نطاق تطبیق القاعدة القانونیة من حیث الزمان

 نطاق تطبیق القاعدة القانونیة من حیث الزمان

إذا ألغیت قاعدة قانونیة وحلت محلها قاعدة قانونیة أخرى، فأن القاعدة الجدیدة تسري من یوم نفاذها، وأن القاعدة القدیمة یقف سریانها إبتداءا من تاریخ إلغائها. یثیر هذا الموضوع الكلام أولا عن إلغاء القاعدة القانونیة (المطلب الأول)، ثم البحث عن تنازع التشریعات من حیث الزمان (المطلب الثاني).

المطلب الأول: إلغاء القاعدة القانونیة

لمسألة إلغاء القاعدة القانونیة أهمیة في مجال تطبیق القانون من حیث الزمان، ولتحلیل هذه الأهمیة سنتطرق أولا للمقصود بالإلغاء (الفرع الأول)، والى تحدید السلطة التي تقوم بالإلغاء (الفرع الثاني)، وكیفیة إلغاء القواعد التشریعي (الفرع الثالث) وغیر التشریعیة (الفرع الرابع)، وأنواع الإلغاء (الفرع الخامس).

الفرع الأول: المقصود بالإلغاء

یقصد بإلغاء القاعدة القانونیة إنهاء سریانها بتجریدها من قوتها الملزمة، فیمتنع العمل بها ابتداء من تاریخ هذا الإلغاء، وقد یحصل الإلغاء بأن تستبدل القاعدة القانونیة بقاعدة قانونیة أخرى جدیدة تحل محلها، وقد یكون ذلك بالاستغناء عنها نهائیا دون إحلال قاعدة جدیدة محلها.

والإلغاء حسب نص المادة 2 قانون مدني جزائري نوعان:

أ- إلغاء صریح: إذا نصت القاعدة القانونیة الجدیدة على إلغاء القاعدة السابقة (القدیمة).

ب- إلغاء ضمني: ویكون في حالتین:

+ حالة تعارض القاعدة القانونیة الجدیدة مع القاعدة السابقة.

+ حالة إعادة المشرع تنظیم موضوع معین من جدید.

تمییز إلغاء القاعدة القانونیة عن بطلانها:

یتمیز الإلغاء عن البطلان فیما یلي:

1- إن إلغاء القاعدة القانونیة یرد على قاعدة قانونیة صحیحة إذا استكملت أركان قیامها وشروطها، لذا فإن إلغاءها یزیل آثارها بالنسبة للمستقبل فقط. أما البطلان فینصب على قاعدة قانونیة معیبة التكوین، لذا فإن بطلانها یزیل أثارها بالنسبة للماضي والمستقبل، مثال تشریع الضرورة.

2- تكون القاعدة القانونیة الباطلة في حكم القاعدة المعدومة، على خلاف القاعدة القانونیة الملغاة التي تبقى ساریة المفعول على الوقائع التي حدثت في زمن نفاذها.

3- البطلان یكون بحكم قضائي أما الإلغاء فیتم حسب نوع القاعدة الملغاة.

الفرع الثاني: السلطة المختصة بإلغاء القاعدة القانونیة

یرد الإلغاء على جمیع القواعد القانونیة والأصل أن السلطة التي تملك إلغاء القاعدة القانونیة هي السلطة التي تملك إنشاءها واصدارها أو سلطة أعلى منها. فلا یتم الإلغاء إلا عن طریق قاعدة قانونیة مساویة في الدرجة للقاعدة الملغاة أو أعلى منها، طبقا لمبدأ تدرج مصادر القانون.

الفرع الثالث: إلغاء القواعد التشریعیة

تنص المادة 2 ق م ج على أنه:"لا یجوز إلغاء القانون إلا بقانون لاحق...".

نستنتج من هذا النص أن القاعدة التشریعیة لا یمكن إلغاؤها إلا بقاعدة تشریعیة مثلها أو بقاعدة تشریعیة أقوى منها في الدرجة، طبقا لمبدأ تدرج التشریعات في القوة، والذي یترتب علیه ما یلي:

1- یتم إلغاء التشریع الأساسي عن طریق تشریع أساسي یحل محله.

2- یمكن إلغاء التشریع العادي (أو العضوي) بتشریع عادي (أو عضوي) أو بتشریع أساسي.

3- یمكن إلغاء التشریع الفرعي (اللوائح والتنظیمات) بواسطة تشریع أساسي أو عن طریق تشریع عادي أو عن طریق تشریع عضوي أو عن طریق لائحة أخرى.

4- لا یمكن للعرف أن یلغى القاعدة التشریعیة فهو یأتي بعدها وبعد مبادئ الشریعة الإسلامیة في مرتبة مصادر القاعدة القانونیة، ولا یملك أدنى إلغاء الأعلى.

الفرع الرابع: إلغاء القواعد غیر التشریعیة

أولا: إلغاء مبادئ الشریعة الإسلامیة

تعتبر هذه المبادئ المصدر الرسمي الاحتیاطي الأول للقانون الجزائري، لكل من مسائل الأحوال الشخصیة والعینیة، فإنه إذا كانت القاعدة الدینیة هي المطبقة نظرا لعدم وجود نص في تقنین الأسرة أو التقنین المدني یحكم المسألة المعروضة، ثم تدخل المشرع فاستبدل بها قاعدة تشریعیة، یترتب على ذلك إلغاء القاعدة الدینیة باعتبارها إحدى قواعد القاعدة الوضعي الجزائري مع بقاء صفتها الدینیة.

ثانیا: إلغاء قواعد العرف

یعتبر العرف المصدر الرسمي الاحتیاطي الثاني للقانون الجزائري یمكن إلغاؤها بواسطة أحد الطریقتین:

أ- یتم إلغاء القاعدة العرفیة بقاعدة عرفیة لاحقة مخالفة لها، وذلك نظرا لتطور ظروف المجتمع.

ب- وقد یتم إلغاء قاعدة عرفیة بقاعدة تشریعیة، إذ الأولى في التطبیق أن یعمل بالتشریع لأنه أعلى من العرف درجة، وما وضع قاعدة تشریعیة جدیدة لحكم مسألة معنیة، إلا إلغاء للقاعدة العرفیة التي یمتنع اللجوء إلیها بعد ذلك.

الفرع الخامس: أنواع الإلغاء

یوجد نوعان من الإلغاء هما:

أولا: الإلغاء الصریح: ویكون في الحالة التي تنص فیها القاعدة القانونیة الجدیدة على إلغاء القاعدة السابقة (القدیمة)، ویكون ذلك بعبارات صریحة لا غموض فیها.

ثانیا: الإلغاء الضمني: هذا النوع من الإلغاء یستخلص من موقف المشرع ومن ظروف الحال، ویتحقق بإحدى الصورتین:

• صدور قاعدة تشریعیة جدیدة تتعارض مع قاعدة قدیمة.

• صدور تشریع جدید ینظم موضوعا كان المشرع قد نظمه بتشریع سابق.

1- صدور قاعدة تشریعیة جدیدة تتعارض مع قاعدة قدیمة: إذا استحال الجمع بین القاعدتین، ألغت القاعدة الجدیدة القاعدة القدیمة ضمنیا. ویكون الإلغاء بالقدر الذي یرفع التعارض بین القاعدتین، إذ قد یكون التعارض كلیا أو جزئیا.

أ/ حالة التعارض الكلي: إذا كان التعارض بین القاعدتین كلیا أو تاما، ألغیت القاعدة القدیمة كلها.

ب/ حالة التعارض الجزئي: یكون التعارض في جزء أو شق من القاعدة، فیقع الإلغاء في حدود هذا الشق فقط. وفي هذه الحالة فإن التعارض الذي یؤدي إلى إلغاء قواعد قانونیة هو الذي یقع في أحكام متماثلة من حیث العمومیة والخصوصیة. ونتناول دارسته فیما یلي:

- الحالة الأولى: التعارض بین حكم جدید خاص وحكم قدیم عام: إذا كان النص الجدید یتضمن حكما خاصا، والنص القدیم یتضمن حكما عاما، فهنا یلغى من النص القدیم ما جاء النص الجدید بتخصیصه فقط، فیظل النص القدیم وساریا إلا فیما جاء الحكم الجدید بتخصیصه ویعتبر النص الجدید بمثابة استثناء علیه یحد من عمومیته.

فالقانون المدني مثلا یتضمن الأحكام العامة المنظمة للمعاملات المدنیة للأفارد، فإذا أصدر المشرع تشریعا خاصا ینظم في نطاق محدود عقدا من العقود التي ینظمها القانون المدني، ویضع أحكاما مغایرة عن الأحكام الواردة في القانون المدني، فإن هذا التشریع الخاص لا یلغي نصوص القانون المدني فیما تضمه أحكام عامة، بل تظل الأحكام العامة القدیمة قائمة إلى جوار الأحكام الخاصة الجدیدة، وان كان لا یرجع إلي الأحكام العامة القدیمة إلا فیما لم یرد فیه نص في الأحكام الجدیدة الخاصة عملا بمبدأ "الخاص یقید العام".

-الحالة الثانیة: التعارض بین حكم جدید عام وحكم قدیم خاص: هذا التعارض لا یؤدي إلى إلغاء الحكم القدیم الخاص، لأن الحكم الخاص لا یلغى إلا بحكم خاص، مثله متعارض معه. وانما یعمل بكلا النصین معا، فیكون الحكم الجدید العام هو الأصل، أما الحكم القدیم الخاص فیظل نافذا باعتباره یمثل إستثناءا  واردا على القاعدة العامة التي یضعها الحكم الجدید العام.

2 - صدور تشریع جدید ینظم موضوعا كان المشرع قد نظمه بتشریع سابق: إذا أعاد المشرع تنظیم موضوع معین بتشریع جدید سبق أن نظمه بتشریع سابق (قدیم)، یلغى هذا الأخیر ضمنیا إلغاء كلیا، لأن نیة المشرع اتجهت إلى العدول عن التشریع السابق بأكمله حتى بالنسبة إلى قواعده التي لا تتعارض مع قواعد التشریع الجدید.

المطلب الثاني: تنازع التشریعات من حیث الزمان

الأصل في تطبیق القانون من حیث الزمان أنه إذا ألغي قانون وحل محله قانون جدید، فبدیهي أن القانون الجدید یبدأ سریانه بعد نشره في الجریدة الرسمیة أي من یوم نفاذه، طبقا لنص المادة 4 من القانون المدني؛ وأن القانون القدیم یقف سریانه ابتداء من تاریخ إلغائه.

كما أن الأصل أن قواعد القانون الجدید لا طبق إلا على ما یقع في ظله من وقائع أو حالات قانونیة، دون ما كان قد تم قبل صدوره، وقد نصت على هذا المعنى الفقرة 1 من المادة 2 من القانون المدني التي جاء فیها:"لا یسري القانون إلا على ما یقع في المستقبل، ولا یكون له أثر رجعي".

وهكذا یستقل كل من القانونین القدیم والجدید بالمراكز والوقائع القانونیة التي تتكون في ظلها، فغالبا ما نكون بصدد وقائع ومراكز قانونیة تتكون في ظل قانون معین، ولا تنتج كل آثارها إلا في ظل قانون جدید، فیثور تنازع حاد بین القانونین. وبذلك فإن موضوع تنازع التشریعات في الزمان یقوم على مبدأین هما:

- مبدأ الأثر المباشر أو الفوري للقانون الجدید.

- مبدأ عدم رجعیة القانون الجدید.

الفرع الأول: مبدأ الأثر المباشر أو الفوري للقانون الجدید

یطبق القانون الجدید على الوقائع والمراكز القانونیة التي تنشأ وتنفذ بعد دخوله حیز التنفیذ.

أولا: مضمون المبدأ

یقصد بهذا المبدأ سریان القانون الجدید فورا بعد تاریخ نفاذه، وبذلك یبدأ بترتیب آثاره مباشرة على الأشخاص المخاطبین بأحكامه، وعلى الوقائع والمراكز القانونیة التي تتحقق في ظله، ویترتب على ذلك إلغاء القانون القدیم أما الوقائع والمراكز التي تمت في ظله فتبقى خاضعة لحكمه، أما الوقائع القانونیة التي تحدث بعد ذلك فتخضع لحكم القانون الجدید.

ثانیا: مبررات المبدأ

توجد عدة مبررات لمبدأ الأثر الفوري للقانون الجدید نذكر منها:

1- خضوع المراكز القانونیة المتماثلة لقاعدة واحدة: وهي القاعدة القانونیة الجدیدة فقط، لأن استمرار تطبیق القاعدة القدیمة علیها باعتبارها نشأت في ظلها وفي الوقت نفسه خضوعها للقاعدة الجدیدة باعتبارها اكتملت أو نفذت أو انقضت في ظلها، یؤدي إلى تطبیق قاعدتین مختلفتین على مراكز قانونیة من طبیعة واحدة.

2- یفترض في القاعدة القانونیة الجدیدة أنها أكمل وأفضل من القاعدة القدیمة لكونها تسایر المتطلبات الجدیدة للمجتمع .

الفرع الثاني: مبدأ عدم رجعیة القانون الجدید

لا یسري القانون الجدید على الماضي، إذ یبقى یحكم ما وقع في ظله من علاقات ومراكز قانونیة.

أولا: مضمون المبدأ

یقصد بهذا المبدأ عدم سریان أحكامه على الماضي سواء فیما یتعلق بالوقائع أو المراكز القانونیة، أو بالنسبة للآثار التي ترتبت علیها. وتنص على هذا المبدأ صراحة المادة 2 من القانون المدني التي جاء فیها:" لا یسري القانون إلا على ما یقع في المستقبل، ولا یكون له أثر رجعي...".

ثانیا: مبررات المبدأ

توجد عدة مبررات للمبدأ نذكر منها:

1- جاءت القاعدة الجدیدة لتعالج حالات مستقبلیة، ومبدأ العلم بالقانون لا یبدأ سریانه إلا ابتداء من تاریخ نشره في الجریدة الرسمیة ومضي یوم كامل (24 ساعة)، وتطبیق القاعدة الجدیدة على الوقائع التي حدثت قبلها یعد خرقا لهذا المبدأ.

2- أن العدل الذي یسعى القانون إلى تحقیقه یتطلب استقرار في المعاملات القانونیة ولا یتم ذلك إلا إذا كان الأشخاص قد علموا بتلك القواعد مسبقا، فإذا جزمت قاعد جنائیة فعلا ما فأنها تعاقب من قام به بعد علمه به، ولا یعاقب من قام به قبل ذلك.

3- إن تطبیق القاعدة القانونیة الجدیدة على الماضي یؤدي إلى هدم ثقة الأفراد في القانون عموما، وعدم اطمئنانهم على حقوقهم ومراكزهم التي اكتسبوها وفقا للقاعدة القانونیة القدیمة.

ثالثا: الاستثناءات الواردة على المبدأ

1- النص الصریح على رجعیة القانون الجدید: یمكن للمشرع أن یقرر في التشریع الجدید تطبیقه على الماضي، وذلك لاعتبارات موضوعیة تتعلق بالنظام العام، وبغرض تحقیق مصلحة اجتماعیة، فینص التشریع الجدید صراحة على سریان أحكامه على الماضي، ومثال ذلك القانون المدني الذي صدر بتاریخ 26 سبتمبر 1975 وطبق بأثر رجعي ابتداء من تاریخ 5 جویلیة 1975.

2- القوانین الجنائیة الأصلح للمتهم: تزداد أهمیة مبدأ عدم الرجعیة بشكل خاص في المجال الجنائي، إذ یعد ضمانة أساسیة للحریات العامة وهذا ما یقرره الدستور في نص المادة 46 منه، وهذا بالإضافة عن النص علیه في قانون العقوبات بالمادة 2 منه التي جاء فیها: "لا یسري قانون العقوبات على الماضي، إلا ما كان منه أقل شدة".

ویطبق قانون العقوبات على الماضي أي بأثر رجعي، إذا كان أصلح للمتهم، ویكون كذلك في حالة تخفیف العقوبة أو إباحة الفعل، فیكون من مصلحة المتهم أن یطبق علیه القانون الجدید بأثر رجعي، بالرغم من أن الجریمة ارتكبت في ظل قانون قدیم.

وفي هذا الإطار نمیز بین حالتین هما:

أ/ حالة النص على تخفیف العقوبة: إذا صدر قانون جدید یخفف عقوبة  فعل ارتكب في ظل قانون قدیم  وكانت عقوبته معروفة، یستفید المتهم من تطبیق القانون الجدید علیه (لأنه الأصلح له) إذا لم یكن قد صدر علیه حكما نهائیا أي لا یزال في مرحلة التحقیق ولم یصدر ضده حكما نهائیا بعد.

أما إذا صدر ضد المتهم حكما نهائیا فلا یستفید من تطبیق القانون الجدید المخفف للعقوبة.

ب/ حالة النص على إباحة الفعل: إذا صدر قانون جدید یبیح فعلا كان مجرما في ظل القانون القدیم، فأنه یطبق بأثر رجعي على المتهم، وذلك في جمیع مراحل الدعوى العمومیة، وسواء صدر ضده حكما نهائیا أو لم یصدر، فإذا صدر القانون الجدید قبل صدور الحكم النهائي قضت المحكمة ببراءة المتهم، أما إذا صدر القانون الجدید بعد صدور الحكم النهائي فإن تنفیذ العقوبة یقف، فیعتبر المتهم بریئا.

3- التشریعات التفسیریة: حینما یصدر المشرع تشریع یكون غامض إلى درجة تجعل المحاكم تختلف في تفسیره وبالتالي تطبیقه، في هذه الحالة یجب أن یتدخل ویصدر تشریعا جدیدا یفسر به التشریع القدیم الغامض، ویجعله أكثر وضوحا وأسهل في التطبیق، وحینئذ یسري القانون التفسیري الجدید على الوقائع التي حدثت في ظل التشریع القدیم، وهذا یعد استثناء من عدم رجعیة القانون.

المرجع:

  1. د. بركات كريمة، محاضرات في مقياس المدخل للعلوم القانونية (النظرية العامة للقانون)، مطبوعة موجهة لطلبة السنة الأولى، جامعة محند أكلي أولحاج البويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم القانون الخاص، الجزائر، السنة الجامعية 2020/2021، ص 77 إلى ص85.

google-playkhamsatmostaqltradent