قواعد التنازع المتعلقة بالإلتزامات غير التعاقدية

 قواعد التنازع المتعلقة بالإلتزامات غير التعاقدية

قواعد التنازع المتعلقة بالإلتزامات غير التعاقدية

يقصد بالالتزامات غير التعاقدية تلك الأفعال التي تنشأ عنها إلتزامات من غير أن تتدخل إرادة الأطراف في إنشائها، ويقصد بها الفعل الضار المنشئ للمسؤولية التقصيرية لكافة أنواعها والفعل النافع الذي ينتج عنه الإثراء بلا سبب بتطبيقيه الدفع الغير مستحق والفضالة.و يسري على هذه الأفعال قانون محل وقوعها  والذي يعتبر عنه بقاعدة  Lex loci delicti

المبحث الأوّل: التعريف بقاعدة محل وقوع الفعل المنشئ للالتزام

تتفق غالبية التشريعات على الأخذ بهذه القاعدة، واخضاع الالتزامات الناشئة عن المسؤولية التقصيرية والإثراء بلا سبب لقانون مكان وقوع الفعل المنشئ لها، لذا لابد من معرفة مصدر هذه الأهمية بالتطرق إلى تاريخ نشأتها في مطلب أول، ومضمونها في مطلب ثاني.

المطلب الأول: نشأة قاعدة محل وقوع الفعل المنشئ للالتزام

وظهرت قاعدة قانون محل وقوع الفعل المنشئ للالتزام في القرون الوسطى لدى المدرسة الإيطالية القديمة التي كانت لا تفصل بين المسؤوليتين الجنائية والمدنية، حيث تخضع الجريمة الجنائية برمتها إلى قانون محل وقوعها، وبذلك أخذ الفقه الفرنسي على يد الفقيه D’Argentrea كتطبيق لمبدأ إقليمية القوانين (القرن السابع عشر).

غير أنّ Saviny على الرغم من إقراره لهذه القاعدة إلاّ أنّه أعطى الحق للمضرور في أن يأخذ بقانون القاضي إذا كان يحقق له مصالح أكثر. وهي القاعدة التي يأخذ بها القانون الفرنسي، بحيث أنّه إذا كان قانون المحل يعطي للمضرور تعويضًا يساوي على الأقل الحد الأدنى الذي يضمنه القانون الفرنسي، أستبعد قانون المحل وطبّق بدله القانون الفرنسي هو ما تأخذ به الكثير من تشريعات دول الإتحاد الأوروبي.

إضافة إلى قانون المحل، إقترح الفقه حلولا أخرى كإخضاع الفعل المنشئ للإلتزام إلى قانون العلاقة الأصلية، قانون الإرادة، أو القانون الشخصي، غير أنّ مبررات الأخذ بقانون المحل جعلت جل التشريعات تأخذ بها والتي تعود أساسا إلى ما يلي:

- أنّ قانون المحل هو المختص في تحديد مشروعية أو عدم مشروعيته الفعل الذي يقع تحت سلطانه، حيث يقتضي مبدأ الإقليمية خضوع الأفعال التي تتم في إقليم دولة إلى قانونهذه الأخيرة.

- أنّ الفعل له صلة بالمجتمع الذي تنعكس عليه أثاره فيكون من حق أفراد هذا المجتمع أن يطبّقوا قانونهم على الفعل الذي مس بمصالحهم.

- أن الخطأ لا يكون منشأه العقد بالضرورة.

المطلب الثاني: مضمون قاعدة محل وقوع الفعل المنشئ للالتزام

تنص م 20/1 ق.م.ج على ما يلي: "يسري على الالتزامات غير التعاقدية قانون البلد الذي وقع فيه الفعل المنشئ للإلتزام"،  وهذا مضمون قاعدة Lex Loci Delecti، بحيث أنّ ضابط الإسناد هو المكان الذي وقع فيه الفعل المنشئ للالتزام، ولا فرق هنا بين الفعل النافع أو الضار.

إلاّ أنّ الفقرة الثانية من المادة 20 تنص على أنّه : "فيما يتعلق بالإلتزامات الناشئة عن الفعل الضار لا تسري أحكام الفقرة السابقة على الوقائع التي تحدث في الخارج  وتكون مشروعة في الجزائر وان كانت غير مشروعة في البلد الذي وقعت فيه".

بالتالي فإنّه فيما يتعلق بالفعل الضار نميّز بين القانون الواجب التطبيق على النزاع وبين القانون الواجب التطبيق على تكييف الفعل من حيث مشروعيته، إذ أنّ تقدير مشروعية الفعل يخضع للقانونين الجزائري  والمحلي على أساس التطبيق الجامع، بحيث تتم متابعة الشخص عن فعله الضار إذا كان غير مشروع في كلا القانونية أمّا إذا كان مشروعًا في أحدهما وغير مشروع في الآخر فإنّه لا محل للمتابعة وذلك على الوجه الآتي:

- إذا كان الفعل غير مشروع في كلا القانونين فإنّه يتم تطبيق قانون المحل بحيث تطبق أحكامه على قواعد المسؤولية التقصيرية الناتجة عن الفعل الضار.

- إذا كان الفعل غير مشروع في قانون المحل ومشروع في القانون الجزائري يستبعد قانون المحل ويطبق القانون الجزائري الذي يجعل الشخص في منأى عن المساءلة.

- إذا كان الفعل غير المشروع في الجزائر مشروع في قانون المحل يتم تطبيق قانون المحل بإعتباره قانون مكان وقوع الفعل، فلا يكون هناك وجه للمتابعة.

بالتالي نلاحظ أننا نطبق الإستثناء في الحالة الثانية، فقط بحيث إذا كان الفعل مشروع في القانون الجزائري  وغير مشروع في قانون المحل إستبعدنا قانون المحل وطبقنا القانون الجزائري، أي استبعدنا القاعدة العامة  وعملنا بالإستثناء، غير أنّ تطبيق القانون الجزائري لا ينتج عنه إعمال قواعد المسؤولية التقصيرية ولكن يقرر فقط عدم مساءلة الشخص. ونشير إلى أنّ هذا الإستثناء لا محل له فيما يخص الفعل النافع.

المبحث الثاني: تحديد قانون مكان وقوع الفعل

يتحدد القانون الواجب التطبيق على الإلتازمات غير التعاقدية بالنظر إلى المكان الذي وقع فيه الفعل للمنشئ للإلتزام، ولذلك لابّد من تحديد مكان وقوع الفعل، وهو أمر لا يثير أي إشكال إذا وقعت عناصر الفعل كلها في إقليم دولة واحدة، بحيث يتحقق الخطأ والضرر والإثراء والافتقار في دولة واحدة أيضًا، سواء تعلق الأمر بالإقليم البري أو السفينة أو الطائرة.

فالمشكلة إذن تثور إذا وقعت عناصر الفعل النافع أو الضار في أكثر من إقليم دولة واحدة حيث يحدث الخطأ  والإثراء في بلد، بينما يتحقق الضرر  والإفتقار في بلد آخر، فما هو المكان الذي نأخذه بعين الاعتبار لتحديد القانون الواجب التطبيق؟

المطلب الأوّل: تحديد قانون مكان وقوع الفعل النافع

يقصد بالفعل النافع الإثراء بلا سبب بتطبيقية الدفع غير المستحق والفضالة، ويتفق أغلب الفقه على الأخذ بمكان وقوع الإثراء لأنّه هو أساس الإلتزام بردّ ما أكتسب دون وجه حق، كما أنّ الإثراء هو النتيجة الإيجابية للفعل والأكثر ظهوارً لدى الغير، عكس الإفتقار الذي هو نتيجة سلبية غير ظاهرة.

بالتالي فالقانون الذي يخضع له الدفع غير المستحق هو قانون محل الدفع، أمّا الفضالة فيحكهما قانون مكان قيام الفضولي بشؤون ربّ العمل

المطلب الثاني: تحديد قانون مكان وقوع الفعل الضار

الفعل الضار هو الفعل غير المشروع المنشئ للمسؤولية التقصيرية وهو يتكوّن من ثلاث عناصر: الخطأ، الضرر، وعلاقة السببية، فهل أنّ عبارة "الفعل المنشئ للإلتزام" التي إستعملها المشّرع الجزائري في م 20 ق.م.ج  تعني الخطأ أو الضرر؟ إذ أنّ ما ينشئ الإلتزام بالتعويض هو حدوث ضرر بسبب خطأ تقصيري.

يرى جانب من الفقه الفرنسي بأنّ القانون الذي يحكم المسؤولية التقصيرية هو قانون محل وقوع الخطأ لإعتبارين أساسيين، أوّلهما أنّ قواعد المسؤولية التقصيرية تعد من الأمن المدني، حيث تهدف إلى تأمين المجتمع من الأفعال غير المشروعة، وثانيهما أنّ العدالة تقتضي محاسبة شخص على فعل يعد غير مشروع طبقا لقانون البلد الذي وقع فيه.

غيّر أنّه يؤخذ على هذا الإتجاه إهماله للضرر، والذي يعد ركن أساس لقيام المسؤولية ولزوم التعويض، إذ أنّ الخطأ لوحده لا ينشئ الإلتزام بالتعويض، كما أنّه يمكن أن تتعدد الأخطاء وتمتد في أقاليم دول مختلفة فبأي قانون نأخذ؟

لذلك رأى جانب آخر من الفقه ضرورة الأخذ بمحل وقوع الضرر، سيما أنّ الهدف من إعمال قواعد المسؤولية التقصيرية هو جبر الضرر، كما أنّ الإتجاه الحديث يذهب إلى إهمال عنصر الخطر، حيث يظهر ذلك في المسؤولية القائمة على الخطأ المفترض والمسؤولية على أساس المخاطر.

لكن يعاب على هذا الرأي أنّه حتى في الحالات التي يكون فيها الخطأ مفترض فإنّ وجوده ضروري لإقامة المسؤولية وتقدير التعويض، كما أنّ الضرر قد لا يتركز في مكان واحد بل قد يمتد إلى أكثر من مكان، ضف إلى ذلك صعوبة تحديد مكان الضرر إذا كان أدبيًا، وهذا ما دفع بعض الفقه إلى تبني رأي ثالث يأخذ بعين الإعتبار كلا العنصرين.

حسب هذا الرأي يكون للمضرور الحق في الخيار بين قانون مكان وقوع الخطأ أو قانون مكان وقوع الضرر، بشرط أن يكون الفعل غير مشروع طبقا لكلا القانونين، وهو  وان يبدوا قد خلق توازن بين الرأيين السابقين إلاّ أنّه يحرم المخطئ من حقه الإستفادة من قانون مكان وقوع الخطأ الذي قد يكون أصلح له، كما أنّه يوسع دائرة الخيار عند توزع الخطأ في أكثر من إقليم دولة، أو توزع الضرر في إقليم أكثر من دولة، على الرغم من أنّ بعض الفقه قال بالأخذ بقانون دولة الخطأ الرئيسي.

وعلى الرغم من ذلك أخذ بعض المشرّعين بهذا الرأي كالمشرع الألماني إلاّ أنّه يبدوا أنّ المشرع الجزائري قصد بالفعل المنشئ للإلتزام الخطأ، غير أنّ الإشكال يطرح في حال كون الخطأ حدث في موقع على شبكة الإنترنيت فكيف نحدد مكان وقوع الفعل المنشئ للالتزام؟

هناك من قال بتطبيق قانون القاضي، إلاّ أنّه قد لا يمثل أي علاقة بعناصر المسؤولية التقصيرية. وهناك من يقول بالأخذ بقانون بلد صاحب الموقع، إلاّ أنّ المعلومة التي أحدثت الضرر قد تكون لشخص آخر غير صاحب الموقع، بالتالي قيل بالأخذ بقانون بلد صاحب المعلومة.

غير أنّ الأرجح هو ما ذهبت إليه محكمة النقض الفرنسية بتطبيق نظرية القانون الملائم، وهو القانون الذي ترتبط به أكثر عناصر المسؤولية التقصيرية، وقد قال بهذه النظرية الفقيه الأمريكي  Morris، ومفادها البحث عن القانون الأكثر ارتباطا بالواقعة ليكون هو القانون الواجب التطبيق، بحيث يعتمد القاضي على معيارين: معيار كمي يراعي إرتكاز أكبر قدر من عناصر الواقعة بالنظر إلى مكان معين، فيؤخذ بقانون هذا المكان، ومعيار كيفي يبحث عن أهم العناصر في النزاع  والتي تستند إلى بلد معيّن فيؤخذ بقانون هذا البلد.

أشهر قضية أثير فيها تطبيق هذه النظرية هي قضية Babcock et Jakson حيث قام مواطن نيويوركي بحادث في مدينة أونتاريو بسيارة مسجلة في نيويورك وصحبة مواطن نيويوركي أيضًا، وكانت الدعوى قد رفعت أمام قضاء مدينة نيويورك، فقضت المحكمة العليا بتطبيق قانون ولاية نيويورك في 09/05/1963 بإعتباره القانون الأكثر ملائمة من قانون مقاطعة أونتاريو الكندية التي وقع فيها الحادث، لأن وقوعه فيها كان عرضيا.

المبحث الثالث: المسائل الخاضعة لمحل وقوع الفعل المنشئ للالتزام

ذكرنا سابقًا أنّ المقصود بالفعل المنشئ للإلتزام هو الفعل الضار الذي تنشأ عنه المسؤولية التقصيرية،  والفعل النافع الذي ينشأ عنه الإثراء بلا سبب، بالتالي لا تخضع قواعد المسؤولية العقدية إلى قاعدة المحل إنما إلى القانون الذي يحكم العقد الذي يرتبط به الخطأ العقدي الذي أنشأها، ويرجع تكييف الخطأ إلى كونه عقدي أو تقصيري إلى قانون القاضي، كما تخضع له أيضًا إجراءات الدعاوى المرتبطة بالمسؤولية التقصيرية والإثراء بلا سبب.

المطلب الأوّل: المسائل المتعلقة بالمسؤولية التقصيرية

يختص قانون المحل بتحديد أركان المسؤولية التقصيرية كالآتي:

- ركن الخطأ، وما يتعلق بعنصريه المادي والمعنوي (الإدراك).

- الضرر وأنواعه.

- علاقة السببية وهل يؤخذ بالأسباب المباشرة وغير المباشرة، إثباتها ونفيها، ووسائل دفع المسؤولية.

كما يحدد لنا قانون المحل أنواع المسؤولية التقصيرية وهي المسؤولية عن الفعل الشخصي عن فعل الغير  وعن فعل الأشياء. وما هي الشروط اللازمة لقيام كل منها. كما يحدد نوع الخطأ فيها هل هو واجب الإثبات أم مفترض وهل الخطأ المفترض قرينته قاطعة أم بسيطة.

ويحكم قانون المحل كل ما يتعلق بآثار المسؤولية التقصيرية كما يلي:

- التعويض من حيث كونه عيني أو نقدي، طريقة تقديره، هل يشمل الضرر المباشرو غيرالمباشر على السواء،  وكيفية دفعه.

- نوع المسؤولية عند تعدد المسؤولية من حيث كونها تضامنية أم لا، وكيف تحدد مسؤولية كل واحد منهم.

- أطراف دعوى المسؤولية والأشخاص الذين لهم الحق في طلب التعويض، فيما يتعلق بالضرر الأدبي الناتج عن الوفاة.

- حق الأطراف في تعديل قواعد المسؤولية التقصيرية والإعفاء منها والتأمين عليها.

- تقادم دعوى المسؤولية التقصيرية ومدّته.

المطلب الثاني: المسائل المتعلقة بالإثراء بلا سبب

يحكم قانون محل وقوع الفعل المنشئ للإلتزام فيما يخص الإثراء بلا سبب ما يلي:

  • تحديد أركان الإثراء بلا سبب وهي الإثراء الإفتقار، علاقة السببية بينهما، وانعدام سبب الإثراء.
  • كون الإثراء مباشر أو غير مباشر، سلبي أو إيجابي.
  • كون الافتقار مباشر أو غير مباشر، سلبي أو إيجابي.
  • معنى الإثراء والإفتقار.
  • تحديد كون دعوى الإثراء أصلية أو إحتياطية.
  • إشتراط وجوب بقاء الإثراء إلى غاية رفع الدعوى من عدمه.
  • آثار الإثراء سيما مقدار التعويض هل يحدد بالنظر إلى قيمة الإثراء أو الإفتقار.
  • أركان الدفع غير المستحق وكيفية الإسترداد ومقداره وشروطه.
  • أركان الفضالة والتزامات كل من الفضولي ورب العمل وحقوقها.

المرجع:

  1. د. بشور فتيحة، محاضرات في القانون الدولي الخاص تنازع القوانين، محاضرات لطلبة السنة الثالثة ليسانس تخصص القانون الخاص، جامعة آكلي محند أولحاج – البويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسة، قسم الحقوق، السنة الجامعية 2016/ 2017، ص67 إلى ص74.
google-playkhamsatmostaqltradent