أنظمة الإثبات الجنائي

أنظمة الإثبات الجنائي

أنظمة الإثبات الجنائي

إن أسلوب جمع الأدلة في القانون المقارن عرف ثلاثة أنظمة في الإثبات الجنائي، هي نظام الإثبات  القانوني أو المقید (الأدلة القانونیة)، والنظام الوجداني أو حریة الاقتناع الشخصي وأخیرا النظام المختلط، ومعظم التشریعات القانونیة تأخذ بنظام الإثبات المختلط.

 وٕذا راجعنا إلي الدیانة المسیحیة أو الیهودیة، فإننا نجدها لم تنظم نظام الإثبات على الإطلاق، ومرد ذلك كون أن هاتان الدیانتان لم تنصا لا على الجرائم ولا على العقوبات، عكس الشریعة الإسلامیة التي عرفت نظام الإثبات، وذلك من خلال الآیات القرآنیة التي نصت علي بعض الجرائم وما یقابلها من عقوبات كجریمة الزنا التي تشترط أربعة شهود، ونظام القصاص في بعض الجرائم.

وسنخصص مطلبا لكل من الأنظمة الإثبات الثلاث تباعا

المطلب الأول: نظام الإثبات القانوني أو المقید

المقصود بالإثبات القانوني، تقید حریة القاضي و إلزامه بالحكم متى توافر نوع معین من الأدلة حددها القانون صراحة في صلب نصوصه.

وبمعني أخر لهذا النظام، هو أن المشرع یتولي حصر الأدلة المختلفة في نصوص قانونیة، بحیث یحدد القانون قیمة الدلیل ودرجته في الإثبات، ویجب على القاضي الأخذ بهذا الدلیل وتطبیقه سواء لإقرار براءة المتهم أو إدانته.

فالقانون في هذا النظام لا یتولي فقط حصر الأدلة، وٕإنما كذلك یستتبع هذا النظام تحدید قیمة الدلیل القانونیة ولا تكون له سلطة رفضه، ویترتب علي هذا أنه إذا توافرت أدلة الإدانة بشروطها المحددة قانونا التزم بأن یدین المتهم، ولو كان غیر مقتنع بإدانته، ویعبر عن هذا بالقول المشهور أنه مقتنع كقاضي وغیر مقتنع كإنسان.

إما إذا لم تتوافر هذه الأدلة التزم القاضي أن یبرئ المتهم ولو كان مقتنعا بإدانته، وبعبارة أخرى یقوم اقتناع المشرع بصحة الإسناد أو عدم صحته مقام اقتناع القاضي، في حین یقتصر دور القاضي علي مراعاة تطبیق القانون من حیث توافر الدلیل أو شروطه، فإذا لم یتوافر لا یجوز للقاضي أن یحكم بالإدانة أو بالعقوبة المحددة بصرف النظر عن اعتقاده الشخصي، أي ولو اقتنع یقینا بأن المتهم مدان.

وفد ظهر هذا النظام في فرنسا في ظل النظام القدیم، وقد بقیت هـذه النظریـة سـائدة حتـى جاءت الثروة الفرنسیة، وأخذ بنظام الإثبات المبني علي حریة القاضي في تكوین اقتناعه.

خصائص ومزایا هذا النظام:

یتمیز هذا النظام بالخصائص التالیة:

أولا/ أنه یغلب مصلحة المتهم على مصلحة المجتمع، فلا یحكم على أحد بعقوبة إلا بناءا على أدلة یرى المشرع أن فیها من الثقة ما یدعو إلى تصدیقها.

ثانیا/ أن دور القاضي في هذا النظام ألیا، فإذا لم یتوافر الدلیل القانوني كما حدده القانون استوجب علیه إطلاق سراح المتهم حتى لو كان مقتنعا بالإدانة.

ثالثا/ القاضي الجنائي وهو یتصدى للدعوى المدنیة التبعیة للدعوى العمومیة، یطبق علیها نظام الإثبات الجنائي المقید عند تقدیر التعویض، وفي هذه الحالة تنعكس وسائل الإثبات الجنائي سلبا علي الشق المدني للدعوي العمومیة.

وعلى العموم فإن نظام الإثبات المقید لازالت بقایاه في بعض الأنظمة القانونیة، كما أن المشرع عندما یتمسك بهذا النظام، فذلك مرده لحكمة أو غایة أرادها من وراء ذلك، وهذا لتحقیق مصلحة عامة للمجتمع، وفي بعض الجرائم لحمایة روابط الأسرة كجریمة الزنا.

المطلب الثاني: نظام الإثبات الوجداني أو الاقتناع الوجداني أو المطلق أو الحر

ویعبر عنه كذلك بنظام الأدلة الأخلاقیة أو بنظام دلیل الاقتناع، ومفاده أن للقاضي حریة في فحص الدلیل المقدم إلیه، حیث أن القانون لا یحدد قیمة الدلیل، ولكنه ینظم كیفیة البحث عنه وتقدیمه.

وقد ظهر هذا النظام عقب الثورة الفرنسیة، أین استبدل هذا النظام بنظام الإثبات المقید.

وفي هذا النظام یعني الاعتراف للقاضي بسلطة القبول لجمیع الأدلة والاعتراف له بسلطة تقدیر قیمة كل دلیل وتحدید مدى قوته في الاقتناع، وتقدیر الأدلة مجتمعة واستخلاص اقتناعه نتیجة ذلك وفقا لما یملیه علیه اقتناعه الشخصي.

ویكمن جوهر هذا النظام في تخلي المشرع عن السلطات التي كان یستأثر بها في نظام الأدلة القانونیة، بحیث تصیر هذه السلطات للقاضي.

كما یعني هذا النظام أن المشرع یترك الباب مفتوح لأطراف الدعوي العمومیة ویعطیهم الحق في أن یثبتوا مزاعمهم بأي وسیلة إثبات.

وللمدعي المدني في ظل هذا النظام أن یساند أو یساعد النیابة العامة كجهة اتهام ویعاونها في تقدیم وسائل الإثبات الجنائي، وترتیبا لذلك فهو یساهم في الإثبات بالرغم من أنه لیس طرفا أصلي في الدعوي العمومیة، وهذا كله یخدمه وینعكس ایجابیا على الدعوى المدنیة الذي هو أحد أطرافها، وفي هذا الصدد قد نجده في بعض الأحیان، یكون هو في حد ذاته وسیلة للإثبات الحنائي، كما هو الأمر في جرائم الضرب أو الجرح، أین یتدخل المدعي المدني إلي جانب النیابة العامة باعتباره وسیلة إثبات، والمفروض أن قضاؤه محصور في الدعوي المدنیة، ولكن بالرغم من هذا یمكن من هذا الباب أن یساهم في الإثبات الجنائي، وهذا من إیجابیات نظام الإثبات الحر، الذي یسمح الإثبات فیه بكافة الطرق، والقانون لا یمنع أي وسیلة إلا إذا كانت غیر مشروعة.

وعلة هذا المبدأ هو أنه یتفق مع أسلوب التفكیر العادي والمنطقي في الحیاة العادیة وفي البحث العلمي، إذا یستقي الناس الحقیقة من أي دلیل ولا یتقید تفكیر الناس بأدلة معینة، ناهیك عن أن إثبات الجریمة بكافة الأدلة هو الأسلوب الأنجع في الكشف عن مرتكبها، وتبعا له مكافحة الإجرام، وما یحد من المبالغة في هذا المبدأ القیود التي تحدد أسلوب تطبیق هذا المبدأ. 

خصائص ومزایا هذا النظام:

أولا/ مسألة تساند الأدلة: ومعناهـا أن الأدلـة المعروضـة علـي القاضـي الجزائـي، یمكـن لـه وفقـا لهـذا النظـام أن یلفـق ویركـب بـین هـذه الأدلـة فـي سـبیل الوصـول إلـي الحقیقـة، وهـذا بمـا لـه مـن حریة في الأخذ بهذه الأدلة، وتغلیب فیما بینها لیصل فـي نهایـة المطـاف إلـي أن یسـتمد اقتناعـه منها مجتمعة، ومن ثمة كان علیه أن ینسق فیما بینها، وٕإذا قام التناقص بینهـا كـان هـذا هادمـا لها، وإذا تعرض الخلل أو الإلغاء لإحداها فقد انصرف إلیها جمیعا.

وبمعنـي أخـر، لا یشـترط هـذا النظـام أن یكـون الـدلیل كـاملا، فالقاضـي ومـا لـه مـن حریـة یلفق بینها، ویشد بعضها ببعض الأخر، ویساند بین وسائل الإثبات للوصول إلي الحقیقة.

ثانیا/ عدم استبعاد أي دلیل مهما كان بسیطا أو صغیرا : وهذا طبعا عند غیاب وسائل الإثبـات الكبرى كالشهود أو القرائن، هنا یتوجب علـى القاضـي الأخـذ بالأمـارات والـدلالات الصـغیرة حتـى یصل أن یجمع من خلالها، ومن خلال علمیة التساند والشد والربط بینها إلى الدلیل، وأن یكمل بین هذه الأمارات والقرائن ببعضها البعض.

المطلب الثالث: نظام الإثبات الجنائي المختلط

ویمثـل هـذا النظـام الجمـع بـین الإثبـات المقیـد والإثبـات الحـر، وهـو النظـام الـذي اعتنقتـه جمیع الأنظمة المقارنة تقریبا.

وتطبیقا لهذا النظام، فإن وجود الدلیل لا یعتبـر حجـة فـي حـد ذاتـه، إلا إذا اقتنـع القاضـي بـذلك الـدلیل أو الحجـة ویـنص علیهـا القاضـي فـي الحكـم مـن خـلال تسـبیب الأحكـام فـي مـواد المخالفات والجنح.

ومن إمعان النظر في نص المادة 212 مـن قـانون الإجـراءات الجزائیـة الجزائـري، نجـد أن الأغلبیـة السـاحقة مـن الجـرائم یمكـن إثباتهـا بكـل طـرق الإثبـات، وأن المبـدأ السـائد هـو القناعـة الشخصـیة للقاضـي، إلا أننـا نلاحـظ أنـه وٕإن كـان هـذا القـانون قـد غلـب نظـام حریـة الاقتنـاع الشخصي، إلا أنه قد أخذ في بعض الجرائم بنظام الأدلة القانونیة كما هو الحال في جریمة الزنا وجریمة السیاقة في حالة السكر... وغیرها.

فمثل هذا المنهج یمثل نوعا من الأخذ بالنظام المختلط، وهذا لا یعنـي أن النظـام الإثبـات الجنائي في الجزائر بوصفه مختلط، ینطبق مـع أي نظـام أخـر مخـتلط، ذلـك أن نسـبة الاخـتلاط في الأنظمـة المقارنـة مختلفـة أي درجـات، وهـذا راجـع إلـي فلسـفة المشـرع الإجرائـي فـي كـل نظـام فیما یتعلق بمسألة الكشف عن الجرائم، والذي تحكمه عدة اعتبارات.

المرجع:

  1. د. نسيم بلحو، محاضرات في مقياس الإثبات الجنائي، ملقاة على طلبة السنة الأولى ماستر، تخصص قانون جنائي، جامعة محمد بوضياف بالمسيلة، قسم الحقوق، السنة الجامعية: 2017/2018، ص9 إلى ص13.

google-playkhamsatmostaqltradent