الأركان العامة للجريمة

الأركان العامة للجريمة 

الأركان العامة للجريمة

الجريمة هي "فعل غير مشروع صادر عن إرادة جُرمية يقُرّرُ له القانون عقوبة أو تدبيرا احترازيا". تقوم الجريمة بحسب هذا التعريف على ثلاثة أركان ركن شرعي وركن مادّي وركن معنوي، فإذا فقُد أحد هذه الأركان أو اختلت شروطه تنعدم الجريمة. فلا جريمة دون فعل ضارّ، ولا جريمة دون نيةّ إجرامية أو خطء جنائي، ولا جريمة دون نصّ قانوني يقرّر عدم مشروعية الفعل.

وتسُمّى عناصر الجريمة الثلاثة بالأركان العامّة، لأنهّا مشروطة في كلّ جريمة. وتقُابلها الأركان الخاصة للجريمة، التي تشُترط في بعض الجرائم وتختلف من جريمة إلى أخرى، ويتكفلّ النص القانوني الخاص المقرر للجريمة بتحديدها، وهي تضاف إلى الأركان العامة لتحُدّد نوعها وطبيعتها. مثل أن يكون المجني عليه حيا في جريمة القتل، وأن يكون المرتشي موظفا في جريمة الرشوة، و أن يكون الشيء المختلس مالا منقولا مملوكا للغير في جريمة السرقة.

ـ يشُترط لقيام الركن الشرعي شرطان هما ضرورة خضوع الفعل للنّص القانوني للتجّريم والعقاب وعدم خضوع الفعل للنّص القانوني للإباحة. 

ـ يشُترط لقيام الركن المادّي شرطان هما الفعل في شكل سلوك إيجابي أو سلبي، والنتيجة الناجمة عن هذا الفعل بالإعتداء على المصلحة المحمية أو تهديدها بخطر.

ـ يشُترط لقيام الركن المعنوي شرطان هما الإدراك وحرية الفعل والاختيار.

المبحث الأوّل: الرّكن الشرعي للجريمة

يقُصد بالركن الشرعي للجريمة صفة عدم المشروعية للفعل، أو الوصف والتكييف الجنائي للفعل، غير أنّ هناك جانب من الفقه لا يعترف بالركن الشرعي ويعتبر أنّ للجريمة ركنان فقط، ركن مادّي وركن معنوي، على أساس أنّ النص القانوني هو خالق الجريمة لا يصُّحُّ أن يكون جزءا منها.

إلاّ أن الراجح في الفقه أنّ الركن الشرعي يتمثلّ في صفة عدم المشروعية وهي مُنفصلة عن النصّ القانوني، فهذا الأخير هو مصدر عدم المشروعية. ويستند الركن الشرعي إلى شروط أساسية:

1ـ شرط وجود النصّ القانوني للتجّريم والعقاب (المادّة 1 ق ع ج)   

2ـ شرط قابلية النصّ القانوني للتطّبيق في الزمان (المادّة 2 ق ع ج)         

3ـ شرط قابلية النصّ القانوني للتطّبيق في مكان معينّ (المادّة 3 ق ع ج)

4ـ شرط عدم خضوع الفعل لنصّ الإباحة ندرسه في الركن المادّي للجريمة (الأفعال المُبرّرة).

المطلب الأول: مبدأ الشرعية الجنائية

المادّة الأولـى ق ع ج: (لا جريمة ولا عقوبة أو تدبير أمن بغير قانون)

ورد في المادّة الأولى من ق ع أربع (4) مُصطلحات وهي:

1ـ الجريمة: فعلُ غير مشروع صادر عن إرادة جُرمية يقُرّر له القانون جزاءا جنائيا.

2ـ العقوبة: جزاءٌ جنائي يقُرّره القانون يطُبقّ على مُرتكب الجريمة بغرض الردع والإصلاح والعدالة.

3ـ التدبير الأمني: إجراءا قانوني في مواجهة الخطورة الإجرامية، يطُبقّه القاضي للوقاية والعلاج

"القانون" هو المُصطلح الرابع الذي تدور حوله الفكرة الأساسية للمادّة الأولى من قانون العقوبات. 

عبارة النصّ تتضمّن شرط القانونيةّ في التجّريم والعقاب والتدبير الأمني. أي يجعل للقاعدة الجنائية  مصدرا  وحيدا هو القانون.

ـ  يخُاطب النص بهذا المبدأ من جهة القاضي باعتباره  يطُبقّ القانون وله صلاحية تفسيره، ومن جهة أخرى يخاطب المُشرّع باعتباره مُصْدِر القانون.

الفرع الأوّل: التعريف بمبدأ الشرعية الجنائية: 

الفرع الثاني: نتائج تكريس مبدأ الشرعية الجنائية:

الفرع الأول: التعريف بمبدأ الشرعية الجنائية

المقصود بمبدأ الشرعية الجنائية هو قانونية التجّريم والعقاب، حيث يعُدُّ القانون الجنائي من أخطر القوانين التي تملكها السلطة السياسية في الدولة بهيئاتها الثلاثة، وذلك لمساسه بالحقوق والحريات الأساسية للأفراد، فهو يتضمّن عقوبات خطيرة كالإعدام، والسجن المؤبدّ والسجن المؤقت والغرامة والمُصادرة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية...إلخ.

بغرض التعريف بالمبدأ لابد من تحديد معناه في الفقه والتشريع وتقديره ببيان جوانبه الإيجابية التي لقي على أساسها التأييد، وسلبياته التي لقي بسببها الانتقاد.

أوّلا: مفهوم مبدأ الشرعية الجنائية وتاريخه:

أ) مفهوم مبدأ الشرعية الجنائية 

1) مضمون المبدأ يقُصد بمبدأ الشرعية الجنائية أنّ تجريم الأفعال بإعطائها الصفة الجُرمية يكون بأداة القانون الذي يحُدّد عناصر الجريمة والعقوبات المطبقّة عليها، فكل فعل لا ينصّ القانون على تجريمه

وعقابه لا يؤاخذ عليه فاعله، لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة وهي غير محدّدة وإنمّا الأفعال المجرّمة هي المحصورة والمحدّدة.

فنظرا لخطورة مضمون القانون الجنائي بالنسبة للحقوق والحريات فقد استقر الفكر الجنائي الحديث، على أنّ الفعل مهما كانت خطورته، ومهما كانت جسامة إضراره بالمجتمع، ومهما كان مُخالفا للدين ومُضادا للأخلاق ومُنافيا للعدالة، ومهما كانت الخطورة الإجرامية لمُرتكبه، لا يشُكل جريمة ولا يقع تحت طائلة العقاب، إلاّ إذا كان هناك قانون صريح يجُرّمه ويقُرّر له عقوبة محدّدة. 

2) نطاق مبدأ الشرعية الجنائية يشمل نطاقه الجانبين الموضوعي والإجرائي:

حدّد المُشرّع الجزائري في المادّة الأولى من قانون العقوبات النطاق الموضوعي للمبدأ بثلاث عناصر هي الجريمة والعقوبة والتدابير الاحترازية. 

ـ الجريمة: يقضي مبدأ الشرعية الجنائية بأنّ الإدانة بالوصف الجنائي للفعل يقتضي مُطابقة الفعل للنموذج التشريعي الوارد في نصّ التجريم، مُمثلا في قانون العقوبات والقوانين العقابية المُكمّلة، يحُدّد الأفعال التي تعُتبر جرائم، حيث يجب أن يحتوي النص على كافةّ العناصر التي يتطلبها النموذج التشريعي للجريمة، فيعُرّف كل جريمة بأركانها. 

ـ العقوبة: لا يحق للقاضي أن يحكم بعقوبة غير منصوص عليها ولا أن يحكم بأشدّ من العقوبة المنصوص عليها. قال سيزار بيكاريا وهو أوّل من نادى بهذا المبدأ في أوربا في القرن 18 "إنّ القوانين وحدها هي التي تستطيع أن تحُدّد العقوبات المُطبقّة على الجرائم"

ـ التدابير الاحترازية: تدخل في مبدأ الشرعية التدابير الأمنية التي تطُبقّ على من هم في حالة خطورة إجرامية، بحيث لا يستطيع القاضي أن يحكم بغير التدابير المنصوص عليها في القانون.

ـ هذا بالإضافة للنطاق الإجرائي، الذي كرّسه المُشرّع في المادّة الأولى من قانون الإجراءات الجزائية "يقوم هذا القانون على مبادئ الشرعية والمحاكمة العادلة واحترام كرامة وحقوق الإنسان...". 

3) تكريس المبدأ في النصوص الدولية والوطنية:

ـ على مُستوى الوثائق الدولية: نصّت على مبدأ الشرعية الجنائية المادّة 11 /2 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، والمادّة 7 من الإتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان 1950. والمادّة 15 فقرة 1 و2 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966. 

ـ على مُستوى الدساتير والتشريعات الداخلية: 

تقرّر المبدأ في كل الدساتير الجزائرية، وفي قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجزائية. 

ـ في الدستور الجزائري (2016):  نصّت عليه النصوص التالية:

ـ المادّة 58 "لا إدانة إلا بمقتضى قانون صادر قبل ارتكاب الفعل المجرّم". 

ـ المادّة 59 "لا يتُابع أحد، ولا يوُقفّ ولا يحُتجز إلا ضمن الشروط المُحدّدة بالقانون، وطبقا للأشكال التي نصّ عليها". ـ المادّة 158"أساس القضاء مبادئ الشرعية والمساواة..".

ـ المادّة 160 "تخضع العقوبات الجزائية إلى مبدئي الشرعية والشخصية". 

ـ في قانون العقوبات بموجب المادّة الأولى "لا جريمة ولا عُقوُبة أو تدبير أمن بغير قانون" 

ـ في قانون الإجراءات الجزائية بموجب المادة الأولى "يقوم هذا القانون على مبادئ الشرعية والمحاكمة العادلة واحترام كرامة وحقوق الإنسان".

ب) تاريخ مبدأ الشرعية الجنائية:

1) في العصور القديمة: كان المبدأ في بدايته عرفيا، أي أعراف مُستقرّة يطبقها ويتناقلها حُكّام الجماعات وكبار شيوخها، فينفذّون بموجبها على الجاني عقوبة تكافئ جريمته كمّا ونوعا. 

ثم بعد زمن أخذت تظهر إلى جوار الأعراف قواعد مكتوبة على الأحجار وتذُاع في الساحات العامّة.

ثمّ جاء في التوراة ككتاب سماوي تنظيم لعقوبات تطبقّ على مجموعة من الجرائم. 

2) في العصر الإسلامي: الشريعة الإسلامية هي السباّقة في تقرير المبدأ في صورته المتطوّرة.

ـ من القرآن الكريم: يستند المبدأ على نصوص صريحة تعتبر أنّ الشرع ينُذرُ قبل أن يعُاقب

ـ ﴿ ... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا (15)﴾ (الإسراء). ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ۚ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَىٰ إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)﴾ (القصص). (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ (19)﴾ (الْأنعام) ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۚ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)﴾ (فاطرَ) ﴿ .. رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)﴾ (النساء). ﴿ وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)﴾ (الْنعام).

ـ من القواعد الفقهية: تجُسّد المبدأ قاعدة "لا حكم على أفعال العقلاء قبل ورود النصّ" أي أنّ أفعال المكلفّ المسؤول لا يمُكن وصفها بأنهّا مُحرّمة مادام لم يرد نٌّصٌّ بتحريمها، ولا حرج على المكلف أن يفعلها أو يتركها، حتى ينُصّ على تحريمها. وـ قاعدة " الأصل في الأشياء الإباحة والأصل في الأفعال الجواز والأصل في الذمّة البراءة".

3) في القرون الوسطى والعصر الحديث:

ـ في القرون الوسطى كان أوّل ظهور لبوادر المبدأ في القانون الإنكليزي عندما نصّ عليه ميثاق هينري الأوّل، ثمّ تضمّنه دستور كلاريندون وأكّده بعد ذلك العهد الأعظم (Magna Charta) الذي أصدره الملك جون سنة 1215، حيث نصّت المادّة 29 منه "لا يمكن إنزال عقاب ما بأي إنسان إلاّ بمحاكمة قانونية من أنداده طبقا لقانون البلاد".

ـ في العصر الحديث: نادى بهذا المبدأ الفقهاء والفلاسفة لأوّل مرّة في القرن 18، وكان من أبرزهم الفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو في كتابه "روح القوانين"، والفقيه الإيطالي سيزار بيكاريا الذي كان يقول "إنّ القوانين المنشورة هي وحدها التي تستطيع أن تضع العقوبات المطبقّة على الجرائم". 

نصّ عليه بعد ذلك بهذه الصيغة إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي سنة 11789 م إباّن الثورة الفرنسية في المادّة 2 منه. ثمُّ نصّ عليه دستور الجمهورية الفرنسية التي حلتّ محلّ النظام الملكي في 24 جوان 1793. وتضمّنه قانون العقوبات الفرنسي لسنة 1810 في المادّة 4 منه. وهكذا أخذ المبدأ الطاّبع العالمي ونصّت عليه جلّ الدساتير والتشريعات العقابية في العالم.

ـ ثمّ امتدّت يد الإصلاحات إلى المبدأ، من  مُنطلق الضرورة والحاجة العملية ،حيث كرّست بعض التشريعات مبدأ توسع القاضي في تفسير النصّ الجنائي، وتطبيقه بأثر رجعي إذا كان أسوؤ للمتهم. خاصّة في الجرائم الخطيرة كجرائم أمن الدولة والإرهاب.

ثانيا: تقدير مبدأ الشرعية الجنائية من طرف الفقه (مُبرّرات وانتقادات المبدأ)

كان المبدأ محل نقاش فقهي بين مؤيدّ له على أساس جملة من المزايا والمُبررات، وبين مُعارض له على أساس يعض العيوب والانتقادات.

أ) مُبرّرات المبدأ ومزاياه:

الغرض من المبدأ هو حماية الإنسان من خطر التجريم والعقاب وجعله في مأمن من تحكّم وتعسّف القاضي وشطط الإدارة، كما أنهّ يحمي المصلحة العامّة في المجتمع ويستند إلى عدّة مُبرّرات ومزايا:

1ـ مبدأ سيادة القانون: يرتبط مبدأ الشرعية الجنائية بمبدأ سيادة القانون عند حلول الدول الديمقراطية في أوروبا أواخر القرن 18، محل الدّولة البوليسية والأنظمة الملكية الاستبدادية. وبموجبه كُرّست قاعدة المساواة في المسؤولية الجزائية وألغي تميزّ الإقطاعيين والنبلاء ورجال الدّين. 

2ـ مبدأ فصل السلطات: يستند مبدأ الشرعية الجنائية إلى مبدأ تمايز السلطات في الاختصاصات والصلاحيات، فليس للقاضي أن يجُرّم فعلا أو يعاقب عليه دون الاستناد إلى قانون، وليس للسلطة التنفيذية أن تختصّ بالتشريع في مجال الجرائم والعقوبات.

3ـ ضمان الحقوق والحريات الفردية، يضع المبدأ حدّا فاصلا واضحا بين ما هو مُجرّم وما هو مُباح من الأفعال، فمن ارتكب فعلا غير مُجرّم فهو في مأمن من المُساءلة الجنائية، بل المبدأ يشُجع الأفراد على المساهمة في نشاطات الحياة بكل حرية دون خوف. ومن ارتكب فعلا مجرّما فهو في مأمن من إنزال عقوبة أشدّ من العقوبة المقررة وقت ارتكاب الجريمة، فالمبدأ يمنع تحكّم وتسلطّ القضاة والسلطات في الحقوق والحرّيات الفردية. حيثُ يسهل اكتشاف تعسف القاضي بمُجرّد عرض حكمه على ميزان القانون المكتوب.

4ـ تحقيق مصلحة المجتمع في الوقاية من الجريمة: يحُققّ المبدأ مصلحة عامّة للمجتمع من خلال التصدّي للجريمة قبل ارتكابها, فالوقاية خير من العلاج. لأنهّ يضغط على النوايا الإجرامية ويمنع خروجها إلى الواقع بغرضها الرّدعي التحّذيري، فهو يعرّف الفرد سلفا بما ينتظره إذا أقدم على انتهاك حرمة القانون.

5ـ يعُطي للعقاب أساسا قانونيا: ممّا يجعلهُا مُبرّرة ومقبولة لدى الرأي العام، فالمبدأ يذُهب سخط الناس من قسوة الأحكام القضائية، لأنهّ حاز رضاهم وثقتهم عند إصداره. فمن ارتكب الفعل المجرّم رغم التحذير المنشور والمعروف يعلم أنهّ جلب العقاب لنفسه بإرادته.

6ـ يحُققِّ المساواة بين جميع الأفراد لأنّ المشرع ينصّ على التجريم والعقاب مُسبقا بطريقة عامّة ومجرّدة دون أن يعُلم سلفا على من سوف يطُبق النص في المستقبل، وبهذا لا يكون هناك اعتبار لمن يخُالف النص العقابي من ناحية صفته أو مركزه الاجتماعي. ويؤدّي الى وحدة الأحكام الجنائية بتحقيق المساواة.

ب) الانتقادات الموجّهة لمبدأ الشرعية الجنائية: انتقدِ مبدأ الشرعية الجنائية بعدّة عيوب:

1) عيب التعارض مع تفريد العقوبة: انتقدته المدرسة الوضعية بأنهّ يعتبر الجريمة كيانا قانونيا مُجرّدا عن شخص مُرتكبها، ويحُدّد العقوبة على أساس درجة خطورة الجريمة وجسامة ضررها، ولا ينظر لخطورة المجرم، ويهمل ظروفه. فالمبدأ يمنع القاضي من توقيع العقوبة المُلائمة لظروف مُرتكبها. 

نتيجة لهذا الانتقاد جاءت فكرة مبدأ تفريد العقوبة بالأخذ بالحدّين الأدنى والأقصى بعدما كانت محدّدة بمقدار واحد، وبالعقوبات المتنوعة لاختيار إحداها، وبظروف التخّفيف ونظام وقف تنفيذ العقوبة.

2) عيب الجمود: يتسببّ هذا المبدأ في جعل التشريع الجنائي جامدا وعاجزا عن مواجهة ومواكبة تطور الحياة وتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية ومُنتجات العلم والتكنولوجيا والمستجدات السريعة التي تسمح بظهور أفعال جديدة على المجتمع مُخلةّ بأمنه ونظامه لا ينص القانون على تجريمها، لأنّ المشرع لا يمُكنهُ الإحاطة سلفا بكل ما قد تفرزه الحياة الاجتماعية. ومن ثمّ لا تتحقق الحماية من الجريمة. 

3) مخالفة مبادئ الأخلاق: انتقد بأنهّ قاعدة غير أخلاقية تسمح بإفلات الكثير من المجرمين من العقوبة، عن طريق استغلال ثغراته والاستفادة من غياب النص لاتقاء العقوبة، فهو مكتوب ومعروف لديهم ،والمشرّع لا يمكنه أن يحصر جميع السلوكات الضارّة والخطيرة والتي يبُدع أساليبها المُجرم على المستوى الفردي وينُتجها تطوّر المجتمع، وبالتالي يحرم المجتمع من الحماية ضدّ الجرائم الغير منصوص عليها.

الفرع الثاني: نتائج تكريس مبدأ الشرعية الجنائية:

يتميزّ القانون الجنائي بالقسوة والقمع ضدّ الحقوق والحرّيات من خلال طبيعة العقوبات التي يقُرّرها كالإعدام وسلب الحرّية والحرمان من الحقوق المالية والمدنية والسياسية. فالطبيعة الخطرة لهذا القانون تقتضي توخي الحذر والحيطة في إصداره وتطبيقه وتفسيره، وذلك هو هدف مبدأ الشرعية.

أوّلا: نتائج المبدأ المتعلقّة بالمُشرّع (حصر مصادر التجّريم والعقاب في القانون)

المصدر الوحيد لقاعدة التجريم والعقاب، هو النصّ القانوني المكتوب، على خلاف الأمر بالنسّبة للقاعدة غير الجنائية في القوانين الأخرى كما تنصّ عليه المادّة (1) من القانون المدني فللقاعدة القانونية خمسة مصادر، هي القانون والشّريعة الإسلامية والعرف وقواعد العدالة ومبادئ القانون الطبيعي.

لكن السّؤال المطروح: ما هي طبيعة القانون الذي يقصده المشرّع في المادّة الأولى من قانون العقوبات، وطريقة صياغته وضوابط إصداره؟ وما هي الإلتزامات أو القيود التي يتقيدّ بها المشرّع في عملية التجريم والعقاب بمُقتضى مبدأ الشرعية.

أ) طبيعة القانون:

بتفحّص القوانين الجنائية، نجد أنّ القاعدة الجنائية متنوّعة الأشكال، فيأتي القانون بمفهومه الدّستوري الضّيق أي النصّ التشريعي وهو الأصل وذلك في مجال الجنايات والجنح الخطيرة، ويأتي بمفهومه الواسع ليشمل النص التنظيمي وهو الاستثناء خاصّة في مجال الجنح والمخالفات غير الخطيرة.

1) النصّ التشريعي كمصدر أصلي للقاعدة الجنائية: يقُصد بالتشريع ذلك القانون الصّادر عن الهيئة المختصّة بالتشّريع وهي البرلمان، بالتصّويت عليه في المجلس الشّعبي الوطني ومجلس الأمّة (الم 112 دستور). ويسُتفاد ذلك من النسخة الفرنسية لنصّ المادّة الأولى من قانون العقوبات وترجمة كلمة "قانون" بمُصطلح " lois " الذي يقُصد به التشريع. ويسُتفاد من نص المادّة 140 من الدستور التي تجعل مجال قانون العقوبات وقانون الإجراءات الجزائية والعفو الشامل وتسليم المجرمين ،من مجالات التشريع الحصرية بالنسبة للبرلمان. وترُكّز هذه المادّة على الجنايات والجنح باعتبار خطورتها.

2) النصّوص التنظيمية كمصدر استثنائي للقاعدة الجنائية: ـ تقتضي الضرورة السماح للسلطة التنفيذية بإصدار نصوص جنائية في مجال الجرائم غير الخطيرة، لأنّ النصوص التنظيمية وسيلة سريعة يمكن بواسطتها مواكبة تطوّرات المجتمع. وخاصّة في مجال المُخالفات والجنح البسيطة القليلة الخطورة ،مثلما يسُتفاد من نص المادّة 140 من الدستور عندما ترُكّز على الجنايات والجنح بالنسبة للتشريع ولا تذكر المُخالفات. حيثُ يتمّ تفويض الاختصاص بالتشريع إلى السّلطة التنفيذية إمّا لعدم مقدرة البرلمان على مواكبة التغّيرّات السريعة الحادثة في المجتمع، وإمّا لتعذّر التشّريع في المجالات التقنية، وإمّا لوجود ظروف استثنائية غير عادية. 

ـ الأوامر الرئاسية: يعُمل بها في حالتين تحدّدهما المادّة 142 من الدّستور وكلاهما يمُثل حالة الظروف الغير عادية، وهي حالة المسائل العاجلة خلال الشغور أو العُطل البرلمانية (الم 142 /1 دستور)، يشُرّع رئيس الجمهورية بأوامر في هذه الحالة في جميع ميادين التشريع بما فيها الميدان الجنائي، بشرط عرض القانون على كل غرفة من البرلمان في أوّل دورة موالية للموافقة، ويعُدُّ القانون لاغيا في حالة عدم الموافقة. والحالة الاستثنائية (الم142/2 دستور) يمكن رئيس الجمهورية أن يشُرّع بأوامر في الحالة الاستثنائية المنصوص عليها في المادّة 107 من الدّستور وهي حالة الخطر الدّاهم على البلاد الذي يوُشك أن يصُيب مؤسساتها الدستورية أو استقلالها أوسلامة ترابها.

ـ المراسيم: قد تكون مراسيم رئاسية صادرة عن رئيس الجمهورية (الم 143 دستور)، وقد تكون مراسيم تنفيذية صادرة عن الوزير الأوّل (الم 99 دستور).

ـ القرارات: الصّادرة إمّا عن أحد الوزراء، أو عن أحد رؤساء الجماعات المحليّة.

3) المصادر الأخرى غير المُباشرة

ـ الدّستور: هو القانون الأساسي للدّولة يصدر بموجب الاستفتاء العام، يمثل مصدرا للقاعدة الجنائية لأنهّ يحتوي الكثير من مبادئ القانون الجنائي، مثل قرينة البراءة (الم 56) والشرعية الجنائية وعدم رجعية القانون (الم58) وشخصية العقوبة (الم 160) وحق الدفاع (الم 169)...إلخ.

وينصّ مثلا في المادة 41 أنهّ يعاقب القانون على المخالفات المرتكَبة ضدّ الحقوق والحرّياّت، وعلى كلّ ما يمسّ سلامة الإنسان البدنيةّ والمعنويةّ. 

ـ المعاهدات والتفّاقيات والمواثيق الدّولية: تكون مصدرا للقانون الجنائي عندما يصُادق عليها رئيس الجمهورية، حيث أنّ المعاهدة تسمو على القانون حسب ما تنصّ عليه المادّة 150 من الدستور، وكل هذه الوثائق تحتوي على مبادئ القانون الجنائي، وتنصّ على مجموعة من الجرائم، ومن أمثلتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 10/12/1948. والعهد الدّولي للحقوق المدنية والسياسية المصادق عليه من قبل الجمعية العامّة للأمم المتحّدة في 16/12/1966، والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشّعوب 28/06/1981. واتفاقية فييناّ 1988 لمُكافحة الإتجار غير المشروع بالمُخدّرات والمؤثرات العقلية، وإتفاقية مكافحة الجريمة المُنظمة عبر الوطنية 2000. واتفاقية مكافحة الفساد لسنة 2003. كلّ هذه الاتفاقيات صادقت عليها الجزائر.

ب) ضوابط إصدار القانون الجنائي:

مبدأ الشرعية الجنائية يلتزم به المُشرّع كضمانة لعدم إسرافه في التجريم والقسوة في العقاب، وعدم التقصير والتفريط في واجب حماية المجتمع من الجرائم، ومن ثمّ يلزمه بمجموعة من الضوابط. وإذا لم يلتزم بها يعُتبر خارقا لمبدأ الشرعية ومن ثمّ عدم دستورية النص.

1) من ناحية طريقة الصياغة: يلتزم المُشرّع باحترام طرق الصياغة التالية:

ـ أن تكون صياغة القانون الجنائي بعبارات واضحة وصريحة ودقيقة وغير غامضة تؤُدّي الغرض

ـ أن يحُدّد العناصر المكوّنة الجريمة بدقةّ.

ـ أن يحُدّد عقوبة كل جريمة، وظروف تشديدها بوضوح.

ـ أن يحُدّد بوضوح التدّابير الأمنية وشروط تطبيق كلّ منها على الحالة المناسبة، والعناصر والعلامات المميزة لحالة الخطورة الإجرامية. 

ـ أن يتميزّ بالمرونة، باستعمال الألفاظ والصيغ العامّة التي تسمح بإدخال عدد من الأفعال المتشابهة في تكييف واحد، خاصة في نوع التجريم غير الخطير

2) من ناحية طريقة السريان: يمُنع على المُشرّع إعطاء الأثر الرجعي للقانون الذي يصُدره خاصّة إذا كانت فيه أحكاما شديدة. فالمادّة 58 من الدستور تمنع الإدانة بالنص الصادر بعد وقوع الفعل.

3) من الناحية الموضوعية: غرض مبدأ الشرعية هو تقييد المشرّع بالضوابط التالية:

ـ أن تتوافق النصوص الجنائية مع الحقوق والحرياّت، حيث ينبغي عدم التضييق عليها.

ـ أن يستند التجريم إلى الضرورة الاجتماعية، بتلبية حاجة المُجتمع دون إفراط ومُغالاة، ودون إفراط وتقصير، أي يكون بالقدر اللازم والكافي لحماية مصالح المجتمع، من السلوكات التي فيها خطورة على قيم المجتمع الأخلاقية أو الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.

ـ أن يكون العقاب مناسبا لخطورة الجريمة وجسامة ضررها على الشخص محل الحماية.

ثانيا: نتائج مبدأ الشرعية المُتعلقّة بالقاضي (ضوابط تفسير القانون الجنائي)

يخضع القاضي الجنائي لمبدأ الشرعية طبقا للنصوص الدستورية التي يوُجّه فيها إليه الخطاب عندما يقُرّر أنّ: "أساس القضاء مبادئ الشرعية والمساواة..." (المادّة 158).

- ونظرا لكونه هو المُختصّ قضائيا بالإدانة والعقاب فإنّ الدستور يلُزمُه بأن يطُبقّ النصّ القانوني الجنائي الواضح بحسب ما يدُّلُّ عليه معناه الحرفي. وأن يطُبقّه بأثره الفوري وليس بأثر رجعي." لا  إدانة إلا بمقتضى قانون.." (الم58) وأن "تخضع العقوبات الجزائية إلى مبدئي الشرعية والشخصية" (الم160).

أ) التفّسير الضيقّ للقانون الجنائي:

التفسير هو استخلاص الحكم القانوني من النصوص التشريعية المعمول بها، وهو عملية ذهنية يتوصّل بها القاضي إلى المعنى الحقيقي الذي يقصده المشرّع من النصّ القانوني، وتفسير القانون هو الذي يحُدّد نطاق تطبيقه ،لأنّ النصّ عادة يكون مختصرا وعامّا ومُجرّدا ممّا يجعله ينطوي على بعض الغموض أحيانا مثل كلمة "ليلا " في المادّة 353 وعبارة " الفعل المخلّ بالحياء" "وهتك العرض" في المواد 333-336 وعبارة "الطفل حديث العهد بالولادة" في المادّة 261/ 2، وأراضي الجمهورية "في المادّة 3. و كلمة "قانون" في المادّة 1. ، عبارة الإستهزاء بما هو معلوم من الدين بالضرورة في المادّة 144 /2 ق ع ج.

وتفسير قانون العقوبات يختلف عن تفسير القوانين الأخرى، لأنّ من أهمّ نتائج مبدأ الشرعية الجنائية عدم التوسع في التفسير، وإبقائه في أضيقّ الحدود، بتقيدّ القاضي في عمله بالضوابط التالية:

1) الإلتزام بالمعنى الحرفي للنصّ إذا كان واضحا سليما: فلا يجوز للقاضي التأويل والاجتهاد إذ لا اجتهاد مع النصّ حتى لو بدى له غير عادل أو غير صالح. 

فإذا كانت تنصّ الفقرة 1 من المادّة الأولى من القانون المدني الجزائري أنهّ "ـ تسري النصوص التشريعية على جميع المسائل التي تتناولها هذه النصوص في لفظها أو في فحواها. " أي يسُتخلص الحكم من العبارة أو الإشارة أو الدلالة. أي من ألفاظ النص وروح النص معا، فإنّ القاعدة في تفسير القانون الجنائي السليم الواضح هي الأخذ بالمعنى الحرفي دون فحواه، أي بالتقيدّ بألفاظه ومُفرداته إذا كانت تحتمل معنى  واحدا، وبالمعنى الاصطلاحي للعبارات إذا كان لللفظ أكثر من معنى.

2) الإلتزام بالتفّسير الضيقّ للنصّ المعيب: إذا كان النصّ معيبا بخطء أو غموض أو نقص أو تعارض فلا يجوز التوسّع في تفسيره، مثل النصّ الغامض الذي يحمل أكثر من معنى، فيلتزم القاضي بما يكفي لمعرفة قصد المشرّع، ويمكن أن يستعين بالوسائل التالية:

ـ اعتماد التفّسير الغائي للنصّ بالبحث في حكمته وعلتّه في إطار مصلحة المتهّم، بمعرفة العلةّ من التجّريم والمصلحة المحمية بواسطة النصّ، وهو ما يسُمّى بالتفسير المنطقي مثل معنى الليل.

ـ الاسترشاد بالأعمال التحّضيرية والمذكّرات التفّسيرية والظروف التي صدر فيها النصّ.

ـ الرّجوع إلى المصدر التاريخي للنصّ.

ـ المقارنة بين لغتي النصّ الرّسمي (العربي) والنصّ الأصلي (الفرنسي).

3) الإلتزام بقاعدة الشك يفُسّر لصالح المُتهم: إذا لم يتوصل القاضي إلى القصد الحقيقي للنصّ أو حصل له شك في معنى النصّ من حيث انطباقه على الوقائع يقضي بالبراءة.

ـ التوّجّه الحديث في القانون الجنائي يسير نحو رفع القيد عن القاضي وتوسيع سلطاته في تطبيق النصوص وملاءمة وتفريد العقوبة، بمراعاة شخصية المتهّم واعتماد معيار خطورة الإجرامية والتخفيف من معيار جسامة الضّرر.

ب) حضر القياس:

القياس هو الحكم في مسألة لم ينظمها القانون عن طريق استعارة الحكم الذي قرّره القانون لمسألة مشابهة. أو هو إعطاء حكم حالة منصوص عليها لحالة غير منصوص عليها لتشابه الحالتين في العلةّ. 

ـ القياس لا يكون في حالة النصّ الواضح ولا النص المعيب ولكن في حالة انعدام النصّ الذي ينظم المسألة، (غياب النصّ أو سكوت القانون) أي لا يوجد نص يجُرّم الفعل ويعاقب عليه.  

ـ وحكم القياس في القانون الجنائي أنهّ غير جائز لأنّ الأصل حسب مبدأ الشرعية أنّ لكلّ فعل تكييفه ،ولا يجوز حمل تكييف على فعل غير مجرّم أصلا لاتحاد علتّه مع تكييف الفعل المجرّم المشابه له. 

وهذه القاعدة مقرّرة أصلا لفائدة المتهّم فلا يمكن السماح بانقلابها عليه. ولهذا السبب لم يتم قياس سرقة الكهرباء وعدم دفع أجرة الفندق أو ثمن الأكل في المطاعم على نص جريمة السرقة. 

لكن لا يتعارض القياس عندما يصبُ في مصلحة المتهم حيث يجوز للقاضي القياس مثلا في مجال أسباب الإباحة.

المطلب الثاني: تطبيق قانون العقوبات من حيث الزمان

المادّة الثانية ق ع ج: (لا يسري قانون العقوبات على الماضي إلاّ ما كان منه أقلّ شدّة).

تعُتبر طريقة سريان القانون الجنائي من النتائج المباشرة لمبدأ الشّرعية، وخرقها يعُدّ خرقا صارخا لمبدأ الشّرعية الجنائية الذي عليه يكون مدار أحكام التجريم والعقاب والمتابعة. حيثُ نصّ على أحكام سريان قانون العقوبات من حيث الزمان، في المادّة الثانية من قانون العقوبات، وفي المادة 58 من الدستور.

عندما ترُتكب الجريمة في ظلّ قانون ما، وتأتي محاكمتهُا في ظلّ قانون آخر يصَدُر بعده ويحُدث تغييرا في أحكام تلك الجريمة، يحصل التنّازع لدى القاضي بين تطبيق القانون الأوّل على اعتبار أنّ الجريمة ارتكُبت في ظلهّ وقام حق المتابعة بموجبه، وبين تطبيق القانون الثاني على اعتبار أنهّ هو القانون السّاري المفعول ساعة المحاكمة بعد زوال القانون الأوّل.

يتضمّن نصّ المادّة 2 من ق ع فكرتين هما القاعدة الأصلية والقاعدة الاستثنائية نتناولهما في فرعين:

الفرع الأوّل: قاعدة عدم سريان قانون العقوبات على الماضي (عدم رّجعية القانون الأشدّ)

الفرع الثاني: قاعدة سريان قانون العقوبات الأقل شدّة على الماضي (رّجعية القانون الأخفّ)

الفرع الأول: عدم سريان قانون العقوبات على الماضي (قاعدة عدم رجعية القانون الأشد)

ما هو مفهوم القاعدة ومُبرّراتها واستثناءاتها، وكيف يتمّ تطبيقها على مُختلف أنواع الجرائم.

أوّلا: التعريف بقاعدة عدم رجعية قانون العقوبات

أ) مفهوم قاعدة عدم الرجعية

هذه التسمية هي ترجمة للنسخة الفرنسية من عبارة المادّة الثانية من قانون العقوبات الجزائـري ( …La loi pénale n est pas rétroactive ) فما هو الماضي بالنسبة للقانون؟ وما المقصود بالرجعية أو السريان على الماضي؟ وما الحكمة من منع الأثر الرجعي للقانون الجنائي؟

1) المقصود بالرّجعية وعدم الرجعية: 

ـ رجعية القانون هي الرجوع بتطبيق القانون إلى الماضي بأن يكون له أثر وسريان في زمن سابق مضى قبل تاريخ صدوره. 

والماضي بالنسبة للقانون هو كُلّ الوقائع التي حدثت قبل تاريخ صدور القانون أو نفاذه، فالقانون في هذه الحالة يعُتبرُ جديدا بالنسبة للواقعة. والمعيارُ في تحديد الماضي بالنسبة لقانون العقوبات هو تاريخ الفعل (الجريمة) وليس تاريخ المحاكمة، وهذا بصريح المادّة 58 من الدستور ،"لا إدانة إلا بمقتضى قانون صادر قبل ارتكاب الفعل المُجرّم"، فإذا جاءت مُحاكمة الفعل في ظل قانون آخر جديد، فإنهّ يطُبقّ القانون الساري وقت ارتكاب الفعل وليس الساري وقت المُحاكمة.

ـ المقصود بعدم الرّجعية هو أن لا يرجع القانون في تطبيقه إلى تلك الجرائم المُرتكبة قبل تاريخ صدوره أو نفاذه ،حيثُ لم يكن له وجودٌ في ذلك التاريخ، والقاعدة الأصلية تقضي بتطبيقه بأثره الفوري المباشر على الوقائع المُعاصرة له التي يتوافق زمنه مع زمنها (ما بين لحظة النفاذ ولحظة الإلغاء).

2) تبرير قاعدة عدم الرجعية هو أنهّ من النتائج الحتمية لمبدأ الشرعية الجنائية الذي يقتضي عدم مُفاجأة الأفراد بقوانين لم تكن معروفة لديهم لعدم وجودها وقت ارتكاب الفعل، فالأصل أنّ القانون ينُذر قبل أن يعُاقب. ويعدُّ المبدأ إحدى الضمانات الأساسية لحماية الأفراد من تحكُّم السلطات (القوة العمومية- الشرطة القضائية -القضاء).

ب) استثناءات قاعدة عدم الرجعية

صورة الإستثناء هي رجعية القانون الجديد رغم كونه أشدّ من القانون المُعاصر للفعل.

1) النص التفسيري: النص التفسيري هو النصّ الصادر لتحديد أو توضيح معنى نصّ سابق، حيثُ يكون لهذا القانون المفسِّر أثرا رجعيا لأنّ التفسير يهدف إلى توضيح نص سابق وليس إضافة أحكام جديدة ،أو تعديل أحكام قائمة، فهو يتبع النص الأوّل موضوع التفسير ويندمج فيه، فمن الطبيعي إذن أن يكون تطبيقهُما من حيث الزمان  واحدا، حيثُ يسري النص الجديد التفسيري على كل ما سرى عليه النص السابق حتى لو كان هذا التفسير يجعل القانون أشدّ ممّا كان عليه طبقا للتفسير السابق. مثل تفسير معنى الليل الذي قد يحُوّل جنحة السرقة البسيطة إلى جناية السرقة الموصوفة.

2) النصّ الصريح بالرجعية: في حالة وجود نصّ قانوني يقضي صراحة بتطبيقه بأثر رجعي خلافا لمبدئي الشرعية وعدم الرجعية، فإنهّ يتعينّ على القاضي تطبيق هذا القانون على الأفعال المرتكبة قبل صدوره، إعمالا لإرادة المشرع، ويكون ذلك في حالات نادرة تتسم بالاستثنائية والخطورة، حيث يتحتمّ تقديم المصلحة الجماعية في حفظ النظام العام على حساب المصلحة الفردية. 

ثانيا: تطبيق قاعدة عدم الرجعية:

تطبيق القانون (بأثر فوري مُباشر) على واقعة ما يقتضي تطابق زمن القانون مع زمن الواقعة ولذلك يتطلبّ الأمر تحديد زمن القانون وتحديد زمن الواقعة الجرمية. 

أ) تحديد زمن القانون 

1) بعد إصداره من طرف رئيس الجمهورية لا يكون القانون نافاذ وساري المفعول  إلاّ بعد نشره في الجريدة الرسمية بمُدّة 24 ساعة بالنسبة للجزائر العاصمة وبعد 24 ساعة من وصول الجريدة الرسمية إلى مقرّ الدائرة في الولايات الأخرى (المادّة 4 من القانون المدني الجزائري). ويعمل القانون المصري بمُدة شهر من تاريخ النشر في الجريدة الرسمية حتى تكون معلومة لدى المواطنين. 

2) ويكون انتهاء سريان القانون في تاريخ إلغائه الصريح، أو إلغائه الضمني بالنص الجديد الذي يتعارضُ مضمونه مع مضمون النص القديم.

ب) تحديد زمن الجريمة:

وقت ارتكاب الجريمة بصفة عامّة هو وقت إتيان الفعل المادّي المُكوّن للجريمة، وليس بوقت تحقق النتيجة. والمعيار في ارتكاب الجريمة هو بتحقق جزء من الأجزاء المُكوّنة لرُكنها المادّي حسب مفهوم المادّة 586 من قا الإج الج، "تعُدُّ مرتكبة في الإقليم الجزائري كُل جريمة يكون عمل من الأعمال المُميزّة لأحد أركانها المُكونة لها قد تمّ في الجزائر".

1) الجريمة الآنية: تاريخ الجريمة هو تاريخ تحقق الركن المادّي الذي يقع في لحظة واحدة سلوكا ونتيجة كالضرب والسّب، حيث لا تطُرحُ صعوبة في تحديد القانون الواجب التطبيق.

2) الجرائم المُتراخية النتيجة: هي التي يقعُ فعلها ويتراخى أو يتأخّر تحقُّق نتيجتها في الزمن كالقتل بالتسميم، فالعبرة في تحديد وقتها بتاريخ حدوث الفعل بقطع انظر عن تاريخ النتيجة. 

3) الجريمة المُستمرّة: هي التي يستمُّرُّ ارتكابها فترة من الزمن، مثل حيازة المخدّرات وحيازة السلاح بدون ترخيص واختطاف الأشخاص وإخفاء الأشياء المسروقة، فهي مُرتكبة في كل لحظة من لحظات استمرارها. والعبرة في تحديد تاريخها بنهاية حالة الاستمرار على الأرجح، فإذا كانت بداية الجريمة في ظل قانون ونهايتها في ظل قانون آخر يطُبقّ بشأنها القانون الثاني باعتبارها مُرتكبة في ظلهّ فأثره عليها فورٌيٌ وليس رجعيٌ.

4) الجرائم الإعتيادية: يشُترط لقيامها عنصر الاعتياد الذي يكون بتكرار ارتكاب الجريمة أكثر من مرّة، كالتسوّل ومُمارسة الدعارة، والعبرة في تحديد تاريخ ارتكابها بتاريخ ارتكاب الجريمة للمرّة الثانية.

5) الجريمة المُتتالية الأفعال: هي التي يتكوّن رُكنها المادّي من عدّة أجزاء، مثل السرقة على دُفعُات ،فهي تعُدُّ مُرتكبة  في كل الدفعات، والعبرة بتاريخ أوّل دفعة.

الفرع الثاني: سريان قانون العقوبات على الماضي (قاعدة رجعية القانون الأقل شدة)

المقصود بالقاعدة هو أنهّ لا يطُبقّ القانون العادي الذي ارتكبت في ظلهّ الجريمة بأثر فوري بل يطُبقّ قانون آخر يصدر ويبدأ مفعوله بعد تاريخ ارتكاب الجريمة بأثر رجعي، وذلك إذا كان أقلّ شدّة من القانون الأصلي وكان صادرا قبل الحكم النهائي البات. 

نتناول فيما يلي شروط تطبيق قاعدة رجعية القانون الأقل شدّة

أوّلا: شرط أن يكون القانون الجديد أقلّ شدّة من القانون الذي وقعت الجريمة في ظلهّ:

المعنى العام للقانون الأقل شدّة هو القانون الذي ينُشئ له مركزا ووضعا أفضل له من غيره من القوانين، ويتحقق ذلك كُلمّا كانت آثار أحكام القانون أكثر رحمة ورأفة بالشخص وأقلّ قسوة. 

ـ وقد درج الفقه والقضاء والتشريع في التعبير عن القانون الذي يحمل هذا المعنى على استعمال عبارات ومصطلحات مختلفة كُلهّا تصب في مفهوم واحد، هو جعل المتهم في وضع ومركز أفضل:

"القانون الأصلح للمتهم" ، "القانون الأقل شدة"، "القانون الأكثر خفةّ"، واستعمل قانون العقوبات الجزائري في المادة 2 مصطلح "القانون الأقل شدة". واستعمل القضاء الجزائري وبشكل غالب مصطلح "القانون الأصلح للمتهم".

ويحُدّد القانون الأقل شدّة بمعايير مطبقة على نصوص التجريم ومعايير مطبقة على نصوص العقاب.

أ) المعايير المطبقة على نصوص التجريم:

1) معيار إلغاء التجريم: إذا ألغى القانون الجديد التجريم الذي ينص عليه القانون القديم، وانتفت صفة الجريمة نهائيا عن الفعل وصار مُباحا، فحينئذٍ يطُبق هذا النص الجديد بدل القديم. وقد نصّت المادة 6 من قانون الإجراءات الجزائية الجزائري على أنّ إلغاء النص التجريمي هو من أسباب انقضاء الدعوى العمومية، لعدم جدواها بعدما أبيح الفعل. ومثال ذلك جريمة سوء التسيير التي كانت منصوصا عليها في المادّة 421 ق ع ج ومُعاقبة بالحبس من شهرين إلى خمس سنوات وبغرامة من 2.000 إلى 10.000دج. فتمّ إلغاؤها بالقانون 88-26 سنة1988. 

2) معيار التضييق من دائرة التجريم: يكون القانون أقلّ شدّ إذا جاء يعُدّل من العناصر والأركان المكوِنة للجريمة بشكل يؤدي إلى التضييق من دائرة التجريم. ـ كأن يضُيف عنصرا أوشرطا جديدا في رُكنها المادّي لا يكون متوفرا بالنسبة للمتهم، مثل إضافة شرط الاعتياد في جريمة ممارسة الدعارة. 

3) معيار التوسيع من دائرة الإباحة: يعتبر القانون أقلّ شدّ إذا نصّ على سبب جديد يضاف إلى أسباب الإباحة أو موانع المسؤولية أو موانع العقاب، وكان هذا السبب متوفرا بالنسبة للمتهم.

4) معيار التخفيف من درجة التجريم بتغيير الوصف القانوني: يكون القانون أقلّ شدّ:

ـ إذا غيرّ من تكييف الجريمة في الاتجاه الأقل شدة، ف يجنحّ الجناية أو يحوّل الجنحة إلى مخالفة.

ـ إذا ألغى ظرف تشديد يكون متوفرا في فعل المتهم، كإلغاء صفة الخدم في خيانة الأمانة.

 ب) المعايير المطبقة على نصوص العقاب:

1) إلغاء العقوبة: إمّا أن يلغي القانون الجديد العقوبة كيّلة وهذا يعني إلغاء التجريم واباحة الفعل، أو يلغي العقوبة مع استبدلها بتدبير أمن دون إلغاء التجريم.

2) تخفيف نوع العقوبة: يعتمد على تصنفّ العقوبات بحسب تصنيف الجرائم من حيث خطورتها، فعقوبة الجنحة أخف من عقوبة الجناية بقطع النظر عن المدة، فمثلا الحبس في الجنحة لمدة 03 سنوات أقل شدّة من السجن في الجناية لمدة 5 سنوات والحبس شهرين في المخالفة أقل شدّة من الغرامة 20.000 دج في الجنحة. ولكنّ محكمة النقض الفرنسية خالفت القاعدة في هذه الحالة واعتبرت أنّ الحبس دائما يكون أكثر شدّة من الغرامة.

3) تخفيف درجة العقوبة: عندما ينصّ كلا القانونين على عقوبة من نفس النوع، يلجأ القاضي إلى المقارنة بينها من حيث درجات النوع الواحد للعقوبة مستندا في ذلك إلى السلم القانوني للعقوبات، حيث  يرُتبها المشرع الجزائري ترتيبا تنازليا من حيث الشدّة.

ـ النوع الأوّل عقوبات الجنايات: فيها ثلاث (3) درجات

1ـ الإعدام هو الأشدّ،

2ـ السجن المؤبد، أقل شدّة

3ـ السجن المؤقت، أقل شدّة

ـ النوع الثاني عقوبات الجنح :فيها درجتان (2) وهي:

1ـ الحبس أكثر من شهرين إلى 5 سنوات أو أكثر.

2ـ الغرامة المالية بأكثر من 20.000 دج.

ـ النوع الثالث عقوبات المخالفات: فيها درجتان (2) وهي:

1ـ الحبس من يوم واحد على الأقلّ إلى شهرين على الأكثر.

2ـ الغرامة المالية أقل من 20.000 دج

4) معيار إنقاص مقدار العقوبة: عندما تتماثل أنواع ودرجات العقوبات في القوانين محلّ المقارنة، يقارن بينها من حيثُ المقدار وهو المُدّة في العقوبة السالبة للحرّية، أو المبلغ المالي في الغرامة .حيثُ يكون القانون أقل شدّة إذا نزل بالحد الأقصى أو الأدنى للعقوبة أو بهما معا. لكن الصعوبة تكون عندما يرفع أحد الحدّين ويخفض الآخر، حيث اختلفت الآراء بشأن المعيار المتبع. مثلما إذا كان القانون الأوّل يعُاقب بالحبس من 3 أشهر إلى 5 سنوات، والقانون الثاني يعُاقب بالحبس من 2 سنتين إلى 3 سنوات. 

اختلفت حول هذه الحالة أربعة آراء، الأول منها يعتبر القانون الذي يخفض الحد الأدنى للعقوبة هو الأقل شدّة، والرأي الثاني يعتبر القانون أصلح للمتهم الذي يخفضّ الحدّ الأقصى للعقوبة، والرأي الثالث يرى ضرورة المزج بين القانونين والأخذ بالحد المخفض من كل قانون ممّا يجعل القاضي يجاوز سلطاته بخلق قانون ثالث لا هو الجديد ولا القديم.

ـ الرأي الأرجح: هو الرجوع إلى ظروف المتهم والجريمة، فإذا كان المتهم جديرا بالحدّ الأقصى طبقّ القاضي القانون الذي يخفض الحد الأقصى .وإذا كان جديرا بالحدّ الأدنى طبقّ القانون الذي  يخُفضّ الحد الأدنى.

5) معيار إضافة أسباب تخفيف العقوبة، مثل الأعذار أو الظروف المُضافة في قانون الوئام المدني.

ـ معيار إضافة العقوبة التكميلية: يكون القانون أصلح للمتهم إذا كان لا ينصّ على فرض عقوبة تكميلية مضافة إلى العقوبة الأصلية.

6) معيار التخيير: القانون الذي يعطي الخيار للقاضي بين عقوبتين يكون أقلّ شدّة على المتهم أو الاصلح له من القانون الذي يجعل العقوبة وجوبية ويفرض على القاضي تطبيقها، فالنصّ على الحبس أو الغرامة يكون أقلّ شدّة من النص على الحبس فقط، أو الحبس والغرامة معا.

ثانيا: الشرط المتعلقّ بالحكم البات:

- يقُصدُ بهذا الشرط أن يكون القانون الجديد الأقل شدّة صادرا ونافذا قبل صدور الحكم النهائي البات ضدّ  المُتهم، فإذا صدر القانون بعد الفصل نهائيا وبشكل بات في الواقعة، لا يمكن تطبيق القانون على واقعة ما صدر فيها الحُكم النهائي البات.

الحكم البات هو الحكم الذي فصل في الدعوى الجزائية ولا يقبل الطعن فيه لا بطرق الطعن العادية ولا الطرق غير العادية، حيثُ يخُرج الملف الجزائي من عُهدة القضاء بشكل نهائي. فلكي يطبق القانون الأصلح للمتهم بأثر رجعي لابدُّ أن يكون باب القضاء مفتوحا، ولو كان قضاء النقض.

- وفي حالة صدور قانون يبُيح الجريمة بعد الحكم البات على المتهّم، تنص قوانين عدّد دول  مثل قانون العقوبات الفرنسي وقانون العقوبات المصري وغيرهم، أنّ الشخص المحكوم عليه يستفيد من القانون الجديد الصادر بعد الحكم البات إذا كان يجعل الفعل مُباحا، ويترتبّ على ذلك محو آثار الإدانة بعدم تنفيذ العقوبة التي قضى بها الحكم، أو توقيف تنفيذها، إذا كان قد  بدِئ في تنفيذها. أي بالإفراج عن الشخص إذا كان محبوسا، وإزالة العقوبة من صحيفة السوابق العدلية وعدم اعتبار الفعل سابقة في العود، وإن كان قد اختلف الفقه بشأن استرداد الغرامة التي دفعها المحكوم عليه، إلاّ أنهّ لا يؤثر على الجانب المدني في القضية.

في القانون الجزائري: 

- لا يوجد نصّ صريح على شرط الحكم البات، غير أنهّ مطلوب استنادا إلى المبادئ الأساسية للقانون ووجوب احترام حجّية الأحكام القضائية وقوة الشيء المقضي فيه، حيث يصُبح الحكم عنوانا للحقيقة يستقرّ ُبه المركز القانوني على نحوٍ بات فلا يمكن تعديله أبدا. 

- ولم يبُينّ المشرّع الجزائري على حدود هذه الرجعية فلم تنصّ  المادة 1 من قانون العقوبات صراحة   على امتدادها إلى ما بعد الحكم البات، ولذلك فلا مجال لاستفادة المحكوم عليه من القانون الأقل شدّة الصادر بعد الحكم البات احتراما لحجّية الأحكام القضائية وقوة الشيء المحكوم فيه، حتى لو أباح القانون الجديد الفعل أو جاء بسب إباحة أو مانع من موانع المسؤولية ينطبق على حالة الشخص.

 لكن يمكن تطبيق القانون الجديد الصادر بعد الحكم البات إذا تقرّر ذلك بنص تشريعي صريح.

ثالثا: أن ل يكون القانون القديم من القوانين المؤقتة أو الإجرائية:

أ) حالة القوانين المؤقتة:

حسب تشريعات الكثير من الدول لا يطُبقّ مبدأ رجعية القانون الأصلح للمتهم على الوقائع المرتكبة في ظل القانون الذي تكون فترة نفاذه مُحدّدة بزمن مُعين. حيث إذا جاءت مُحاكمتها بعد انتهاء سريان القانون المؤقت، يطبقّ القاضي هذا الأخير رغم انتهائه وكونه الأشد من القانون الذي يخلفُه. ويكون القانون   مؤقتا بشكل صريح بتحديد مدة نفاذه، أو بشكل ضمني مُستفادا من طبيعة الظروف مثل القوانين الاقتصادية. 

ويُبرّر هذا الإستثناء بـ:

ـ أنّ عدم تطبيق القانون المؤقت استجابة لمبدأ الرجعية، يؤُدي إلى التقليل من قيمة وشأن القانون المُؤقت، وضياع الحكمة منه وبالتالي محو ثقة الأفراد فيه. 

ـ أنّ عدم تطبيق القانون المؤقت فيه تشجيع للمنحرفين على مخالفته ما داموا يعلمون تاريخ انتهائه، حيث يسهل عليهم تحاشي تطبيقه عليهم بمجرد تعطيل إجراءات المُحاكمة.

ـ أنّ القوانين الإقتصادية تتميزّ بسرعة التغيير تبعا للتحوّلات الإقتصادية السريعة، وأنهّا تأتي لتنظيم مجالات هي من النظام العام، مثل مجال التسعيرة أو المجال الجمركي وغيرها، وحماية النظام العام الإقتصادي أولى من المصلحة الفردية للمتهّم. لكنّ القانون الجزائري لم  يقُرّر هذا الإستثناء.

ب) حالة القوانين الإجرائية:

- يوجد من الفقهاء من يرى أنّ القواعد الإجرائية قد تكون ضارّة بالمتهّم، وماسّة بقرينة البراءة، وحقوق الدفاع، وحريته ومن ثمّ تخضع لمبادئ السريان الزماني لقانون العقوبات، ومن بينها رجعية القانون الأصلح للمتهم لكنّ الرأي الراجح لا يرى مُراعاة مصلحة المتهم في القواعد الإجرائية.

- القانون الفرنسي نظمَّ مسألة سريان القواعد الإجرائية الجنائية من حيث الزمان في قانون العقوبات وليس في قانون الإجراءات الجزائية. والمبدأ العام فيها هو تطبيق النصوص الجديدة بالنسبة للإجراءات التي لم تتُخذ بعد، في مجال الإختصاص والمتابعة وطرق الطعن والتقادم وطرق الإثبات. وتبقى الإجراءات المُتخذة طبقا للنص القديم صحيحة ولا يطُبق عليها القانون الجديد.

- القانون الجزائري لم ينُظم أحكام السريان الزمني للنصوص الجنائية الإجرائية لا في قانون العقوبات ولا في قانون الإجراءات الجزائية. على خلاف الأمر فيما يتعلق بالإجراءات المدنية، التي نظمّ سريانها الزمني في المادتين السابعة والثامنة من القانون المدني.

أمّا القضاء الجزائري فيعتبر أنّ النصوص الإجرائية  تطُبقّ فور صدورها ولو على وقائع ارتكبت قبل تاريخ صدورها، سواء أكانت في صالح المتهم أو في غير صالحه لأنهّا تهدف د ائما إلى حسن سير العدالة.

- يثور النقاشُ حول بغض النصوص ذات الطابع المُزدوج، فهي من جهة تمُثل نصوصا موضوعية لأنهّا وردت في قانون العقوبات، لكنهُا من جهة أخرى تعُتبر قواعد إجرائية من حيث مضمونها الذي يتعلق بطرق وأساليب اقتضاء حق الدولة في العقاب، مثل النصوص المُقرِّرة لبعض القيود على النيابة العامّة في تحريك الدعوى العمومية بالنسبة لبعض الجرائم، كشكوى الزوج المتضرر في جريمة الزنا (الم 339 ق ع ج). وبعض النصوص الأخرى تكون شكلية لأنهّا وردت في قانون الإجراءات الجزائية، ولكنهّا قواعد موضوعية لأنهّا تتصل بأصل حق الدولة في العقاب من حيث نشوئه وانقضائه. ويرى جانبٌ من الفقه والقضاء أنّ هذه النصوص هي من القواعد الموضوعية.

المطلب الثالث: تطبيق قانون العقوبات من حيث المكان

المادّة الثالثة ق ع ج (طُبقّ قانون العقوبات على كافةّ الجرائم المرتكبة في أراضي الجمهورية.  كما يطبقّ على الجرائم التي ترتكب في الخارج إذا كانت تدخل في اختصاص المحاكم الجزائية الجزائرية طبقا لأحكام قانون الإجراءات الجزائية).

يمُيزّ هذا النصّ في مسألة تطبيق قانون العقوبات من حيث المكان بين حكم الجرائم المُرتكبة داخل إقليم الجمهزرية وحكم الجرائم المُرتكبة في الخارج. 

يتحدّد نطاق سريان قوانين العقوبات من حيث المكان بمبدأ إقليمية القوانين كأصل عام، وهو القائم على أساس الإقليم الذي ترتكب فيه الجريمة. وكذلك بمبادئ أخرى احتياطية مُساعدة لمبدأ الإقليمية وهي مبدأ الشخصية ومبدأ العينية ومبدأ العالمية.

الفرع الأول: تطبيق قانون العقوبات على الجرائم المرتكبة في الإقليم (مبدأ الإقليمية)

كرّس التشريع الجزائري هذا المبدأ بموجب نصّ الفقرة الأولى من المادّة 3 من ق ع ج "يطُبقّ قانون العقوبات على كافةّ الجرائم التي ترُتكب في أراضي الجمهورية".

مفاد مبدأ الإقليمية أن يطُبّق قانون العقوبات على جميع الجرائم المُرتكبة في إقليم الدولة بصرف النظر عن جنسية مرتكبيها سواء كانوا وطنيين أو أجانب أو عديمي الجنسية، مع مراعاة الاستثناءات المُقرّرة في القانون العام الداخلي والقانون الدولي ويجد مبدأ الإقليمية أساسه في أنهّ: 

1ـ يعُتبر من أهمّ  مظاهر سيادة الدولة على إقليمها، ولمّا كانت سيادة الدولة تتحدد بحدود إقليمها ولا تتعداه إلى إقليم دولة أخرى فإنّ  تطبيق أيّ قانون أجنبي داخل إقليمها يتعارض مع هذه السيادة.

2ـ يسَهلّ البحث عن أدلةّ إثبات الجريمة او اجراءات التحقيق فيها ومُحاكمة الجاني عنها.

3ـ يحُقق أهداف العقوبة في الردع العام والعدالة وتهدئة السُخط الإجتماعي الذي أثارته الجريمة.

4ـ يتماشى مع مصلحة المتهم لافتراض علمه بهذا القانون وعدم مفاجأته بقوانين يجهلهُا، ممّا يحقق أغراض مبدأ الشرعية الجنائية.

يتطلبّ تطبيق مبدأ الإقليمية عنصرين هما تحديد مكان ارتكاب الجريمة وتحديد الإقليم.

أوّلا: تحديد مكان ارتكاب الجريمة

أ) معيار ارتكاب الجريمة: 

الجرائم المُرتكبة في الجزائر هي الجرائم التي وقع رُكنها المادّي أو جزء منه في الإقليم الوطني الطبيعي بمجالاته الثلاثة البرّي والبحري والجوّي، أو الإقليم الحُكمي المُتمثلّ في السفن والطائرات والسفارات والقنصليات. وهذا المعيار بينّه قانون الإجراءات الجزائية في المادة 586 التي تنصُّ أنهّ "تعد مرتكبة في الإقليم الجزائري كل جريمة يكون عمل من الأعمال المميزة لأحد أركانها المكونة لها قد تمّ في الجزائر". 

إذن تعُتبرُ جريمة مرتكبة في الإقليم الوطني عندما يتحققّ جزء من الأجزاء الداخلة في تكوين الركن المادّي، على الأقل النشاط أو السلوك الذي يبتدئ به تنفيذ الجريمة. 

ولا عبرة بالأعمال التحضيرية لأنهّا ليست من مُكوّنات الركن المادّي لذلك هي غير معاقب عليها كشراء سلاح في البلد (أ) وتنفيذ القتل في البلد (ب) لا تعُتبر الجريمة قائمة في البلد الأوّل.

ولا عبرة بالنتائج الأخرى الحاصلة بعد حدوث نتيجة الجريمة، فإن كانت هذه النتائج تشكل جريمة مُستقلة فيتحدّد الاختصاص بمكان وقوعها، مثل إخفاء الأشياء المسروقة أو إخفاء جثة القتيل.

ب) حالة توزّع عناصر الركن المادّي على أكثر من إقليم واحد:

طبقا لمفهوم مبدا الإقليمية فإنّ كل الدول التي توزّعت عليها عناصر الجريمة تعُتبر الجريمة مُرتكبة  فيها، سواء تحققّ فيها الفعل أو جزء منه أو النتيجة.

1ـ في الجرائم المتراخية النتيجة، يطُبقّ القانون الجزائري عندما يقع الفعل في الجزائر والنتيجة في دولة أخرى، أو عندما يقع الفعل في الخارج والنتيجة في الجزائر.

2ـ في الجرائم المستمرّة إذا كانت حالة الاستمرار قامت في الإقليم الجزائري يكون قانونها مختصّا بنظر الجريمة، سواء بدأت الجريمة المُستمرّة أو انتهت في الجزائر أو مرّت على الجزائر. 

3ـ في جرائم الامتناع تعُد مرتكبة في الإقليم الجزائري إذا حصل فيه الامتناع وكان من الواجب أن يقوم فيه الجاني بما هو مطلوب منه قانونا.

جـ) حالة الشريك في جريمة وقعت في الخارج: 

طبقا للمادّة 585 ق ع ج يجوز تطبيقّ قانون العقوبات الجزائري كذلك على الشخص المتواجد في إقليم الجمهورية الجزائرية وكان شريكا في جريمة (من نوع جناية أو جنحة) تمّ ارتكابها في إقليم دولة أخرى، حيث تشترط لهذا التطبيق الشروط التالية:

1ـ أن يثبت ارتكاب الجريمة في الخارج بحكم نهائي صادر عن الجهات القضائية الأجنبية.

2ـ أن تتمّ في الجزائر أعمال الإشتراك في هذه الجريمة بقطع النظر عن جنسية الشريك.

3ـ أن تكون الجريمة ُعاقب عليها في كلا القانونين الجزائري والأجنبي (قاعدة ازدواجية التجريم).

ثانيا: تحديد الإقليم: 

أ) الإقليم الطبيعي (المجال البرّي والبحري والجوّي): 

نصّت عليه المادّة 3/1 من ق ع ج "يطُبقّ قانون العقوبات على كافةّ الجرائم التي ترُتكب في أراضي الجمهورية" ويقَصد بأراضي الجمهورية إقليم الدولة بالمعنى الدستوري، حيثُ يتحدّد الإقليم في القانون الدولي العام ووفق ا للمادّة 13 من الدستور بالمجال البرّي والمجال الجوي والمجال البحري.

1) المجال البرّي: يقُصد به الإمتداد الترابي للدولة في نطاق حدودها البرّية، أي المساحات الأرضية التي تبُاشر الدولة سيادتها عليها وتقوم فيها بالخدمات العامّة. ويشملُ كذلك مساحات المياه التي تحت جوف الأرض والقنوات والأنهار التي تمُّرُّ به سواء أنهار وطنية أو دولية.

2) المجال البحري: تمتدّ سيادة الدولة خارج إقليمها البرّي ومياهها الداخلية إلى حزام من البحر ملاصق لشواطئها يسمى البحر الإقليمي يشمل جزء من البحر يقع بين شاطئ الدولة وبداية البحر الدولي، وقد استقر العرف الدولي على تحديد المياه الإقليمية بـ 3 أميال بحرية كحد أدنى ويجوز لكل دولة أن تمُدّده إلى 12 ميل بحري كحدّ أقصى حسب معاهدة مونتي كوباي 1982. وقد حدّد المرسوم 63 /403 المؤرّخ في 12/10/1963 الإقليم البحري الجزائري بالمياه الإقليمية المُمتدّة بمسافة 12ميل بحري (22 كم) إبتداء من أبعد نقطة برّية محاذية للبحر. وفي الجرائم الجمركية تضاعف المسافة بـ 12 ميل أخرى ليشمل ما يسُمّى في قواعد القانون الدولي بالمنطقة المُتاخمة.

3) المجال الجوّي: حسب الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية شيكاغو1944، فإنّ لكل دولة سيادة كاملة وانفرادية على طبقات الهواء التي تعلو إقليمها البري وبحرها الإقليمي ولمستعمراتها.

أمّا طبقات الجو العليا والأجرام السماوية فإنها تخرج عن سيادة الدول بموجب اتفاقية 1966 المتعلقة بتنظيم استغلال الطبقات العليا في الجو لكنهّا لم تحُدّد المسافة بين الفضاء وطبقات الجو العليا.

ب) الإقليم الحُكمي: (السفن والطائرات):

يلحق بإقليم الدولة السفن والطائرات الجزائرية، أيا كان مكان وجودها ما لم تكن خاضعة حسب أحكام القانون الدولي لمقتضيات مخالفِة لأحكام الموادّ 590 و591 ق إج ج.

1) حالات الجرائم المُرتكبة على متن السفن

ـ بالنسبة للسفن الجزائرية: 

ـ الجرائم المُرتكبة على متن السفينة المدنية التجارية في عرض البحر: تختص الجهات القضائية الجزائرية بالنظر في الجنايات والجنح التي ترُتكب في عرض البحر على البواخر المدنية التجارية التي تحمل الرّاية الجزائرية أياّ كانت جنسية مرتكبيها (المادّة 590/1 ق ع ج). 

ـ الجرائم المُرتكبة على متن السفينة المدنية الجزائرية الراسية في موانئ أجنبية تخضع حسب الأعراف الدولية لقانون جنسيتها ما لم تمتد الجريمة خارج السفينة إلى الميناء.

ـ الجرائم المُرتكبة على متن السفينة الجزائرية الحربية: تقضي الأعراف الدولية بأنهّا تخضع لقانون جنسيتها (دولة العلم). في أي مكان وُجدت. ويسُتفاد ذلك من الفقرة الثانية من المادّة 590 بمفهوم المخالفة عندما حصرت الأمر بالنسبة للباخرة الأجنبية على السفينة التجارية فقط.

ـ بالنسبة للسفن الأجنبية الراسية في الميناء الجزائري: تخضع الجنايات والجنح التي ترُتكب في ميناء بحرية جزائرية على ظهر باخرة تجارية أجنبية للقضاء الجزائري، حتىّ ولو لم تمتدّ الجريمة إلى الميناء وهذا خلافا للعرف الدولي.

2) حالات الجرائم المُرتكبة على متن الطائرات:

نصّت عليها المادة 591 من ق إ ج ج التي ميزّت بين الطائرات الجزائرية والطائرات الأجنبية.

ـ بالنسبة للطائرات الجزائرية تختص الجهات القضائية الجزائرية بنظر الجنايات والجنح التي ترتكب على متن طائرات جزائرية مدنية أو عسكرية، أياّ كانت جنسية مرتكب الجريمة. 

ـ بالنسبة للطائرات الأجنبية: تختص الجهات القضائية الجزائرية بنظر الجنايات أو الجنح التي ترتكب على متن الطائرات الأجنبية في حالتين:

ـ الحالة الأولى إذا كان الجاني أو المجني عليه جزائري الجنسية وذلك في أي أجواء كانت الطائرة. وهذا تطبيق لمبدأ الشخصية.

ـ الحالة الثانية: عندما لا يكون أحد طرفي الجريمة جزائريا يطُبقّ القانون الجزائري إذا هبطت الطائرة في مطار جزائري بعد وقوع الجناية أو الجنحة، وتختص بها المحكمة التي يقع في دائرة اختصاصها المطار أو مكان القبض على الجاني في حالة فراره. 

ثالثا: إستثناءات المبدأ بالنسبة للجرائم المُرتكبة في الإقليم: 

تسُمّى كذلك بقواعد تطبيق القانون من حيث الأشخاص، وهي حالات حصانة تعُفي أصحابها من الخضوع للقانون والقضاء الجزائري رغم ارتكابهم لجرائم في القطر الجزائري. وهي تنقسم إلى قسمين هما الإستثناءات المُرتبطة بالقانون الداخلي والإستثناءات المُرتبطة بالقانون الدولي.

أ) الإستثناءات المُرتبطة بالقانون الداخلي:

1) حصانة رئيس الجمهورية الجزائرية والوزير الأوّل: 

ـ رئيس الجمهورية حسب الأعراف الدستورية يتمتعّ بحصانة كاملة من المسؤولية الجزائية والمدنية حتى يتمكن من ممارسة صلاحياته ومهامّه الدستورية الكبيرة، فيسُتثنى من الخضوع لقانون العقوبات عن الجرائم التي يرتكبها أثناء ممارسته لمهامه الرئاسية أو بمناسبتها، فلا يمكن محاكمته عنها إلا بعد زوال صفة الرئاسة عنه. 

ويسُأل رئيس الجمهورية فقط عن جرائم الخيانة العظمى في محكمة خاصّة حسب ما تنصّ عليه المادة 177 من الدستور هي المحكمة العُليا للدّولة، يحدّد قانون عضويّ تشكيلتها وتنظيمها وسيرها والإجراءات المطبقّة. غير أنهّ منذ 1996 ولحدّ الساعة لم يصدر هذا القانون.

ـ الوزير الأوّل له حصانة إجراءية خاصّة من المساءلة الجنائية عن الجنايات والجنح، التّي يرتكبها بمناسبة تأديته مهامه فلا يحُاكم إلا ّ أمام المحكمة العليا للدّولة.

2) أعضاء البرلمان: طبق ا للمادّة 126/1 من الدستور فإنّ الحصانة البرلمانيةّ مُعترَف بها لنوّاب المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمّة مدّة نيابتهم ومهمّتهم البرلمانيةّ، خلال أو خارج دروات المجلس.

ـ بالنسبة للأفعال المُرتكبة أثناء دورات المجلس لا يمكن أن يتُابعوا أو يوقفوا ولا أن ترفع عليهم أيةّ دعوى مدنيةّ أو جزائيةّ أو يسلطّ عليهم أيّ ضغط بسبب ما عبرّوا عنه من آراء أو ما تلفظّوا به من كلام، أو بسبب تصويتهم خلال ممارسة مهامّهم البرلمانيةّ (المادّة 126/2).

ويستثني الدستور المغربي من أعمال الحصانة النيابية أثناء أداء المهام الرأي المعبر عنه الذي يجُادل في النظام الملكي أو الدين الإسلامي أو يتضمن ما يخل بالاحترام الواجب للملك.

ـ بالنسبة للأفعال المُرتكبة خارج دورات المجلس: تنصّ المادة 127 من الدستور لا يجوز متابعة أعضاء البرلمان بسبب جناية أو جنحة إلاّ بتنازل صريح منه، أو بإذن من المجلس الشّعبيّ الوطنيّ أو مجلس الأمّة الذّي يقُرّر رفع الحصانة عنه بأغلبيةّ أعضائه. حيثُ طبق ا للمادة 111 من قانون العقوبات يعاقب بالحبس من 6 أشهر إلى 3 سنوات، كُل قاض أو ضابط شرطة قضائية يجُري مُتابعات، أو يصُدر أمرا أو حكما قضائيا، ضد شخص مُتمتع بالحصانة في غير حالات التلبس بالجريمة دون إذن برفع الحصانة عنه.

ـ وفي حالة تلُّبُّس أحد أعضاء البرلمان بجنحة أو جناية يمكن توقيفه، ويخطر فورا بذلك مكتب المجلس الشّعبيّ الوطنيّ أو مكتب مجلس الأمّة حسب الحالة. ويمكن للمكتب المخطرَ أن يطلب إيقاف المتابعة وإطلاق سراح الناّئب أو عضو مجلس الأمّة، ليعمل بأحكام المادّة 127 من الدستور.

ب) الإستثناءات المُرتبطة بالقانون الدولي: 

في إطار القانون الدولي والأعراف الدولية والدبلوماسية ،يسُتثنى من مبدأ الإقليمية حصانة بعض أشخاص الأجانب احتراما لسيادة الدول التي يمثلونها، ولا يمكن في حالة ارتكاب هؤلاء الأشخاص لجرائم داخل الدولة المضيفة إلاّ أن يطُلب منهم المغادرة لتتمّ  متابعتهم عنها في بلدهم الأصلي. 

1) رؤساء الدول الأجنبية: تسُتثنى الجرائم التي ترُتكب أثناء مُمارسة المهامهم أو خارجها أثناء ممارسة الحياة الشخصية، من طرف رؤساء الدول الأجنبية أو ملوكها أو أمراءها أو أعضاء مجلس رئاسي يدير الدولة أو قائد ثورة أو حركة تحُّرُّر مُعترف بها أو زعيم روحي، وأعضاء الوفد المرافق وأفراد العائلة. 

ولا عبرة في كون زيارة الشحص رسمية أو خاصة.

2) أعضاء السلك السياسي الأجنبي: وهم رؤساء الحكومات والوزراء وكُتاَّب الدولة ورجال المنظمات الدولية. يستمدُّون حصانتهم من المعاهدات الدولية وقوانين المنظمات التي يتبعونها. 

3) أعضاء السلك القنصلي: طبقا لاتفاقية فيينا المؤرخة في 24 أفريل 1963 المتعلقة بالعلاقات القنصلية، يمُنح لهم حصانة بالنسبة للجرائم التي يرتكبونها أثناء القيام بوظائفهم أو بسببها، لكنّ الجرائم التي يرتكبونها خارج إطار الوظيفة ينعقد فيها الاختصاص لقانون البلد الذي يتواجدون به.

4) أعضاء السلك الدبلوماسي والبعثات السياسية الخاصة وممثلو المنظمات الدولية أو الإقليمية: تشملهم الحصانة بصرف النظر عن درجاتهم وألقابهم، ويستوي أن تتعلق الجرائم بممارسة مهامهم أو بمناسبة متابعة شؤون حياتهم الخاصة (اتفاقية فيينا لسنة 1961).

5) رجال القوات الأجنبية المرابطة في التراب الوطني: مثل قوات الطوارئ الدولية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، أو قوات وطنية لدولة أخرى، يتمتعون بحصانة ضدّ متابعتهم عمّا يقع منهم من جرائم بمناسبة تأديتهم لمهامهم، أو داخل المناطق المخصصة لهم.

الفرع الثاني: تطبيق قانون العقوبات على الجرائم المرتكبة في الخارج (المبادئ الإحتياطية)

مبدأ الإقليمية الذي يحكم الجرائم المُرتكبة في الإقليم الجزائري لا يكفي وحده لتطبيق القانون الجزائري على كل الجرائم المُرتبطة بشكل مباشر أو غير مُباشر بالجزائر، حيث لا ينطبق على الجرائم المرتكبة خارج الإقليم الجزائري إضرارا بمصالح الدولة ومُواطنيها أو إذا ارتكبها أحد رعاياها. ولذلك نصّت الفقرة الثانية من المادّة 3 من قانون العقوبات على كيفية تطبيقه بالنسبة للجرائم المُرتكبة في الخارج، بتقريرها أنهّ:

"يطبقّ على الجرائم التي ترتكب في الخارج إذا كانت تدخل في اختصاص المحاكم الجزائية الجزائرية طبقا لأحكام قانون الإجراءات الجزائية ". 

ويكون ذلك استنادا إلى المبادئ الاحتياطية التي يتدعّم بها مبدأ الإقليمية، تنُظمها المواد 582 إلى 591 من قانون الإجراءات الجزائية والتي تحُيل إليها المادّة 3/2 ق ع ج. وهذه المبادئ هي مبدأ الشخصية ومبدأ العينية، بالإضافة إلى مبدأ العالمية الذي لا يأخذ به المُشرّع الجزائري.

أوّلا: مبدأ الشخصية: (في الجرائم التي أحد أطرافها جزائري)

يقوم هذا المبدأ على أساس جنسية الشخص، فيقضي بسريان قانون العقوبات الجزائري على الجريمة المُرتكبة في الخارج عندما يرتكبها جزائري أو يكون ضحيتّها جزائريا.

أ) بالنسبة للجريمة التي يرتكبهُا جزائري (الصورة الإيجابية لمبدأ الشخصية): 

يشُترط لتطبيق قانون العقوبات الجزائري وفق مبدأ الشخصية الشروط التالية:

1) أن يرتكب الجزائري جناية أو جنحة في الخارج، أمّا إذا ارتكب مُخالفة حسب القانون الجزائري فلا يطُبقّ القانون الجزائري عليه حتى لو كانت جريمة خطيرة في نظر القانون الأجنبي.

2) شرط الجنسية الجزائرية للجاني عند ارتكابه جريمة، ولو فقدها بعد ذلك بتغيير جنسيته.

3) عودة الجاني إلى الجزائر، عودة اختيارية أو إجبارية بالتسليم.

4) عدم صدور حكم بات في البلد الأجنبي من أجل نفس الفعل لأنّ المبدأ يقضي بعدم جواز مُحاكمة شخص عن فعل واحدٍ مرّتين. فإذا كانت قد تمّت مُحاكمته في الخارج فيشترطُ أن لا يكون قضى العقوبة أو سقطت عنه بالتقادم أو العفو. 

5) شرط ازدواجية التجريم وشرط الشكوى في الجنح: يضيف المشرع الجزائري في تطبيقه لمبدأ الشخصية بالنسبة للجنح، شرط ازدواجية التجريم، أي إذا كان الفعل يوصف بالجنحة في التشريع الجزائري فيجب أن يوصف كذلك جنحة على الأقل في قانون الدولة الأجنبية (المادّة 583 ق إج ج). ولا يشُترط هذا الشرط في مجال الجنايات.

ـ وإذا كانت الجنحة مرتكبة ضّد أحد الأفراد يشُترط تقديم شكوى من الشخص المضرور إلى النيابة العامة، أو ببلاغ من سلطات القطر الذي ارتكب الجريمة فيه.

ب) بالنسبة للجرائم المرتكبة ضدّ الجزائريين (الصورة السلبية لمبدأ الشخصية): 

عند ارتكاب مواطني الدول الأجنبية لأعمال إجرامية بالخارج يكون ضحيتها رعيةّ جزائري نصّ المشرع الجزائري في المادّة 588 من قانون الإجراءات الجزائية بموجب تعديل 2015 على أنهّ:" تجوز مُتابعة ومُحاكمة كل أجنبي وفقا لأحكام القانون الجزائري ارتكب خارج الإقليم الجزائري بصفة فاعل أصلي أو شريك أيّ جناية أو جنحة إضرارا بمُواطن جزائري".

ثانيا: مبدأ العينية: 

أ) المقصود من المبدأ:

يقضي هذا المبدأ بسريان قانون الدولة على الجرائم التي ترتكب خارج إقليمها، والتي تشكل إعتداء على مصالحها بصرف النظر عن جنسية مرتكبها. 

حدّد المشرع الجزائري الحالات التي يطُبقّ فيها قانون العقوبات الجزائري طبقا لمبدأ العينية ،في المادّة 588 من قانون الإجراءات الجزائية التي نصّت أنهّ: "تجوز مُتابعة ومُحاكمة كل أجنبي وفقا لأحكام القانون الجزائري ارتكب خارج الإقليم الجزائري بصفة فاعل أصلي أو شريك في جناية أو جنحة ضدّ أمن الدّولة الجزائرية، أو مصالحها الأساسية أو المحلات الدبلوماسية والقنصلية الجزائرية وأعوانها، أو تزييفا لنقود أو أوراق مصرفية وطنية متداولة قانونا بالجزائر، أو أيةّ جناية أو جنحة ترُتكبُ إضرارا بمُواطن جزائري".

ب) شروط مبدأ العينية:

1) أنواع الجرائم التي يطُبق عليه المبدأ:

ـ جرائم أمن الدّولة (المواد61-96 مُكرّر ق ع ج): هي جرائم الخيانة والتجسس، وجرائم الاعتداء على الدفاع الوطني، والمؤامرات والجرائم ضدّ السلطة وسلامة التراب الوطني، وجرائم التقتيل والتخريب المُخل بالدّولة، وجرائم حركات التمرّد والمساهمة فيها.

ـ الجرائم الماسّة بالمصالح الأساسية للدولة: أي الماسّة بالمصالح الحيوية الوطنية سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.

ـ جرائم تزوير النقود أو الأوراق المصرفية المُتداولة قانونا في الجزائر (المواد 197-198 ق ع).

2) تسليم الأشخاص المُتهمين: 

تنُظم شروطه وإجراءاته وآثاره المواد 692 إلى 720 ق إ ج التي  تبُيح للدولة طلب الحصول من دولة أخرى على شخص يتواجد في إقليمها في وقت كانت محاكم الدولة الطالبة للتسليم تتهمه أو حكمت عليه من أجل ارتكاب جناية أو جنحة، ويكون طلب التسليم بالطريق الدبلوماسي وبمعرفة وزير الخارجية الذي يحُوّله إلى وزير العدل، وتحُققّ فيه النيابة العامّة ويبُتُّ فيه بقرار المحكمة العليا، تبينّ فيه رأيها بقبول طلب التسليم أو رفضه بعد استجواب المتهم وسماع المرافعات. ويتمّ التسليم بشروط منها:

ـ أن لا يكون هذا الشخص من رعايا الدولة المطلوب منها التسليم، لأنّ الدولة لا تسلم مواطنيها. 

ـ أن لا يكون لاجئا سياسيا وأن لا يكون من أجل جريمة سياسية.

ـ أن لا يكون قد سبقت مُحاكمته وعقابه في الدولة المطلوبة، وتنص المادّة 589 من قانون الإجراءات الجزائية على أنهّ لا يمكن أن تجري بالجزائر أيةّ متابعة ضدّ أجنبي من أجل جناية أو جنحة اقترِفت في الخارج إذا أدلى بما يثبت أنهّ حوكم نهائيا في الخارج من أجل نفس الجناية، أو الجنحة أو إذا أدلى بما يثبت أنه قضى مدة عقوبته أو مرّ عليها التقادم الجنائي أو صدر العفو عليه بشأنها.

ثالثا: مبدأ العالمية:

يقضي هذا المبدأ بتطبيق قانون الدولة وباختصاص قضائها في الجرائم الدولية وذات الطابع العالمي (عبر الوطني)، عندما يلُقى القبض على المجرم في إقليمها بغض النظر عن جنسية الجاني أو المجني عليه ومكان إرتكاب الجريمة، فالمبدأ يمثل صورة من صور التضامن الدولي في مُكافحة الجريمة التي تشكل اعتداءا على مصالح مشتركة لكل الدول بما في ذلك الدولة التي تم فيها القبض على المتهم.

فضابط اختصاص القانون والقضاء الوطني بجريمة وقعت في دولة أخرى هو نوع الجريمة، وهي الجريمة الدولية (التي تمس مصالح مُشتركة للمجتمع الدولي تهُدّد الأمن والسلم الدوليين، مثل جرائم الحرب والعدوان، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الانسانية، والقرصنة الدولة والإرهاب الدولي والاتجار بالعبيد في منظمات إجرامية دولية..). يشُترطُ في تطبيق مبدأ العالمية:

ـ أن ينصُّ عليه القانون الداخلي.

ـ أن تكون الجريمة من الجرائم التي ينعقد فيها الاختصاص العالمي. 

ـ أن يتمّ القبض على المتهم في إقليم الدولة التي تتبنى المبدأ.

ولا يوجد في القانون الجزائري ما يفيد أن المشرع الجزائري قد تبنى هذا المبدأ شأنه في ذلك شأن معظم التشريعات المقارنة. فقليلة هي الدول التي كرّسته، منها بلجيكا وألمانيا وإسبانيا وفرنسا، وسوريا ،وذلك بسبب صعوبة هذا الإختصاص العالمي والمشاكل التي يثُيرها والضغوط الدولية والحرج الدبلوماسي.

- ومن جهة أخرى ينعقد الاختصاص العالمي للمحكمة الجنائية الدولية (CPI) بموجب نظامها الأساسي المُعتمد بروما في 17 جويلية 1998. تختصّ في الجرائم الدولية الأربعة (جرائم الحرب، الجرائم ضدّ الإنسانية، جرائم الإبادة الجماعية، جرائم العدوان)، ولم تنضم الجزائر لهذا الاختصاص القضائي.

المبحث الثاني: الركن المادي للجريمة

يتمثل الركن المادّي للجريمة في مجموع العناصر الواقعية المادّية التي يتطلبّها النصّ القانوني لقيام الجريمة، وهي الفعل الغير مشروع، وأثر الفعل وهو النتيجة الإجرامية، وسبب الفعل وهو العلاقة السببية المادّية بين الفعل والنتيجة.

ـ قد يقع الفعل الغير مشروع ولا يترُكُ آثارا مادّية أو نتائج ضارّة، ورغم ذلك يعُاقب الفاعل عن فعله على أساس المُحاولة أو الشروع في الجريمة، أو لمُجرّد تهديده المصلحة بخطر الإعتداء، وهي التي تسُمّى جرائم الخطر.

ـ وقد يرتبط الفعل المجرّم بظروفٌ موضوعية تجعل منه فعلا مُبرّرا مُباحا، مثل أعمال الدفاع عن النفس، والأعمال التي يبُيحها القانون صراحة بإذنٍ أو بأمر مُراعاة لهذه الظروف.

المطلب الأول: عناصر الركن المادّي للجريمة التامّة: وهي السلوك والنتيجة والعلاقة السببية.

المطلب الثاني: عناصر الشروع في الجريمة: وهي البدأ بالتنفيذ وغياب النتيجة والقصد الجنائي

المطلب الثالث: الأفعال المُبرّرة: وهي الدفاع الشرعي وإذن القانون وأمر القانون.

المطلب الأول: عناصر الركن المادي

القانون لا يعُاقب الإنسان على مُجرّد الأفكار والنوايا، ولا عن المشاعر والأحاسيس الباطنية، ولا يتدخّل إلاّ إذا تجسدت هذه الأفكار في العالم الخارجي في شكلٍ مادي ملموس، يلُحق الضرر بالفرد أو المجتمع. ولذلك يشُترط لقيام الجريمة عناصر بناء الركن المادي وهي الفعل والنتيجة وعلاقة السببية بينهما.

الفرع الأول: الفعل الإجرامي:

أوّلا: التعريف بالفعل الإجرامي:

ـ الفعل الإجرامي هو سلوك مادّي يرتكبه الإنسان عن وعي وإدراك، يحُدِثُ به تغييرا في العالم الخارجي ،يؤدّي إلى إلحاق ضرر بمصالح محمية قانونا، أو تعريضها للخطر ،إذ لا يمكن تصوّر جريمة بدون سلوك إجرامي.

ـ والزمان والمكان: اللذان يحدُثُ فيهما السلوك كقاعدة عامّة لا يكونان مُهمّين، لكن قد يشُكلان أحيانا  ركنا خاصّا في الجريمة مثل ترك الطفل في مكان خال من الناس (م314 ق ع) وجرائم أمن الدولة في زمن الحرب (م62 ق ع). أو يمثلان ظرفا مُشدّد ا كالسرقة في الليل والسرقة في الأماكن العمومية والمنازل (م353 ق ع). 

ـ الوسيلة: التي تسُتعمل في تنفيذ السلوكات المجرّمة غير أساسية في قيام الجريمة، فالقتل هو إزهاق روح إنسان حي، يستوى الأمر إن كان بالخنق أو الإغراق أو السلاح الأبيض أو السلاح الناّري، لكن في بعض الحالات قد يعتدّ القانون بالوسيلة كظرف مُشدّد، مثل السرقة باستعمال مفاتيح مُصطنعة، والقتل باستعمال الُّسُّم.

ثانيا: صور الفعل الإجرامي:

قد يتحققّ الفعل الإجرامي بسلوك إيجابي أو بسلوك سلبي.

أ) السلوك الإيجابي: (الجريمة الإيجابة)

مُعظم الجرائم هي جرائم إيجابية ترُتكب بإتيان فعلٍ ينهى قانون العقوبات عن القيام به، وهي تتحقق بتحريك أحد أعضاء الجسم كما في جرائم الضرب والجرح العمديين، والاختلاس والتزوير، والقذف بواسطة الصحافة وجريمة انتحال صفة أو وظيفة، والسكر العلني، والتعدّي على الملكية العقارية، وانتهاك حرمة مسكن. أو يكون بتحريك اللسان كما في جريمتي شهادة الزور والوشاية الكاذبة، والسب والشتم العلني. 

ب) السلوك السلبي (الجريمة السلبية)

ـ السلوك الإجرامي السلبي هو اتخاذ موقف سلبي تجاه واجب قانوني أمر القانون القيام به، فهو فعل إرادي مثله مثل الفعل الإيجابي يرُتبّ المسؤولية الجزائية لصاحبه، ويسُمّى جريمة الامتناع، مثل امتناع القاضي عن الحكم في القضايا (136 ق.ع) وامتناع الشاهد عن الإدلاء بالشهادة (المواد 89 و97 و223 من قا الإج الج). والامتناع عن التبليغ عن الجناية (المادّة 91 ق ع)، وعدم تقديم مُساعدة لشخص في حالة خطر (182 ق ع). والإمتناع عن دفع النفقة (331 ق ع)، وكذا معظم  مُخالفات المرور. 

ـ وهناك فرقٌ من حيثُ درجة المسؤولية الجزائية ومقدار العقوبة بين الجريمة بسبب الامتناع والجريمة بوسيلة الامتناع. 

ـ الجريمة بسبب الامتناع مثل الوفاة الحاصلة بعد امتناعٍ عن تقديم المساعدة. فهي تختلف عن الوفاة الناجمة عن قتل عمد بسلوك إيجابي، فإذا مات الشخص الذي مُنع عنه الدواء أو الطعام أو المساعدة لا يسُأل المُمتنع عن مُساعدته عن جريمة القتل (الم 263 ق ع)، بل عن جريمة عدم تقديم مُساعدة لشخص في حالة خطر (الم182 ق ع).

ـ وقد يكون الامتناع وسيلة لارتكاب جريمة إيجابية، لكن ليست مبدءا عامّا، وإن مّا اكتفى المُشرّع بذكر حالات مُعينّة. مثل المادّة 269 ق ع التي تعُاقب كُل من جرح أو ضرب عمدا قاصرا لا تتجاوز سِنه السادسة عشرة أو منع عنه عمدا الطعام أو العناية إلى الحد الذي يعُرّض صحته للضرر. فاعتبرت المادّة الامتناع مثل أعمال العنف والتعدّي العمدي بالضرب والجرح.

ومثاله جريمة ترك الأطفال والعاجز في مكان خالٍ وتعريضهم للخطر بموجب المادة 314 ق ع ج. ومثاله أيضا المُساهمة في جريمة القتل عن طريق منع الناس من إنقاذ القتيل من يد القاتل.

الفرع الثاني: النتيجة الإجرامية

يشُترط لقيام الجريمة أن يكون فعل الشخص أو امتناعه قد تسببّ في ضرر لمركز قانوني أو مصلحة يحميها القانون. وهذا هو ما يعُبرُّ عنه بالنتيجة الإجرامية، كأثر ناجم عن النشاط الإجرامي. وقد تكون النتيجة الإجرامية في إحدى صورتين هما النتيجة المادّية، والنتيجة القانونية غير مادّية:

أ) النتيجة المادّية:

النتيجة المادّية لها كيانٌ في العالم الخارجي، يشُكّلُ ضررا ماديا أو معنويا للمصلحة المُعتدى عليها. ففي القتل العمد بجميع أنواعه (المواد 254-263 ق ع) يعتبر إزهاق روح الشخص والمساس بحقه في الحياة هو النتيجة الإجرامية. وفي جريمة السرقة تكون النتيجة نقل حيازة وملكية الشيء المسروق، وفي جريمة الضرب أو الجرح المنصوص عليها في المادّة 264 ق ع تعتبر الآلام المترتبة عن الجرح أو الضرب وكذا الشعور بالأسى والحسرة من جراء ما تخلفه من تشوهات جسدية (ضرر معنوي)، والأضرار اللاحقة بالجسد من جروح وكسور، بعدما كان سليما، ومصاريف علاجه، وكذا العجز عن العمل بشكل دائم أو مؤقتّ (ضرر مادي). تعتبر هذه الأضرار كلها نتيجة إجرامية لأعمال الضرب والجرح. ولذلك تسُمّى هذه الجرائم "جرائم الضرر". أو"جرائم النتيجة"

ب) النتيجة القانونية (غير المادّية): 

النتيجة القانونية غير المادّية تكون في شكل اعتداءٍ على مصلحة أو حق من الحقوق أو تهديدا بالاعتداء، دون أن ترُتبّ ضررا مادّيا ملموسا، ولذلك تسُمّى هذه الجرائم "الجرائم الشكلية". مثل حمل السلاح بدون ترخيص، والإتفاق الجنائي وتزوير العملة، ومثل الشروع في الجريمة والتحريض على الجريمة، والتي تمُثل تهديدا بخطر الاعتداء ولذلك تسُمّى "جرائم الخطر". 

حيثُ أنّ التجريم في هذه الحالات يتعلق بخطورة الجاني أكثر منه بالنتيجة الإجرامية التي تبقى محتملة قد تتحقق وقد لا تحدث.

وتكمن أهمّية تحديد النتيجة سواء مادّية أو قانونية من جهة في قيام الجريمة، ومن جهة أخرى، في التمييز بين الشروع والجريمة التامّة.

الفرع الثالث: علاقة السببية:

رابطة السببية هي العنصر الثالث من عناصر الركن المادّي للجريمة، يربط بين العنصرين الآخرين الفعل والنتيجة. تطُرَحُ بشأنه إشكالية اقتران فعل الجاني بعوامل خارجية في إحداث النتيجة الجرمية.

أوّلا: التعريف بعلاقة السببية:

أ) المقصود بعلاقة السببية:

ـ لا يكفي لتحقق الركن المادي الذي تقوم عليه الجريمة، مجرّد صدور فعل عن شخص، وترتب نتيجة إجرامية، بل يشُترطُ وجود رابطة سببية بين السلوك والنتيجة، أي يجب أن يكون الفعل هو سبب النتيجة.

يعُبرّ القانون عن هذه العلاقة باستعمال عبارة " نتج" أو "نشأ" أو "تسبب" أو "ترتب".

ـ فإذا انتفت هذه الرابطة وتحققت النتيجة بشكل مُستقلّ عن الفعل، فإنّ الكيان المادّي للجريمة لا يتحققّ مثل أن يعتدي شخص على آخر بصفعة أو ضربة خفيفة، ثمُّ يموت المضروب بعد ذلك على إثر حادث. 

أو إذا تبينّ أنّ النتيجة حصلت لسبب آخر فلا يسُأل عن الجريمة وقد يسُأل عن الشروع فيها.

ب) إشكالية علاقة السببية:

تثير علاقة السببية على المستوى العملي صعوبة عندما تلفُّها ظروف وملابسات تجعل التأكُد منها  أمرا صعبا وذلك عندما تشترك مع نشاط الجاني أسباب أخرى في إحداث نتيجة إجرامية معينة، قد تكون سابقة أو مُعاصرة أو لاحقة لسلوك الجاني. كأن يكون المجني عليه مُصابا بمرض قبل الجريمة.  أو كجرح الضحية بأداة كانت مُلوّثة بجراثيم تؤدي إلى تسمُّمه وموته. أو مثل الشخص الذي يصُاب بكسور أو نزيف ،بسبب الضرب والجرح، ثمّ يتمّ علاجه في المُستشفى بطريقة غير صحيحة، فيلفظ أنفاسه. أو من يضع السم في طعام شخص وقبل أن يلفظ هذا الأخير أنفاسه يطُلق عليه شخص آخر رصاصات في قلبه ورأسه.

ثانيا: معيار علاقة السببية:

قد تكون العوامل الأخرى المقترنة بظروف ارتكاب الجريمة متفاوتة في حِدّتها، فتكون قوية وضعيفة، ظاهرة وخفية، مألوفة وشاذّة، حيثُ يطُرحُ التساؤل حول درجة المسؤولية المُلقاة على عاتق الجاني، فهل يؤاخذ الفاعل عن النتيجة القريبة المباشرة؟ أم أنهّ يجب أن تمتدَّ مسؤوليته إلى سلسلة النتائج المتتالية باعتبار أنهّ لولا فعله لما تحققت وبالتالي يجب نسبتها إليه؟ تختلف عدّة نظريات في الإجابة على الإشكال:

أ) نظرية السبب المباشر:

ـ مفاد هذه النظرية أنهّ لا تقوم رابطة السببية إلاّ إذا كانت النتيجة متصلة اتصالا مُباشرا بفعل الجاني أو كان فعله هو الأساس في حدوث النتيجة، فإذا تداخلت عوامل أخرى فإنهّا تقطع رابطة السببية حتىّ ولو كانت تلك العوامل مألوفة، فإذا طعن الجاني المجني عليه بسلاح ثم نقل إلى المستشفى وبسبب خطا طبي توفي المجني عليه فإنّ المتهم يفُلت من المساءلة لتوسط سبب آخر بين فعله والنتيجة ولم يعد فعله  مباشرا.

ـ انتقُدت النظرية بأنهّا: 

ـ تهتمّ بجانب الجاني وتهُمل جانب الضحية.

ـ تمَكّن الجاني من الإفلات من العقاب حال وجود عوامل أخرى إلى جانب سلوكه. 

ـ تحصُرُ النتيجة الضارّة في عامل واحد فقط، فقد تتظافر عوامل متعدّدة بعضها أخف من بعض. 

ـ تهُدرُ نظرية المُساهمة الجنائية، لأنّ الشريك دوره ثانوي مُساعد وليس أساسيا.

ـ تصُعِّبُ في عملية البحث عن السبب المُباشر.

ب) نظرية تعادل الأسباب:

ـ تعتبر النظرية كل الأسباب والعوامل المُتدخّلة في النتيجة مُتساوية أو متعادلة في إحداثها، ولا فرق بين سبب مُهمّ وقويّ وسبب تافه وضعيف، أو مباشر وغير مباشر. فعلاقة السببية بين سلوك الجاني والنتيجة، لا يقطعُها مرضُ الضحية السابق على الجريمة، ولا إهمال الطبيب في علاجه، ولا حريق المُستشفى. على أساس أنّ الفعل الأوّل هو المُحرّك للأفعال المتتالية بعد ذلك، ففعل الجاني يعُتبر سببا للنتيجة ما دام تخلفّه يؤدّي إلى انعدام النتيجة الإجرامية.

ـ تنُتقد النظرية بتناقضها لأنهّا من جهة تعترف بتساوي الأسباب، ومن جهة تحُمّل الجاني المسؤولية كاملة حتى ولو كان سلوكه شاذّا لا يؤدي إلى تحقيق النتيجة في العادة، ورغم مُساهمة باقي العوامل.

جـ) نظرية السبب الملائم:

ـ تقول النظرية بأنّ سلوك الجاني ينبغي أن يكون سببا مناسبا وملائما لإحداث النتيجة الإجرامية حسب المجرى العادي للأمور، وضرورة مُساهمة نشاط الإنسان في تتابع الحوادث التي قد تسُفر عن تحقيق النتيجة، وعدم إمكان إسناد هذه النتيجة إلى عامل آخر غير هذا النشاط. فإذا تدخّلت عوامل أخرى مألوفة تحُدِثُ النتيجة وفق المجرى العادي للأمور وليست شاذة، فإنهّا لا تقطع علاقة السببية بين السلوك والنتيجة. 

وتطبيقا لذلك إذا ارتكب الجاني فعل الضرب والجرح ثمّ بعد ذلك حدث لهذه الإصابات تفاقم ومُضاعفات بسبب الإهمال في العلاج أو خطء الطبيب فهذه العوامل لا تقطع علاقة السببية عن الجاني لأنهّا عوامل مألوفة، لكنّ حريق المُستشفى عامل شاذ غيرُ مألوف قد ينفي علاقة السببية بين وفاه الضحية بالحريق وفعل الجاني.

هذه النظرية تحُدّد المسؤولية بنطاق معقول حيثُ أخذت بمبدأ السبب الأوّل وتفادت التعميم، لكنّ الجاني يسُأل عن موت الضحية بسبب المرض إذا كان يقُدّرُ ويعلمُ بمرضه عند اعتدائه عليه.       

ـ وُجّه النقد إلى هذه النظرية فيما يخص إمكانية حدوث النتيجة من عدمها حسب المجرى العادي للأمور، ومدى علم وتوقع الجاني لحدوث النتيجة من عدمه يخضع للتقدير ولا يصُّحُّ أن تبُنى أحكام القانون الجنائي على التقدير. لذا يتعين ترك تقدير ذلك إلى القاضي، وهو ينظر في كل حالة على حدة، لأنّ وضع معيار عام علاوة على ما يطرحه من صعوبة، سيشكل خروجا عن النص يتنافى مع القواعد العامّة في تفسير النصوص الجنائية.

المطلب الثاني: الشروع في الجريمة (المحاولة الجنائية)

يعُاقب القانون على الجريمة التامّة التي اكتملت عناصرها المادّة الفعل والنتيجة وعلاقة السببية، أي السلوكات المُنفذّة للجريمة وتحقيق نتيجتها، إلاّ أنهّ قد لا يكتمل الركن المادّي للجريمة فتتخلفّ النتيجة لعدم اكتمال تنفيذ الفعل أو لخيبة أثره، أو لكون تحقيق النتيجة أمرا مُستحيل الحدوث.

عاقبت معظم تشريعات الدول على هذه الجريمة الناقصة التي تسُمى"المحاولة" أو "الشروع ".

نظرا لخطورة الشخص ومحاولته الاعتداء على المصلحة المحمية قانونا.

نظمّ المُشرّع الأحكام العامّة للشروع بالمادّتين 30 و31 حدّد فيها مفهوم الشروع وبينّ أركانه وأنواعه وعقوبته. وهذا ما نتناوله من خلال الفرعين التاليين.

الفرع الأول: مفهوم الشروع كمرحلة من مراحل الجريمة

أوّلا: مراحل ارتكاب الجريمة:

تمُر الجريمة بأربعة مراحل هي التفكير ثمّ التحضير ثمّ الشروع ثمّ الجريمة التامّة. 

أ) مرحلة التفكير في الجريمة: 

ـ الأصل أنّ القانون لا يعُاقب على هذه المرحلة استنادا إلى مبدأ "لا جريمة بدون فعل"، لأنّ النوايا والأفكار الباطنية يصعُب التأكّد منها بدون مظهر خارجي يتُرجمها. 

والقاعدّة في الشريعة الإسلامية هي عدم العقاب على حديث النفس بالجريمة دون ارتكابها، وأصل ذلك، حديثُ النبّي صلىّ الله عليه وسلمّ "إنّ الله تجاوز لأمُّتي عمّا وسوَست أو حدّثت به نفسها ما لم تعمل به أو تتكلمّ" وقوله صلىّ الله عليه وسلمّ " منْ هَم بسيئّة فلم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت سيئّة واحدة" وتسري هذه القاعدة في جرائم الحدود وقياسا عليها في جرائم التعازير.

ـ الإستثناء: هناك حالات استثنائية خاصّة تقتضي فيها المصلحة العامة تدخل المشرع بنصّ خاص للعقاب على أعمال ليس لها مظهٌرٌ مادٌيٌ و تزال مُجرّد أفكار ونوايا كما هو الحال في: 

1ـ الاتفاق الجنائي (جمعية أشرار) م 176 ق ع "..وتقوم الجريمة بمجرّد التصميم على ارتكاب الفعل"

2ـ التحريض: في المادّة 46 "إذا لم ترتكب الجريمة المزعم ارتكابها لمجرد امتناع من كان ينوي ارتكابها بإرادته وحدها فإنّ المُحرّض عليها يعُاقب رغم ذلك بالعقوبات المُقرّرة لهذه الجريمة" والتحريض هو خلق فكرة الجريمة في ذهن الشخص والتأثير على إرادته وتوجيهها إلى ارتكابها. 

3ـ المؤامرة: في المادّة 85/3 "..وتقوم المؤامرة بمجرّد اتفاق شخصين أو أكثر على التصميم على ارتكابها. وكُل من يعَرِض تدبير مؤامرة ... دون أن يقُبلَ عَرضُه يعُاقبَ بالسجن من 5 إلى 10 سنوات.

4ـ التهديد: المادة 284 " كُل من هدّد بارتكاب جرائم القتل أو السجن أو أي اعتداء آخر على الأشخاص... يعاقب بالحبس من سنتين إلى عشر... ".

5ـ سبق الإصرار: كظرف مُشدّد في القتل والضرب والجرح المادة 256 "سبق الإصرار هو عقد العزم قبل ارتكاب الفعل على الاعتداء على شخص مُعينّ... ".

ب) مرحلة التحضير للجريمة:

ـ الأعمال التحضيرية هي مرحلة تأتي بعد التفكير والتصميم، تتجسّد بأعمال تمُهدّ للجريمة بتحضير الوسط المُلائم لارتكابها، مثل تهيئة الوسائل وشراء الأدوات التي ستسُتعمل في تنفيذ الجريمة.

ـ الأصل أنّ القانون لا يعُاقب على هذه المرحلة نظرا لأنهّا ليست عملا تنفيذيا يدخل في تكوين الركن المادّي للجريمة، ولا تنكشف بها النيةّ الإجرامية، ولا تنطوي على خطر يهُدّد مصلحة ما، والمشرع يريد بذلك تشجيع الجناة على العدول وعدم المُضي في طريق الجريمة. 

ـ الإستثناء: هناك بعض الحالات الخاصّة، يعاقب عليها القانون إذا شكّلت في حدّ ذاتها جرائم مستتقلةّ:

1ـ أعمال المساهمة الجنائية م 42 "يعُتبر شريكا في الجريمة من لم يشترك اشتراكا مباشرا، ولكنهّ ساعد بكل الطرق أو عاون الفاعل أو الفاعلين على ارتكاب الأفعال التحضيرية... " ومثالها المادّة 23 من قانون مكافحة المخدّرات 04-18 "يعُاقب الشريك في الجريمة أو في كُلّ عمل تحضيري... ".

2ـ تنظيم ارتكاب جريمة في إطار جمعية الأشرار. معاقب بالمادّة 177 مكرّر ق ع ج.

3ـ تقليد المفاتيح م359 "كُل من قلدّ أو زيفّ مفاتيح يعاقب بالحبس من 3 أشهر إلى سنتين.." جاءت هذه المادّة في قسم السرقات وابتزاز الأموال أي أنّ تقليد المفتاح مُجرّم كعمل تحضيري للسرقة.

4ـ المُساعدة على الانتحار المادة 273 " كُل من ساعد عمدا شخصا في الأفعال التي تساعده على الانتحار أو تسهله له أو زوده بالأسلحة أو السم أو بالآلات المعدة للانتحار مع علمه بأنهّا سوف تستعمل في هذا الغرض يعُاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات إذا نفذ الانتحار".

جـ) مرحلة الشروع في الجريمة: 

تأتي هذه المرحلة بعد التفكير في الجريمة والتحضير لها، حيثُ يبدأ فيها الجاني بتنفيذ الجريمة بسلوكات يعُاقب عليها القانون في الجنايات وفي بعض الجنح، مثل فعل الجاني الذي يريد قتل خصمه فيصُيبه بإصاباتٍ يشُفى منها، أو لا يصُيب المجني عليه بأيةّ إصابة ،لأنهّ لا يحُسن الرماية أو لأنّ الجاني ضُبط وهو يسُدّد سلاحه، ففي هذه الأحوال يعُدّ فعله شروعا يعُاقب عليه بصفته مُحاولة قتل.

فالشروع هو توسّع استثنائي في المسؤولية الجزائية لمجرّد تعريض المصلحة للخطر، خلافا للأحكام العامّة التي تشترط توافر الأركان الثلاثة للجريمة التامّة باعتبارها اعتداء فعلي على المصلحة.

د) مرحلة الجريمة التامّة:

هي التي تتحققّ فيها كافة عناصر الركن المادّي للجريمة أي الفعل الذي ينصُّ عليه نصّ التجريم ،والنتيجة التي يرُيدُها الجاني بهذا الفعل ،والعلاقة السببية. كأن يحمل الجاني سلاحه محشوا بالذخيرة ويتربصّ بالمجنى عليه في مكان ينتظر فيه مروره ثمّ يطُلق عليه الرصاص فيقتله فيسُأل عن القتل التام.

ثانيا: ماهية الشروع في الجريمة (المُحاولة الجنائية):

أ) تعريف الشروع في الجريمة: 

المُحاولة الجنائية أو الشروع في الجريمة هي جريمة ناقصة بُدِءَ في تنفيذها وتخلفّ عنها عنصر النتيجة التي كان يرُيدُها الجاني بسبب خيبة أثر الفعل رغم تمامه، أو بسبب عدم اكتمال الفعل بتدخل عوامل خارجة عن الإرادة، أو بسبب استحالة تحقيق النتيجة. 

عرّف المُشرّع الجزائري المُحاولة أو الشروع في الجريمة في المادّة 30 من قانون العقوبات بأركانها بقوله "كلّ محاولات لارتكاب جناية تبتّدىء بالشروع في التنفيذ أو بأفعال لا لبس فيها تؤدّي مباشرة إلى ارتكابها تعتبر كالجناية نفسها إذا لم توقفّ أو لم يخب أثرها إلا نتيجة لظروف مستقلةّ عن إرادة مرتكبها حتىّ ولو لم يمكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادّي يجهله مرتكبه". 

ـ وهكذا تعُتبر المُحاولة بحدّ ذاتها جريمة مستقلة لها أركانها الثلاثة، فالركن الشرعي هو نصّ المادّة 30 بالنسّبة للجنايات والنصّ الخاص بالنسبة للجنح. والركن المادّي هو البدء بالتنفيذ، والركن المعنوي هو القصد الجنائي.

ب) أنواع الشروع: 

حسب المادّة 30 من ق ع ج ".... إذا لم توقفّ أو لم يخب أثرها إلا نتيجة لظروف مستقلةّ عن إرادة مرتكبها حتىّ ولو لم يمكن بلوغ الهدف المقصود بسبب ظرف مادّي يجهله مرتكبها". وتنقسم المُحاولة إلى نوعين هما الشّروع الناقص والشّروع التاّم.

1ـ الشروع الناقص ويسُمّى الجريمة الموقوفة، يوجد فيها البدء في التنفيذ تمُّ يتوقفّ لظروف خارجة عن إرادة الجاني. ويمكن أن يكون العدول عن إكمال الفعل إراديا معتبرا، ويمكن أن يكون اضطراريا.

2ـ الشّروع التاّم أو الغير الفعّال تكون فيه الجريمة خائبة ويكون العدول اضطراريا غير معتبر. 

جـ) العدول عن الجريمة:

يشُرطُ لتحقيق المحاولة الخاضعة للعقاب أن يكون وقف التنفيذ لا إراديا، أي أنّ التنفيذ أوقف قسرا بمانع خارجي أثرّ على المجرم وصرفه عفن إتمام فعله، كأن يرى بعد بدء التنفيذ شهودا مقبلين أو رجال شرطة متجهين نحوه. فتوقفه في هذه الظروف يعُتبر عدولا اضطراريا غير إرادي ويعاقب على الشروع في الجريمة التي هو بصددها.

ـ لكن لا عقاب على الشروع الذي ينتهي بالعدول عنه اختياريا، لأنّ هذا الأخير ينبئ عن انعدام الخطورة الإجرامية التي هي علةّ العقاب، ولأنّ القانون يشجع  دائما النوايا الحسنة في التراجع عن المشروع الإجرامي، بسبب مشاعر نفسية كتأنيب الضمير أو الشفقة بالغريم أو الخشية من العقاب. 

ولا أثر لهذه المشاعر وما يتبعها إذا جاءت بعد إتمام الجريمة فلا تأثير لمن أخذ الرشوة أن يردها ولا لمن أشعل النار في مكان أن يعمد إلى إطفائها، إلا في بعض الحالات التي قد تؤخذ فيها كظرف تخفيف. وإذا كان العدول اضطراريا فهو لا يغير في حكم الشروع وعقوبته. 

ـ وعندما يصعب وصف العدول بالاضطراري أو الاختياري يؤخذ بقاعدة تفسير الشك لمصلحة المتهّم.

ـ وإذا كان عدول الجاني بمحض إرادته يمنع عقابه على الجريمة التي كان ينوي اقترافها فإنهّ يسأل عن الفعل الذي أتاه إن شكل جريمة. مثلما إذا كان الجاني ينوي قتل الضحية وبدأ يضربه ثم عدل عن قتله من تلقائه ودون أي عامل خارجي فإنه لا يسأل عن محاولة قتل عمد وإنما عن جريمة الضرب العمدي.

الفرع الثاني: أساس العقاب على الشروع

يختلف الفقه حول مسألة العقاب على الشروع، لكن هناك اتفاق في الموقف التشريعي والقضائي.

أوّلا: موقف الفقه من العقاب على الشروع: 

أ) المذهب الموضوعي: 

ـ يعتدّ بالضّرر الإجتماعي، إذْ لا عقوبة على مجرّد الشروع بفعل يعُرّض المصلحة الإجتماعية للخطر دون أن يسُبب لها ضررا ولا يمثل إخلالا فعليا بالنظام الاجتماعي. ولا عقاب على مجرّد الشروع لأنّ مناط قيام الجريمة هو تحققّ النموذج التشريعي، فالعقوبة مرتبطة بالتحقق الفعلي لضرر الجريمة. 

ـ يعُاب على النظرية الموضوعية أنهّا تسمح بإلإفلات من العقاب لكلّ الأفعال التي لا تحُدث نتيجة ،حتىّ ولو كان عدم تحقق النتيجة راجع لظروف خارجة عن إرادة الفاعل.

ويميل إلى التخفيف من العقوبة على المحاولة، فما دامت النتيجة الإجرامية لم تتحقق فيكون من العدل أن تخفف عقوبتها عن عقوبة الجريمة التامة.

ب) المذهب الشخصي: 

ـ لا يهتمّ بالنتيجة الجرمية، وإنمّا يعتدُّ بدرجة الفساد والإنحلال الأخلاقي للشخص أو درجة خطورته الإجرامية وضعف قابليته للإصلاح، فإنّ الشروع الذي يكشف عن الإرادة الإجرامية والطبيعة الخطرة لشخصية الفاعل هو أكثر خطورة من الجريمة التامّة، لذا يجب أن يقُمع بصرامة. وعلتّه، هو تعفريض المصلحة المحمية لخطر الاعتداء عليها، فالعبرة بالنية الإجرامية التي اتجهت لتحقيق النتيجة الجرمية حتى ولو لم تتحققّ فعلا.

ـ يسُاوي هذا المذهب في العقاب بين الجريمة التامة والجريمة الناقصة، لأنّ تخلُّف النتيجة لا يرجع لإرادة الجاني وإنما إلى ظروف خارجة عن إرادته، لذلك فاستحقاقه العقاب لا يقل عن استحقاق مرتكب الجريمة التامة.

ـ يعاب على النظرية الشخصية معاقبة كلّ أنواع المحاولة لارتكاب الجريمة دون تمييز، وبنفس العقوبة المطبقّة على الجريمة التامّة لمجرّد ظهور الإرادة الإجرامية.

جـ) في الشريعة الإسلامية: 

القاعدة في الشريعة أنّ العقاب على الشروع هو عقاب تعزيري يقُدّره وليُّ الأمر ولا يكون مثل عقوبة الجريمة التامّة ولا من جنسه، فلا يعُاقب الشروع في السرقة بعقوبة السرقة ولا يعاقب الشروع في القتل بعقوبة القتل ولا الشروع في الزنى بعقوبة الزنا، لقوله صلىّ الله عليه وسلمّ "من بلغ حدّا في غير حدّ فهو من المعتدين". ولكن يجُازى الشخص على الفساد، والترويع، وقصد الشر والعمل على تنفيذه، لأنّ هذا القصد انتقل من مرتبة التفكير إلى مرتبة السعي للتنفيذ، وفات التنفيذ لأمر لم تكن فيه للجاني إرادة.

وخالف البعض هذا الرّأي استنادا إلى حديث النبيّ صلىّ الله عليه وسلمّ "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما الآخر فالقاتل والمقتول في الناّر"، فقالوا يا رسول الله هذا القاتل، فما بال المقتول ؟ قفال "إنّه كان حريصا على قتل صاحبه"

ثانيا: موقف التشريع من العقاب على المُحاولة: 

ـ كلّ التشريعات مُتفقة على معاقبة المُحاولة لكن اختلف أساس العقاب لديها.

ـ التشريعات التفي تستلهم من النظرية الموضوعية لا تعاقب على الشروع إلاّ في جرائم مُعينّة هي الجنايات وبعض الجنح وهذا إذا كانت الإرادة الإجرامية ظاهرة بواسطة البدء في التنفيذ، وفي جميع الحالات بعقوبة أقلّ شدّة من الجريمة التامّة.

ـ التشريعات التي تكرّس النظرية الشخصية تعُاقب على الشروع في جميع أنواع الجرائم، وبنفس عقوبة الجريمة التامّة حتىّ ولو كان الفعل بسيطا وتافها أو لم يكن هناك بدء في التنفيذ أصلا، المهمّ هو أنّ الإرادة الجنائية تظهر بوضوح.

ـ موقف التشّريع الجزائري جاء مستخلصا من كلا النظريتين.

ـ أخذ من المذهب المادّي حصر العقاب في بعض الجرائم فقط وهي الجنايات وبعض الجنح بموجب النصّ الخاص، فمثلا لا يعاقب على الشروع في جريمة انتهاك حرمة منزل الفعل المجرّم بالمادّة 295 ق ع ولا عقاب على الشروع في المخالفات. بينما المادة 350 تقرّر صراحة العقاب على الشروع في السرقة.

ـ ويأخذ بالمذهب الشخصي عندما يساوي بين الشروع والفعل التام في العقوبة. 

وانتقدت فكرة المساواة في العقوبة بين الشروع والفعل التام فكان الموقف المؤيّد يجد الحل للحالات التي قد لا يستحق فيها الشروع نفس عقوبة الفعل التامّ في التفريد القضائي للعقوبة وإعطاء السلطة للقاضي بتقدير العقوبة المناسبة.  والملائمة بين حديها الأدنى والأقصى، أو النزول عن الحد الأدنى إن وجد من الظروف القضائية المخففة ما يبرر ذلك.

الفرع الثالث: أركان الشروع

لقيام المحاولة الجنائية الشروع في الجريمة حسب المادّة 30 ق ع ج يشُترط توفرّ ثلاثة (3) عناصر:

1ـ البدء بالتنفيذ، 2ـ عدم تحقق النتيجة بتوقف التنفيذ أو خيبته، 3ـ القصد الجنائي.

أوّلا: ركن البدء بالتنفيذ

 البدء بالتنفيذ عنصر مادّي يتمثل في فعل أو نشاط مادّي للسلوك المُنفّذ للجريمة يكشف عن نيّة إجرامية مُعينّة. وقد ثار الجدل الفقهي حول المعيار الذي يميزّ به البدء بالتنفيذ عن الأفعال التحضيرية، كحدٍّ فاصلٍ بين مرحلتي العقاب واللاعقاب.

أ) موقف الفقه الوضعي من معيار البدء بالتنفيذ

1) النظرية الموضوعية: تعتدّ هذه النظرية بالخطورة الإجرامية للأفعال وليس بنيةّ المجرم وشخصه، فالأفعال التحضيرية لا تدخل في تعريف الجريمة، بينما البدء في التنفيذ يدخل في تعريف الجريمة وفي ركنها المادّي إمّا كعنصر أو جزء مكوّن له مثل الحيازة المادّية للشيء المسروق بوضع اليد عليه لتنفيذ السرقة (الم350 ق ع ج)، وإمّا كظرف مشدّد، مثل تسلقّ حائط المنزل أو نافذته للسرقة (الم 353 ق ع ج).

ـ تقدير النظرية: هذه النظرية رغم وضوح المعيار عندها، إلاّ أنهّا تضَيقّ كثيرا من نطاق الشروع إلى حدّ إفلات الكثير من الحالات من العقاب:

ـ بمعيار العنصر المُكوّن للركن المادّي يتُرك بدون عقاب من يفاجأ وهو يمُدّ يده ناحية جيب شخص آخر أو ناحية البضائع المعروضة بني ةّ السرقة، طالما لم تتمّ حيازته المادّية للشيء المراد سرقته.

ـ بمعيار ظرف التشديد يعُاقب بعقوبة جريمة السرقة وليس القتل من يدخل إلى منزل متسلقّا وهو حامل للسلاح، لأنّ التسلقّ وحمل السلاح هما من الظروف المشدّدة في جريمة السرقة. كما أنّ الترصد في جريمة القتل ظرف مشدّد فهو شروع، بينما تصويب السلاح ناحية الشخص ليس بشروع. 

كما أنهّ ليس كل الجرائم تقترف بظروف تشديد عينية، بل وهناك ظروف تشديد عينية لا يمكن أن يتصور معها البدء في التنفيذ، ظرف الليل أو تعدّد الأشخاص في السرقة.

2) النظرية الشخصية: ترُكّز هذه النظرية على النيةّ الإجرامية وخطورتها، فالبدء بالتنفيذ هو إتيان الفعل الذي يكشف عن الإرادة النهائية والحاسمة لارتكاب الجريمة، وهو ما يسمّيه الفقه الحديث "فعل لا لبس فيه يؤدّي مباشرة إلى ارتكاب الجريمة" وعليه فالفعل يعتبر شروعا عندما يكون متصلا بالنتيجة الإجرامية أو قريبا منها عند توفر نية ارتكابها. وليس مهمّا أن يشُكّل الفعل المنفذ عنصرا مكوّنا للركن المادي أو ظرف تشديدٍ فيها. أمّا إذا كان الفعل بعيدا عن هدف الجريمة فيبقى عملا تحضيريا.

ـ يعتبر شارعا في جريمة السرقة من يبدأ بكسر الخزانة ولو لم يكن قد حاز المسروقات حيازة مادّية.

وكذلك الدّخول ليلا بدون حذاء إلى بيت مسكون بنية السرقة. والدخول إلى سياّرة متوقفة. 

جـ) موقف التشريع

ـ هناك تشريعات تأخذ بالمفهوم المادّي فتشترط وجود بدء في تنفيذ الفعل الإجرامي ولا تعاقب عليه بنفس عقوبة الجريمة التامّة. وهناك تشريعات تأثرت بالمفهوم الشخصي فهي لا تشترط البدء في التنفيذ، وتعاقب على الشروع بعقاب الجريمة التامة بمجرّد تحقق ظروف وملابسات لا تدع مجالا  للشك في توافر النية الإجرامية لدى الفاعل.

ـ والمشرّع الجزائري في المادّة 30 ق ع ج أخذ بالمعيارين معا، حيثُ أنهّ يأخذ بالنظرية الموضوعية عندما يشترط البدء في التنفيذ. ويأخذ بالنظرية الشخصية عندما يعرّف البدء بالتنفيذ بأنهّ أفعال لا لبس فيها تؤدّي مباشرة لارتكاب الجريمة. فهو يوَسّع من نطاق الأفعال التي تعتبر شروعا. فالمعياران يمكن الجمع بينهما ولا ينفي أحدهما الآخر.

ثانيا: ركن عدم تحققّ النتيجة لسبب غير إرادي 

الركن الثاني في قيام الشروع حسب المادّة 30 ق ع ج هو عدم تحقق النتيجة لأسباب أو ظروف لا دخل لإرادة الجاني فيها، بل إمّا بالتوقف القسري لتنفيذ الفعل أو لخيبة أثره ،أو بسبب أنّ النتيجة مستحيلة.

أ) الجريمة الموقوفة

الجريمة الموقوفة هي التي انعدمت فيها النتيجة لتوقف تنفيذ الفعل بأسباب خارجة عن إرادة الجاني، حيثُ لا يتمكّن هذا الأخير من استنفاذ كلّ نشاطه. كمن يتسلقّ السور ثمّ يمُنع من مواصلة الدّخول إليه لإتمام السرقة أو من يضع البنزين لإحراق البيت أو المحاصيل الزراعية لكن لا يتمكّن من إضرام النيّران بسبب إدراكه ومنعه من طرف شخص آخر.

ب) الجريمة الخائبة 

الجريمة الخائبة هي التي يستنفذ فيها الجاني كُلّ نشاطه الجرمي لكن تتخلفّ النتيجة لسبب خارج عن إرادته، كمن يجمع المسروقات ولا يتمكّن من الخروج بها من المحرز أو من يترصّد ويصوّب المسدّس ويطلق الرّصاص فلا يصُيب الهدف لعدم دقّة التصويب، أو كمن تنطفئ ناره بفعل الريح أو المطر فلا يحترق المخزن الذي ظل يرُيد إحراقه.

من الناحية القانونية لا فرق بين الجريمة الموقوفة والجريمة الخائبة فكلاهما شروع معاقب عليه، فالمادّة 30 تذكر كلا الحالتين بدون تمييز. لكن من الناّحية المعنوية ففي الموقوفة يكون قصد الجاني أقلّ  وضوحا منه في الخائبة.

جـ) الجريمة المستحيلة

ـ هي الجريمة التي لا يمكن أن تتحقق فيها النتيجة الإجرامية. ويثور النقاش والاختلاف لدى الفقه عن الاعتداد بالشروع وعقابه في الجريمة التي تكون نتيجتها مستحيلة الحدوث، كمن يحاولُ إجهاضَ امرأة هي أصلا غيرُ حامل، أو من يطُلق الرصاص على جثة هامدة ،أو من يطعم  شخصا مادّة غير سامّة.

1) المذهب الموضوعي يرى أنه لا عقاب على الشروع في الجريمة المستحيلة سواء لاستحالة الوسيلة أو لاستحالة المحلّ، وذلك بحجّة أن الفعل لم يسبب أي ضرر اجتماعي ولا يمُثلّ تعدّيا على المصلحة المحمية قانونا. كما أنّ البدء في التنفيذ غير مُتوفرّ إذْ لا يستطيع الشخص تنفيذ ما هو مُستحيل.

ومن فقهاء الشريعة الإسلامية يقول بن حزم أنّ من ينوي ارتكاب جريمة ويفعلهاـ ثمُّ يتبينّ أنهّ لا موضِعَ لها، لا يعُدُّ مُجرِما في واقع الأمر، ولكن يكونُ مُستسهلا للإجرام، مُستهينا بالفرائض والفضائل.

2) المذهب الشخصي يعُاقب على الشروع في الجريمة المُستحيلة بكافة صُورها ومهما كان سبب الاستحالة. لأنهّ ليس قائما على النتيجة أصلا، وإنمّا على النية الإجرامية الخطرة.

3) المذهب التوفيقي يميز بين الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية. وبين الإستحالة القانونية والاستحالة المادية.

ـ الاستحالة المطلقة والاستحالة النسبية: ـ في الاستحالة المطلقة لا يعُاقب الشروع، وهي تتصّل بالوسيلة أو بالموضوع، فاستحالة الموضوع تتمثلّ في انعدام موضوع الجريمة، كانعدام الشخص المراد قتله أصلا، أو كونه ميتّا. واستحالة الوسيلة تكون لعدم صلاحية الوسيلة في إحداث النتيجة، كإطلاق الرصاص من سلاح خال من الذخيرة في محاولة القتل، أو من يسُمّم شخصا بمواد غير سامّة. 

ـ الاستحالة النسبية يعُاقب فيها الشروع، وهي أن تتخلّف النتيجة لوجود عائق مادي يحول دون تحققها، وهي التي يكون موضوعها موجودا ولكن في غير المكان الذي يعتقد الجاني وجوده فيه، كإطلاق الرصاص في المكان الذي اعتاد المجني عليه الوقوف فيه. وتكون وسيلتها صالحة لكن الجاني لا يحسن استعمالها مثل عدم انفجار القنبلة لعدم المهارة والدراية بكيفية استعمالها.

ـ الإستحالة القانونية والاستحالة المادية: ـ ترجع الاستحالة القانونية إلى انعدام أحد الأركان القانونية للجريمة ومن ثمّ تنتفي الجريمة وينتفي الشروع فيها، مثل انعدام محلّ الجريمة فلا يعُدُّ شارعا في السرقة من يقوم بالإستلاء على ماله الشخصي، ولا في القتل من يطُلق الرصاص على ميت، ولا في الإجهاض من يحاول إجهاض امرأة غير حامل، ولا في التسميم من ينُاول شخصا مادّة غير سامّة.

ـ تكون الاستحالة المادية بتخلفُ ظرف مادّي يجعل الجاني عاجزا عن تحقيق النتيجة الإجرامية التي يرُيدُها، وهذه الحالة لا تحول دون تحقق الشروع نظرا لتوافر الأركان القانونية اللازمة لقيام الجريمة، مثل استحالة الوسيلة (في ماعدا السّم) لأنّ الوسيلة عادة لا تكون ركنا في الجريمة.

المشرّع الجزائري يأخذ بمعيار التمييز بين الاستحالة المادّية والاستحالة القانونية عندما ينصّ "..حتى ولو لم يمكن بلوغ الهدف بسبب ظرف مادّي يجهله صاحبها". والظرف المادّي قد يتعلق بالوسيلة أو المحلّ. واعتبر الجريمة المُستحيلة مثل الخائبة وعاقب عليها. ولم يعاقب الاستحالة القانونية.

لكن رغم ذلك يخرج المشرّع عن هذه القاعدة ولا يعُاقب على الشروع عند استحالة الوسيلة في جريمة التسميم لأنهّ يشترط أن تكون المواد يمكن أن تؤدي إلى الوفاة عاجلا أو آجلا، "التسميم هو الاعتداء على حياة إنسان بتأثير مواد يمكن أن تؤدي إلى الوفاة عاجلا أو آجلا أيا كان استعمال أو إعطاء هذه المواد ومهما كانت النتائج التي تؤدي إليها" (م 260 ق ع ج). 

بينما عاقب الإستحالة القانونية لانعدام المحل في جريمة الإجهاض في م 304 ق ع ج، بقوله "كُل من أجهض امرأة حاملا أو مفترض حملها .... أو شرع في ذلك يعاقب بالحبس من سنة إلى خمس سنوات...

ثالثا: ركن القصد الجنائي:

يشُترط في العقاب على الشروع أن تتجه إرادة الجاني إلى ارتكاب الجريمة التامّة بكل عناصرها، حيث يهدف الجاني إلى إتيان السلوك وتحقيق نتيجة معينة، وعلى هذا الأساس فالمحاولة تكون دائما جريمة عمدية، ولا تتُصور في الجرائم غير العمدية لأنّ الجاني لا يهدف فيها إلى تحقيق نتيجتها الإجرامية وإنما تتحقق النتيجة بالخطأ. وكذلك لا محاولة في الجرائم المتعدية القصد.

المطلب الثالث: الأفعال المبررة

قد يزول عنصر عدم المشروعية عن الفعل بسبب اقترانه بظروف تبُرِّرُه رغم النصّ على تجريمه ،حيثُ أنّ هناك حالات تبُرّر الفعل وتبُطلُ عنه مفعول نص التجريم تسُمّى أسباب الإباحة.  

الفرع الأوّل: الأحكام العامّة لأسباب الإباحة وأنواعها.

الفرع الثاني: الدفاع الشرعي باعتباره أهم أسباب الإباحة.

الفرع الأول: الأحكام العامة للأفعال المبررة (أسباب الإباحة)

الأفعال المُبرّرة هي جرائم ارتكِبتْ في ظل ظروف تُعفي صاحبها من المسؤولية الجزائية، حيث تسُمّى هذه الظروف بأسباب الإباحة. نبينّ في هذا الفرع أحكامها العامّة من حيث مفهومها وأنواعها.

أوّلا: التعريف بأسباب الإباحة

أ) ماهية أسباب الإباحة:

أسباب الإباحة هي مجموعة من الظروف الموضوعية اللصيقة بالركن المادي للجريمة، تجرِّدُ الواقعة من صفتها الإجرامية وتجعل الفعل مُباحا، وذلك لأنّ القانون ذاته هو الذي سمح بارتكاب هذا الفعل في ظل توفر مثل هذه الظروف، التي تجُرّد الفعل من معنى العدوان وتنفي عنه علةّ التجريم. 

وقد أكّد المشرع هذه الحالات، بنصوص صريحة تنُظم قواعدها، وسمّاها «الأفعال المُبرّرة»، في المادّتين 39 40 من قانون العقوبات في الباب المتعلقّ بالجريمة، ضمن الكتاب الثاني المتعلقّ بالأفعال والأشخاص الخاضعون للجريمة.

ب) الجهل أو الغلط في أسباب الإباحة 

من شروط سبب الإباحة أن يكون موجودا فعلا، بأن يكون الخطرُ حقيقيا في الدفاع الشرعي، ورضاء الضحية غير معيب، وأمر السلطة صحيحا. ولذلك فإنّ الجهل أو الغلط في أسباب الإباحة ينفي الإستفادة منها، فإن كان يؤثر في الركن المعنوي ويحُوّل المسؤولية من العمد إلى الخطأ، فهو لا يؤثر في الركن الشرعي ولا المادّي. فإذا توهمّ الشخص أنّ أسباب الإباحة مُتوفرّة بجميع شروطها في حين أنهّا غير متوفرّة، لا يكون فعله مُبرّرا. كمن يقتل شخصا ظناّ منه أنهّ مصدر خطر أو من يضرب شخصا غريبا دخل في الليل إلى بيته يظنهّ لصّا، ثمُّ يتبينّ أنهّ شخص قريب، أو الضابط الذي يعتقدُ خطأ أنّ أمرا قد صدر إليه من رئيسه بتفتيش بيت أو القبض على شخص. يُسألون عن الجريمة غير العمدية. 

ثانيا: تمييز أسباب الإباحة عن الأنظمة المُشابهة

أ) أسباب الإباحة وموانع المسؤولية:

- موانع المسؤولية الجزائية عبارة عن عوامل داخلية شخصية تتعلق بشخصية الجاني، (صغر السن أو الجنون أو الإكراه) تجعل إرادته غير مُعتبرة قانونا، فموانع المسؤولية الجزائية تؤُثرّ في الركن المعنوي ،ولا تؤثر في الركن الشرعي ولا المادي للجريمة حيثُ يعُبرّ المُشرّع عن أثرها في المواد 47- 49 ق ع بقوله "لا عقوبة.." ينتفي بها العقاب وليس الجريمة، حيثُ يمُكن تطبيق التدابير الاحترازية. بينما أسباب التبرير أو الإباحة تنفي الجريمة تماما عبرّ المُشرّع عن أثرها في المادّتين 39 و40 بقوله "لا جريمة.. ".

- موانع المسؤولية الجزائية لا تنتفي المسؤولية المدنية حيث يلزم الشخص أو مسؤوله المدني بتعويض ما سببته أفعاله من أضرار مادية. بينما في الأفعال المُبرّر تنتفي المسؤولية الجزائية والمدنية.

- تطبيق أسباب الإباحة يستفيد منه كل شخص ساهم في الجريمة، باعتبارها ظروفا لصيقة بالجريمة ،بينما موانع المسؤولية باعتبارها لصيقة بشخصية الجاني، فلا يستفيد منها إلا من توفرت لديه.

ب) أسباب الإباحة عن موانع العقاب: 

موانع العقاب شخصية تتعلق بشخص الجاني، تحول دون توقيع الجزاء على من توفرّت في حقه، ولا تمتد إلى غيره من المساهمين معه في الجريمة، وهي لا تنفي قيام الجريمة ولا تحول دون قيام المسؤولية الجنائية، ولا المسؤولية المدنية. ومثالها الأعذار المُعفية من العقاب في الم 52 ق ع "الأعذار هي حالات مُحدّدة في القانون على سبيل الحصر يترتب عليها مع قيام الجريمة والمسؤولية إما عدم عقاب المتهم إذا كانت أعذارا معفية وإما تخفيف العقوبة إذا كانت مخففة. ومع ذلك يجوز للقاضي في حالة الإعفاء أن يطبق تدابير الأمن على المعفي عنه". 

ثالثا: أنواع أسباب الإباحة:

نظمّ المشرع الأفعال المُبرّرة بالمادّتين 39 40 من قانون العقوبات تحت الباب المتعلقّ بالجريمة ،ضمن الكتاب الثاني المتعلقّ بالأفعال والأشخاص الخاضعون للعقوبة. وهي ثلاثة أسباب للتبرير وهي: 

1ـ ما يأذن به القانون ويسُمّى في تشريعات أخرى مُمارسة الحق.

2ـ ما يأمُر به القانون ويسُمّى في تشريعات أخرى أداء الواجب     

3ـ الدفاع الشرعي.

4ـ كما توجد حالات أخرى للإباحة في بعض الدول وليست مُقرّرة بنصّ عام في التشريع الجزائري ولكن يظُمّ حالات محدودة بنصوص خاصّة وهي: ـ حالة الضرورة ـ ورضاء المجني عليه.

أ) أمر القانون (أداء الواجب القانوني) 

إذا كان السلوك مرتكبا بأمر القانون بمفهومه الواسع، أي التشريع أو التنظيم أو أوامر السلطة الإدارية، فهو لا يخضع للتجريم والعقاب، إذْ يعُتبر سلوكا مُبرّرا ينفي المسؤولية الجزائية والمدنية. 

ومن أمثلته واجب الطبيب وهياكل مؤسسات الصحّة في الإبلاغ عن المرض المُعدي بموجب المادّة 293 من قانون الصحة 18 ـ11، لا يُدانُ عنه بإفشاء السرّ المهني بموجب المادّة 301 ق ع. وكذلك لا يسُأل الموظف المُكلفّ بتنفيذ حكم الإعدام عن جريمة القتل العمد، ولا يسُأل مُدير المؤسسة العقابية عن جريمة احتجاز الأشخاص بدون وجه حق عندما ينفذ الحكم بالسجن، ولا يسُأل الشاهد عن القذف عند شهادته.

ـ ويدخل في تنفيذ القانون تنفيذ الموظف لأوامر الشرعية صادرة عن السلطة الإدارية المُختصّة، حيثُ يشُترطُ أن يكون الأمر مشروعا مُستوفيا للشروط الشكلية والموضوعية التي يتطلبها القانون في الأمر.

ـ إذا كان الموظف يعلم بعدم مشروعية الأمر الصادر إليه ورغم ذلك قام بتنفيذه فإنهّ لا يبُاحُ فعله ويسُأل عن جريمة عمدية لتوافر القصد الجنائي لديه.

ـ إذا كان الموظف لا يعلم بعدم مشروعية الأمر الصادر إليه: لا أثر لهذا الجهل على المسؤولية الجنائية للموظف إذا تعلق بقواعد قانون العقوبات، اذ العلم بها مُفترض عند كل الناس، أمّا اذا تعلق الجهل بقواعد غير قانون العقوبات فإنّ القصد الجنائي ينتفي وتنتفي به المسؤولية.

ـ في جرائم الاعتداء على الحريات تنصّ المادة 107 يعاقب الموظف العمومي بالسجن المؤقت من 5 سنوات إلى 10 سنوات إذا أمر بعمل تحَكُّمي أو ماس سواء بالحرية الشخصية للفرد أو بالحقوق الوطنية لمواطن أو أكثر. ونصّت المادة 108 أنّ مُرتكب الجنايات المنصوص عليها في المادة 107 مسؤول شخصيا مسؤولية مدنية وكذلك الدّولة على أن يكون لها حق الرجوع على الفاعل.

ب) إذن القانون (استعمال الحق) 

إذن القانون هو حقٌّ يقُرّره القانون بمفهومه العام الواسع أي القواعد القانونية والشرعية والعرفية المكتوبة أو غير المكتوبة، بشرط أن يسُتعمل الحق من صاحب الصفة وأن لا يتعَّسَّف في استعماله، ومنه:

1ـ إذن القانون للمواطنين بأن يقبضوا على المتلبس بالجريمة ويقتادوه إلى أقرب مركز شرطة أو درك (الم61 ق إ ج). دون أن يتابعو بجناية القبض على الأشخاص واحتجازهم بالمادّة 291 ق ع.

2 تأديب الصغار بالضرب الخفيف، ممّن له حق التأديب وهو الأب أو الولي، أو من ينوب الأب بمقتضى قانون أو عقد، حيث يستثني نصّ المادّة 269 ق ع في جريمة العنف ضدّ القصٌّر أفعال التأديب بقولها "... فيما عدا الإيذاء الخفيف..".

3ـ استعمال الرخص القانونية: مثل أعمال الجراحة الطبية في حدود قانون أخلاقيات الطبّ، وكذلك العنف الذي يقع خلال مُمارسة الألعاب الرياضية كالمصارعة والملاكمة، في حدود احترام قواعد اللعبة.

جـ) حالة الضرورة

تقوم حالة الضرورة على أساس ارتكاب جريمة تؤدّي إلى التضحية بمصلحة في سبيل صيانة مصلحة أخرى تعلوها من خطر يحُيطُ بها، مثل الطبيب الذي يجُهض الحامل فيضُحي بالجنين في سبيل إنقاذ حياة المرأة. ومن يحُطمّ الأبواب من أجل تقديم النجدة إلى أشخاص تحُيطُ بهم النيران.

ـ القانون الجزائري لا ينصّ على حالة الضرورة كفعل مُبرّر ولكن ينصّ على حالة الضرورة التي تنفي المسؤولية الجنائية ولا تنفي الجريمة وذلك في المادّة 48 " لا عقوبة لمن اضطرته إلى ارتكاب الجريمة قوة لا قبل له بدفعه". وهذه القوة تمُثل خطرا يهُدّد النفس أو المال أو العرض أو الشرف والاعتبار، يكون جسيما ووشيكا، ولا وسيلة لدفعه إلا ارتكاب الجريمة.

ومن أمثلة ذلك المادّة 308 من قانون العقوبات "لا عقوبة على الإجهاض إذا استوجبته ضرورة إنقاذ حياة الأم من الخطر متى أجراه طبيب أو جرّاح في غير خفاء وبعد إبلاغه السلطة الإدارية". وتؤكّد هذا الحكم المادّة 77 من قانون الصحة (القانون رقم 18ـ11) "يهدف الإيقاف العلاجي للحمل إلى حماية صحّة الأم عندما تكون حياتها أو توازنها النفسي والعقلي مُهدّدين بخطر بسبب الحمل".

د) رضاء المجني عليه

ـ الرضاء كسبب إباحة هو تنازل الشخص عن مصلحة له يحميها القانون فيقبل الاعتداء عليها، وهو عادة لا يشمل الجرائم الخطيرة كالقتل والجرح والجرائم الماسّة بالمصالح العامّة عندما تقع على أحد الأفراد.

ـ يجُمع الفقه على عدم اعتبار رضاء المجني عليه من أسباب الإباحة كقاعدة عامّة، لأنّ كل جريمة ولو كانت ضدّ الفرد تمثلّ اعتداءا على المجتمع والمصالح العامّة، ولا يقوى رضاء الضحية على إباحتها ،ولذلك أغلب الدول ومنها الجزائر لا تنصُّ عليه بنص عام، لكن تكتفي بالنصّ عليها في كل جريمة يرى المُشرّع مُبرّرا للإعتداد برضاء المجني عليه فيها.

ـ ويعطي المُشرّع الجنائي أحيانا للرضاء أهمّية خاصّة في الحالات التالية:

ـ حالة اشتراط انعدام الرضاء في عناصر الركن المادّي: كما في دخول منزل مواطن بدون رضاه (الم135 ق ع)، والإغتصاب (الم386 ق ع). حيثُ تنعدم الجريمة إذا كانت هذه الأفعال برضا الضحية.

ـ حالة الرضاء كشرط للإباحة، في الأعمال الطبيّة العلاجية والجراحية بغرض التبرّع بالأعضاء أو زرع الأنسجة يشَترط قانون الصحّة رقم 85-05 التعبير من المتبرّع أمام رئيس المحكمة، زمن المُتلقي أم الطبيب وشاهدين أو كتابيا من قبل نائبه (المواد 360ـ364).

الفرع الثاني: الدفاع الشرعي كفعل من الأفعال المبررة

الدفاع الشرعي في حقيقته فعل غير مشروع لكنهّ يصُبح مشروعا إذا كان هو السبيل الوحيد لحماية النفس والمال من خطر غير مشروع يتهدّده غيره. فما طبيعته وما هي شروطه.  

أوّلا: مفهوم الدفاع الشرعي:

أ) تعريف الدّفاع الشرعي:

ـ الدفاع الشرعي هو حقٌّ يقُرّره القانون لمصلحة الشخص بأن يستعمل القوة اللازمة لردّ الاعتداء غير المشروع الواقع على نفسه أو نفس الغير أو ماله أو مال الغير، وهو حقٌّ مُقرّر في مواجهة الناّس كافة لا يحق رده أو مقاومته.

ـ يسمّى الدفاع الشرعي في الشريعة الإسلامية "دفع الصائل" فالصائل هو المعتدي والمصول عليه هو المعتدى عليه. وأصلهُ في قوله تعالى ﴿ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)﴾ البقرة. 

ـ أساس اَلدفاع الشرعي أنهّ يتوافق مع الفطرة الإنسانية، فليس من المعقول أن يفُرض على الإنسان تحمّل الاعتداءات الواقعة عليه، أو التحليّ بالجُبن وإلزامُه بالهروب من المعتدي وهو قادٌرٌ على رد العدوان بنفسه. خاصّة في الحالات التي يتعذر فيها عليه تبليغ السلطات المختصة في الوقت المناسب،

ب) طبيعة الدّفاع الشرعي:

ـ هناك من يعتبره استعمال حق في مواجهة كافةّ الناّس، لكن لا يقُابله التزام. 

ـ وهناك من يعتبره أداء واجب اجتماعي يفرضه الحرص على صيانة الحقوق وليس واجبا قانونيا يرُتبُ  جزاء لمن يتخلفّ عن أدائه.

ـ وهناك من يعتبره رُخصّة قانونية للمُدافع بردّ الاعتداء عن نفسه وغيره

ـ وفقهاء الشريعة اتفقوا بأنهّ واجب في حالة الاعتداء على العرض، وجائز في حالة الاعتداء على المال، واختلفوا حول طبيعته في حالة الاعتداء على النفس بين الواجب والجائز.

جـ) مجال الدّفاع المشروع:

ـ مجال المادّة 39 ق ع جرائم الاعتداء على النفس والمال: المقصود بجرائم الاعتداء على النفس تلك الماسّة بالحق في الحياة أي القتل، والحق في السلامة الجسدية كالضرب والجرح وما إليهما. وجرائم الاعتداء على الشرف والاعتبار كالقذف والسّب، وجرائم الاعتداء على الحرية كالخطف والحجز العسفي ،والاعتداء على العرض وحرمة الحياة الخاصّة.

والمقصود بجرائم الأموال كل الجرائم الماسّة بالأموال سواء كانت هذه الأخيرة عامّة أو خاصّة كالسرقة والنصب والاختلاس وخيانة الأمانة وحرق الممتلكات...إلخ.

ـ يستبعد أغلب الفقه الدفاع الشرعي من الجرائم غير العمدية ويحصره في الجرائم العمدية.

ـ مجال المادّة 40 ق ع: هو حسب الفقرة 1 ـ تسلقّ الحواجز أو الحيطان أو مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها أثناء الليّل. وحسب الفقرة 2 ـ السرقات أو النهب بالقوّة. 

 ثانيا: شروط الدّفاع المشروع:

في الحالة العادية للدفاع الشرعي (المادّة 39 ق ع ج) تتعلق هذه الشروط بفعل العدوان، وبفعل الدفاع ،وفي حالة الدفاع الممتاز ينبغي توافر ظروفه المذكورة المادّة 40 ق ع ج.

وتحقق شروط الدفاع المشروع هي مسألة تقديرية للقضاة الموضوع يخضعون فيها لرقابة المحكمة العليا يجب على قضاة الموضوع التأكّد منها وتوضيحها في حكمهم. 

أ) شروط فعل الاعتداء: 

لا يمكن لفعل الاعتداء أن يبُرّر فعل الدّفاع إلاّ إذا كان خطرا حالاّ وغير مشروع على النفس والمال.

1) الخطر الغير مشروع: يشكل تهديدا أوبدء بالاعتداء على حق يحميه القانون الجنائي أي يمثل جريمة فلا يكون هذا الفعل مؤسسا قانونا، ولا ينطوي على سبب إباحة، ويكفي فيه أن يكون شروعا أو أعمالا  تحضيرية لجريمة. 

إذن لا يجوز الدفاع الشرعي في مواجهة الفعل المشروع. فمثلا لا يجوز للمُشتبه فيه المأمور بالقبض عليه أن يبُدي مُقاومة عند تنفيذ أمر القبض، إلا إذا تجاوز رجل الشرطة القضائية حدود صلاحيته في القبض أو الإحضار فيقوم بضرب المُشتبه فيه المطلوب قبضه وإحضاره.

وتثور الصعوبة عندما يصدر الاعتداء عن عديم المسؤولية الجزائية كالمجنون أو صغير السن. فهناك من يقول أن موانع المسؤولية لا تنفي الجريمة بل تنفي العقاب فقط، ففعل الاعتداء الصادر من المجنون أو الصغير أو المُكره يظل خطرا غير مشروع يجوز الدفاع ضدّه.

2) الخطر الحال: يجب أن يكون الخطر موجودا وحقيقيا وليس توهما من الفاعل أو من صنع خياله، بل يكون حدوثه أمرا متوقعا ومنتظرا كخطوة تالية مباشرة نصّت عليه المادة 39 بعبارة "الضرورة الحالة" بمعنى أن يكون الخطر في إحدى الحاتين:

ـ أن يكون العدوان مُحْدِقا وعلى وشك الوقوع، يوحي بحتمية بدء العدوان مثل إخراج الخراطيش لتعبئة المسدّس، ولا يعتدّ بالخطر المستقبلي طالما توفرّ فيه الوقت للاستنجاد بالسلطات. لأنّ مآل تحققها أمٌرٌ محتمل الوقوع.

ـ أن يكون الاعتداء قد بدأ ولم ينته بعد، كمن ضرب مرّة وأراد أن يزيد أو سرق أشياء على دفعات، وفي مثل هذه الحالة يظل الخطر قائما ومستمرا طالما لم تتحقق الجريمة كاملة وفي الجرائم المستمرة يظل الخطر حالاّ، والدفاع ضده في أي لحظة دفاعا مشروعا. ولو كان الاعتداء منتهيا بتحقق النتيجة الإجرامية فلا يحق الدفاع لأنه يصير انتقاما وعقابا غير مشروع.

ب) شروط فعل الدّفاع:

يشُترطُ في فعل الدفاع أن يكون لازما، ومُتناسبا مع الاعتداء.

1) شرط اللزّوم: أي أن يكون فعل الدّفاع لزما لردّ لاعتداء وأنهّ لا يمكن درأ الخطر بوسيلة مشروعة أخرى كإمكانية طلب تدخل السلطات، ولا يعُتبر الهروب من الوسائل والحلول البديلة عن الدفاع، لأنّ الدفاع حق لا يمكن الإجبار على التنازل عنه، كما أنّ فيه صفة الجبن وهو فعل مشين وماس بالكرامة الإنسانية. 

بالإضافة إلى ذلك يجب أن يوجه فعل الدّفاع إلى مصدر الخطر والاعتداء. 

2) شرط التناسب: يشُترطُ أن يكون الدفاع بالقدر الضروري لردِّ الاعتداء، دون إفراط أو تجاوز، أي متعادلا ومتكافئا مع جسامة الخطر، حيث يردُّ الاعتداء بأيسر ما يندفع به، فليس للمعتدى عليه أن يدفعه بالكثير إذا كان يندفع بالقليل. لأنّ ممارسة حق الدفاع الشرعي تهدف إلى تمكين المعتدى عليه من درء الخطر المحدق به أو بغيره في ماله أو نفسه، لهذا.

وتقدير التناسب بين فعل الاعتداء والدفاع هي مسألة موضوع يرجع الفصل فيها للقاضي الذي يقُدّر توافر التناسب من عدمه بمراعاة الظروف والملابسات في كل حالة على حدة.

قد تكون خطورة فعل الدفاع تتجاوز خطورة فعل الاعتداء، فالمال يبقى دائما أقل شأنا من الحياة فالدفاع عنه مهما كانت شرعيته لا يمكن أن يصل إلى درجة التضحية بحياة إنسان أو إلحاق أضرار خطيرة جدا غير قابلة للعلاج. وهو ما تؤكّده صراحة المادّة 122/ 2 فقرة 5 من ق ع ف. يجب الأخذ بعين الاعتبار مقدار الضرر أو الوسيلة والحالة النفسية للمدافع وسنهّ وجنسه وقوّته وزمان ومكان الاعتداء، بدليل أنّ المشرّع الجزائري أخذ بهذه المعايير والظروف في المادّة 40 ويبقى ذلك خاضعا لتقدير القاضي. 

واختلف في نصب الكمائن والفخاخ وراء الأبواب وخلف الأسوار ووسط الممرات بقصد قتل المعتدين أو جرحهم، فهو جائز عند البعض مثل محكمة النقض الفرنسية، وغير جائز عند البعض الآخر.

ـ حكم تجاوز حدود الدفاع الشرعي: قد يتجاوز المتهم حدود الدفاع الشرعي ويفُرط في ممارسة حق الدفاع المشروع حينما  يخلُّ بشرط التناسب بين الدفاع والاعتداء. كأن يرُدّ المتهم بالضرب على مجرد التهديد، أو يطعن المعتدي الذي يحمل عصا خفيفة بسكين ويقتله، أو يطلق النار على سارق الثمار من البستان. وحكم تجاوز حدود الدفاع الشرعي يكون بحسب ما إذا كان التجاوز مُتعمّدا أو غير مُتعمّد:

ـ في حالة التجاوز المتعمّد يفقد المتهم حقه في التمسك بالدفاع الشرعي ويسُأل عن جريمة عمدية.

ـ وفي حالة التجاوز غير مُتعمّد فإنّ المتهم يستفيد من التخفيف الوارد بأحكام المواد 277، 278، 283 ق ع ج. حيثُ أنّ المشرع الجزائري عالج حدود الدفاع الشرعي في هذه الحالات مُعالجة خاصة:

ـ المادة 277 "يستفيد مرتكب جرائم القتل والجرح والضرب من الأعذار إذا دفعه إلى ارتكابها وقوع ضرب شديد من أحد الأشخاص".

ـ المادة 278 "يستفيد مرتكب جرائم القتل والجرح والضرب من الأعذار إذا ارتكبها لدفع تسلق أو ثقب أسوار أو حيطان أو تحطيم مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو ملحقاتها إذا حدث ذلك أثناء النهار.  وإذا حدث ذلك أثناء الليل فتطبق أحكام الفقرة الأولى من المادة 40".

ـ المادة 279 "يستفيد مرتكب القتل والجرح والضرب من الأعذار إذا ارتكبها أحد الزوجين على الزوج الآخر أو على شريكه في اللحظة التي يفاجئه فيها في حالة تلبس بالزنا".

ـ المادة 280 "يستفيد مرتكب جناية الخصاء من الأعذار إذا دفعه لارتكابها وقوع هتك عرض بالعنف"

المادة 281 "يستفيد مرتكب الجرح أو الضرب من الأعذار المعفية إذا ارتكبها ضدّ شخص بالغ يفُاجؤ في حالة تلبس بهتك عرض قاصر لم يكمل السادسة عشرة سواء بالعنف أو بغير عنف". 

ـ وحدّدت أحكام التخفيف المادة 283 "إذا ثبت قيام العذر فتخفض العقوبة على الوجه الآتي: 

الحبس من سنة إلى خمس سنوات إذا تعلق الأمر بجناية عقوبتها الإعدام أو السجن المؤبد.

الحبس من ستة أشهر إلى سنتين إذا تعلق الأمر بأية جناية أخرى.

الحبس من شهر إلى ثلاثة أشهر إذا تعلق الأمر بجنحة".

جـ) الحالات الخاصّة الممتازة للدّفاع الشرعي (المادّة 40 ق ع ج):

تتمثلّ هذه الحالات في أفعال دفاعٍ خاصّةٍ ضدّ أفعال اعتداء خاصّة، وتتميز عن الدّفاع المشروع العادي بوجود ظرف الليل أو ظرف القوة والعنف، حيث يعتبر الظرفان قرينة على حالة الدفاع المشروع، فيعفى الشخص من إثباتها بل يكفيه إثبات الظرف فقط، لكن يبقى هذا الأخير قرينة بسيطة تقبل إثبات العكس

إن هذه الحالات لا يشترط فيها لتبرير الفعل توافر الشروط العامّة، خاصة شرط اللزم والتناسب، إذْ أقام المشرع قرينة قانونية على توافر الشروط إذا ارتكب فعل الدفاع في إحدى الحالتين الآتيتين:

الحالة (1) هي أن يكون فعل الإعتداء يتمثلّ في تسلقّ الحواجز أو الحيطان أو مداخل المنازل أو الأماكن المسكونة أو توابعها أو كسر شيء منها أثناء الليّل. حيث يشترط: 1ـ أن يكون التسلقّ أو الكسر متعلقّا بمسكن أو أحد توابعه. 2ـ أن يكون الدخول ليلا. 3ـ أن يكون الدخول بغرض ارتكاب جريمة.

الحالة (2) هي أن يكون فعل الإعتداء يتمثلّ في السرقات أو النهب بالقوّة. وفي هذه الحالة يشترط استعمال القوة في جريمة النهب والسرقة، ولا يشترط الليل.

المبحث الثالث: الركن المعـنوي للجريمة

ـ الركن المعنوي للجريمة هو الكيان المعنوي الذي يمُثلّ العلاقة النفسية بين الجاني ومادّيات الجريمة ،والتي تبُينُّ أنّ الفعل المادّي للجريمة صادٌرٌ عن إرادة إجرامية (آثمة) وأنّ الجريمة لها أصول نفسية تسُيطر على مادّياتها، والمبدأ يقضي بأنهّ "لا جريمة بدون خطأ". فالشخص الذي ارتكب الجريمة يكون قد أخطأ إمّا قاصدا مُتعمّدا عن وعي وإدراك وبنية اقتراف السلوك الإجرامي، وإمّا نتيجة إهمال منه أو رعونة، وذلك بما له من إدراك وتمييز وحرية الاختيار، تؤكّد قدُرته على توجيه إرادته وسلوكه والتمييز بين الخير والشرّ.

ـ وأهميةّ الركن المعنوي تكمن في:

ـ أنّ بهذه الرابطة المعنوية يسند القاضي السلوك الجنائي لفاعله تطبيقا لمبدأ شخصية العقوبة.

ـ أنهّ يكشف عن مدى خطورة شخصية الجاني ويسُاهم في تحقيق أغراض العقوبة المناسبة.

ـ يسُاهم في تحقيق ذاتية القانون الجنائي باعتباره القانون الوحيد الذي يهتم بالجانب النفسي للشخص.

ـ صور الركن المعنوي، الأصل في الجرائم أنهّا تقوم على القصد الجنائي (الخطأ العمدي) بإرادة موجّهة بوعي بنيةّ اقتراف السلوك الإجرامي. واستثناء تكون الجرائم غير عمدية تقـوم علـى الخطـأ (الخطأ غير العمدي)، تتجّه فيه الإرادة لتحقيق الفعل دون النتيجة، قال تعالى .﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (5)﴾ (الأحزاب) ولذلك هناك فرق بين القتل العمد الذي يوجب القصاص والقتل الخطأ الذي يوجب الدية.

ـ وكذلك ميز التشريع الجنائي الجزائري بين الصورتين القصد الجنائي في الجرائم العمدية من جهة، والخطأ في الجرائم غير العمدية من جهة أخرى، فمثلا نصّ على جريمة القتل العمد في المادّة 254 ق ع "القتل هو إزهاق روح إنسان اعمدا". وعاقبت عليها المادّة 254 ق ع بالإعدام. 

ونصّت على القتل الخطأ المادة 288 "كُل من قتل خطأ أو تسببّ في ذلك برعونته أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله أو عدم مراعاته الأنظمة يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة من 1.000 إلى 20.000 دينار".

وعليه يكون تقسيم المبحث إلى مطلبين: 

  • المطلب الأوّل: الركن المعنوي في الجرائم العمدية (القصد الجنائي)
  • المطلب الثاني: الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية (الخطأ)

المطلب الأول: الركن المعنوي في الجرائم العمدية (القصد الجنائي)

يعُرّف القصد الجنائي بأنهّ "اتجاه إرادة الجاني إلى ارتكاب الجريمة مع علمه بعناصرها". أو بأنهّ "إرادة ارتكاب الجريمة كما حدّدها القانون، بتوجيه الفعل إلى إحداث النتيجة الضارّة". 

والمشرّع الجزائري أحيانا يستعمل مصطلح "القصد" كما في المادة 198 "...كُل من أسهم عن قصد، بأيةّ وسيلة كانت، في إصدار أو توزيع أو بيع أو إدخال النقود أو السندات..."  وأحيانا يستعمل مصطلح "العمد" كما في جريمة كسر الأختام عمدا أو الشروع عمدا في كسرها في المادة 155، وجريمة الجرح العمد في المادّة 264...إلخ.

والقصد الجنائي وإن كان مسألة نفسية، إلاّ أنها تتجسّد ويتمّ استخلاصُها من خلال ظروف وملابسات الجرائم، وكذا البواعث الدافعة لارتكابها، والوسائل المستعملة وغيرها من العناصر السابقة، والمعاصرة واللاحقة للجريمة.

الفرع الأول: عناصر القصد الجنائي

لا يقوم القصد الجنائي إلاّ إذا توفرّت عناصره بأن يكون الجاني على علم بأركان الجريمة، وتتجه إرادته إلى النشاط الإجرامي ونتيجته أو قبولها.

أوّلا: عنصر العلم: 

يشُترط لتحققّ القصد الجنائي علم الجاني بالعناصر التي تكُوّن الجريمة وتميزّها عن غيرها من الجرائم. والجهل بأحد هذه العناصر أو الغلط فيها ينفي وجود القصد. لكن هناك عناصر ثانوية أخرى ترتبط بالجريمة لا يؤثر الجهل بها أو الغلط فيها على القصد الجنائي.

أ) العناصر التي يجب العلم بها ويؤثرّ جهلها على قيام القصد الجنائي

1) العلم بموضوع الحق المعتدى عليه، يهدف المُشرّع من وراء تجريم فعل مُعينّ إلى صيانة حق يكون جديرا بالحماية الجنائية، لذا ينبغي أن يكون معلوما لدى الجاني حتىّ يتوفرّ لديه القصد الجنائي، مثل العلم بأنّ المال مملوك للغير في جريمة السرقة 350 ق ع ،والعلم أنّ الشخص حيُّ في جريمة القتل، والعلم بأنّ النقود مزوّرة عند طرحها للتداول المادة 201 ق ع ج.

2) العلم بخطورة الفعل لكي يكون الجاني قاصدا مُتعمّدا ارتكاب الجريمة ينبغي أن يكون عالما بأنّ فعله ينطوي على خطورة وأنهّ يشُكل اعتداء على مصلحة محمية قانونا، فمثلا ينتفي القصد في القتل بالتسميم إن جهل الفاعل أنّ في الطعام الذي قدّمه للضحية سُما، ومن وضع على جسد إنسان مادّة حارقة ضنا منه أنهّا عطر.

3) العلم بالنتيجة الإجرامية: النتيجة الإجرامية هي واقعها مُستقبلية، يكون العلم بها عن طريق التوقعُّ، فيجب أن يتوقعّ الجاني النتيجة الإجرامية كما يقُرّرها القانون في الجرائم ذات النتيجة، مثل أن يتوقعّ الجاني بأنّ نتيجة فعله هي وفاة المجني عليه، فإذا كان الجاني يضرب الضحية مازحا ولا يعلم أنّ هذا الضرب تنجم عنه الوفاة ينتفي قصد القتل، وتنحصر مسؤوليته في قصد الضرب والجرح فقط. 

4) العلم بالزمان والمكان: في بعض الجرائم يشترط القانون علم الجاني بطبيعة المكان أو الزمان، مثل التجمهر في الطريق العمومي (المادّة 97 ق ع)، والسكر العلني في الأماكن العمومية، وترك الأطفال والعاجزين في مكان خالٍ من الناّس (المادّة 314 ق ع)، وبيت الخدمة بالنسبة للخادم السارق (المادّة 253 ق ع) أو السرقة الموصوفة بسبب توفر ظرف الليل مع ظرف آخر (المادّة 353 ق ع). وزمن الحرب في جريمة الخيانة (المادّة 97 ق ع).

5) العلم بالركن الخاص: مثل بعض الصفات المطلوبة في الجاني أو المجني عليه التي يشُترط إحاطة العلم بها، كصفة الموظف في جريمة إهانة موظف أثناء أداء مهامه (الم 144 ق ع) أو جرائم الرشوة واختلاس المال العام في المواد 25و 29 من قانون مُكافحة الفساد.

6) العلم بالظروف المشدّدة المُغيرّة لوصف الجريمة. إذا كان وصف الجريمة مُرتبطا ببعض الظروف المشدّدة، فإنهّ ينبغي العلم بها كي يسُأل الشخص على أساسها. مثل جناية السرقة الموصوفة المقترنة بظرف العنف وحمل سلاح ظاهر عندما يكون الجاني على علم بهذه الظروف، ويسُأل عن جنحة السرقة البسيطة إذا انتفى علمُه بتوفرّها (المادّة 353 ق ع). 

ب) العناصر التي لا يؤثر الجهل بها في قيام القصد الجنائي:

هناك وقائع أخرى لا يتطلبّ القانون العلم بها، قد تكون مُرتبطة بالجريمة لكنهّا ليست أركانا أو عناصر فيها، فالجهل بها لا يؤثر على وجود القصد الجنائي، ويحُاسب على جرائمه على أساس العمد:

1) العلم بالأهلية الجنائية: إذا كان الجاني يجهل أنهّ أهل لتحمّل المسؤولية ويظن مثلا أنهّ دون السن القانونية، أو أنّ له حصانة، أو أنهّ مُصاب بمرض عقلي، وتبينّ أنّ الحقيقة غير ذلك، فهذا الجهل لا يؤثر في قيام القصد ومن ثمّ المسؤولية.

2) العلم بالظروف الشخصية المشدّدة المتعلقة بالجاني كظرف العود، حيث لا يستطيع المتهم أن يتحجّج بنسيانه الإدانة السابقة.

3) العلم بالقانون المُجرّم. العلم بالقانون مُفترض لدى عامّة الناّس لا يجوز الدفع بجهله، حيث تنصّ مُعظم الدساتير ومنها المادّ ة 74 من الدستور الجزائري بأنهّ لا يعُذر بجهل القانون. خاصّة إذا كانت الجريمة من الجرائم المعلومة لدى الناس بالطبيعة وتتنافى مع مبادئ الأخلاق. 

ثانيا: عنصر الإرادة:

يتحقق القصد الجنائي إذا اتجهت الإرادة إلى السلوك الإجرامي ونتيجته بقرار حاسم قرار. 

أ) تعريف الإرادة:

الإرادة هي قوة نفسية توجّه أعضاء الجسم نحو تحقيق غرض مُعينّ، فإذا كان هذا الغرض هو نتيجة إجرامية تكون الإرادة إجرامية. أو هي نشاط نفسي واع ومدرك يسُيطر على السلوك المادّي ويوجّهه نحو هدف تحقيق نتيجة إجرامية في الجرائم ذات النتيجة، وإلى اقتراف الفعل في الجرائم المادّية. ويشُترط في الإرادة إذن أن تكون خالية من العيوب التي قد تنفي التمييز أو حرية الاختيار.

ب) أثر الإرادة المَعيبة بعيب الغلط:

قد تكون الإرادة معيبة بعيب الغلط في أحد عناصر الجريمة أو في محلهّا:

1) الغلط في عناصر الجريمة، إذا كان الغلطُ جوهريا ينصبّ على واقعة تدخل في العناصر المُكوّنة للجريمة أو ظرفا مُشدّدا فإنهّ ينفي القصد الجنائي ،كالغلط في النتيجة إذا اختلفت النتيجتان (الحقيقية والوهمية) في القيمة القانونية، كمن يغلط في حقيبته في المطار لوجود تشابه مع حقائب أخرى فيأخذُ حقيبة غيره، أو من يطُلق رصاصا في الهواء لتفريق التجمهر فيصُيب شخصا كان يقف في شرفة منزله. لا يسُأل عن جريمة عمدية. 

2) الغلط في المحل (موضوع النتيجة) لا ينفي القصد الجنائي كمن يرُيد ارتكاب جريمة قتل على (عمّار) فيقتل شبيهه (كمال) ضناّ منه أنهّ (عمّار). وإذا أطلق الجاني النار على (زيد) فأخطأ الهدف وقتل الشخص الذي كان أمامه (عمرو). فإنهّ يسُأل عن جريمتين هما قتل (عمرو) والشروع في قتل (زيد).

الفرع الثاني: أنواع القصد الجنائي

يقُسّم الفقه الجنائي صور القصد الجنائي إلى عدّة تقسيمات منها القصد العام والقصد الخاص، والقصد المباشر والقصد الاحتمالي، والقصد العادي والقصد مع سبق الإصرار، والقصد المحدود وغير المحدود.

أوّلا: القصد العام والقصد الخاص: 

من حيث الغاية والهدف الذي يسعى إليه الجاني يقُسّم القصد الجنائي إلى قصد عام وقصد خاص:

أ) القصد العام:

هو الغرض الفوري المباشر للجريمة، يتمثل في انصراف إرادة الجاني إلى تنفيذ السلوك وتحقيق النتيجة مع علمه بعناصر الجريمة التي يرتكبها. وهو مطلوب في كل الجرائم، فالقصد في القتل هو إزهاق روح الإنسان، والقصد في السرقة هو الإستلاء على المال المسروق. 

ـ الباعث إلى ارتكاب الجريمة لا يعُتدُّ به في قيام الجريمة لآنهّ ليس رُكنا فيها، ولأنّ الجريمة ليس غاية المجرم بل وسيلته في تحقيق غايته، والعبرة بالغرض المباشر الذي يكون واحدا في المُساهمة الجنائية ولا يتعدّد بتعدّد المُساهمين فكلهّم ينوي مثلا إزهاق الروح ولو تعدّد الباعث لارتكاب الجريمة بتعدّد المُساهمين وهو السبب أو الغاية البعيدة أو الخلفية الكامنة وراء ارتكابها والتي تختلف من شخص لآخر. فقد يكون القتل للإنتقام أو للشفقة أو للشرف أو لتصفية المُنافس أو للحصول على مكافأة مالية، أو لدوافع سياسية أو دينية. 

ـ قد يعُتدُّ بالباعث في التشديد القانوني إذا كان الباعثُ دنيئا: مثل خطف الأشخاص من أجل طلب فدية (الم 293 مُكرّر/2) والقذف بسبب الانتماء إلى مجموعة عرقية أو مذهبية أو إلى دين معين (الم 298/2).

ـ وقد يعُتدُّ به في تخفيف العقوبة إذا كان الباعثُ شريفا مثل مرتكب القتل والجرح والضرب من أحد الزوجين على الزوج الآخر أو على شريكه في اللحظة التي يفاجئه فيها في حالة تلبس بالزنا (الم279 ق ع).

ب) القصد الخاص: 

هو نيةّ مُحدّدة يستلزمها القانون لقيام الجريمة، تنصرف إلى تحقيق غاية مُعينّة أو غرض خاص بالإضافة إلى الغرض العام للجريمة. يشترطه المُشرّع ويجب على القاضي أن يثُبته في حكمه لأنّ الخطورة تكمن في سعي الجاني إلى تحقيق هذا الهدف. فالعلم والإرادة لا يقتصران على أركان وعناصر الجريمة بل يمتدّان بالإضافة إلى ذلك إلى وقائع أخرى ليست من أركان الجريمة. 

وفي حالة تخلفّ هذا القصد المُحدّد، فإنّ الفاعل لا يعاقب من أجل الجريمة الخاصة التي يشترط القانون لارتكابها توافر القصد الخاص وإن كان من الممكن معاقبة الجريمة بقصدها العام.

ـ مثل الغرض الخاص للتزوير في الم 222 ق ع "كل من قلدّ أو زوّر أو زيفّ رخصا أو شهادات أو كتابات أو وثائق تصدرها الإدارات العمومية بغرض إثبات حق أو شخصية أو صفة أو منح إذن.." ومثل غاية الكسر العمدي للأختام في المادة 155 ق ع "...وإذا كان كسر الأختام أو الشروع فيه قد وقع بغرض سرقة أو إتلاف أدلةّ أو أوراق إثبات في إجراءات جزائية فيكون ...".

ثانيا: التقسيمات الأخرى للقصد الجنائي:

أ) القصد المُحدّد والقصد غير المُحدّد: 

معيار التمييز هو موضوع النتيجة الجرمية، ففي القصد المُحدّد تتجّه إرادة الجاني إلى تحقيق نتيجة مُحدّدة مُعينّة بذاتها كما كان يقُدّرها، أمّا في القصد غير المُحدّد فيتميزّ بضعف تحديد النتيجة، حيث يرتكب الشخص الجريمة قاصدا كل ما تحتمله من نتائج دون تحديد أو تقدير مُسبق، مثل الشرطي الذي يطُلق النار على المتظاهرين لا يهمه من أصاب منهم شخصيا لكن يقصد قتل عدد من الأشخاص. والتفرقة شكلية لا قانونية ولا فائدة منها. ففي كلا الحالتين يتوقعّ المجرم النتيجة ويرُيدها.

ب) القصد المباشر والقصد غير المُباشر (الاحتمالي): 

ـ معيارهما توقع النتيجة بين اللزوم والإمكان، فالقصد المُباشر تتجّه فيه الإرادة على نحو يقيني مُسبق إلى الاعتداء على الحق المحمي قانونا، والفاعل يقصد حصول النتيجة بذاتها ويرُيدها ويتوقعّها كأثر حتمي، كما في إزهاق روح شخص من قبل آخر وتعمّد إحداث هذه النتيجة عن طريق استعمال أداة قاتلة كالمسدس الذي صوبه إلى الرأس أو القلب وكان الضحية قريبا منه.

ـ القصد الاحتمالي تكون فيه النتائج المترتبة عن الفعل احتمالية كأثر مُمكن لارتكاب الفعل وليست كأثر لازم وحتمي. أي أنّ حدوثها بالذات لم يكن مقصودا بشكل يقيني، ولكنهّا غير مُستبعدة بالنسبة للجاني فهو يتوقعها ويقبلها، مثل الشخص الذي يقوم بأعمال الضرب أو الجرح ضدّ الغير بصورة متعمّدة، مستعملا عصا حديدية يتوقع مجموعة من النتائج تترتب عن فعله، كإصابة الشخص بكسور، أو موت الشخص، أو إصابته بعاهة مستديمة أو فقدان أحد الأعضاء. أو كمن يضع السم لشخص مع توقعه بأن يأكل معه أشخاص آخرون. فهو يسُأل عن جريمة القتل العمد لوجود القصد الاحتمالي.

ـ قانون العقوبات الجزائري يعُاقب الشخص على قصده الاحتمالي في المادة 271 "إذا نتج عن الضرب أو الجرح أو العنف أو التعدي...فقد أو بتر أحد الأعضاء أو الحرمان من استعماله أو فقد البصر أو أية عاهة مستديمة أخرى فتكون العقوبة السجن المؤقت من 10 سنوات إلى 20 سنة. وإذا نتجت عنها الوفاة بدون قصد إحداثها فتكون العقوبة هي الحد الأقصى للسجن المؤقت..".

جـ) القصد البسيط والقصد المُشدّد بسبق الإصرار: 

ـ عرّفت الم256 ق ع ج سبق الإصرار بأنهّ "عقد العزم قبل ارتكاب الفعل على الاعتداء على شخص معين أو حتى على شخص يتصادف وجوده أو مقابلته وحتى لو كانت هذه النية متوقفة على أي ظرف أو شرط كان "فالقصد بسبق الإصرار هو التفكير الهادئ في الجريمة قبل التصميم عليها ،يتميزّ بمرور زمن بين اتخاذ قرار ارتكاب الجريمة وتنفيذه، وذلك بالتفكير والعزم والإصرار في رويةّ. مثل مرور ساعات من التفكير في أمر الجريمة يعمل فيها الجاني على إعداد العدّة والسير بضعة كيلومترات للوصول إلى الضحية والإعتداء عليه. وهذه النيةّ تدُلّ على الخطورة الإجرامية للشخص.

ـ بينما القصد العادي البسيط (الفوري) يكون تنفيذه فور اتخاذ القرار دون فاصل زمني، مثل المشادّات الكلامية التي تنتهي بجريمة من جرائم العنف، أو من يرى اعتداء على أخيه، فيأخذُ فأسا ويضرب بها المُعتدي فيقضي عليه. وهنا تنشأ النية وقت الواقعة.

المطلب الثاني: الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية

الأصل في الجرائم أنهّا عمدية قائمة على القصد الجنائي، واستثناء يمكن أن تكون غير عمدية قائمة على الخطأ. والفرق بين القصد الجنائي والخطأ هو أنّ في القصد الجنائي تسُيطرُ الإرادة على مادّيات الجريمة وتتجّه لتحقيق النتيجة، بينما في الخطأ فإنّ الجاني يريد الفعل لكن لا يريد النتيجة، وإنمّا يرجع حدوث النتيجة إلى إهمال الجاني وإخلاله بواجب الحيطة والحذر.

الفرع الأول: التعريف بالخطأ (غير العمدي)

ما مفهوم الخطأ غير العمدي؟ وما هو معياره؟ وماهي أنواع الجرائم القائمة على الخطأ غير العمدي؟

أوّلا: مفهوم الخطأ غير العمدي:

أ) تعريف الخطأ غير العمدي: 

يعرف الفقه الخطأ غير العمدي بأنهّ فعل أو ترك إرادي تترتب عليه نتائج ضارّة لم يرُدها الفاعل بطريق مباشر ولا غير مباشر. أو هو تقصير في مسلك الإنسان لا يقع من الرجل العادي الذي تقُاس عليه تصرّفات الفاعل في نفس الظروف. فالجاني في الجريمة غير العمدية لا يرُيد تحقيق النتيجة، ولكنهّ كان في وسعه تجنبها، ولذلك يعُاقب القانون عليها لأنهّا تحدث ضررا اجتماعيا، ولأنّ للجاني فيها إرادة جنائية تتمثل في الإخلال بواجب الحيطة والحذر الذي تتطلبّه الحياة الاجتماعية، وعدم توقع ما كان من اللازم توقعه.

ب) معيار الخطأ غير العمدي: 

معيار الإخلال بواجبات الحيطة والحذر هو معيار شخصي وموضوعي: 

ـ فبالمعيار الشخصي يجب النظر إلى الشخص وظروفه لتحديد إن كان بإمكانه تفادي النتيجة فيعدُّ مخطئا، أو عدم إمكانية تفاديه للنتيجة حسب ظروفه وصفاته فلا يعُدّ مخطئا. 

ـ وبالمعيار الموضوعي يقارن الشخص بشخص آخر متوسط الحذر والاحتياط، فإذا وقع هذا الأخير فيما وقع فيه الأوّل فلا مجال للمساءلة، وإذا استطاع تفادي النتيجة الإجرامية فيعتبر الأوّل مُخطئا.

ثانيا: مجال الخطأ غير العمدي:

أ) أنواع الجرائم التي تحدثُ بالخطأ غير العمدي:

ـ الأصل أن يكون الخطأ غير العمدي في المخالفات مثل المخالفات المنصوص عليها في المواد 460-461 ق ع، مثلا نصّت المادة 460 "..ويجوز أن يعاقب أيضا بالحبس لمدة ثلاثة أيام على الأكثر: 

1ـ كل من أهمل صيانة وإصلاح أو تنظيف الأفران أو المداخن أو المصانع.... ". ونصّت المادّة 462 أنهّ "يجوز أن يعاقب أيضا بالحبس لمدة ثلاثة أيام على الأكثر: 1ـ كل من كان مُلزما بإنارة جزء من طريق عام وأهمل إنارته. 2ـ وكل من أهمل إنارة المواد التي يضعها أو الحفر التي يحدثها في الشوارع...3ـ كل من أهمل تنفيذ اللوائح التنظيمية أو القرارات المتعلقة بالطرق العمومية...5ـ كل من ألقى أو وضع في الطريق العمومي أقذار أو كناسات أو مياه قذرة أو أيةّ مواد أخرى يؤدي سقوطها إلى إحداث ضرر.." ـ الإستثناء قد يكون في الجنح مثل القتل الخطأ والجروح الخطأ (المواد288 و289 ق ع). 

ـ المادّة 288 "كُل من قتل خطأ أو تسبب في ذلك برعونته أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله أو عدم مراعاته الأنظمة. يعُاقب بالحبس من ستة (6) أشهر إلى ثلاث (3) سنوات وبغرامة من 1.000 دج إلى 20.000 دج. ونصّت المادّ " 289 بأنهّ إذا نتج عن الرعونة أو عن عدم الاحتياط إصابة أو جرح أو مرض أدى إلى العجز الكلي عن العمل لمدة تجاوز ثلاثة أشهر.، يعُاقب الجاني بالحبس من شهرين إلى سنتين، و وبغرامة من 1.000 دج إلى 20.000 دج. 

ـ إستثناءا جدّا ونادرا في الجنايات مثلما نصّت عليه المادة 66 ق ع " يعاقب بالسجن المؤقت من 10 سنوات إلى 20 سنة كل حارس وكل أمين بحكم وظيفته أو بحكم صفته على معلومات.... يمكن أن تؤدي معرفتها إلى الكشف عن أسرار الدفاع الوطني يكون قد قام بغير قصد الخيانة أو التجسس بما يأتي:

1ـ إتلافها أو اختلاسها ...2ـ إبلاغها إلى علم شخص... وتكون العقوبة بالسجن المؤقت من 5 سنوات إلى 10 سنوات إذا كان الحارس أو الأمين قد ارتكب الجريمة برعونة أو بغير حيطة أو بعدم تبصر أو بإهمال أو بعدم مراعاة الأنظمة".

ب) عدم اشتراط الخطأ غير العمدي في بعض الجرائم:

1) الجرائم المادّية لا يشُترطُ فيها تواجد الركن المعنوي، وهي التي توجد من الناحية القانونية وتقع تحت طائلة العقاب لمجرّد ارتكاب السلوك المادّي، بصرف النظر عن أي عنصر نفسي أو معنوي، ولو في صورة الخطأ بالإهمال، مثل مُخالفات المرور. والتي تقُام فيها المسؤولية الجزائية بدون خطأ، حيث لا في صورة قصد جنائي ولا في صورة خطأ. بل يكفي القاضي أن يثُبت الفعل لإدانة المُخالف دون الحاجة لإثبات الإهمال أو الرعونة أو عدم الانتباه.

2) الشروع والمساهمة الجنائية يرى الفقه أنّ الشروع والاشتراك في الجريمة لا يتُصوران في الجريمة غير العمدية. أي لا يكون الشروع والمساهمة في الجريمة بالإهمال أو الرعونة أو عدم الاحتياط والانتباه، بل يكون مُتعمّدا وعن قصد.

الفرع الثاني: صور الخطأ (غير العمدي)

هناك صور للخطأ يتفق عليها الفقه والتشريع تمُيزّه عن العمد، وصور فيها الخلاف، بين الخطء العمد.

أوّلا: أنواع الخطأ في الجرائم غير العمدية:

حصر المُشرّع الجزائري صور الخطأ غير العمدي بعض نصوص قانون العقوبات مثل المادّة 288 ق ع وألزم القاضي بإثباتها في حكمه بإدانة المتهم احتراما لمبدأ الشرعية الجنائية. قد تكون في شكل سلوك إيجابي أو في شكل سلوك سلبي: الرعونة والإهمال وعدم الحيطة وعدم الانتباه وعدم مراعاة الأنظمة.

أ) الرّعونة 

هي التصرّف بطيش ولامُبالاة عن نقص في المهارة وسوء تقدير، أوعن جهل بما يلزم العلم به. أو هي القيام بسلوك دون إدراك لخطورته وتوقع نتائجه، مثل من يرمي بحجارة من نافذة منزله لا يبُالي على من وقعت، أو من يقوم بتقليم شجرة في ساحة عمومية فيقع فرع منها على أحد المارّة، وهو ما يسُمّى الرعونة المادية. أو كمن يقوم بتحريك آلة عن جهل بطريقة تشغيلها فيتسببّ في جريمة، أو كخطأ المهندس المعماري في تصميم البناء فيتسببّ في تهدّم البناء وإصابة أشخاص أو وفاتهم، وهو ما يسُمّى الرعونة الفنيّة

ب) عدم الحيطة 

هو قيام الجاني بممارسة بعض الأعمال الخطرة مع نقص الحذر والاحتراز اللازم، رغم علمه وتوقعه لنتائجها، أو هو الإقدام على فعل بطريق الاستخفاف والاستهتار مع إدراك مخاطر الفعل ودون التبّصّر بعواقبه، فعدم الحيطة هو نقص الحذر اللازم للقيام بتصرفات خطرة، مثل قيادة السيارة بسرعة أمام المدرسة، أو توقيفها في مكان ممنوع التوقف فيها. ونوم المرضعة أمام رضيعها ومن ثمّ قتله خنقا بانقلابها عليه، أو من يهدم مباني دون اتخاذ الاحتياطات اللازمة. أو من يطُلق البارود في عرس ويصُيب به شخصا، أو من يلقي سيجارة من نافذة السياّرة في أحد الحقول فيحترق. 

جـ) الإهمال وعدم الانتباه:

عدم اتخاذ الجاني تدابير الواجب العام لقواعد الخبرة الإنسانية تجنبُا لأيةّ نتيجة مُضرّة، فهو موقف سلبي من الجاني بإغفال واجب اتخاذ التدابير اللازمة والوسائل المُناسبة لتفادي وقوع جريمة. 

كمن يحفر حفرة ولا يضع إشارة لوقاية المارّة من السقوط فيها، أو كالأم التي تترك طفلها يلعبُ أمام موقد الغاز فيسقط على الموقد ويصُاب بحروق، حيثُ تدُان الأم بجريمة القتل الخطأ، لأنهّا لم تتوقع موته رغم كونها بإمكانها توقع النتيجة. ومثل مالك الشقة المؤجّرة الذي يهُمل واجب الصيانة وتفقد عيوب العين المؤجّرة ممّا يؤدّي إلى وفاة المُستأجر بتسرّب الغاز أو بتهدّم المبنى. أو مثل عدم قيام حارس ممر السكّة بتنبيه المارّة عن وصول القطار، فيتسببّ بذلك في حادث مُميت يسُأل فيه عن جريمة القتل الخطأ. 

د) عدم مراعاة الأنظمة والقوانين 

هذا الخطأ الخاص مصدره في القوانين المتضمّنة قواعد المهنة أو السلوك والنصوص التنظيمية كالمراسيم والقرارات مثل عدم مراعاة قواعد المرور وظروف تطبيقها، كمن يخالف الإشارة الحمراء فيقع حادث سير، ومخالفات النصوص التنظيمية. أو مثل صدور قرار من رئيس البلدية بهدم مبنى لكونه آيلا للسقوط، ويتراخى المعني بالقرار في تنفيذه.

ثانيا: طبيعة الخطأ في بعض الجرائم بين العمد وعدم العمد؟:

أ) طبيعة الخطأ في الجرائم المتجاوزة القصد أو المشدّدة النتيجة:

1) ماهية الجريمة المتجاوزة القصد والمشدّدة النتيجة: الجريمة المتعدّية القصد أو المُشدّدة النتيجة، هي السلوك المُجرّم الذي يرتكبه الجاني عمدا بقصد تحقيق نتيجة مُعينّة، لكن تتحققّ نتيجة أشدّ من التي كان يقصدها. ومن أمثلتها في التشريع الجزائري جريمة الضرب والجرح العمدي المُفضي إلى الوفاة دون قصد إحداثها الم 264/2، وجريمة الضرب والجرح العمدي المُفضي إلى إحداث عاهة مُستديمة دون قصد إحداثها الم 264/3 وجرائم العنف المُفضية إلى بتر عضو أو عاهة مُستديمة أو وفاة (المواد 265-274 ق ع).

ـ وسواء كانت النتيجة الإجرامية المُشدّدة الغير مقصودة تتعلقّ بنفس المصلحة المُعتدى عليها ومن نفس جنسها مثل الإنسان في الضرب والجرح العمدي المُفضي إلى الوفاة، أو كانت تهدرُ مصلحة مُغايرة عن المصلحة التي كان يرُاد إهدارها، مثل حرق الممتلكات المُفضي إلى عاهة مُستديمة أو وفاة (م399 ق ع).

2) أساس المسؤولية الجزائية في الجريمة المتجاوز القصد والمشدّدة النتيجة:

ـ اعتبرها البعض خطأ غير عمدي، لأنّ الجاني لم يكن يقصد تحقيق النتيجة المُشدّدة. 

ـ واعتبرها البعض قصدا احتماليا ،لأنّ الجاني لا يقصد النتائج المُشدّدة لكن يتوقعها ويقبلها. 

ـ والبعض الآخر اعتبرها مسؤولية جزائية بدون خطأ وبدون ركن معنوي أصلا سواء في صورة قصد جنائي أو خطأ غير عمدي، بل لمجرد الركن المادّي فقط. 

ـ بالنسبة للمُشرّع الجزائري أسّس العقوبة على أساس القصد الإحتمالي، ففي جريمة الضرب والجرح العمدي المُفضي إلى الوفاة دون قصد إحداثها (المادّة 264/2)، لم يعُاقب عليها لا بعقوبة القتل العمد ولا القتل الخطأ، ولا بعقوبة الضرب والجرح العمدي وحدها، بل عاقب الفعل بعقوبة أشدّ من عقوبة الضرب وأخف من عقوبة القتل. وفي جريمة الإجهاض المُفضي إلى الموت المنصوص عليها في المادّة 304 ق ع يفترض من حيث القصد أنهّا جنحة إجهاض عقوبتها الحبس والغرامة. ومن حيث النتيجة أنهّا جناية قتل عمد، وليست جنحة القتل الخطأ. لكن المُشرّع عاقب عليها بجناية إجهاض أفضى إلى الموت بالسجن المؤقت من 10 سنوات إلى 20 سنة.

ب) خطأ الضحية في الجرائم غير العمدية: 

ـ إذا وقع الفعل الضارّ الذي يمكن تكييفه جنائيا بسبب خطأ المجني عليه وحده، فإنّ الفاعل لا يسُأل جنائيا عن النتيجة الجرمية مثل إصابة الضحية بحادث مرور أثناء عبوره الطريق في غير ممرّ الراجلين وبعد الإشارة الخضراء للسيارات، فإنّ سائق السياّرة لا يسُأل جنائيا عن الحادث. 

وهناك استثناء قرّرته المحكمة العليا وهو عدم جواز دفع المسؤولية الجزائية على أساس خطأ المجني عليه في القتل الخطأ أو الجروح الخطأ ضدّ الأطفال في حادث مرور أمام المدرسة، لأنّ الطفل غير قادر على التفكير والتنبؤ بعواقب تصُّرُّفاته، حيث يتحمّل السائق المُتسببّ في الحادث كامل المسؤولية وحده.

ـ إذا وقعت الجريمة بخطأ كل من الجاني والمجني عليه تخُففّ العقوبة وفق السلطة التقديرية للقاضي.

المرجع:

  1. د. فريد روابح، محاضرات في القانون الجنائي العام، موجهة لسنة الثانية لسانس، جامعة محمد لمين دباغين- سطيف، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم الحقوق، الجزائر، السنة الجامعية 2018-2019، ص41 إلى ص103.

google-playkhamsatmostaqltradent