الرجوع في الهبة

 الرجوع في الهبة

الرجوع في الهبة

على اعتبار أن عقد الهبة ينشأ حقوقا جديدة لصالح الموهوب له أو لمصلحة الغير متى استوفت شروط انعقادها و صحتها ، فهل يجوز بعد اكتساب الحقوق أن يقوم الواهب بالرجوع عن تصرفه و تجريد الموهوب له للحقوق التي اكتسبها بناء على عقد الهبة ؟ .

تتميز الهبة عن سائر التصرفات الأخرى بإمكانية الرجوع فيها في أحوال و بشروط ، و يعرف الرجوع في الهبة تحديدا بأنه عود الواهب في هبته بالقول أو الفعل بغية ارتجاعها و استردادها من الموهوب له رضاء أو قضاء وفق شروط معينة، و المقصود ب هان الرجوع في الهبة يكون بإرادة الواهب ، أي انه حق بيد الواهب سواء تم بالتراضي أم لا ، و هذا وفقا لإجراءات معينة .

و لقد تضمن قانون الأسرة أحكاما تتعلق بالرجوع عن الهبة على الرغم من أن هذا التصرف قد نشأ بنية التبرع و بدون مقابل إلا في حالات العوض الذي يثقل كاهل الموهوب له بالتزام أدبي أو مادي اتجاه الواهب ، ومن ثمة سنتناول أحكام الرجوع ببيان حالاته و موانعه في المطلبين التاليين :

المطلب الأول: حالات الرجوع في الهبة

الرجوع في الهبة حق للواهب يستطيع بموجبه أن يسترد ما وهبه للموهوب له إذا توفر له عذر يبرره و لم يكن هناك مانع من موانع الرجوع ، و لم يحدد المشرع الجزائري حالات الرجوع في الهبة فيما إذا كانت تتم بتراضي المتعاقدين أو عن طريق القضاء ، فالنص جاء عاما لا تخصيص فيه ، ما يفهم معه جواز الأخذ بالحالتين ، وتبعا لذلك فالرجوع عن الهبة هو حق للواهب يتم رضاء أو قضاء .

الفرع الأول: حق الرجوع في الهبة

لم تتفق مذاهب الفقه الإسلامي في جواز الرجوع في الهبة ، فالمذهب الحنفي يجيز الرجوع إلا لمانع ، أما المالكية و الشافعية و الحنابلة فلا يجيزون الرجوع في الهبة إلا في حالة هبة الوالد لولده و هي ما تسمى عند المالكية باعتصار الهبة ، فيعتصر الأب ما وهبه لولده ذكرا أو أنثى ، و تعتصر الأم ما وهبت لولدها كبيرا كان أم صغيرا ، و في المذهب الشافعي فمتى تمت الهبة بالقبض فان الهبة تلزم و لا يصح الرجوع فيها إلا للأب و إن علا ، و كذلك الأم و إن علت ، و يرى فقهاء المذهب الحنبلي انه يجوز الرجوع في الهبة قبل القبض ، لان الهبة لا تتم إلا بالقبض ، أما بعد القبض فان الهبة تتم للموهوب له فلا حق للواهب في الرجوع إلا إذا كان أبا فقط ، و ليس للام و لا للجد و لا غيرهما من الأقربين الرجوع في الهبة بعد تمامها بالقبض، أما الحنفية  فيجيزون الرجوع في الهبة مستدلين في ذلك على حديث النبي صلى الله عليه و سلم " الواهب أحق بهبته ما لم يثب عنها " و في قول آخر " إذا كانت الهبة لذي رحم محرم لم يرجع " ، فالنبي عليه الصلاة و السلام جعل الواهب أحق بهبته ما لم يصل إليه عوض منها   .

أما فيما يخص موقف القانون الجزائري اتجاه مسألة الرجوع في عقد الهبة ، فقد أشارت المادة 211 من قانون الأسرة على أن الأبوين فقط من لهما الحق في الرجوع في الهبة الممنوحة لأولادهما سواء كان الشيء الموهوب عقارا أو منقولا ، و المقصود بكلمة الأبوين الواردة في نص المادة 211 قانون الأسرة ، الأب و الأم فقط ، و هذا ما فسره الاجتهاد القضائي الصادر عن المحكمة العليا بتاريخ 15/07/2010 ، تحت رقم 554347   ، مما يعني حق الرجوع عن الهبة هو حق شخصي يقتصر على الأب و الأم ، و لا يشمل غيرهما من زوج أو أخ أو جد أو جدة  ... الخ ، إذ يمكن لهؤلاء الطعن في عقد الهبة بالبطلان أو الإبطال  متى تحققت أسباب ذلك ، كما يجوز لهم المطالبة باسترداد ما زاد عن ثلث المال الموهوب إذا تم إثبات تحريرها في مرض الموت و الحالات المخيفة كما سبق بيانه ، و لكن لا يمكنهم ممارسة الرجوع ، فالرجوع كما أشرنا هو حق مقرر للوالدين اتجاه أبنائهم فقط ، و قد أخذ المشرع الجزائر في إقرار هذا الحق بموقف جمهور الفقهاء الذي أضفى صفة اللزوم على عقد الهبة ، و لم يستثن من تلك القاعدة سوى الأبوين فيما وهبا لأبنائهما ، و المقصود بالابن ليس الابن من الصلب فقط بل يشمل ابن الابن أيضا ، و مثالها أن تتم الهبة لابن الابن فهنا يجوز الرجوع في الهبة ما لم يحصل أي مانع من الموانع المنصوص عليها في المادة 211 من قانون الأسرة ، و هذا ما تم تكريسه في الاجتهاد القضائي الصادر عن المحكمة العليا بتاريخ 21/02/2001 ، تحت رقم 350252   .

و حق الرجوع في الهبة المقرر للأبوين هو حق شخصي لا ينتقل للورثة ، كما لا يحق لهم ممارسة ذلك بعد وفاة الواهب أثناء سير دعواه الرامية إلى الرجوع في الهبة ، وهذا ما أقرته المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 14/06/2006 تحت رقم 367996   ، كما لا يمكن للواهب وفقا للشريعة الإسلامية ممارسة حق الرجوع عن هبته بعد وفاة الموهوب له ، ذلك أن الشيء الموهوب قد انتقل إلى ورثة الهالك عن طريق الإرث و ثبت حقهم فيه ، و هذا ما كرسته المحكمة العليا في أحد قراراتها الصادر بتاريخ 10/03/2011 ، تحت رقم 613091   .

و على غرار التشريعات المقارنة التي قيدت حق الواهب في الرجوع ، بضرورة وجود أسباب قانونية تتمثل في افتقار الواهب و إعساره و عجزه عن توفير معاشه بما يتفق مع مكانته الاجتماعية ، أو عدم قدرته على الإنفاق على من هم تحت كفالته ، أو إخلال الموهوب له بالتزامه المشروط في العقد أو بواجبه نحو الواهب أو أقاربه بما يمثل جحودا ، أو رزق الواهب بولد بعد الهبة و أن يظل حيا إلى وقت الرجوع .... ، فإن المشرع الجزائري لم يشترط على الأبوين تبريرا للرجوع عن هبتهما ، فالمادة 211 من قانون الأسرة لم تتضمن في طياتها أسبابا للرجوع ، فالرجوع في الهبة وفقا للتشريع الجزائري هو حق للواهب يستطيع بموجبه أن يسترد هبته من الموهوب له دون أي عذر ، ما لم يكن هناك مانع من موانع الرجوع المنصوص عليها في المادة 211 من قانون الأسرة ، هذا ما أقرته المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 17 / 03 / 1999 تحت رقم ملف 177428 الذي جاء فيه  " المستفاد من القرار المطعون الذي رفض دعوى الطاعن الرامية إلى التراجع عن هبة وقعها لفائدة ابنته حول إيجار محل تجاري بحجة عدم إثبات المناورات التدليسية التي أحاطت بهذا التنازل هو تحليل خاطئ ،لأن المادة 211 من قانون الأسرة لا تشترط إثبات التدليس أو المناورات التدليسية خلال التنازل لإلغاء الهبة ، بل تترك للواهب الحرية التامة للتراجع عن الهبة ."...

وبالتالي يتضح جليا أن الأصل في الرجوع عن الهبة غير جائز ، و استثناء هو حق مقرر للأبوين دون سواهما في الهبة التي يرتبونها لأبنائهم ، و هو ما يصطلح عليه عند المالكية بالاعتصار .

و حق الرجوع في الهبة و إن كان مطلقا بالنسبة للأبوين، إلا انه مقيد بالحالات المنصوص عليها في المادة 211 من قانون الأسرة  ، المعروفة بحالات المنع من الرجوع كما سيتم بيانه لاحقا .

الفرع الثاني: الرجوع في الهبة بالتراضي

سبق القول على أن للواهب (الأب أو الأم) حق الرجوع عن هبتهما ما لم يوجد مانع من موانع ذلك، غير أن التكييف القانوني للرجوع في الهبة بالتراضي يثير عدة تساؤلات بين اعتبار الرجوع في الهبة فسخا أم إقالة لها ؟

إن الفسخ جزاء يكون بسبب خطأ المدين ، أي إخلاله بالتزامه الناشئ عن العقد ، أما الرجوع فهو حق مقرر للواهب لاعتبارات خاصة ، يمكن ممارسته دون أن يرتكب الموهوب له أي خطأ أو تقصير ، فهو ليس جزاء موقعا على الموهوب له اتجاه الواهب و من هنا نستنتج أن الفسخ و الرجوع مختلفان من حيث الغاية التي يرمي إليها كل منهما .

فالفسخ لا يكون إلا في العقود الملزمة لجانبين ، و بما أن الهبة في غالبها ملزمة لجانب واحد و هو جانب الواهب فلا يمكن التصور أن تكون الهبة محلا للفسخ ، أما في حالة الهبة بعوض أي عندما تكون ملزمة لجانبين ففي هذه الحالة تكون الهبة لازمة لا يجوز الرجوع فيها أصلا لأن العوض مانع من الموانع و بالتالي لا يمكن الحديث عن الفسخ في هذه الحالة  .

كما أن للقاضي السلطة الواسعة في حالة الفسخ القضائي ، فله أن يمنح المدين أجلا لتنفيذ التزامه التي لم يقم بها إعمالا لنص المادة 119 من القانون المدني ، غير أن القاضي في حالة الرجوع في الهبة يكون ملزما بالحكم بالرجوع متى توافرت الشروط فيه و انتفت الموانع المقررة له، و من هنا نستنتج أن الرجوع عن الهبة يختلف عن الفسخ رغم تشابههما في العديد من النقاط ، فهل هو تقايل ؟

الإقالة لغة هي الإزالة و الرفع، أما اصطلاحا فهو ما يرد على العقد من اتفاق بعد أن يتم تكوينه تكوينا صحيحا و هذا بهدف حل الرابطة العقدية الذي تتم بالإيجاب و القبول سواء كان صريحا أو ضمنيا، و من هذا المنطلق ذهب أغلب الفقهاء و كذا شراح القانون المدني على القول بان الرجوع بالتراضي في عقد الهبة هو إقالة منها إذ أن التقايل بوجه عام هو اتفاق بين المتعاقدين لحل هذه الرابطة  بحيث لا يمكن لأحد المتعاقدين إنهاؤها إلا باللجوء إلى الطرف الآخر فمتى قبل هذا الأخير اعتبر العقد كأن لم يكن .

مما سبق نتوصل إلى أن إنهاء عقد الهبة لا يكون إلا باتفاق الطرفين هو الأقرب إلى الصواب إذا اعتبرنا أن الرجوع في الهبة هو إقالة منها ، فالرجوع في الهبة بالتراضي لا يكون إلا باتفاق طرفيها في حل الرابطة العقدية، والتقايل هو انحلال الرابطة العقدية باتفاق الطرفين ، و يعتبر التقايل عقدا يتم بإيجاب و قبول جديدين

 في هذا الشأن يرى جانبا من الفقه، أن الرجوع عن الهبة بالتراضي يتم في جميع الأحوال سواء كان هناك مانع من موانع الرجوع في الهبة أو لم يكن، وهو الرأي الذي لا نؤيده ، فكيف يمكن للواهب أن يسترد هبته الذي أنفقها الموهوب له من اجل زواجه أو من اجل قضاء دينه ؟ فالاسترداد أو الاستحقاق قد يستعص مع زوال الشيء ؟ هذا من جهة ، و من جهة أخرى قد يتصرف الموهوب له في شيء الموهوب تصرفا ماديا أو قانونا ، فإن كان يجوز استرداد الشيء رغم التصرف المادي فيه دون الإخلال بحقوق الموهوب له في التعويض على أساس الإثراء بلا سبب (المادة 141 من القانون المدني المعدل و المتمم)، فإنه لا يمكن ذلك أمام التصرف القانوني الذي أجراه الموهوب له للغير حسن النية و كان هذا التصرف مستوفي لجميع الشروط القانونية الموضوعية و الشكلية الناقلة للملكية، و حسنا ما ذهب إليه المشرع في نص المادة 211 من قانون الأسرة المعدل و المتمم بتقرير جواز الرجوع في الهبة بصيغة العموم ، في انعدام الموانع المنصوص عليها في ذات المادة .

أما عن إجراءات الرجوع فلم يتم النص على ذلك ، واستنادا على نص المادة 206 من قانون الأسرة المعدل والمتمم ، فالهبة تنعقد بالإيجاب و القبول وهي من العقود الشكلية التي تتطلب تحريرها في قالب رسمي إذا انصبت على عقار أو حق عيني عقاري ،  و من ثم فإن إجراءات الرجوع فيها تتم بنفس الإجراءات التي نشأت بها ، أي تتم أمام الموثق بتطابق إيجاب و قبول جديدين ، و كأن الموهوب له بعد أن اكتسب ملكية الشيء الموهوب له ، يعيد هبتها من جديد للواهب ، مع مراعاة حقوق الموهوب له المترتبة عن أدائه للالتزام (الهبة بعوض)، إن كان له مقتضى .

وقد تضمنت المذكرة رقم 626 الصادرة عن المديرية العامة للأملاك الوطنية ، النص على كيفية الرجوع في الهبة بالتراضي، إذ يكفي فيه التصريح أمام الموثق بإرادة منفردة ، دون الرجوع للقضاء  أي بمجرد أن يلتمس أحد الوالدين من الموثق ذلك ، يتم إلغاء الحق بنفس الشكل الذي نشأ به، والملاحظ على المذكرة الإدارية أنها تخلط بين الهبة و الوصية و تجعل منهما تصرف واحد و هذا غير صحيح ، فالهبة تنعقد بإرادتين متطابقتين (الإيجاب الواهب و القبول الموهوب له)، ولا تنعقد بإرادة منفردة كما هو الحال في الوصية، وبالتالي التصريح بالرجوع في الهبة أمام الموثق لا يكفي فيه حضور المتعاقد الأول دون المتعاقد الثاني، إذ لابد أن يتأكد الموثق من قبول الموهوب له على الرجوع في الهبة حتى يتسنى له تحرير العقد، ولا يكفيه ذلك بل لابد له أن يتأكد من عدم وجود الموانع، وإن كانت هذه المسألة تخضع إلى رقابة القاضي .

الفرع الثالث: الرجوع في الهبة بالتقاضي

إذا لم يقبل الموهوب له رجوع الواهب في هبته ، جاز للواهب دون أي مبرر مع غياب موانع الرجوع المنصوص عليها في المادة 211 من قانون الأسرة المعدل و المتمم ، أن يطلب من القضاء الترخيص له بالرجوع في هبته وبالنتيجة فسخ الهبة ، ترفع دعواه وفقا للقواعد المقررة في قانون رقم 08/ 09 المتضمن الإجراءات المدنية و الإدارية   ،لاسيما المواد 14، 15، 17 ، 37، 40، 512 منه .

ولا يمكن اعتبار الرجوع في الهبة بالتقاضي إقالة، لان هذه الأخيرة لا تتم إلا باتفاق الطرفين على حل الرابطة العقدية، في حين أن الرجوع في الهبة عن طريق التقاضي لا يكون إلا بإرادة منفردة للواهب دون إرادة الموهوب له و يتم بالإكراه ، ويذهب الرأي الراجح في الفقه إلى القول بأن الرجوع في عقد الهبة بالتقاضي يعد فسخا لهذا العقد، وهو فسخ قضائي بعد رفع الأمر إلى القاضي ليقضي بالفسخ كما هو الحال عند فسخ العقد بوجه عام   .

ورأينا في هذا القول، أن الفسخ يستند إلى إخلال المتعاقد الآخر بالتزامه العقدي ، و من ثمة يمكن المطالبة بفسخ عقد الهبة إذا كانت بعوض و تخلى الموهوب له عن القيام بالتزامه ، فهو جزاء على خطأ الموهوب له  ، بينما الرجوع  في الهبة بالتقاضي لا يستند إلى إخلال الموهوب له بالتزامه، إذ يجوز للواهب الرجوع في هبته دون إخلال من الموهوب له و دون تقديم أي عذر، شريطة عدم قيام مانع من الموانع المنصوص عليها في نص المادة 211 من قانون الأسرة المعدل و المتمم .

ومثال ذلك أن يقوم الواهب برفع دعوى مطالبا الحكم له بالرجوع في هبته بسبب عدم قيام الموهوب له بالعوض الذي تضمنه عقد الهبة ، فإن المحكمة تعيد تكييف الطلب القضائي و تعتبر الدعوى المرفوعة دعوى فسخ و ليس دعوى رجوع، فتقضي بالفسخ .

المطلب الثاني: موانع الرجوع في الهبة

إن الرجوع في الهبة من طرف احد الأبوين، هو حق استثنائي لا يمكن التوسع فيه أو القياس عليه، وهو حق غير مطلق بل مقيد بالحالات الواردة في نص المادتين 211  و 212 من قانون الأسرة الجزائري، فإذا ما توافر احد منها أو أكثر ، كانت الهبة لازمة لا رجوع فيها ، نبينها كما يلي :

الفرع الأول: الهبة من اجل زواج الموهوب له

إذا كان الغرض من الهبة هو زواج الابن الموهوب له، و قد تحقق بمجرد إبرام عقد الزواج ، فلا رجوع للواهب في هبته بعد أن تحقق الغرض، و يترتب عن ذلك أن الهبة في هذه الحالة أصبحت لازمة منذ صدورها و لا يجوز للوالد الرجوع فيها .

الفرع الثاني: الهبة لضمان قرض أو قضاء دين

إذا كانت الهبة لتسديد دين مترتب في ذمة الواهب أو قام الموهوب له باستعمال المبلغ لقضاء دين في ذمته، أو تقديم ضمان في مواجهة دائني الواهب كتقديم رهن رسمي أو كفالة عينية ، فإن الهبة تكون لازمة منذ صدورها و لا يجوز للواهب الرجوع فيها لتحقق غرضه من الهبة .

الفرع الثالث: تصرف الموهوب له في الشيء الموهوب تصرفا قانونيا

إذا تصرف الموهوب له في الشيء الموهوب تصرفا قانونيا بالبيع أو الهبة أو الوقف مثلا ، و كان هذا التصرف نافذا في مواجهة الواهب باستيفاء الشروط الشكلية و الموضوعية المتطلبة قانونا في المادة 206 من قانون الأسرة والمادتين 165 و 793 من القانون المدني ، أصبحت الهبة لازمة و امتنع على الواهب الرجوع فيها ، لأن شيء الموهوب قد انتقلت ملكيته إلى غير الموهوب له الذي يجب حماية حقوقه التي اكتسبها عن وجه حق و بحسن نية .

أما إذا كان الشيء الموهوب لا يزال في ملك الموهوب له بسبب عدم مباشرة الإجراءات الشكلية المتطلبة في نقل الملكية (عقار أو منقول)، جاز للواهب الرجوع في الهبة ما لم يوجد مانع من موانع الرجوع .

الفرع الرابع: هلاك الشيء الموهوب

إذا هلك الشيء الموهوب في يد الموهوب له ، سواء كان الهلاك بسبب أجنبي أو بفعله ، امتنع على الواهب الرجوع في هبته ، لأن الموهوب له لا يضمن الهلاك، غير ان الهلاك نوعين: هلاك كلي وهلاك جزئي، ففي الحالة الأولى لا يجوز للواهب الرجوع في هبته، غير انه وحسب الحالة الثانية جاز له الرجوع في الباقي لانتفاء المانع من الرجوع في هذا الجزء .

ويلحق بهلاك الشيء الموهوب ما يغير من حالته الأصلية إلى حالة أخرى تزيل صورته الأولى  ذلك أن الشيء الموهوب قد زال بتغير صورته، فأصبح الرجوع في الأصل متعذرا، والموجود شيء آخر غير الموهوب.

الفرع الخامس: التغيير في طبيعة الشيء الموهوب

التغيير في الشيء الموهوب يكون نتيجة تصرف الموهوب له في الشيء الموهوب تصرفا ماديا نتج عنه زيادة في قيمته كالبناء أو الغرس ، فإن هذه الزيادة تمنع الرجوع و تجعل الهبة لازمة، وهذا ما ذهبت إليه المحكمة العليا في قرارها الصادر بتاريخ 11/03/1998 تحت رقم 153622، حيث جاء في أحد حيثياته " حيث أن المستأنف عليهما أدخلا على المال الموهوب أعمالا غيرت في طبيعتها وهي بناء مسكن .

حيث أن المادة 211 من قانون الأسرة تستثني في مثل هذه الحالة الأبوين من الحق في الرجوع في الهبة إذا أدخل تغيير على المال الموهوب من طبيعته مما يسقط حق الواهب في الرجوع عن الهبة، وبالتالي فإن محكمة الدرجة الأولى وفقت في حكمها بصحة عقدي الهبة المحررين في ... وإبطال عقد الرجوع في الهبة المحرر في ... ، مما يتعين على المجلس تأييده في جميع تراتيبه.

حيث يستنتج مما سبق أن قضاة الاستئناف سببوا قرارهم تسبيبا كافيا و أعطوه أساس قانوني وطبقوا القانون تطبيقا حسنا و صحيحا " .

ومع ذلك إذا زالت الزيادة المانعة من الرجوع كإزالة البناء او قلع الغرس ، فإن حق الواهب في الرجوع قائم لانتفاء المانع من ذلك .

ولا يدخل في نطاق التغيير في طبيعة الشيء الموهوب ، الأعمال التي يجريها الموهوب له كأعمال الصيانة أو التحسينات من مظهر الموهوب ، كما لا يمنع من الرجوع أيضا ارتفاع ثمن الشيء الموهوب لأن ثمن لم يزد في ذاتها و إنما في قيمتها .

الفرع السادس: الهبة بقصد المنفعة العامة

الهبة بقصد المنفعة العامة نصت عليها المادة 212 من قانون الأسرة المعدل و المتمم ، فكثيرا ما يلجأ الأفراد إلى هبة أموالهم إلى الدولة أو الجماعات المحلية ، و تكون الهبة في هذه الحالة مشروطة بإلزام الموهوب له برصد الهبة للمنفعة العامة، و في هذه الحالة لا يمكن للواهب مهما اختلفت أوصافه الرجوع في هبته ، وهو المبدأ الذي سار عليه اجتهادنا القضائي في أحد قراراته رقم 191116 " من المقرر قانونا أن الهبة بقصد المنفعة العامة لا رجوع فيها ، و لما كان ثابتا في قضية الحال أن قطعة الأرض المتنازع عليها منحت للبلدية من طرف مورث المستأنفين بصفة دائمة قصد بناء مدرسة ، و ان غلق المدرسة من طرف البلدية مؤخرا لنقص عدد التلاميذ لا يعطي الحق للورثة باسترجاعها ، لأن المورث ذكر في شهادة البلدية بأن القطعة الأرضية ستكون ملكا للبلدية و لم يذكر بأنها منحت بصفة مؤقتة حتى يجوز استرجاعها "  .

وتجدر الإشارة إلى أن الشروط التي تضمنتها المادة 211 من قانون الأسرة هي شروط موضوعية تحتاج تدخل من القاضي على اعتبار أن الموثقين ليس لهم صلاحيات التدخل في المسائل الموضوعية للعقود إلا إذا صرح الموهوب له بوجود حالة من الحالات المذكورة في المادة ، و أثبت ذلك بموجب سند يثبت من خلاله تغيير طبيعة الشيء الموهوب أو التصرف فيه .

ولحسم الوضع تدخل القضاء بقرار  مفاده أن الاختصاص في تقدير الرجوع ليس من اختصاص القضاة فقط، بل و أيضا من اختصاص الموثقين.

المطلب الثالث: آثار الرجوع في الهبة

إن مسألة الرجوع عن الهبة سواء عن طريق التراضي أو بحكم القاضي لا يبقى مجرد تصرف قام به الواهب اتجاه الموهوب له، بل ينتج عنه أثار بالنسبة لطرفي عقد الهبة و بالنسبة للغير كما سيتم بيانه :

الفرع الأول: أثر الرجوع في الهبة فيما بين المتعاقدين

يترتب على الرجوع في الهبة سواء بالتراضي أو بالتقاضي اعتبار الهبة كأن لم تكن ، مما يستوجب إعادة الطرفين إلى الحالة التي كان عليها قبل إبرام العقد ، و يترتب عن ذلك ما يلي:

أولا: رد الشيء الموهوب إلى الواهب :يستطيع الواهب بمقتضى الرجوع في الهبة أن يسترد الشيء الموهوب الذي سلمه للموهوب له ، فإذا استرده بغير التراضي أو التقاضي كان غاصبا ، غير أن السؤال الذي يطرح ما الحكم لو هلك الشيء الموهوب ؟

للإجابة على هذا السؤال يجب أولا التفرقة بين حالتين :

الحالة الأولى : إذا هلك الشيء الموهوب بعد أن تم الرجوع في الهبة يفعل الموهوب له ، و جب على هذا الأخير تعويض الواهب ، لأنه في هذه الحالة يكون ضامنا لهذا الهلاك .

الحالة الثانية : إذا هلك الشيء الموهوب بسبب أجنبي ، فيقع الهلاك على الواهب ما لم يكن قد أعذر الموهوب له بالتسليم ، وهلك الشيء بعد الاعذار، فالهلاك في هذه الحالة يقع على عاتق الموهوب له تطبيقا للقواعد العامة .

ثانيا: رجوع الواهب بالثمرات :تعتبر ثمرات الشيء الموهوب قبل الرجوع في الهبة ملكا للموهوب له ، ولا يسترد الواهب هذه الثمرات إلا من يوم الاتفاق على الرجوع في الهبة أو من تاريخ الحكم في دعوى الرجوع بفسخ الهبة ، و تبعا لذلك لا يحق للموهوب له جني الثمرات لأنها لم تعد ملكا له ، يتعين ردها إلى الواهب من ذلك الوقت .

ثالثا: رجوع الموهوب له بالمصروفات :يرجع الموهوب له على الواهب بما أنفقه من مصروفات على الشيء الموهوب ، فإذا كان مصاريف ضرورية أنفقت في سبيل المحافظة على الشيء الموهوب و صيانته، رجع بها الموهوب له على الواهب كلها، أما إذا كانت المصاريف نافعة، رجع على الواهب بأقل القيمتين : إما المطالبة بالمصاريف التي أنفقها، أو المطالبة بما زاد في قيمة الشيء الموهوب بسببها، و إذا كانت كمالية ، لم يرجع بشيء على الواهب، و لكن يجوز له أن ينزع ما استحدثه في الشيء الموهوب على أن يعيد الشيء إلى حالته الأولى و ذلك ما لم يختر الواهب استبقاءها ودفع قيمتها .

الفرع الثاني: أثر الرجوع في الهبة بالنسبة للغير

الرجوع في الهبة إن صح التعبير ليس له أثر بالنسبة للغير، و إنما يجب حماية حقوق الغير حسن النية وفقا للقواعد العامة المقررة في هذا الشأن، و من ثم يجب التفرقة بين ما إذا كان الموهوب له قد تصرف في الشيء الموهوب تصرفا ناقلا للملكية ، أو رتب عليه حقا عينيا .

أولا: تصرف الموهوب له في الشيء الموهوب تصرفا ناقلا للملكية :إذا تصرف الموهوب له في الشيء الموهوب تصرفا ناقلا للملكية عن طريق البيع أو الهبة مثلا ، و كان هذا التصرف قبل ممارسة الواهب لحق الرجوع ، كانت الهبة لازمة و امتنع عليه الرجوع بحالتيه ، ذلك أن الشيء الموهوب قد انتقل من ذمة الموهوب له إلى ذمة الغير بإتمام إجراءات الشهر العقاري أو بالتسجيل كما هو مطلوب بخصوص المنقولات ، و هذا كله تطبيقا لنص المادة 211 / 4 من قانون الأسرة المعدل و المتمم .

أما إذا تصرف الموهوب له في الشيء الموهوب بعد ممارسة الواهب حق الرجوع قضائيا مع استيفاء الإجراءات الشكلية المتعلقة بدعواه لاسيما شهر عريضة دعوى الرجوع ، فإن التصرف الذي قام به الموهوب له لا يسري في مواجهة الواهب ، و له أن يسترد الشيء الموهوب خاليا من أي حق للغير ، إلا إذا قام هذا الأخير بشهر سند ملكيته قبل شهر دعوى الرجوع ، ففي هذه الحالة لا يمكن للواهب أن يحتج بالحكم الصادر ضد الغير ، إعمالا لنص المادة 86 من المرسوم رقم 76/ 63 المتعلق بتأسيس السجل العقاري المعدل و المتمم   و مفادها " إن فسخ الحقوق العينية العقارية أو إبطالها أو إلغائها أو نقضها عندما ينتج أثرا رجعيا ، لا يحتج به على الخلف الخاص لصاحب الحق المهدور ، إلا إذا كان الشرط الذي بمقتضاه حصل ذلك الفسخ أو الإبطال أو الإلغاء أو النقض قد تم إشهاره مسبقا ..." .

و في حالة عدم الشهر المسبق لسند ملكية الغير على شهر دعوى الرجوع ، فللغير حسن النية مطالبة البائع (الموهوب له) باسترداد ما دفعه من ثمن الشراء الشيء إذا كان التصرف بيعا، أما إذا كان التصرف هبة فلا مقتضى له إلا إذا كانت بعوض فيستحق التعويض بقدر العوض الذي أداه .

ثانيا : ترتيب الموهوب له على الشيء الموهوب حقا عينيا :قد لا يتصرف الموهوب له في الشيء الموهوب ، و لكن قد يرتب عليه حقا عينيا كحق الانتفاع أو الارتفاق أو حق رهن لفائدة الغير ، فإذا تم القيام بهذا التصرف قبل شهر دعوى الرجوع ، فإن الواهب يسترد العقار الموهوب مثقلا بالحق العيني المترتب للغير .

أما إذا تم التصرف بقيام حق عيني على الشيء الموهوب بعد شهر دعوى الرجوع، فإن حق الغير لا يسري في مواجهة الواهب الذي يسترد الشيء الموهوب خاليا من كل حق للغير، و ما على هذا الأخير سوى الرجوع على الموهوب له بالتعويض طبقا للقواعد العامة    .

المرجع:

د. كحيل حكيمة، مطبوعة بيداغوجية تحت عنوان: عقد الهبة، موجهة لطلبة الماستر، تخصص: قانون الأسرة، جامعة الجيلالي بونعامة- خميس مليانة- كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم الحقوق، السنة الجامعية: 2017/ 2018، ص 54 إلى ص70.

التحميـل PDF

google-playkhamsatmostaqltradent