النظريات الفقهية المؤصلة للحق

النظريات الفقهية المؤصلة للحق

النظريات الفقهية المؤصلة للحق

ففيما يخص فكرة وجود الحق من عدمها، وقبل الحديث في موضوع النظريات وما ذهبت إليه في تعريف الحق لابد من البحث في وجود فكرة الحق من عدمها فيما يخص هذا الإشكال المطروح، حيث حاول كل منهم تعريفه حسب انتمائه الفقهي، وان وضع تعريف للحق يحدد مفهومه ويبين جوهره من الصعوبة بمكان، لذا أثار الجدل واحتدام الخلاف بين شراح القانون التقليديين منهم والمحدثين، فتعددت المذاهب بشأن تعريفه فنظر إليه كل اتجاه من زاوية غير التي نظر منها غيره.

وبناءًا على هذا الخلاف تعددت المذاهب القانونية في تعريف الحق، فيرى أنصار المذهب الشخصي أن الحق سلطة وقدرة إرادية يعترف بها القانون للشخص في نطاق معلوم، أما المذهب الموضوعي فيذهب إلى أن الحق هو مصلحة مشروعة يحميها القانون، وأما المذهب المختلط فيرى أنه القدرة الإرادية والمصلحة في نفس الوقت يعترف بها القانون للشخص ويحميها، وهناك النظرية الحديثة وتسمى بنظرية الاستئثار والتسلط  والتي تذهب إلى أن الحق يتضمن الاستئثار والتسلط، وهو استئثار شخص بقيمة معينة طبقاً للقانون، وهذه القيمة إما أن تكون مالية واما أدبية أو معنوية، ولا يكون ذلك الاستئثار حقاً إلا إذا تمتع بالحماية القانونية.

وعليه وفي إطار هذا المبحث تناولت نظرية الشخصية أو الإرادة والنظرية الموضوعية وما وجه لها من نقد في المطلب الأول، ثم تطرقت إلى نظرية المذهب المختلط  ونظرية التسلط والاستئثار وأهم الانتقادات الموجهة لها من نقد في المطلب الثاني. 

المطلب الأول: النظرية الشخصية والنظرية الموضوعية

القانون عبارة عن مجموعة قواعد تنظم سلوك الأشخاص في المجتمع على وجه الإلزام ،وتكون مقترنة بجزاء بقصد فرض احترام الناس لها السلوك الذي يهتم القانون بتنظيمه ويتمثل في العلاقات القانونية بين أفراد المجتمع بعضهم ببعض، أو بينهم وبين الدولة. وتنتج هذه العلاقات القانونية حقوقا للبعض تقابلها واجبات تقع على البعض الآخر، ويتولى للقانون تنظيم هذه الحقوق والواجبات.

لقد نظر أصحاب هذه النظرية في تعريفهم للحق زاوية صاحب الحق فقط واعتبروا إرادته هي العنصر الجوهري وهم أصحاب النظرية الموضوعية، وهذا ما سوف نتطرق إليه في الفرع الأول، ثم تناولت النظرية الموضوعية في الفرع الثاني.  

الفرع الأول: النظرية الشخصية (نظرية الإرادة)

نعرض في هذا الفرع رأي أصحاب هذه النظرية في تعريفهم للحق حيث أعتبرو أن الحق سلطة إرادية، وهذا ما نتناوله أولا، ولكن هذا الرأي تعرض للنقد من قبل الفقهاء وكانت لهم أراء أخرى حول الموضوع وهذا ما تطرقت له ثانيا.  

أولا- عرض النظرية:

يركز أصحاب هذه النظرية على مضمون الحق أو موضوعه حيث نظر القائلون بها ويمثلون أنصار المذهب الفردي أو الشخصي يتزعمهم الفقيه الألماني سافيني (savigny) إلى الحق من زاوية صاحب الحق فقط وأعتبر إرادته هي العنصر الجوهري الذي تميزه عن غيره فعرفوه على أنه "قدرة أو سلطة إرادية خولها القانون لشخص معين". 

فطبقا لهذا التعريف نجد أن القانون هو الذي يقر بالقدرة أو السلطة الإرادية لصاحب الحق على محل الحق فيرسم لها حدودا تعمل في نطاقه، دون أن يقلل من سلطات صاحب الحق على محل الحق قبل الغير، مادام ذلك في حدود القانون فالقاعدة القانونية في تنظيمها لعلاقات الأفراد في المجتمع ترسم لكل فرد حدودا معينة تعمل إرادته في نطاقها مستقلة عن أي إرادة أخرى التي تعمل بدورها في نطاق آخر محدد لها، ومادامت تعمل في حدود هذا النطاق فلها مطلق الحرية في اتخاذ ما تراه مناسبا، فإن صاحب الحق يستطيع أن يتنازل عن حقه وأن يعدله وأن ينهيه، وهذا هو وجه الحق الآخر للسلطة الإرادية الذي يعبر ليس فحسب عن استعمال الحق وانما أيضا عن التصرف فيه.

ثانيا- انتقاد النظرية:

وجهت لنظرية الإرادة عدة انتقادات ومن أهم ما وجه لها من النقد ما يلي:

- أنها ربطت بين نشوء الحق وارادته عندما جعلته قدرة إرادية، أي أن علقت وجود الحق على وجود إرادة، في حين أن الحق قد يكون للشخص حتى دون أن تكون له إرادته، فهناك أشخاص تنعدم إرادتهم كالمجنون والصبي غير المميز والجنين، ومع ذلك فإنه من الثابت أنهم يكسبون حقوقا كحق الإرث وحق النسب، وحق الجنسية وغيرها من مثل هذه الحقوق، ومن ثم فانعدام الإرادة لاستعماله ماديا أو قانونيا لا تنفي وجوده.

- قد يثبت الحق لشخص لديه إرادة ولكن دون علمه به أو دون تدخل إرادته كالغائب والوارث والموصى له الذي قد يوصى له دون علمه إلا وقت وفاة الوصي.

- من المسلم به أن الشخص المعنوي كالشخص الطبيعي يثبت له الحقوق على الرغم من أنه ليس لديه إرادة حقيقية وانما هي إرادة ممثلة في الشخص الطبيعي. 

- تخلط النظرية بين وجود الحق في ذاته ومباشرته، فالحق يوجد دون تدخل من الإرادة ولكن استعماله ومباشرته هو الذي يحتاج إلى وجود الإرادة، الإرادة فالمجنون مثلا تثبت له الحقوق ولا يستطيع مباشرتها لانعدام إرادته ويباشرها عنه غيره.

الفرع الثاني: النظرية الموضوعية

يعتبر أصحاب هذه النظرية في تعريفهم للحق أن الحق مصلحة يحميها القانون، وهذا ما نتناوله أولا، ثم تطرقت للنقد الذي وجه لهذه النظرية ثانيا.  

أولا- مضمون النظرية:

اعتمد أصحاب هذه النظرية وعلى رأسهم الفقيه الألماني إهرنج ihrering في تعريفهم للحق "الحق هو مصلحة مادية أو معنوية يحميها القانون، إذ أن الحق يقوم على عنصرين: الأول موضوعي الحق مصلحة يحميها القانون، الثاني شكلي حماية القانون لتلك المصلحة عن طريق الدعوى القضائية اقتضاء".

- يقصد بالعنصر الموضوعي الغاية أو المنفعة المادية أو المعنوية التي تعود على صاحب الحق، كحق الشخص في ملكيته للمنزل فإنها تقوم بمال، والثانية حقه في حماية حقوق اللصيقة بالشخصية كالحق في السمعة والشرف. 

- ويقصد بالعنصر الشكلي الحماية القانونية المتمثلة في الدعوى القضائية التي يدافع بها صاحب الحق عن حقه.

فجوهر الحق عند أصحاب هذه النظرية هي المصلحة أي الفائدة أو المنفعة التي تعود على الشخص صاحب الحق، فالحقوق توجد دون وجود الإرادة، وان كانت لهذه الأخيرة دوًرا هاما في مباشرتها فيما بعد، فالصبي غير المميز والمجنون لهما حقوق بالرغم من انعدام إرادتهما في اكتساب الحقوق، ولكن لكليهما مصالح يحميها القانون ومباشرة حقوقهما تتم بواسطة ممثليهما القانوني. 

ثانيا- نقد النظرية: 

انتقدت هذه النظرية من عدة وجوه أهمها ما يلي: إن التعريف الذي جاءت به هذه النظرية لم ينصب على مفهوم الحق، وانما على الغاية التي يسعى الشخص الوصول إليها وهي المصلحة، والمصلحة هي الغاية من الحق، وينبغي أن يرد التعريف على الشيء في ذاته المراد تعريفه مبينا ذاتيته وجوهره، والغاية من الحق غير الحق في ذاته وينبغي تعريف الحق بالنظر إلى ذاته بغض النظر عن هدفه، أي البحث عنه في حقيقته وليس في الهدف منه أو أثره.

إذا كان لكل حق مصلحة فليس كل مصلحة تفضي إلى الحق فقد يكون للشخص مصلحة في مسألة ما دون أن تكون له حق ،فلو اشترط مستأجر الدور العلوي لمنزل على المؤجر أن يقوم بإنارة السلم، فلا شك أن ساكني الأدوار العلوية يستفيدون من هذا الشرط، أي من الإنارة فتكون لهم مصلحة غير أنهم لا يملكون حقا في مواجهة هذا الشخص فإذا أوقف هذه الإنارة فلا يستطيعون مقاضاته.

المطلب الثاني: المذهب المختلط  والاستئثار والتسلط

ولتجب النقد الذي وجه للنظرتين في تعريفهم للحق، قال أصحاب المذهب المختلط برأي مخالف وجمعوا بين النظرتين ولكن أنصار هذا الرأي أختلفوا فيما بينهم من حيث تغليب عنصر على أخر وهذا ما تطرقت له في الفرع الأول، وعلى ضوء الانتقادات السابقة اتجه الفقه الحديث إلى محاولة الكشف عن جوهر الحق وبيان خصائصه وهذا ما تناولته من خلال عرض نظرية الاستئثار والتسلط في الفرع الثاني.  

الفرع الأول: نظرية المذهب المختلط

أصحاب هذه النظرية في تعريفهم للحق جمعوا بين تعريف النظريتين السابقتين المذكورتين آنفا، وهم أصحاب المذهب المختلط، وهذا ما سوف نتناوله أولا، ثم نتطرق للنقد الذي وجه لهذه النظرية ثانيا.

أولا- مضمون النظرية:

حاول هذا الاتجاه الجمع والأخد بالنظريتين السابقتين للتوفيق بينهما ولتفادي النقد الموجه إليهما، فأجمع بين الإرادة والمصلحة وبيُن أن الحق إذا كان قدرة أو سلطة إرادية فإنه في الوقت نفسه مصلحة انقسم بعد ذلك فريقين.

الفريق الأول: غلب الإرادة على المصلحة الحق "القدرة الإرادية المعطاة لشخص من الأشخاص في سبيل تحقيق مصلحة يحميها القانون". وعليه يقوم الحق بصفة جوهرية على الإرادة التي تحركها وتحميها المصلحة. 

الفريق الثاني: غلب المصلحة على الإرادة، الحق "مصلحة التي يحميها القانون وتقدم على تحقيقها والدفاع عن قدرة إرادية معينة". وعلى هذا فإن جوهر الحق عند هؤلاء المصلحة وأضيفت لها الارادة تتولها وتدافع عنها. 

فهذه النظرية وفي تعريفها للحق لم يأتي بجديد ولم تضف شيئا في تعريف الحق وانما جمعت الرأيين فقط، فالحق ليس هو إرادة ولا مصلحة، وعليه لم تلق قبولا بين الفقهاء مما جعلها محلا للنقد.

ثانيا- انتقاد النظرية: 

يتضح من خلال ما جاء به أنصار نظرية المذهب المختلط في تعريفهم للحق أنه يتراوح بين الإرادة والمصلحة، أي المزج بين الإرادة والمصلحة ولم يفعل غير ذلك، فقد وجه له نفس ما وجه للتعريفين السابقين من انتقاد من حيث أنهما لم يعرفا الحق ذاته ولم بينا جوهره فالحق ليس الإرادة والمصلحة، كما أنه ليس هو الإرادة والمصلحة معًا، فإن الجمع بين القدرة والمصلحة في تعريف الحق لا يضيف شيئ في الكشف عن جوهر الحق، فأدى إلى تعرض موقفهم بدوره للنقد.

مما استوجب على الفقه الحديث البحث أكثر في جوهر الحق وبيان خصائصه الذاتية المميزة له، وهذا ما سوف نتعرض له في الفقرة الموالية.    

الفرع الثاني: نظرية الاستئثار والتسلط

وعلى خلاف من كل ما ذكر جاءت نظرية الاستئثار والتسلط برأي مخالف وهذا ما تعرضت له أولا، ثم تناولت النقد الذي وجه لهذه النظرية ثانيا.  

أولا- عرض النظرية: 

عرفت هذه النظرية الحق بأنه "ميزة يمنحها القانون لشخص من الأشخاص وبمقتضاها يكون له السلطة على مال معترف له به بصفته مالكا أو مستحقا له ويكون له الحماية القانونية اللازمة" فللشخص صاحب الحق استئثار وتسلط على شيئ معين أو على قيمة معينة بحيث يمنحانه القدرة على التصرف، كما له استعمال الطرق القانونية التي تكفل حمايته.

فعناصر الحق هي الاستئثار والتسلط واحترام الغير للحق وحرمة التعدي عليه والحماية القانونية له، ومن أهم وسائلها الدعوى القضائية، ويقصد بالاستئثار الاختصاص بمال أو قيمة معينة يثبت لصاحب الحق ولو لم تتوافر لديه الإرادة، فالمجنون الذي لا إرادة له قد يختص بمال معين أو قيمة معينة، والاستئثار بالشئ لا يعني الانتفاع به فقد ينتفع الشخص بالشيئ دون أن يستأثر به كالسارق وقد يستأثر الشخص بالشيئ وينتفع به في آن واحد ولكنه لا يعتبر صاحب الاستئثار.

ثانيا- نقد النظرية:

وعلى الرغم من الجوانب الايجابية في هذا التعريف وبالتالي أفضليته عما سبق من التعريفات التي جاء بها الفقهاء، إلا أنه انتقد من حيث أن فكرة التسلط لا تنطوي عليها جميع أنواع الحقوق فإذا كان ذلك واضحًا في الحقوق العينية ففي الحقوق الدائنية لا تسلط للدائن على شخص المدين، وانما له فقط حق مطالبته بالوفاء بما في ذمته له من دين وكذا بالنسبة للحقوق الشخصية الملازمة واللصيقة للشخصية إلا أنه يبق هو الأقرب إلى الواقع.

وعليه ومن خلال ما تم عرضه من تعاريف للحق يتضح مدى صعوبة وضع تعريف للحق يأخذ في الاعتبار الجوانب المختلفة لهذا المصطلح، ومنه يمكن تعريف الحق كما يأتي أي بأنه "الاستئثار الذي يقره القانون لشخص من الأشخاص، ويكون له بمقتضاه إما التسلط على شيئ معين أو اقتضاء أداء معين من شخص آخر".  

هذا التعريف يتميز بأنه يبين جوهر الحق وهو عنصر الاستئثار الذي يقره القانون وهنا تظهر العلاقة بين الحق والقانون لا يوجد حق إلا إذا كان مستندا على القانون الذي يحميه ويعترف به، وهو ما يميز الاستئثار المشروع والغير المشروع كاستئثار والسارق والمغتصب وفكرة الاستئثار الذي يقره القانون والتسلط والاقتضاء توضح علاقة صاحب الحق بالغير ومع احترام الكافة لهذا الحق، أما الدعوى العمومية ففي واقع الأمر ماهي إلا أثر من آثار وجود الحق واستناده إلى القانون.

المرجع:

  1. د. غنيمي طارق، نظرية الحق، مطبوعة مقدمة لطلبة السنة الأولى ليسانس، جامعة أكلي محند أولحاج- البويرة-، كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجزائر ، السنة الجامعية: 2020/2021، ص7 إلى13. 
google-playkhamsatmostaqltradent