هذه الصورة هي اخطر صور الإيحاء، لأنها تمكن من التقليد المباشر وتحديدًا بالنسبة إلى الذين يكون تكوينهم مهيأ لذلك.

وفي السياق نفسه، أكدت إحصاءات قام بها الباحثان هانسر ويلانر Blanner et Hanser في بداية الثلاثينات على مجموعة من الأحداث خطورة الإيحاء التنفيذي، حيث تبين انه من ثمانية وستين وثلاثمائة (368) حدث˸

49% منهم اعترفوا أن السينما ولدت لديهم الرغبة في حمل سلاح ناري.

%28 اوحت إليهم بأسلوب معين لارتكاب السرقة.

%21 اعترفوا أنهم ارتكبوا الجرائم نتيجة التقليد.

%26 اوحت إليهم باستعمال العنف.

%45 اوحت إليهم بكيفية كسب المال بسرعة.

وقبل ختام الحديث عن دور هذا العامل الخارجي المساعد على الإجرام، لابد من الإشارة إلى أن تأثيره ليس واحدا على كل الناس، بل إن تأثيره متفاوت؛ فكثيرا ما يمر الناس مر الكرام على هذه الوسائل. باعتبارها ملهاة ومضيعة للوقت، لا يتولد منها لديهم إيحاء ذاتي وشان. في المقابل، يكون بعض الأفراد عرضة للتأثر بها –تحديدًا من يكون لديهم استعداد إجرامي- فتبدو خطورة تلك الوسائل حينما تنبه وتحرك الاستعداد الإجرامي الموجود أو الكامن. وبذلك، فهي لا تؤثر بمفردها، أو بمعنى آخر فهي لا تؤدي حتما إلى الجريمة، وان كان تأثيرها في الأحداث اخطر وأعمق.

وقد تنبهت غالبية الدراسات إلى ضرورة الإشراف على وسائل الإعلام السمعية البصرية باختلاف أنواعها، من خلال تخير البرامج والموضوعات المناسبة والهادفة إلى نشر المعرفة والعلم والقيم الأخلاقية... ولاشك أن تحقيق ذلك، معلق على رقابة الدولة وأرباب الأسر.

المرجع:

  1. د. سميرة أقرورو، الوجيز في أسس علم الإجرام وأهم مدارسه، الناشر صوماديل، طبعة 2015 ، المغرب، ص75 إلى ص133.

google-playkhamsatmostaqltradent