الجريمة ضد الإنسانية

الجريمة ضد الإنسانية

الجريمة ضد الإنسانية

يُعد مفهوم الجرائم ضد الإنسانية من المفاهيم الحديثة نسبيا في القانون الدولي الجنائي٬ إذ ورد أول استخدام لهذا المصطلح بعد الحرب العالمية الثانية في نظام محكمة نورنبورغ٬ وذلك نتيجة الفظائع والمجازر التي ارتكبها الألمان ضد الشعوب المعادية للنازية٬ مما أدى ذلك إلى ضرورة وضع نظام قانوني لزجر هذا النوع من الإجرام الدولي كونه يمثل انتهاكا خطيرا لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية.

ما مفهوم الجرائم ضد الإنسانية (الفرع الأول)٬ وما شروط حدوثها حسب النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (الفرع الثاني)٬ وما أركانها (الفرع الثالث).

الفرع الأول: مفهوم الجرائم ضد الإنسانية

عُرفت الجرائم ضد الإنسانية بعدة تعاريف مختلفة سواء من قبل من قبل الفقهاء (أولا) أو المحاكم العسكرية (ثانيا) أو المؤقتة (ثالثا)٬ أو المحكمة الجنائية الدولية (رابعا).

أولا: التعريف الفقهي للجريمة ضد الإنسانية: 

يعرفها الفقيه (Eugen areneau) بأنها: "جريمة دولية من جرائم القانون العام التي بمقتضاها تعتبر دولة ما مجرمة إذا اضرت بسبب الجنس أو التعصب للوطن ولأسباب سياسية أو دينية أو بحياة شخص أو مجموعة من أشخاص أبرياء من أي جريمة من جرائم القانون العام أو بحرياتهم أو بحقوقهم".

نجد أيضا الأستاذ (Lemkin Raphael) يعرفها بأنها: "خطة منظمة لأعمال كثيرة ترمي لهدم الأسس الاجتماعية لحياة جماعة أو جماعات وطنية بقصد القضاء عليها والغرض من هذه الخطة هو هدم النظم الاجتماعية والسياسية والثقافية واللغة والمشاعر الوطنية والدين والكيان الاجتماعي والاقتصادي للجماعات الوطنية٬ والقضاء على الأمن الشخصي والحرية الشخصية وصحة الأشخاص وكرامتهم٬ بل القضاء كذلك على حياة الأفراد المنتمين لهذه الجماعات.

ثانيا: تعريف الجرائم ضد الإنسانية في الأنظمة الأساسية للمحاكم الجنائية العسكرية (محكمتا نورنبورغ وطوكيو): 

ورد مصطلح الجرائم ضد الإنسانية لأول مرة على الصعيد الدولي في المبدأ السادس من مبادئ نورمبورغ٬ فقد ذكر النص بأن الأفعال التي تشكل جرائم ضد الإنسانية تشمل (القتل٬ الإبادة٬ الاسترقاق٬  الترحيل وسواها من الأفعال الإنسانية التي ترتكب ضد أي سكان مدنيين والاضطهاد لأسباب سياسية أو عرقية أو دينية٬ حين تمارس تلك الأعمال أو ذلك الاضطهاد على أثر جناية تدخل في اختصاص المحكمة أو تكون ذات صلة بهذه الجناية٬ سواء شكلت هذه الأفعال خرقا للقانون الداخلي في البلد الذي ارتكبت فيه أم لا٬ ويكون الموجهون والمنظمون والمحرضون أو الشركاء المتدخلون الذين ساهموا بوضع أو تنفيذ مخطط مدروس أو مؤامرة لارتكاب أي فعل من الأفعال المذكورة أعلاه٬ مسؤولون عن كل الأفعال التي يرتكبها أي شخص٬ تنفيذا لهذا المخطط).

أما في ميثاق طوكيو ورد تعريف الجرائم ضد الإنسانية على غرار ميثاق نورمبورغ٬ حيث نصت المادة الخامسة منه على أنه: "إن الجرائم ضد الإنسانية تعني القتل العمد٬ الإبادة٬ الاسترقاق٬ والأفعال اللاإنسانية الأخرى المرتكبة قبل الحرب٬ أو أثنائها٬ أو الاضطهادات لأسباب سياسية أو عرقية٬ تنفيذا لأي جريمة تدخل في اختصاص المحكمة٬ أو بالارتباط بهذه الجريمة سواء كانت هذه الجرائم تشكل انتهاكا للقانون الداخلي للدولة التي ارتكبت فيها أم لا تشكل٬ القواد والمنظمون٬ والمحرضون٬ والمساهمون في صياغة أو تنفيذ خطة عامة أو مؤامرة لارتكاب أي من الجرائم السابقة سوف يعتبرون مسؤولين جنائيا عن كل الأفعال التي ارتكبت من أي شخص تنفيذا لمثل هذه الخطة.

ثالثا: تعريف الجرائم ضد الإنسانية في ظل المحاكم الجنائية المؤقتة (محكمتا يوغسلافيا سابقا ورواندا): 

أهم ما جاء به نظام المحكمة الجنائية المؤقتة السابقة نص المادة الخامسة الذي عرف الجرائم ضد الإنسانية كالتالي "سوف تمارس المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة الاختصاص بمقاضاة الأشخاص المسؤولين عن الجرائم التالية عندما ترتكب في النزاعات المسلحة٬ سواء كانت ذات طبيعة دولية أو داخلية وتكون موجهة ضد أي مجموعة من السكان المدنيين:

- القتل العمد؛

- الإبادة؛

- الاسترقاق؛

- الإبعاد؛

- السجن؛

- التعذيب؛

- الاغتصاب؛

- الاضطهاد لأسباب سياسية٬ عرقية أو دينية؛

- الأفعال اللاإنسانية الأخرى.

نشير إلى أن التعريف الوارد في هذه المادة قد أضافت جريمة التعذيب٬ السجن والاغتصاب التي لم تذكر في التعاريف الواردة في لائحتي نورمبورغ وطوكيو.

عرفت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا الجرائم ضد الإنسانية في المادة (3) كالتالي "سيكون للمحكمة الجنائية الدولية في رواندا الاختصاص بمقاضاة الأشخاص المسؤولين عن الجرائم التالية عندما ترتكب كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد أية مجموعة من السكان المدنيين لأسباب قومية٬ سياسية٬ أثنية٬ عرقية٬ أو دينية؛

- القتل؛

- الإبادة؛

- الاسترقاق؛

- الإبعاد؛

- السجن؛

- التعذيب؛

- الاغتصاب؛

- الاضطهاد لأسباب سياسية٬ عرقية أو دينية؛

- الأفعال اللاإنسانية الأخرى.

يتبين من نص المادة (3) من لائحة رواندا أنه لم يتضمن أي إشارة للنزاع المسلح ويعود ذلك لكون النزاع في رواندا عبارة عن حرب أهلية٬ كما تختص المحكمة بالنظر في الانتهاكات المنصوص عليها بالمادة الثالثة من اتفاقية جنيف لعام 1949 الخاصة بحماية الضحايا وقت الحرب٬ والبروتوكول الإضافي الملحق بهذه الاتفاقية لعام 1977.

رابعا: تعريف الجرائم ضد الإنسانية في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية: 

تباينت الآراء في مؤتمر المفوضين الدبلوماسيين في روما أثناء إعداد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية حول تعريف الجرائم ضد الإنسانية بسبب عدم وجود اتفاق موحد على تعريفها وكان محور الخلاف يتراوح بين رأيين:

- الرأي الأول: أصرّ على الأخذ بتعريف أكثر دقة وتفصيلا ًمن التعريف الذي جاءت به المواثيق السابقة٬ ذلك أن هذه المحكمة سوف تتعامل مع أوضاع محددة٬ واختصاص هذه المحكمة هو اختصاص عالمي بعكس المواثيق الأخرى.

- الرأي الثاني: طالب بتعريف واسع يتضمن تعريفا مفصلا لهذه الجريمة٬ وذلك انعكاساً للتطورات الكبيرة التي حصلت في المجتمع الدولي مؤخرا.

وفي هذا السياق اقترح مؤيدو هذا الرأي الانتظار لحين انتهاء لجنة القانون الدولي من عملها في مشروع مدونة الجرائم المخلة بسلم الإنسانية وأمنها واقتباس التعريف منها وذلك بسبب عدم وجود تعريف محدد للجرائم ضد الإنسانية بموجب المعاهدات.

تم الاتفاق وهذا بعد مناقشات طويلة بين الوفود المشاركة٬ على تعريف الجرائم ضد الإنسانية حيث نصت المادة السابعة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية:

- لغرض هذا النظام الأساسي٬ يشكل أي فعل من الأفعال التالية "جريمة ضد الإنسانية" متى ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي ضد أية مجموعة من السكان المدنيين٬ وعن علم بالهجوم:

أ) القتل العمد؛

ب) الإبادة؛

ج) الاسترقاق؛

د) إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان؛

ه) السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي؛

و) التعذيب؛

ز) الاغتصاب٬ أو الاستعباد الجنسي٬ أو الإكراه على البغاء٬ أو الحمل القسري٬ أو التعقيم القسري٬ أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة

ح) اضطهاد أي جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية؛ أو متعلقة بنوع الجنس على النحو المعرف في الفقرة ٬3 أو لأسباب أخرى من المسلم عالميا بأن القانون الدولي لا يجيزها٬ وذلك فيما يتصل بأي فعل مشار إليه في هذه الفقرة أو بأية جريمة تدخل في اختصاص المحكمة؛

ط) الاختفاء القسري للأشخاص؛

ي) جريمة الفصل العنصري؛

ك) الأفعال اللاإنسانية الأخرى ذات الطابع المماثل التي تتسبب عمدا في معاناة شديدة أو في أذى خطير يلحق بالجسم أو بالصحة العقلية أو البدنية؛

لغرض الفقرة 1:

أ) تعني عبارة "هجوم موجه ضد أي مجموعة من السكان المدنيين" نهجا سلوكيا يتضمن الارتكاب المتكرر للأفعال المشار إليها في الفقرة 1 ضد أية مجموعة من السكان المدنيين٬ عملا بسياسة دولة أو منظمة تقضي بارتكاب هذا الهجوم٬ أو تعزيزا لهذه السياسة؛

ب) تشمل "الإبادة" تعمد فرض أحوال معيشية٬ من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء٬ بقصد إهلاك جزء من السكان؛

ج) يعني "الاسترقاق" ممارسة أي السلطات المترتبة على حق الملكية٬ أو هذه السلطات جميعها٬ على شخص ما٬ بما في ذلك ممارسة هذه السلطات في سبيل الاتجار بالأشخاص٬ ولاسيما النساء والأطفال؛

د) يعني "إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان" نقل الأشخاص المعنيين قسرا من المنطقة التي يوجدون فيها بصفة مشروعة٬ بالطرد أو بأي فعل قسري آخر٬ دون مبررات يسمح بها القانون الدولي؛

ه) يعني "التعذيب" تعمد إلحاق ألم شديد أو معاناة شديدة٬ سواء بدنيا أو عقليا٬ بشخص موجود تحت إشراف المتهم أو سيطرته٬ ولكن لا يشمل التعذيب أي ألم أو معاناة ينجمان فحسب عن عقوبات قانونية أو يكونان جزءا منها أو نتيجة لها؛

و) يعني "الحمل القسري" إكراه المرأة على الحمل قسرا وعلى الولادة غير المشروعة بقصد التأثير على التكوين العرقي لأية مجموعة من السكان أو ارتكاب انتهاكات خطيرة أخرى للقانون الدولي. ولا يجوز بأي حال تفسير هذا التعريف على نحو يمس القوانين الوطنية المتعلقة بالحمل؛

ز) يعني "الاضطهاد" حرمان جماعة من السكان أو مجموع السكان حرمانا متعمدا وشديدا من الحقوق الأساسية بما يخالف القانون الدولي٬ وذلك بسبب هوية الجماعة أو المجموع؛

ح) تعني "جريمة الفصل العنصري" أية أفعال لا إنسانية تماثل في طابعها الأفعال المشار إليها في الفقرة 1 وترتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى٬ وترتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام؛

ط) يعني "الاختفاء القسري للأشخاص" إلقاء القبض على أي أشخاص أو احتجازهم أو اختطافهم من قبل دولة أو منظمة سياسية٬ أو بإذن أو دعم منها لهذا الفعل أو بسكوتها عليه٬ ثم رفضها الإقرار بحرمان هؤلاء الأشخاص من حريتهم أو إعطاء معلومات عن مصيرهم أو عن أماكن وجودهم٬ بهدف حرمانهم من حماية القانون لفترة زمنية طويلة.

3. لغرض هذا النظام الأساسي٬ من المفهوم أن تعبير "نوع الجنس" يشير إلى الجنسين٬ الذكر والأنثى٬ في إطار المجتمع٬ ولا يشير تعبير "نوع الجنس" إلى أي معنى آخر يخالف ذلك.

احتوت هذه المادة على ثلاث فقرات:

الفقرة الأولى: تتضمن تعدادًا للجرائم ضد الإنسانية على نحو ما هو منصوص عليه في المواثيق السابقة٬ وبشكل خاص المواثيق الأساسية لمحكمتي يوغسلافيا السابقة ورواندا مع توضيح للأوضاع التي ترتكب في إطارها الجرائم ضد الإنسانية.

الفقرتان الثانية والثالثة: تناولتا تعريف بعض المصطلحات الموجودة في الفقرة الأولى بناءً على طلب بعض الوفود وأشار بعضها إلى المعايير العامة التي تميّز الجرائم ضد الإنسانية عن الجرائم العادية ذلك منعا لحدوث تداخل بين ولاية هذه المحاكم والمحاكم الوطنية.

أما التطورات التي طرأت على تعريف الجرائم ضد الإنسانية في مؤتمر روما فأهمها:

- وضع هذا التعريف معيرين إذا تحققا فإن أي اعتداء على البشر يعتبر جريمة ضد الإنسانية٬ وهو أن يتم ارتكاب هذه الجريمة ضد السكان المدنيين٬ وأن تكون هذه الاعتداءات جزءا من اعتداءات واسعة النطاق أو منهجية.

- توسّع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية كثيرًا في قائمة الجرائم ضد الإنسانية٬ كما ترك المجال مفتوحًا لإضافة جرائم أخرى٬ وأدى هذا التوسّع إلى إثارة حفيظة بعض الدول المشاركة في المؤتمر فيما يتعلق بتعارض هذه الجرائم مع المعتقدات الدينية أو القانون الوطني لبعض الدول.

- عُرف النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الجرائم ضد الإنسانية ولم يقتصر على تعداد هذه الجرائم كما فعلت المحاكم السابقة٬ فأوضح المقصود بالكثير من المصطلحات الواردة في الفقرة الأولى مثل الإبادة٬ الاستعباد٬ النقل الإجباري للسكان٬ التعذيب٬ الحمل الإجباري والاضطهاد.

الفرع الثاني: شروط حدوث الجرائم ضد الإنسانية

1. أن يرتكب الفعل المجرم في إطار هجوم مسلح ممنهج٬ أو على نطاق واسع والقصد من ذلك أن يكون الاعتداء المشكل للجريمة قد تم بشكل منهجي أي "منظم"٬ أو على نطاق واسع بمعنى أنه قد طال عددا كبيرا من السكان٬ حيث يفسر معيار "التنظيم والمنهجية" على نحو لا تتأتى فيه الجريمة عن فعل منعزل أو عشوائي٬ وإنما ذلك يكون ناتج عن خطة منظمة أو سياسة عامة٬ وهنا تبرز الخاصيتين التي تطبع الجرائم الدولية في عمومها بحيث تشكل هذه الأخيرة جرائم تدخل في إطار العمل الجماعي ولكنها ترتكب عمدا من طرف الفرد٬ الأمر الذي يستتبع مسؤوليته الشخصية في منأى عن مسؤولية الدولة أو المنظمة التي يعمل لحسابها.

عمل فقهاء القضاء الجنائي الدولي على تبيان أهمية العلاقة اللصيقة التي تربط بين العمل الفردي والجريمة الجماعية لاسيما فيما يتعلق بالجرائم ضد الإنسانية التي يتطلب تحقيقها خطة منسقة على نطاق واسع لا يمكن عمليا وماديا أن تجسد إلا من طرف دولة أو كيان يشبهها٬ أما العمل الفردي فإنه وإن ظل مجرما لذاته فإنه لا محالة يندرج في إطار إستراتيجية جماعية أشمل.

يمكن لمعظم الجرائم الواقعة في نطاق تعريف "الجرائم ضد الإنسانية" أن تكون نتيجة لفعل دولة أو سلطة ويتم تنفيذها من خلال فاعلين ذوي سلطة أو غير ذوي سلطة رسمية٬ وعنصر فعل الدولة أو السلطة ليس هو المميز الوحيد للاختصاص القضائي الدولي للجرائم ضد الإنسانية وإنما يجب يتوافر عنصر السياسة٬ وأن يتم الفعل تنفيذا لسياسة دولة سواء تم من قبل فاعلين ذوي سلطة أو غير ذوي سلطة.

2. أن يوجه الفعل ضد أية مجموعة من السكان المدنيين وفي هذا الفرض يستثنى استهداف فئة العسكريين أو القوات المسلحة فهذه الأخيرة لها تنظيمها الخاص والجرائم التي تمسها تدخل في اختصاص جرائم الحرب؛ وهنا تبرز الأهمية الجوهرية للتمييز بين المحاربين وبين سواهم من المدنيين الذين لا يمكن بأي حال أن يشكلوا هدفا للعمليات العسكرية وهم بذلك الموضوع الرئيس للقانون الدولي الإنساني والمشمولين بحمايته٬ وعليه يتمتع السكان المدنيون بحماية خاصة خلال الحروب وهو المبدأ الذي بات من مسلمات القانون والممارسة الدوليين.

3. أن يكون مرتكب الجريمة على علم بأن الهجوم الذي يقوده يشكل جريمة ضد الإنسانية وقد يعتبر هذا الشرط من قبيل الركن المعنوي في الجريمة؛ بحيث لا يتحقق إلا بتوافر نية ارتكاب هذه الجريمة لدى المعتدي وهنا لابد من إثبات أن المتهم قد تحرك عن وعي ودراية كافية بالإطار السياسي العام للجريمة دون اشتراط العلم بالتفاصيل٬ أو كونه قد ساهم في وضع هذه السياسة٬ ودون هذه القدرة لا تكتمل أركان الجريمة ضد الإنسانية.

4 ألا تكون الجريمة موجهة ضد شخص أو جماعة محددة بعينها ويتعلق هذا الشرط بأن الجريمة ضد الإنسانية تقوم -بتضافر الشروط الأخرى- متى كانت تطال أي إنسان أو أية مجموعة كانت دون أن تكون لها صفة مميزة تتعلق بالعرق أو الدين أو الانتماء السياسي أو القومي أو غيرها من الصفات٬ وتلك مميزات قد تنطبق على جريمة الاضطهاد التي بطبيعتها يقتضي تكييفها توافر الأساس التمييزي.

5. عدم ارتباط ارتكاب الجريمة ضد الإنسانية بنزاع مسلح دولي كان  أو غير دولي٬ الملاحظ أن هذه المسألة كانت وراء جدل وتجاذب كبيرين خلال مؤتمر روما حول النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية٬ حيث رأت العديد من الدول ضرورة ربط الجرائم ضد الإنسانية بظرف النزاع المسلح٬ أما البعض الآخر فقد ذهب إلى إقحام فكرة النزاع المسلح الدولي وغير الدولي٬ على أن الطرح الذي استقر عليه التوافق في الأخير هو عدم اشتراط ارتباط الجريمة ضد الإنسانية بنزاع مسلح دولي كان أو غير دولي٬ فالجريمة تقوم لمجرد التئام شروطها وأوصافها بصرف النظر عن الظرف المحيط بارتكابها في السلم أو في الحرب.

الفرع الثالث: أركان الجرائم ضد الإنسانية

تتمثل أركان الجرائم ضد الإنسانية بشكل عام في أربعة أركان هي: الركن المادي (أولا)٬ الركن المعنوي(ثانيا)٬ الركن الشرعي (ثالثا)٬ الركن الدولي (رابعا).

أولا: الركن المادي: 

بتحليل نص المادة (7) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية٬ نستخلص بأن الركن المادي للجرائم ضد الإنسانية يستلزم القيام بأعمال الاعتداء اللاإنساني الصارخ الذي يمس القيم الجوهرية للشخص٬ أو لمجموعة من الأشخاص٬ كالقتل العمد الإبادة الاسترقاق الإبعاد التعذيب ...الخ٬ ونلاحظ أن هذه الجرائم تعاقب عليها القوانين الداخلية وكافة التشريعات.

يجب أن ترتكب أفعال الركن المادي للجرائم ضد الإنسانية -مجموعة الأفعال التي ذكرتها المادة (7) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي وردت على سبيل الحصر- في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي٬ وتجدر الإشارة إلا إن جسامة الفعل تعد شرطا أساسيا لقيام الركن المادي سواء كان واقعا على شخص معين٬ أو مجموعة من الأشخاص٬ والمتعارف عليه أن القانون الجنائي الدولي لا يعترف بجرائم ينعدم فيها الركن المادي٬ وهذا الأخير يمكن أن يكون إيجابيا٬ أو سلبيا.

ثانيا: الركن المعنوي: 

يتمثل في القصد الجنائي الذي يستوجب العلم والإرادة٬ وأن يكون الجاني على دراية بأن ما يقوم به من أعمال وما يقترفه من سلوك مجرم يعاقب عليه القانون٬ ورغم هذا العلم أصر على تحقيق النتيجة الإجرامية.

يشير الركن المعنوي إلى تلك العلاقة النفسية التي تربط بين ماديات الجريمة وشخصية الجاني٬ على أن تكون تلك الأفعال محلا للتجريم حسب القانون٬ وجوهر هذا الركن ينطوي على اتجاه نية الفاعل٬ ولهذا سميت نية ارتكاب الفعل بأنها نية آثمة وهي قوة نفسية تقوم على الإدراك لدى الفرد والتي تدل على نضجه العقلي وعدم معاناته من الاختلالات التي تؤثر على قواه العقلية.

يعتبر الركن المعنوي أساس المسؤولية الجنائية٬ فإذا سقط أحد العنصرين المتلازمان والمتمثلان في الإدراك والاختيار انتقى وجود الركن المعنوي وزالت الجريمة.

لتوضيح أركان الجرائم ضد الإنسانية (خاصة الركنين المادي والمعنوي) تكتفي بالمادة 7 (1) (د): ترحيل السكان أو النقل القسري للسكان الذي يشكل جريمة ضد الإنسانية من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.

1. أن يرحل المتهم أو ينقل قسرا شخصا أو أكثر إلى دولة أخرى أو مكان آخر بالطرد أو بأي فعل قسري آخر لأسباب لا يقرها القانون الدولي.

2. أن يكون الشخص أو الأشخاص المعنيون موجودين بصفة مشروعة في المنطقة التي أبعد أو ثقل منها على هذا النحو.

3. أن يكون مرتكب الجريمة على علم بالظروف الواقعية التي تثبت مشروعية هذا الوجود.

4. أن يرتكب هذا السلوك كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين.

5. أن يعلم مرتكب الجريمة بأن السلوك جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد سكان مدنيين أو أن ينوي أن يكون هذا السلوك جزءا من ذلك الهجوم.

ثالثا: الركن الشرعي: 

هو أن يكون السلوك المرتكب مجرما؛ ولكن مصدر التجريم يختلف عما هو الحال في التشريعات المحلية؛ ففي الأخيرة يكون النص مدونا بينما في الجريمة الدولية لا وجود لمثل هذا الشرط نظرا لعدم وجود سلطة تشريعية من جهة والطبيعية العرفية لقواعد القانون الدولي من جهة أخرى؛ فيكفي لتجريم الفعل وجود قاعدة تجريمية دولية عرفية٬ أو منصوص عليها  في معاهدة دولية؛ فلا جريمة ولا عقوبة إلا بنص؛ وهذا مبدأ هام في القانون الجنائي؛ ونعني بهذه العبارة أنه لا يمكن اعتبار  فعل ما يقترفه الفرد جريمة إلا إذا وجد نص مكتوب يقضي على تجريم ذلك الفعل ومعاقبة مرتكبه.

رابعا: الركن الدولي: 

إن الجريمة ضد الإنسانية هي جريمة دولية بطبيعتها لكون الحقوق التي تم الاعتداء عليها تمس البشرية؛ ويكفي لتوافر الركن الدولي أن تكون الجريمة قد وقعت تنفيذا لخطة مرسومة من جانب الدولة ضد جماعات تربطهم ديانة٬ أو عقيدة موحدة٬ وفي هذه الحالة يمكن أن يكون الجاني أو المجني عليه من نفس الجنسية ومن رعايا نفس الدول.

يشترط لتحقيق الصفة الدولية في الجريمة ضد الإنسانية أن يكون الفعل أو الامتناع عن الفعل المؤدي إليها يمس مصالح المجتمع بأسره و يهدد السلام العالمي٬ ويعطي الركن الدولي للجريمة بعدا خاصا إذ يجعلها تتسم بالخطورة وضخامة النتائج٬ لذا لن تكون وحتى في أبسط صورها إلا جنايات.

تعتبر جريمة دولية لكونها تتعدى على مصالح يحميها القانون الدولي الجنائي٬ وكذلك من حيث اكتساب الفرد للشخصية القانونية٬  لكون الجريمة ضد الإنسانية تمس بأول حق مضمون في الإعلان العالمي  لحقوق الإنسان وهو الحق في الحياة٬ ونستخلص أن الصفة الدولية تتواجد  إذا كان السلوك الإجرامي جسيم وموجه ضد عدد من السكان و الضحايا٬ وارتكابه كان على نطاق واسع  ويشكل  تهديدا  للأمن والسلم الدوليين٬ وهذا ما أخذت به المحكمة الجنائية الدولية عند إضفائها لصفة الدولية  على الأفعال التي تشكل جرائم ضد الإنسانية وهو ما جعلها ذات اختصاص عالمي ولا يمكن أن يتوافر الركن الدولي في حالتين؛ إذا وقعت من رعايا نفس الدولة  أي من وطني على وطني٬ أو جريمة الخيانة.

إن الجرائم ضد الإنسانية من بين أشد الجرائم خطورة ولد يمكن أن يتعرض لها الفرد كونها تترك أثرا جسيما على حياة الشخص خاصة الذي تعرض لها٬ وعلى البشرية عامة٬ وما نستخلصه مما سبق أن الاهتمام الكبير الذي أولاه فقهاء القانون الدولي وشراح القانون الدولي الإنساني لتطوير مفهوم الجرائم ضد الإنسانية يعود لخطورتها وانتشارها في كثير من بلدان العالم وما خلفته من دمار وكوارث أصابت البشرية.

نستنتج أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية هي خلاصة للاتفاقيات الدولية المختلفة المتعلقة بالقانون الجنائي الدولي والقانون الدولي الإنساني وأهم توصل إليه واضعو القانون الدولي الإنساني في تحديد مفهوم دقيق وشامل للجرائم ضد الإنسانية.

تعد قائمة الجرائم ضد الإنسانية في المادة (7) من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية أوسع القوائم التي جاءت على تعريف هذه الجريمة منذ نطاق نورمبورغ٬ وكان لهذا التعريف مساهمة كبيرة في تطوير القانون الجنائي الدولي خاصة أنه كان خلاصة لسنوات طويلة من البحث والدراسة في مجال القانون الجنائي الدولي.

رغم مجهودات المجتمع الدولي للقضاء على هذا النوع من الجرائم وتشديد العقوبة على مرتكبيها إلا أنه تبقى هذه المحاولات غير كافية لوجود عدة عراقيل تتمثل في تدخل بعض الدول الكبرى في قرارات مجلس الأمن وذلك عن طريق حق الفيتو دون مراعاة حماية حقوق الإنسان والحريات٬ وكذلك ردع بعض مرتكبي الجرائم الدولية بصفة عامة والجرائم ضد الإنسانية بصفة خاصة؛ والمثال على ذلك الاستعمال المفرط لحق الفيتو في كل القرارات المتعلقة بجرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين؛ ومؤخرا استعمال كل من روسيا والصين لحق الفيتو ضد كل محاولات  لإصدار قرارات لإدانة الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام السوري.

المرجع:

  1. د. لونيسي علي، محاضرات في مادة الجرائم الدولية، مطبوعة موجهة لطلبة السنة الأولى ماستر، جامعة آكلي محند ولحاج – البويرة- كلية الحقوق والعلوم السياسية، السنة الجامعية: 2019/2020، ص70 إلى ص84. 
google-playkhamsatmostaqltradent