مقتضیات قرنیة البراءة

مقتضیات قرنیة البراءة

مقتضیات قرنیة البراءة

الأصل في الإنسان البراءة ، فلا یكلف أحد بإقامـة الـدلیل علیهـا، وٕإنمـا یلـزم الـدلیل لنفیهـا وهـذا الأصـل مقـرر بصـریح الـنص فـي الدسـتور، وهـو مقـرر كـذلك فـي العدیـد مـن المواثیـق الدولیة، كونها متعلقة بحقوق الإنسان وحقوقه الأساسیة كحرمة المنزل، وحقه في الدفاع.

وقرینة البـراءة لـیس لهـا أسـاس فـي قـانون الإجـراءات الجزائیـة المعمـول بـه، وٕإنمـا هنـاك أثار لهذا المبدأ، فأصل القرنیة هو الدستور، وهذا الأخیر استقاها من الإعلانات العالمیة لحقوق الإنسان.

ففـي المجتمعـات البدائیـة القدیمـة، وفـي ظـل الحكومـات التعسـفیة كانـت معاملـة المـتهم عكس هذا المبدأ، حیث كان ینظر إلیه علـى أسـاس أنـه مـتهم، وٕإذا كـان یـدعي البـراءة یقـع علیـه عبء الإثبات.

وما یلاحظ أن هذا المبدأ أحیانا لا یحترم في ظل بعض الحكومات، ویعامل المـتهم علـى أساس أنه مجرم، ولا یمكن من حقوقه الأساسیة المتعلقة بالدفاع ، ویظهر ذلك خاصة في الدول الدیكتاتوریة كالعراق مثلا قبل سقوطه.

ومـؤدى قرنیـة البـراءة، أنـه لا یجـوز الحكـم بإدانـة شـخص إلا إذا قـام الـدلیل القـاطع علـى انتفاء براءته، فالأصل في الإنسان أنه یولد بریئا، ویظل بریئا، ویموت بریئا، إلي غایـة ثبـوت العكـس، ومـا یـدحض البـراءة یجـب أن یكـون فـي مسـتواه، ولا یكـون ذلـك بواسـطة الشـكوك والتخمینات أو دلائل أو قرائن.

والإنسـان لا یجـوز لـه إعمـالا بالمبـدأ، أن یثبـت أنـه بـريء، لأن ذلـك یتنـاقض مـع المبـدأ فهو لا یستطیع إثبات عدم قیامه بالجریمة، بل استحالة ذلك عند توجیه الاتهام له، ولـذلك كـان على من ما یدعي عكس البراءة، یقع علیه عبء الإثبات.

والذي یجوز له إثبات عكس براءة الإنسان هما شخصان ، الأول هو الشـخص المضـرور من الجریمة، عن طریق تحریك الدعوي العمومیـة، فیطلـب منـه تقـدیم بعـض الأدلـة فـي الإثبـات أي المساهمة في عمل الإثبات.

فقاضـي التحقیـق عنـد الادعـاء المـدني، أول مـا یقـوم بـه، هـو السـماع لأقـوال المـدعي المدني، فهو أول من یقوم بالإثبات عكس براءة الإنسان.

أما الشخص الثاني الذي یثبت عكـس البـراءة، هـي النیابـة العامـة ، باعتبارهـا الجهـة التـي تمثل المجتمع بشكل عام وحامیة للشرعیة والنظام العام.

مقتضیات هذا المبدأ:

أولا/ إن مقتضـیات مبـدأ الأصـل فـي الإنسـان البـراءة غیـر ملموسـة بشـكل مباشـر فـي قـانون الإجـراءات الجزائیـة، ومـا یـدل علـى هـذا المبـدأ أن الإنسـان، لا یكلـف بإثبـات براءتـه، كمـا لا یجوز للمتهم إثبات شيء مستحیل، ولا یجوز لأي جهة مخالفة هذا المبدأ.

غیر أن القضاء أحیانا یخالف وینتهك هذا المبدأ، وذلك عندما یطلب القاضي الجنائي من المـتهم إثبـات عكـس التهمـة أو الـتهم الموجهـة إلیـه، ویتوسـع ذلـك خاصـة علـي مسـتوى الضـبطیة القضائیة والتجاوزات الحقیقیة لمبدأ البراءة ، جائزة ولكن في حدود.

كمـا أن المشـرع أحیانـا یتنـاقض مـع هـذا المبـدأ ومقتضـیاته ، خاصـة فـي جرائم السـلوك السلبي حیث ینقل عبء الإثبـات إلـى المـتهم، كـالجرائم الجمركیـة كعـدم التصـریح بالسـلع أو عـدم التـرخیص بهـا، فالنیابـة العامـة فـي مثـل هـذه الجـرائم لا تكلـف إلا بالاتهـام، ویقـع علـى المـتهم إثبـات عكـس مـا تـدعي بـه النیابـة العامـة إذا كـان لـه مـا یثبـت عكـس ذلـك الادعـاء، فالمتسـول یستوجب علیه أن یثبت أن له مورد مالي، والمتشرد یستوجب كذلك أن یثبت أن له منزل.

كذلك المشرع یخالف هذا المبدأ عندما ما یفرض الخطأ في المتهم ، كجرائم المرور والقتل الخطأ، حیث یفترض المتهم هـو المسـئول، حتـى ولـو كـان الضـحیة هـو المسـئول، وعلـى المـتهم المفترض فیه الخطأ، إثبات عكس ما فرض فیه المشرع، أي وكأن الإثبات قائم.

ثانیا/ من مقتضیات هذا المبدأ، قاعدة أو مبدأ تفسیر الشك لصالح المتهم، وهـي نتیجـة مباشـرة ویعنـي أن الأصـل فـي الإنسـان البـراءة ، وٕإذا قـدمت جهـة الاتهـام سـوى أمـارات ودلائـل بسـیطة لا یجـوز لهـا أن تزهـق الأصـل الثابـت فـي الإنسـان، ومـن ثمـة وجـب تفسـیره لصـالح المـتهم، لأن الأصـل الثابـت فـي الإنسـان لا یـزول إلا بـدلیل قـاطع وجـازم ویفـوق تلـك الإمـارات والـدلائل، ومـن ثمة جاز إهدار وٕإزهاق الأصل الثابـت فـي الإنسـان، لأن الحكـم الجنـائي مـن مقتضـیاته أن یبنـى علـي دلیـل جـازم ویقینـي، مصـداقا لقـول الرسـول (ص) " للإمـام أن یخطـأ فـي العقوبـة خیـر لـه من أن یخطأ في البراءة"،  وفي ذات السیاق یقول مونتسكیو " للعدالة أن تبرئ مائة شخص متهما خطأ، خیر من أن تدین إنسان واحدا خطأ".

المرجع:

  1. د. نسيم بلحو، محاضرات في مقياس الإثبات الجنائي، ملقاة على طلبة السنة الأولى ماستر، تخصص قانون جنائي، جامعة محمد بوضياف بالمسيلة، قسم الحقوق، السنة الجامعية: 2017/2018، ص38 إلى ص40. 
google-playkhamsatmostaqltradent