مصادر القاعدة القانونیة

مصادر القاعدة القانونیة

مصادر القاعدة القانونیة

نقصد بمصدر القاعدة القانونیة السبب المنشئ لها في مجتمع معین، إذ أن القاعدة القانونیة لا تنشأ من العدم، بل لا بد من وجود سبب منشئ لها. وتنقسم مصادر القاعدة القانونیة إلى نوعان: مصادر مادیة (موضوعیة) ومصادر رسمیة أو (شكلیة).

- المصادر المادیة وتسمى أیضا بالمصادر الموضوعیة أو غیر المباشرة وهي مجموعة العوامل والمعطیات الاجتماعیة المختلفة التي اقتضت وضع القاعدة القانونیة، وساهمت في تحدید مضمونها، سواء كانت هذه العوامل طبیعیة أو اقتصادیة أو تاریخیة أو اجتماعیة، فكل هذه العوامل التي تسود في المجتمع هي التي تدفع بالمشرع إلى وضع القاعدة القانونیة؛ فمثلا المصدر التاریخي للقانون الجزائري هو الشریعة الإسلامیة والقانون الفرنسي والقانون المصري.

- المصادر الرسمیة وتسمى كذلك بالمصادر الشكلیة وهي الوسائل المعتمدة التي تتحول بواسطتها المواد المستمدة من العوامل المكونة للمصادر المادیة إلى قواعد قانونیة لها صفة الإلزام ذلك أنه یجب أن تصاغ المصادر المادیة صیاغة قانونیة، وهذه الصیاغة هي الوسیلة التي تمثل المصدر الرسمي أو الشكلي.

المبحث الأول: المصادر الرسمیة للقاعدة القانونیة

تنص المادة الأولى من القانون المدني الجزائري على أنه: "یسري القانون على جمیع المسائل التي تتناولها نصوصه في لفظها أو فحواها، واذا لم یوجد نص تشریعي، حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشریعة الإسلامیة، فإذا لم یوجد فبمقتضى العرف، فإذا لم یوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبیعي وقواعد العدالة".

یتضح من خلال هذا النص أن المشرع الجزائري قد قسم مصادر القاعدة القانونیة إلى نوعین رئیسیین كما یلي:

1 - التشریع ویسمى مصدر رسمي أصلي، ویحتل المرتبة الأولى.

2- المصادر غیر التشریعیة ونطلق علیها تسمیة مصادر رسمیة احتیاطیة، وتتمثل في مبادئ الشریعة الإسلامیة وتحتل المرتبة الثانیة بعد التشریع، العرف ویحتل المرتبة الثالثة، مبادئ القانون الطبیعي وقواعد العدالة وتحتل المرتبة الاربعة.

وهناك نوع ثالث من المصادر لم یشر إلیها المشرع رغم ما لها من تأثیر كبیر في مضمون القاعدة القانونیة، وهذه المصادر یطلق علیها تسمیة المصادر التفسیریة وتتمثل في الفقه والقضاء.

المطلب الأول: المصدر الرسمي الأصلي: التشریع La législation

اعتبر نص المادة 1 ق م ج التشریع المصدر الرسمي الأصلي للقانون الجزائري، أما بقیة المصادر فهي مصادر رسمیة احتیاطیة، لا یلجأ إلیها القاضي إلا في الحالات التي لا یوجد فیها نص تشریعي، أما عند توفر النص التشریعي فلا یجوز له أن یحكم بمبادئ الشریعة الإسلامیة أو العرف أو مبادئ القانون الطبیعي وقواعد العدالة.

وبمعنى آخر یتعین على القاضي أن یطبق النص التشریعي قبل أي مصدر آخر،حیث یستوجب علیه اللجوء إلى النص التشریعي أولا لحل ما یعرض علیه من نزاع، فإن لم یجد نصا تشریعیا یطبقه رجع إلى باقي المصادر حسب الترتیب الذي ورد في نص المادة 1 ق م ج، السابق ذكرها.

الفرع الأول: تعریف التشریع وخصائصه

سوف نقوم بتحدید تعریف للتشریع ثم نستخلص منه الخصائص الممیزة للتشریع.

أولا: تعریف التشریع

یقصد بالتشریع في اصطلاح الفقهاء "مجموعة القواعد القانونیة المكتوبة الصادرة عن السلطة المختصة في الدولة لتنظیم علاقات أفراد المجتمع وذلك في حدود اختصاصاتها ووفقا للإجراءات المعینة لذلك".

ویقصد بالتشریع أیضا، وضع قواعد قانونیة في نصوص تنظم العلاقات بین الأفراد في المجتمع بواسطة السلطة المختصة، طبقا للإجراءات المقررة لذلك.

ثانیا: خصائص التشریع

یستخلص من  التعریفین السابقین خصائص التشریع وهي:

1/ إن موضوع التشریع هو قاعدة قانونیة، ومن ثم یجب أن یتضمن التشریع خصائص القاعدة القانونیة، أي أنها قاعدة سلوك اجتماعي، عامة ومجردة وملزمة مصحوبة بجزاء.

2/ یصدر التشریع في وثیقة مكتوبة رسمیة، حیث یصاغ مضمون القاعدة القانونیة التشریعیة صیاغة محكمة یقوم بها أشخاص متخصصین بذلك.

وتحقق هذه الخاصیة للتشریع مزایا عدیدة أعطته مرتبة التفوق بالنسبة للمصادر الأخرى للقانون، نذكر من هذه المزایا:

أ/ سهولة إثبات وجود القاعدة التشریعیة من حیث تاریخ نشأتها ونطاق سریانها من الناحیة الزمنیة، فإذا تقرر إلغاؤها وتعویضها بقاعدة تشریعیة جدیدة فسیكون تاریخ دخول هذه الأخیرة حیز التنفیذ ثابتا ومعروفا.

ب/ یسمح التشریع بمسایرة التطورات والأوضاع في المجتمع وذلك لسهولة وضعه وتعدیله والغائه.

ج/ وضوح القاعدة القانونیة للمخاطبین بها، مما یسهل علیهم التعرف على حقوقهم وواجباتهم وهو ما یحقق الأمن والاستقرار للمعاملات.

3/ یصدر التشریع عن سلطة مختصة: یختلف تحدید السلطة التي تتولى مهمة إصدار التشریع باختلاف الدول والدساتیر، فقد تكون هذه السلطة في ید حاكم مطلق كما في النظم الاستبدادیة، وقد تكون في ید هیئة منتخبة من طرف الشعب، كما في الدول الدیمقراطیة. وبصفة أدق، یخضع تحدید السلطة التي لها حق سن التشریع لظاهرة تدرج التشریعات، إذ یقابل هذا التدرج في التشریع تدرج في السلطات التي تملك وضعه.

الفرع الثاني: أنواع التشریع

جرى الفقه القانوني على تقسیم التشریع بحسب السلطة التي تضعه إلى الأنواع الآتیة: التشریع الأساسي (الدستور)، التشریع الرئیسي (العادي)، والتشریع الفرعي (اللوائح). وتتدرج هذه التشریعات حسب القوة وتتفاوت، تبعا لأهمیة ما تتناوله من مسائل، ویترتب على تدرج التشریعات في القوة وتفاوت درجة قوة كل نوع منها، نتیجة هامة هي وجوب احترام التشریع الأدنى للتشریع الأعلى منه درجة فإذا تعارض تشریعات متفاوتان في القوة وجب تغلیب التشریع الأعلى، وهذا ما یطلق علیه الرقابة على صحة التشریع أو مبدأ دستوریة القوانین. والسلطة التي تتولى الرقابة على دستوریة القوانین في الجزائر هي المجلس الدستوري.

أولا: التشریع الأساسي (الدستور): La constitution

أ/ تعریف التشریع الأساسي: یقصد بالتشریع الأساسي القواعد العامة التي تنظم شكل الدولة والسلطات العامة فیها (التشریعیة، التنفیذیة والقضائیة) واختصاصاتها وعلاقات بعضها بالبعض الآخر، كما تبین الحقوق والواجبات العامة للأفراد والضمانات العامة لحمایتها.

یعد التشریع الأساسي أعلى التشریعات درجة، وقواعده تسمو على جمیع السلطات في الدولة ولا یجوز لأي سلطة إصدار قواعد تتعارض مع قواعده، والا تعرضت للحكم بعدم دستوریتها والغائها.

ب/ سن التشریع الأساسي: عرف المجتمع السیاسي عدة أسالیب لسن التشریع الأساسي، یمكن أن نصف بعضها بأنها طرق غیر دیمقراطیة، ووصف بعضها الآخر بكونها طرق دیمقراطیة.

- الأسالیب الغیر دیمقراطیة لسن التشریع الأساسي: وتتمثل في أسلوبان هما:

1 - منحة من صاحب السلطان المطلق في الدولة لصالح رعیته. ومن أمثلة هذا الأسلوب نذكر دستور فرنسا لسنة 1814، دستور مصر لسنة 1923، ودستور الیابان لسنة 1889.

2 عقد بین الحاكم المطلق وبعض ممثلي الشعب الذین تم اختیارهم بعنایة ومعرفة هذا الحاكم. ویعتبر دستور الكویت الصادر سنة 1962 أهم مثال على الأسلوب.

- الأسالیب الدیمقراطیة لسن التشریع الأساسي: وتتمثل في ثلاثة أسالیب هي:

1- إعداد مشروع الدستور من طرف هیئة غیر منتخبة وطرحه على الاستفتاء الشعبي، وقد تكون هذه الهیئة لجنة خاصة أو فردا أو مجموعة من الأفراد المعینین من جانب السلطة التنفیذیة. وخیر مثال لاستفتاء الشعب على مشروع الدستور تعده هیئة غیر منتخبة، الدساتیر الجزائریة لسنوات 1976 و 1989 و 1996.

2- إعداد مشروع الدستور من طرف جمعیة تأسیسیة منتخبة دون طرحه على الاستفتاء الشعبي، ومن الدساتیر التي وضعت بهذا الأسلوب نذكر الدستوران الفرنسیان لسنتي 1848 و1875، ودستور الولایات المتحدة الأمریكیة لسنة 1778.

3- إعداد مشروع الدستور من طرف جمعیة تأسیسیة منتخبة مع عرضه على الاستفتاء الشعبي، یعد هذا الأسلوب أكثر الأسالیب من غیره استجابة لمقتضبات الدیمقراطیة، إذ یسمح للشعب بالمشاركة في عملیة وضع مشروع الدستور، وذلك عن طریق ممثلیه في الجمعیة التأسیسیة، ویمكنه ثانیا من تصحیح ما قد یكون ممثلوه وقعوا فیه من أخطاء وهم یصوغون قواعد مشروع الدستور. ویعد الدستور الفرنسي الصادر سنة 1946 النموذج الأمثل لهذا الأسلوب.

ج/ أنواع الدساتیر:

تنقسم الدساتیر إلى نوعین: دساتیر عرفیة ودساتیر مكتوبة.

1- الدستور العرفي: هو مجموعة القواعد العرفیة أي غیر المكتوبة، التي تتعلق بممارسة السلطة في الدولة، ویتمیز مضمون هذه القواعد بعدم التحدید وعدم الدقة، ویعتبر الدستور البریطاني خیر مثال على الدستور العرفي.

2-الدستور المكتوب: وهو الدستور الذي تكون قواعده مكتوبة في وثیقة رسمیة، ویعد دستور فرجینیا لسنة 1776 أول دستور مكتوب، وأول دستور فرنسي مكتوب هو ذلك الصادر سنة 1789.

د/ كیفیة تعدیل الدساتیر:

تختلف كیفیة تعدیل الدستور بحسب ما إذا كان الدستور مرنا أو جامدا، وذلك كما یلي:

1- الدستور المرن: یتم تعدیل الدستور المرن بصدور تشریع عادي من السلطة التشریعیة بالإجراءات التي یصدر بها التشریع العادي. ویعتبر الدستور البریطاني دستورا مرنا، بالإضافة إلى دستور الصین، ودستور زیلندا الجدیدة.

2- الدستور الجامد: لا یمكن تعدیل الدستور الجامد إلا بواسطة هیئة مختلفة عن الهیئة التي تقوم بتعدیل التشریع العادي، وبإجراءات وشروط خاصة مختلفة. ویكون دستور الدولة جامدا إذا كانت تعتنق مبدأ تدرج التشریعات، أي مبدأ سمو التشریع الأساسي على غیره من التشریعات. وتعد أغلب دساتیر العالم جامدة، ومنها الدستور الجزائري لسنة 1996.

ثانیا: التشریع العضوي La loi organique

أ/ تعریف التشریع العضوي:

هو مجموعة من القواعد المكتوبة التي تضعها السلطة التشریعیة في الدولة في حدود اختصاصها المبین في الدستور، تتولى هذه القواعد تنظیم الأحكام العامة الواردة في الدستور.

والتشریع العضوي عبارة عن إجراء تشریعي لتكملة قواعد الدستور وادخالها حیز التطبیق، بمعنى آخر یعتبر بمثابة تدابیر تشریعیة لتطبیق أحكام الدستور.

وقد بین الدستور الجزائري لسنة 1996 المعدل في المادة 122 منه المجالات التي تشرع فیها السلطة التشریعیة بتشریع عادي، وحدد في المادة 123 منه المجالات التي تشرع فیها بتشریع عضوي.

ب/ السلطة المختصة بإصدار التشریع العضوي:

یعود الاختصاص في وضع التشریع العضوي للسلطة التشریعیة ( البرلمان) فقط، وذلك على خلاف التشریع العادي الذي قد یصدر عن السلطة التشریعیة كأصل وعن السلطة التنفیذیة كاستثناء.

ج/ مجالات سن التشریع العضوي:

طبقا لنص المادة 141 من دستور سنة 1996 المعدل سنة 2016، فإنه یثبت لبرلمان سن التشریعات العضویة في المجالات الآتیة:

1- تنظیم السلطات العمومیة وعملها مثل القانون العضوي المتعلق بتنظیم غرفتي البرلمان.

2- القانون الأساسي للقضاء والتنظیم القضائي.

3- القانون العضوي المتعلق بالأحزاب السیاسیة.

4- القانون العضوي المتعلق بالإعلام.

5- نظام الانتخابات.

6- القانون العضوي المتعلق بقوانین المالیة.

د/ إجراءات وضع التشریع العضوي:

یخضع وضع التشریع العضوي لنفس إجراءات سن التشریع العادي، تتم المصادقة علیه بالأغلبیة المطلقة لأعضاء المجلس الشعبي الوطني، ولأعضاء مجلس الأمة وذلك طبقا لنص المادة 141/2 من دستور سنة 1996 المعدل سنة 2016.

ویخضع التشریع العضوي لمراقبة مطابقة النص مع الدستور من طرف المجلس الدستوري قبل صدوره ، وهذا على خلاف التشریع العادي (المادة 141/3 من الدستور).

ثالثا: التشریع الرئیسي (العادي) La loi ordinaire

أ/ تعریف التشریع العادي:

یقصد بالتشریع العادي القواعد القانونیة المكتوبة، الصادرة عن السلطة التشریعیة في الدولة في حدود اختصاصها المبین في الدستور.

ب/ السلطة المختصة بوضع التشریع العادي:

یصدر التشریع العادي أصلا عن السلطة التشریعیة في الدولة وهي ممثلة في البرلمان طبقا لنص المادة 98 من دستور1996 التي جاء فیها ما یلي: "یمارس السلطة التشریعیة برلمان یتكون من غرفتین وهما المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، وله السیادة في إعداد القانون والتصویت علیه".

إلا أنه استثناء یحق لرئیس الجمهوریة أن یشرع بأوامر  Ordonnances في حالات محددة في الدستور وهي:

1- خلال العطل البرلمانیة، طبقا لنص المادة 142 من دستور 1996 المعدل سنة 2016، ویعرض رئیس الجمهوریة الأوامر التي سنها على كل غرفة في البرلمان في أول دورة له لتوافق علیها، وتعد لاغیة الأوامر التي لا یوافق علیه البرلمان.

2- في الحالة الاستثنائیة، المذكورة بنص المادة 107 من الدستور حینما تكون البلاد مهددة بخطر داهم یوشك أن یصیب مؤسساتها الدستوریة أو استقلالها أو سلامة ترابها.

3- في حالة عدم مصادقة البرلمان على مشروع قانون المالیة (الذي قدمته الحكومة) خلال أجل 75 یوما، وذلك طبقا لنص المادة 138/7 من دستور 1996 المعدل سنة 2016.

ج/ مراحل سن التشریع العادي:

تنحصر مراحل سن التشریع العادي في ثلاثة مراحل هي:

1- مرحلة المبادرة بالتشریع: لا ینشأ القانون من العدم بل لا بد من هیئة تقدمه حتى تتم مناقشته والمصادقة علیه، سواء كانت هذه الهیئة ممثلة في السلطة التشریعیة أو التنفیذیة. فیحق لكل من الوزیر الأول ونواب البرلمان المبادرة بالقوانین، حیث یقدم الوزیر الأول (عن طریق وزرائه) مشروع التشریع (Projet de loi ) الذي تعده اللجان الفنیة في الوزارات المختلفة. كما یمكن أن یقدم 20 نائبا على الأقل من البرلمان اقتراح التشریع (Proposition de loi ).

2- مرحلة الدراسة والفحص: یعرض كل من مشروع أو اقتراح التشریع على لجنة مختصة بالمجلس الشعبي الوطني التي تقوم بفحص محتواه وتقدیم تقریر حوله للمجلس فیما إذا كان صالحا للمناقشة أم لا. 

3- مرحلة المناقشة والتصویت: یناقش مشروع أو اقتراح التشریع وجوبیا من طرف المجلس الشعبي الوطني ثم مجلس الأمة حتى تتم المصادقة علیه من طرف المجلسین، ویصوت المجلس الشعبي الوطني علیه بالأغلبیة المطلقة لأعضائه الحاضرین منهم (النصف زائد صوت واحد)، ثم یصوت علیه مجلس الأمة بأغلبیة ثلاثة أرباع ¾ أعضائه الحاضرین منهم والغائبین.

اعتراض أو موافقة رئیس الجمهوریة على مشروع أو اقتراح التشریع:

بعد مصادقة المجلسین على مشروع أو اقتراح التشریع، یعرض على رئیس الجمهوریة الذي یحق له الاعتراض علیه خلال مدة 30 یوما من تاریخ تسلمه، فإن لم یعترض علیه اعتبر قانونا ووجب إصداره، أما إذا اعترض علیه یعاد إلى البرلمان لمناقشته من جدید والتصویت علیه بأغلبیة ثلثي2/3 أعضائه الحاضرین.

د/ مراحل نفاذ التشریع:

یصیر التشریع نافذا في حق المخاطبین بأحكامه بعد مروره بمرحلتین هما:

1- مرحلة الإصدارLa promulgation: بعد مرور التشریع بكل مراحل سنه، یقوم رئیس الجمهوریة بإصداره، بمعنى یقوم بإصدار أمر إلى السلطة التنفیذیة یخطرها عن سن تشریع جدید، ویأمرهم بوضعه محل التنفیذ، كقانون من قوانین الدولة.

ویعد الإصدار بمثابة شهادة میلاد لهذا التشریع، ورئیس الجمهوریة فقط من یملك حق إصدار القانون طبقا لنص المادة 144 من دستور 1996 المعدل سنة 2016.

2- مرحلة النشرLa publication: ینشر القانون في آخر مرحلة في الجریدة الرسمیة للجمهوریة، بهدف إعلام الناس بصدور قانون جدید، ذلك أنه لا تكلیف إلا بمعلوم، وأن العدل یقتضي تمكینهم من العلم به قبل أن یطبق علیهم. ووسیلة نشر القوانین المعتمدة في الجزائر هي الجریدة الرسمیةLe journal officiel، طبقا للمادة 4 ق م ج التي تنص على: "تطبق القوانین في تراب الجمهوریة الدیمقراطیة الشعبیة ابتداء من یوم نشرها في الجریدة الرسمیة".

میعاد نفاذ التشریع بعد نشره:

لا یصبح التشریع ملزما للأشخاص المخاطبین بأحكامه من تاریخ نشره في الجریدة الرسمیة بل ینفذ في حق الأشخاص بعد فوات مدة أو وقت معلوم من تاریخ النشر، ویختلف هذا الوقت من منطقة لأخرى من مناطق الوطن، كما یلي: طبقا لنص المادة 4 ق م ج یكون القانون نافذ المفعول (یطبق على الأشخاص أي یكون ملزما لهم) بالجزائر العاصمة بعد مضي یوم كامل من تاریخ نشره في الجریدة الرسمیة، أما في النواحي الأخرى في نطاق كل دائرة، بعد مضي یوم كامل من تاریخ وصول الجریدة إلى مقر الدائرة ویشهد على ذلك التاریخ ختم الدائرة الموضوع على الجریدة.

رابعا: التشریع الفرعي (اللوائح) Les règlements

تختص السلطة التنفیذیة في الدولة بسن القوانین في الحدود التي خولها لها الدستور، یطلق على هذه القوانین تسمیة التشریع الفرعي، أو اللوائح أو التنظیمات.

أ/ تعریف التشریع الفرعي:

هو مجموعة من القواعد القانونیة العامة والمجردة التي تختص السلطة التنفیذیة بسنها، ویسمیها الدستور التنظیمات. واختصاص السلطة التنفیذیة بوضع التشریع الفرعي هو اختصاص أصیل مخول لها بحكم الدستور، تمارسه حتى مع وجود السلطة التشریعیة.

ب/ أنواع التشریع الفرعي:

ینقسم التشریع الفرعي أو اللوائح إلى ثلاثة أنواع هي:

1- اللوائح التنفیذیة  Les règlements d’application ou d’exécution

هي القواعد التفصیلیة التي تضعها السلطة التنفیذیة لتنفیذ التشریع الصادر من السلطة التشریعیة، ذلك أن السلطة التنفیذیة تقوم بوضع القواعد التفصیلیة من أجل تطبیق وتنفیذ التشریع الصادر عن السلطة التشریعیة، نطلق على هذه القواعد التفصیلیة تسمیة اللوائح التنفیذیة. ویجب ألا تتضمن هذه اللوائح إلغاء أو تعدیلا لقواعد التشریع العادي.

2- اللوائح التنظیمیة Les règlements d’organisation

هي مجموع القواعد القانونیة التي تضعها السلطة التنفیذیة ویكون الهدف منها هو ضمان تنظیم المصالح والمرافق العامة للدولة، طالما هي التي تسهر على إدارة وتسییر هذه المارفق. والسلطة التنفیذیة تستقل بسن اللوائح التنظیمیة ولا تتقید بأي تشریع صادر عن السلطة التشریعیة تعمل على تنفیذه، ولذلك یطلق على اللوائح التنظیمیة تسمیة اللوائح المستقلة.

3- لوائح الضبط أو البولیس Les règlements de polic

هي جمیع القواعد التي تضعها السلطة التنفیذیة للمحافظة على الأمن وتوفیر السكینة والطمأنینة وحمایة الصحة العامة في الدولة، منها: اللوائح المنظمة للمحلات المقلقة للراحة أو المضرة بالصحة، اللوائح الخاصة بمراقبة الأغذیة والباعة المتجولین، اللوائح المتعلقة بمنع انتشار الأوبئة، اللوائح المنظمة للمرور.

المطلب الثاني: المصادر الرسمیة الاحتیاطیة

المصادر الرسمیة الاحتیاطیة للقانون الجزائري طبقا لنص المادة 1 ق م ج هي: "مبادئ الشریعة الإسلامیة والعرف ومبادئ القانون الطبیعي وقواعد العدالة. فالقاضي عندما یعرض نزاع أمامه، ولا یجد حكم أو حل في التشریع، یرجع إلى المصادر الاحتیاطیة المذكورة بنص المادة السابقة، وعلیه أن یتقید بترتیبها، فلیس له أن ینتقل من المصدر الأول إلى الثاني إلا إذا لم یتوصل إلى الحكم الذي ینشده في ذلك المصدر.

الفرع الأول: مبادئ الشریعة الإسلامیة

سمیت هذه المبادئ بالشریعة لأنها مستقیمة لا انحراف فیها عن الطریق المستقیم، أما إضافة صفة إسلامیة لها فهذا نسبة إلى الدین الإسلامي الذي یستعمل في الاصطلاح الشرعي بمعنى الانقیاد لأوامر ﷲ والتسلیم بقضائه وأحكامه. فما هو المقصود بمبادئ الشریعة الإسلامیة؟

أولا: تعریف مبادئ الشریعة الإسلامیة

تطلق الشریعة الإسلامیة على الأحكام التي شرعها اﷲ سبحانه وتعالى لعباده، على لسان رسوله محمد صلى اﷲ علیه وسلم، سواء كانت بالقرآن أم بسنة الرسول من قول أو فعل أو تقریر. وتنقسم الشریعة الإسلامیة إلى الأحكام الاعتقادیة، الأحكام الأخلاقیة والسلوكیة والى الأحكام العملیة.

ثانیا: أقسام الشریعة الإسلامیة

تنقسم الشریعة الإسلامیة إلى ثلاثة أقسام هي:

1- الأحكام الإعتقادیة: وهي تلك الأحكام المتعلقة بالعقائد الإسلامیة، كالأحكام المتعلقة بالخالق والخلق والكون، وتلك المتعلقة بذات اﷲ وصفاته والإیمان به وبرسله وملائكته، وبالیوم الآخر، وكذا بالحساب والعقاب وغیرها.

2- الأحكام الأخلاقیة والسلوكیة: وتشمل كل من الأمور المتعلقة بتهذیب النصوص واصلاحها والفضائل والمكارم، والرذائل والنهي عنها.

3- الأحكام العملیة: تشمل الأحكام المتعلقة بحیاة الإنسان وعلاقاته ومعاملاته مع الآخرین وهي تتعلق بالعبادات والمعاملات وأحكام الأسرة والعلاقات المالیة والمدنیة والتجاریة، وكذا المنازعات والعقوبات وكل ما یتعلق بالحكم بالدولة. وتهتم بأعمال الناس وتنظیم علاقتهم بخالقهم كأحكام الصلاة والصوم والزكاة والحج.

ثالثا: مصادر الشریعة الإسلامیة

یصنف علماء الشریعة مصادر الشریعة الإسلامیة إلى نوعین: مصادر أصلیة أو أساسیة ومصادر تبعیة.

1- المصادر الأصلیة: وقد اتفق العلماء على أن تكون هي: القرآن الكریم والسنة النبویة والإجماع والقیاس.

2- المصادر التبعیة: أباحت الشریعة الإسلامیة للمجتهدین، إن لم یوجد نص شرعي في المصادر الأصلیة اللجوء إلى المصادر التبعیة الآتیة: الاستحسان، الاستصلاح أو المصالح المرسلة، العرف، الاستصحاب، سد الذرائع، مذهب الصحابي، شرع من قبلنا والاستقراء.

رابعا: خصائص الشریعة الإسلامیة

تتمیز الشریعة الإسلامیة بخصائص تجعلها ترقى إلى درجات العظمة والكمال لا یرقى لها أي قانون وضعي، تتمثل هذه الخصائص فیما یلي:

1- الربانیة: مصدر الشریعة الإسلامیة اﷲ تعالى، تهدف أحكامها إلى ربط الناس بخالقهم فیتوجب على المؤمن العمل بمقتضاها. ونتج عن هذه الخاصیة نتائج هي:

أ/ خلو أحكام الشریعة الإسلامیة من أي نقص لأن شارعها هو اﷲ تعالى صاحب الكمال المطلق.

ب/ عصمتها من معاني الجور والظلم تأسیسا على عدل اﷲ المطلق.

ج/ قدسیة أحكامها عند المؤمن إذ یجد في نفسه القدسیة والهبة تجاهها.

2- الجمع بین الجزاء الدنیوي والأخروي.

3- الجمع بین الثبات والمرونة: یتجلى الثبات في أصولها وكلیاتها وقطعیاتها، وتتجلى المرونة في فروعها وجزئیاتها. فالثبات یمنعها من المیوعة في غیرها من الشرائع، والمرونة تجعلها تستجیب لكل مستجدات العصر من ظروف وما یتطور من أحوال، فكانت عقیدة، وشریعة ودینا ودولة وحكما ومنهاجا.

4- الموازنة بین مصالح الفرد والجماعة: فالشریعة توازن بین مصالح الفرد والجماعة فلا تمیل إلى الجماعة على حساب مصالح الفرد، ولا تقدس الفرد على حساب مصالح الجماعة.

خامسا: مرتبة مبادئ الشریعة الإسلامیة ضمن مصادر القانون الجزائري

تعد مبادئ الشریعة الإسلامیة المصدر الاحتیاطي الرسمي الأول، تأتي بعد التشریع مباشرة في ترتیب مصادر القانون الجزائري، یلجأ القاضي إلیها في حالة عدم وجود نص في التشریع، یمكن تطبیقه على النزاع المعروض علیه، حیث یرجع القاضي في هذه الحالة إلى أحكام الشریعة الإسلامیة لإیجاد الحل فیها، باعتبارها المصدر الاحتیاطي الأول للقانون، حسب ما جاء بنص المادة 1 ق م ج.

ویرجع القاضي سواء للأحكام التي تتعلق بالأحوال الشخصیة (تكوین الأسرة ونظامها من زواج وطلاق ونفقة وحضانة ومیراث)، أو للأحكام التي تتعلق بالأحوال العینیة (الأموال والتصرف فیها من بیع وایجار ورهن وغیرها). ونلاحظ أن المشرع أفرد  للنصوص الخاصة بأحكام الأحوال الشخصیة تقنینا سماه تقنین الأسرة الصادر سنة 1984، ویعتبر كله تقریبا مقتبس من الشریعة الإسلامیة، أما أحكام مسائل الأحوال العینیة فقد تضمنها التقنین المدني.

وعلیه فإن مبادئ الشریعة الإسلامیة تعد مصدار احتیاطیا أول في كل من الأحوال الشخصیة والأحوال العینیة، لا یرجع إلیها القاضي إلا في حالة نقص في التشریع، وحتى في حالة الرجوع إلیها یراعي القاضي عدم مخالفتها لأحكام التشریع.

الفرع الثاني: العرف

العرف هو عادات عامة ملزمة تنظم سلوك الأشخاص في المجتمع، ویعتبر المصدر الاحتیاطي الثاني للقانون الجزائري، بعد مبادئ الشریعة الإسلامیة، فما هو تعریف العرف وما هي أركانه؟

أولا: تعریف العرف

العرف هو استمرار الناس على اتباع سلوك معین في العمل مع اعتقادهم أنه ملزم لهم ولا یمكنهم مخالفته  كما یعتبر العرف عادة عامة ملزمة تنظم سلوك الإفراد في المجتمع.

وتكرار هذا السلوك أو العادة بأسلوب منتظم وخلال مدة زمنیة كافیة لیتكون اعتقاد بالزامیته یكون ما یسمى العرف. 

ثانیا: أركان العرف

للعرف ركنان: ركن مادي، وركن معنوي

أ/ الركن المادي للعرف: ویتمثل في سلوك معین یعتاد الناس علیه وتكرره الجماعة ، أي یجري الناس على إتباعه في تنظیم شأن من شؤونهم الاجتماعیة والاقتصادیة، ویشترط في الركن المادي عدة شروط هي:

1- القدم: أي یجب أن یكون قد مضى على العمل بالسلوك مدة طویلة، وكافیة تأكد تكراره وتأصله في الجماعة.

2- الثبات: ویعني استمارر سلوك الناس على وتیرة واحدة، بصفة منتظمة بغیر انقطاع.

3- العموم: یجب أن تكون العادة عامة أي یجري الناس على اتباعها دون منازعة فیها، وتنصرف إلى الأشخاص بصفاتهم لا بذواتهم كما هو الأمر بالنسبة للتشریع. ولیس المقصود بالعموم أن یسود العرف في كل إقلیم الدولة أو بالنسبة لجمیع الأشخاص، بل قد یكون العرف محلیا یسود منطقة أو ولایة معینة من الدولة، وقد یكون مهنیا یسود بین طائفة معینة دون غیرها، كأرباب مهنة أو صناعة واحدة كالعرف التجاري والعرف الطبي.

4- أن یكون مضمون العرف غیر متعارض مع النظام العام في الدولة، فلا یتصور جواز إنشاء عرف یجیز للأفراد الانتصاف لأنفسهم بأنفسهم، إذ أن مهمة توقیع الجزاء موكلة للسلطة العامة فقط.

ب/ الركن المعنوي للعرف: وهو ركن الإلزام أي اعتقاد الناس لزوم اتباع السلوك وأنه من ضرورات حیاتهم وأن الخروج عنه یرتب الجزاء.

والركن المعنوي هو الذي یمیز العرف عن العادة الاتفاقیة L’usage conventionnel، الخالیة من الإلزام. فالعادة عند اصطباغها بالطبیعة الإلزامیة تكون عرفا، أما أن لم تكن هذه العادة تحتوي على عنصر الإلزام فتبقى مجرد عادة ولا تعتبر مصدرا للقانون.

ثالثا: التمییز بین العرف والعادة الاتفاقیة

قد یعتاد الناس في التعامل فیما بینهم، أو في عقودهم واتفاقاتهم على أمر معین، فتسمى عادة اتفاقیة، لم تصل إلى مرتبة العرف لأنها لا تلزم الناس بشيء، ولا تلزم المتعاقدین بها إلا إذا علما بها واتفقا علیها صراحة أو ضمنا.

وتختلف العادة الاتفاقیة عن العرف في عدة نقاط هي:

1- من حیث العلم: العرف قانون لذا یفترض علم كافة الناس به، فتطبق قواعده على المتقاضین ولو كانوا یجهلون قواعده، فلا عذر بجهل القانون. أما العادة الاتفاقیة فیتعین العلم بها لأن شرط تطبیقها هو اتفاق الأفراد على الأخذ بها، ومعنى ذلك أنهم على علم سابق بها.

2- من حیث الإثبات: العرف قانون لذا فإن القاضي لا یكلف الخصوم بإثباته. أما العادة الاتفاقیة فیجب على من یتمسك بها إثبات وجودها.

3- من حیث التطبیق: العرف قانون لذا یتعین على القاضي تطبیقه من تلقاء نفسه، ولو لم یتمسك به الخصوم. أما العادة الاتفاقیة فلا یطبقها القاضي إلا إذا أثبت الخصوم وجودها واثبتوا اتفاقهم على تطبیقها.

4- من حیث رقابة المحكمة العلیا: العرف قانون لذا فإن القاضي یخضع في تطبیقه للعرف لرقابة المحكمة العلیا، بینما لا رقابة لهذه المحكمة على القاضي وهو یطبق العادة الاتفاقیة.

رابعا: نتائج تأخر العرف عن التشریع في المرتبة

یحتل العرف المرتبة الثانیة بعد مبادئ الشریعة الإسلامیة في ترتیب المصادر الاحتیاطیة للقانون، كما یحتل المرتبة الثالثة بعد الشریعة والتشریع ضمن ترتیب جمیع المصادر الرسمیة، ویترتب على هذه المرتبة للعرف النتائج التالیة:

1- عدم قدرة العرف على إلغاء نص تشریعي: لا یمكن للعرف أن یقوم بإلغاء نص تشریعي، سواء كان آمرا أو مكملا، لأن التشریع لا یلغى إلا بتشریع آخر، وذلك طبقا لنص المادة 2 ق م ج التي تنص على ما یلي: "لا یجوز إلغاء قانون إلا بقانون لاحق  فهو لا یملك إلغاء نص تشریعي آمر...". فالعرف لا یلغي التشریع لأنه أدنى مرتبة منه.

2- عدم قدرة العرف على مخالفة قاعدة تشریعیة آمرة، لأنه لا یمكن الاتفاق على مخالفة قاعدة تشریعیة آمرة لاتصالها بالنظام العام. 

إلا أنه یجوز للقاعدة العرفیة مخالفة القاعدة التشریعیة المكملة، لأن القاعدة المكملة یجوز للأفراد مخالفتها، لذا فمن باب أولى أن ینشأ عرف مخالف لها، وتوجد العدید من النصوص القانونیة تصرح بذلك مثل: نص المادة 388 ق م ج التي تقرر أنه: "یكون ثمن المبیع مستحقا في الوقت الذي یقع فیه تسلیم المبیع ما لم یوجد اتفاق أو عرف یقضي بخلاف ذلك".

الفرع الثالث: مبادئ القانون الطبیعي وقواعد العدالة

سنتناول خلال هذا الفرع تعریف كل من مبادئ القانون الطبیعي وقواعد العدالة، ثم الإحالة إلى تطبیق هذه القواعد.

أولا: تعریف مبادئ القانون الطبیعي

تعرف مبادئ القانون الطبیعي أنها: "تلك المبادئ التي یكتشفها العقل والتي تعتبر مثالا مادیا للمشرع الوضعي حتى یقترب من الكمال"، أو هي مجموعة من القواعد الأزلیة والأبدیة التي یكون الهدف منها تحقیق العدالة بین الناس، وهي مبادئ قلیلة یمكن التفریع علیها.

ویتكون القانون الطبیعي من المبادئ التالیة: مبدأ العدل، مبدأ الحریة، مبدأ المساواة بین الأفارد، - إعطاء كل ذي حق حقه، - عدم الإثراء على حساب الغیر بلا سبب، - نبذ الظلم...إلخ . وقد أوجدت هذه المبادئ سنن الطبیعة، فهي جزء من الطبیعة، ولیست من وضع البشر، وهي سنن أزلیة خالدة لا یعتریها التغییر من حیث الزمان والمكان. وهذه المبادئ هي عبارة عن قانون مشترك بین جمیع الناس لما له من صفة عقلیة طبیعیة فهو قانون عامي یشترك فیه جمیع الشعوب.

ثانیا: تعریف قواعد العدالة

تم تعریف العدالة أنها "شعور كامن في النفس یكشف عنه العقل السلیم، ویوحي به الضمیر المستنیر، ویهدف إلى إیتاء كل ذي حق حقه". والعدالة هي التي تجعل المشرع یستخلص من مبادئ القانون الطبیعي حلولا تراعى فیها ظروف كل حالة على حدة، ذلك أن فكرة العدالة فكرة مرنة لأن مضمونها وطریق تحقیقها مرهون بظروف الحیاة في كل مجتمع وبتصور هذا المجتمع لفكرة العدل.

وتعرف قواعد العدالة أنها تلك الحلول العادلة التي یمكن تطبیقها على الحالات الخاصة المتفرعة عن تلك المبادئ العامة، وعلى ذلك فأن قواعد العدالة مقترنة بالقانون الطبیعي، فهي جزء منه كما تعرف أنها الوجه المثالي للقانون الطبیعي ویعني في المقام الأول فكرة المساواة بمعناها العام، فكلمة المساواة تعني باللغة الفرنسیة التساوي ومنها متساوي، بمعنى البراءة من دین أو جرم.

ثالثا: الإحالة إلى تطبیق مبادئ القانون الطبیعي وقواعد العدالة

إن الإحالة إلى مبادئ القانون الطبیعي وقواعد العدالة، تعني إلزام القاضي أن یجتهد حتى یصل إلى حل للنازع، وفقا لما جاء في نص المادة 1 ق م ج، ففتح باب الاجتهاد أمام القاضي على أساس أن یستهدف العدل في حكمه، مراعیا ظروف النازع المطروح أمامه. 

والقاضي لا یلجأ إلى تصنیف مبادئ القانون الطبیعي وقواعد العدالة إلا إذا لم یجد نصا في المصادر السابقة، إذ أن القاضي لیس له الامتناع عن الحكم بحجة عدم وجود نص قانوني والا اعتبر مرتكبا لجریمة إنكار العدالة، والقاضي یبحث عن الحل مستعینا بالقوانین الأجنبیة والمعاهدات الدولیة وأحكام القضاء ویكون بحثه قائم على أساس موضوعي ولیس ذاتي.   

المطلب الثالث: المصادر التفسیریة للقانون: الفقه والقضاء

یعتبر كل من الفقه والقضاء من المصادر التفسیریة للقاعدة القانونیة، والمقصود بالمصادر التفسیریة هي المصادر التي تساعد على توضیح ما في القاعدة القانونیة من غموض، وتعتبر بالتالي مصدرا یستند إلیه القاضي للتعرف على حقیقة القواعد المستمدة من المصادر الرسمیة.

وتتمثل المصادر التفسیریة في الفقه الذي یعتبر الجانب العلمي للقانون (الفرع الأول)، والقضاء الذي یمثل الجانب العملي للقانون (الفرع الثاني)، والعلاقة بینهما وثیقة فكل واحد یكمل الآخر، فلا غنى للقاضي المطبق للقانون عن رأي الفقیه في توضیح غموض القاعدة القانونیة، ولا غنى للفقیه عن القضاء الذي بواسطته یطلع على ما وجد من ثغرات عملیة.

وللفقه والقضاء دورا كبیرا في توجیه المشرع في تعدیل التشریع أو في إصدار تشریعات مسایرة للتطورات الاجتماعیة والاقتصادیة للمجتمع.

الفرع الأول: تعریف الفقه ودوره

یقصد بالفقه مجموع الآراء التي یقول بها الفقهاء ویقوم على استنباط الأحكام القانونیة من مصادرها بالطرق العلمیة، مع مناقشة هذه الأحكام، وذلك بقصد إظهار ما في القانون من نقص أو عیب. كما یقصد به أیضا ما یصدر عن رجال الفكر القانوني من شروحات وتفسیرات وانتقادات للنصوص القانونیة، وتعلیقات على الأحكام القضائیة.

وقد كان للفقه دورا مهما باختلاف الأزمنة والأنظمة، ففي القانون الروماني كان الفقه مصدرا أصلیا للقانون، إذ كانت آراء بعض الفقهاء "كباینیان وجایوس وایلبیان وبول وهودستان"، بمثابة قواعد قانونیة تلزم القضاة في أحكامهم، بل أكثر من ذلك فقد جمع الإمبراطور جوستنیان مبادئ وآراء هؤلاء الفقهاء الخمسة في مجموعته القانونیة الشهیرة  التي سماها "مدونة جوستنیان" ، وكانت أساسا للقانون الروماني لعدة قرون.

أما في الشریعة الإسلامیة فقد قام الأئمة المجتهدون عن طریق الإجماع والقیاس، بشرح وتوضیح المبادئ الكلیة والقواعد العامة الواردة في القرآن والسنة، وهما المصدران الأساسیان لها، حیث ظهرت المذاهب الإسلامیة المختلفة واشتهر منها مذاهب الأئمة الأربعة أبو حنیفة والشافعي ومالك وابن حنبل،  وعلى أیدیهم تم تأصیل مناهج البحث وتفریع حلول كثیرة منها حتى اعتبرت هذه الشریعة نظاما قانونیا متكاملا تنافس أحدث وأرقى الشرائع.

وفي القوانین الحدیثة لعب الفقه دورا سابقا كمصدر رسمي للقاعدة القانونیة وأصبح الآن مقتصرا على تفسیرها وشرحها، وكشف ما فیها من نقص أو غموض أو تناقض.

وفي القانون الجزائري یقتصر دور الفقه على تفسیر القانون، وشرحه واستنباط مبادئه، فیكون الفقه هدیا للمشرع وللقاضي.

وعلى هذا الأساس فإن الفقه یعتبر مصدرا تفسیریا في شرحه للقانون، فالفقیه لیست له صفة رسمیة في وضع القانون أو في تطبیقه، وآرائه في القانون لیست ملزمة له وللمشرع أو القاضي.

الفرع الثاني: تعریف القضاء ودوره

للقضاء عدة معاني، فقد یقصد منه الجهاز الفني الذي یقوم على مرفق العدالة والمكون من القضاء. وقد یقصد بالقضاء استقرار أحكام المحاكم في اتجاه معین. وهو مجموعة المبادئ العامة المستخلصة من أحكام المحاكم عند تطبیقها للقانون.

وقد كان للقضاء دور كبیر في القانون الروماني، فعلى أیدي البریتور الروماني تطور القانون الروماني تطورا كبیرا بما أضاف إلیه من قواعد ومبادئ قانونیة والتي تكون منها القانون البریتوري الذي أدمج في القانون الروماني على أیدي الإمبراطور جوستنیان.

ویعتبر القضاء المصدر الرسمي الأصلي للقانون في البلاد الأنجلوساكسونیة حتى الآن، ومنها انجلترا والولایات المتحدة الأمریكیة، كندا، استرالیا، الهند، وجنوب إفریقیا، فدور القضاء هو خلق قواعد القانون عن طریق ما یسمى السابقة القضائیة، ومن المقرر في هذه البلدان أن أحكام المحاكم العلیا تكون سوابق قضائیة للمحكمة التي أصدرتها ولغیرها من المحاكم الدنیا في الحالات المماثلة التي تنظر فیها مستقبلا.

أما في البلاد اللاتینیة كفرنسا، ألمانیا، ایطالیا، دول أمریكا اللاتینیة وبعض الدول العربیة كالجزائر، فمازال دور القاضي یقتصر على تفسیر القانون عند تطبیقه ولا تلزم المحاكم بما جرى علیه العمل في المحاكم الأخرى، وفي الشریعة الإسلامیة لم یكن للقضاء دورا مستقلا نظرا لأنه كان یتم اختیار القضاة من الفقهاء الذین كانت لهم شروحهم وتفسیراتهم المستقاة من مصادر الشریعة الإسلامیة المختلفة.

وفي الجزائر یعتبر القضاء مصدرا تفسیریا للقانون، وحكم أي محكمة قاصر في حجته على النزاع الذي فصل فیه، ولا یلزم أي محكمة أخرى بل أنه لا یقید المحكمة التي أصدرته.

المرجع:

  1. د. بركات كريمة، محاضرات في مقياس المدخل للعلوم القانونية (النظرية العامة للقانون)، مطبوعة موجهة لطلبة السنة الأولى، جامعة محند أكلي أولحاج البويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم القانون الخاص، الجزائر، السنة الجامعية 2020/2021، ص 40 إلى ص64. 
google-playkhamsatmostaqltradent