مدخل للقانون الدولي العام

مدخل للقانون الدولي العام 

مدخل للقانون الدولي العام

  • من إعداد: د. رحموني بلفاضل

المركز الجامعي – ميلة-

مقدمة

تكتسي دراسة المدخل للقانون الدولي العام، أهمية معتبرة للمهتم، والباحث، والطالب في الدراسات القانونية، بحيث تمكنهم من الاطلاع و التعرف على موضوعات وميادين هذا الفرع من فروع القانون .وتقتضي منا منهجية دراسة هذا الموضوع التطرق إلى الأساس التاريخي لنشأة وتطور قواعد القانون الدولي، ثم نعقبه بلمحة عن أصل تسمية القانون الدولي العام ثم نتطرق لتعريف القانون الدولي العام، مع الإشارة إلى الفروع المختلفة التي يتضمنها هذا القانون وكذا تميزه عن غيره من بعض القواعد الدولية وفي الأخير نشير إلى أساس الإلزام في القانون الدولي العام، ونحاول الإحاطة بكافة هذه النقاط وفق الخطوات التالية: 

  • أولا: نظرة تاريخية عن نشأة وتطور القانون الدولي العام.  
  • ثانيا: لمحة عن أصل تسمية القانون الدولي العام.  
  • ثالثا: تعريف القانون الدولي العام.  
  • رابعا: الفروع المختلفة للقانون الدولي العام   .
  • خامسا: تميز القانون الدولي العام عن غيره من القواعد الدولية.  
  • سادسا: علاقة القانون الدولي العام بغيره.  
  • سابعا: أساس الإلزام في القانون الدولي العام بغيره من القواعد الدولية.  
  • ثامنا: أهداف القانون الدولي العام. 
  • تاسعا: مصادر القانون الدولي العام

أولا: نظرة تاريخية عن نشأة وتطور القانون الدولي العام

من المعلوم تاريخيا يعتبر القانون الدولي العام في مفهومه المعاصر قانون أوربي النشأة إذ هو يرتبط بظروف المجتمع الأوربي المسيحي في أواخر العصور الوسطى، وبداية العصر الحديث، وقد انحصر كل ذلك في حوض البحر الأبيض المتوسط وغربي أوروبا. وظل مقتص ار على هذه المنطقة لردح من الزمن دون أن يتعدى ذلك إلى دول أخرى، وهذا بسبب أن العلاقات بين الدول الأوربية والأمة الإسلامية، كانت علاقات عداء متواصل من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت العلاقات مع الدول الآسيوية منعدمة تماما. وهذه العوامل ساعدت على أن يظل المجتمع الأوربي المسيحي مغلقا مع ذاته لا يسمح لأية دولة خارجة عن نطاقه أن تنظم لعضوية الجماعة التي أنشأها، وبالتالي لا يسمح لها أن تحكم علاقاته معها قواعد القانون الدولي الأوربي المسيحي.

غير أنه في فترة النهضة التي شهدتها أوربا قامت حركة فكرية تدعو إلى إحياء الت ارث الأوربي القديم (الإغريقي والروماني)، وٕإلى النقل عن الحضارة الإسلامية المزدهرة (خاصة المسلمين المقيمين في الأندلس وصقلية). وقد أدت هذه الحركة الفكرية مع ما صاحبها من متغيرات اقتصادية عميقة الجذور تمثلت أساسا في قيام الرأسمالية التجارية على أنقاض الاقتصاد الزراعي المغلق، ومع ما اقترن بها من كشوف جغرافية ومن انتقال السيادة البحرية من المسلمين إلى مسيحي أوربا إلى إحداث انقلاب في ظروف المجتمع الأوربي في شتى نواحيه. 

وفي بداية القرن السادس عشر ظهرت المدن التجارية على حساب تصدع النظام الإقطاعي بحيث وأصبح النظام الإقطاعي مع ما يرتبط به لزوما من انقسام في السيادة وتفكك وتجزئة غير متمشي مع متطلبات هذه الظروف الجديدة. وٕإلى جانب ذلك فقد ضعف النفوذ البابوي وتقوية نفوذ الملوك والسلطة المركزية وظهور الدولة بمفهومها الحديث. 

وعلى أنقاض النظام الإقطاعي نشأت الدول الأوربية بمفهومها الحديث كنتيجة لمجهودات بذلها الملوك في سبيل التخلص من وصاية البابا والإمبراطور، وكبح جماح السادة الإقطاعيين، أدت في النهاية إلى تركيز السلطة كلها في أيديهم بحيث أصبحت للملك وحده السيادة على إقليمه وعلى سكان الإقليم.

غير أنه عمليا مما ساهم في تجسيد وظهور القانون الدولي الأوربي هو اندلاع الحروب الدينية المسيحية الأوروبية ونتائجها التي بدأت عام 1517م وكان أهمها وأخطرها حرب الثلاثين سنة (1619 إلى 1648). وقد انتهت بإبرام معاهدتي "وستفاليا" عام 1648.

وبعد هذه المرحلة أخذ القانون الدولي الأوربي، يتسع بعد نشأته شيئا فشيئا نحو العالمية فشمل بداية كافة القارة الأوروبية (لأنه كان قاصرا على غرب أوروبا). ثم انضمت إليه دول مسيحية غير أوربية وخاصة في القارة الأمريكية في نهاية القرن الثامن عشر ثم انضمت إليه دول غير مسيحية وخاصة الصين في سنة 1844 واليابان سنة 1853 وفي سنة 1856 انضمت تركيا وذلك بمقتضى المادة السابعة من معاهدة صلح المنعقدة في باريس. 

وقد شاركت كافة هذه الدول في مؤتم ارت لاهاي الأولى لعام 1899 والثانية عام 1907 حيث أسستا هذه المؤتمرات فعليا لقيام قانون دولي عام، خرج عن الطابع المسيحي الأوربي البحت إلى العالمية. 

وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى تم تأسيس عصبة الأمم التي شاركت فيها كافة المجموعات الدولية الأوربية، والأسيوية، والإفريقية، والأمريكية، وقد زاد عدد الدول في تعزيز وعالمية القانون الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، بإنشاء هيئة الأمم المتحدة... التي تمثل الانطلاقة الفعلية والحقيقية لقيام قانون دولي عام، يشمل كافة دول العالم بغض النظر على أي اعتبار ديني أو جغرافي. لقد أصبح القانون الدولي العام قانونا عالميا يحكم الجماعة الدولية برمتها، وبكل ما تشتمل عليه من دول ومنظمات دولية أو أشخاص دولية أخرى في أي بقعة كانت في العالم ولكن هذا من ناحية الظاهر والشكل ولكن من حيث المضمون نجد أن الدول المنتمية للحضارة الأوربية المسيحية لا تزال دوما هي المسيطرة أساسا على مقادير السياسة الدولية والنظام الدولي. 

ثانيا: لمحة عن أصل تسمية القانون الدولي العام

بداية أن اصطلاح القانون الدولي يعود في الأصل إلى تسميات متعددة اختلفت حسب الظروف والأزمنة التاريخية فبداية كان يطلق عليه تسمية اصطلاح قانون الشعوب (jus centrum) في العهد الروماني، حيث كان يقصد به القانون الذي يسري على جميع الأجانب المنتمين إلى الشعوب التي كانت تابعة السلطان الأمبراطورية الرومانية، وهذا في مقابل القانون المدني الذي كان يطبق حصرا على المواطنين الرومانيين، ثم ظهرت خلال العصور التي تلت تسميات عديدة أخرى استعملها بعض الكتاب للدلالة على قواعد القانون الدولي، فسماه "جروسيوس" بقانون الحرب والسلم وسماه "باسكال قيور" قانون الجنس البشري و"سماه فرنسيسكو فيتوريا" القانون فيما بين الشعوب أو الأمم" وسماه الأستاذ "محمد طلعت الغنيمي" قانون الأمم وهناك من سماه قانون ما بين الدول، أو قانون جماعة الدول، أو قانون للسياسة الخارجية إلا أن التسمية التي نالت حظوظه كبيرة وشاع استعمالها لدى الكتاب والفقهاء والدبلوماسيين حتى اليوم هي اسم القانون الدولي الذي ابتدعه الفيلسوف الإنجليزي بنثام ( Jeremy Bentham) 1832-1748 في مؤلفه الشهير مقدمة لمبادئ الأخلاق والتشريع، المنشور في عام 1780. وٕإن كان بعض الفقهاء وخاصة الأستاذ "شارل رسو" يرى أن التسمية الدقيقة للقانون الدولي العام باعتباره منظما للعلاقات بين الدول هو قانون بين الدول، ولكنه لا يرى بأسا مع ذلك من استعمال تسمية القانون الدولي Droit international على أساس أنها أصبحت ذات صفة تقليدية واستقرت في الأذهان. 

وكان مصطلح القانون الدولي ينصرف حتى عهد قريب إلى مجموعة القواعد القانونية التي تحكم الدول في علاقاتها المتبادلة. أو التي تحدد حقوق كل منها وواجباتها بحكم الاعتماد المتبادل فيما بينها تجد نفسها مدفوعة إلى إنشاء علاقات فيما بينها. وهي علاقات لا يتصور خضوعها للقانون الداخلي لإحدى الدول، وليس هناك من مناص سوى أن يكون القانون الدولي هو الذي تضعه الدول هو الكفيل بتنظيم تلك العلاقات. 

ثالثا: تعريف القانون الدولي العام

إن تعريف القانون الدولي العام، لا يزال محل خلاف بين الفقهاء إذ يوجد أكثر من مائة تعريف لهذا القانون ووفق هذا السياق فقد وجدت عدة اتجاهات عموما حاولت تقديم تعريف القانون الدولي من أهمها:  

1 - المذهب التقليدي: 

يرى هذا المذهب بأن الدولة هي وحدها التي تملك صفة الشخص القانوني الدولي، واستمر هذا التعريف شائعا أكثر من ثلاثة قرون. كما أن محكمة العدل الدولية تبنت التعريف التقليدي وذلك في الحكم الذي أصدرته في قضية اللوتيس سنة 1937. غير أن التطورات التي طرأت على المجتمع الدولي بحيث أن المجتمع الدولي لم يعد يقتصر على تنظيم العلاقات بين الدول فقط، بل أصبح يضم أشخاصا قانونية متعددة مثل المنظمات الدولية والإقليمية، واتحادات الدول ولجان الإشهار الدولية والشركات المتعددة الجنسيات.. إلخ.

2- المذهب الموضوعي: 

هذا المذهب يجعل من الفرد بأنه الشخص الوحيد للقانون الدولي، وبالتالي فإن قواعد القانون الدولي تخاطب الأفراد وليس الدول. ويؤخذ على هذا الاتجاه إنكاره للشخصية القانونية للدولة التي تعتبر من بين الأشخاص الرئيسية والهامة التي يخاطبها القانون الدولي إلى جانب الأشخاص القانونية الأخرى... إلخ.

ومع ضوء ما سبق يمكن تعريف القانون الدولي العام بأنه عبارة عن مجموعة من القواعد القانونية، التي تحكم العلاقات بين أشخاص القانون الدولي العام، وتحدد اختصاصات والت ازمات كل منها.

أو هو مجموعة القواعد القانونية التي تحكم العلاقات بين أشخاص المجتمع الدولي أو الجماعة الدولية.

إن هذا التعريف الأخير يواكب التطورات الحالية والتغيرات التي شهدها النظام الدولي ذلك. أن الدولة لا تعتبر الشخص القانوني الوحيد المخاطب بأحكام القانون الدولي العام. إذ أن هناك أشخاص قانونية أخرى، تتمتع بالشخصية القانونية، وخاصة المنظمات الدولية، وهذا بعد حادثة اغتيال مبعوث الأمم المتحدة في فلسطين المحتلة عام 1949.

رابعا: الفروع المختلفة للقانون الدولي العام

يتفرع عن القانون الدولي العام مجموعة من القواعد القانونية الدولية تهتم وتنصيب على مجالات محددة تم تأطيرها وتدوينها بتنظيم ميدان خاص يهم المجتمع الدولي وهذه المجالات هي ما يلي:

1- القانون الدولي للبحار: 

يضم هذا القانون جملة القواعد القانونية الدولية التي تهتم بتنظيم الملاحة البحرية، واستغلال الثروات في أعالي البحار، وكل ما يتعلق بحماية البيئة البحرية ووفق هذا السياق قامت الأمم المتحدة بإبرام عدة اتفاقيات تهم هذا المجال منها اتفاقية جنيف لعام 1958 واتفاقية قانون البحار في 10 ديسمبر 1982 واتفاقية 21 ماي 1997 التي تهم عالم البحار.  

2 - القانون الدولي للفضاء: 

ويتكون من مجموعة القواعد القانونية الدولية المنظمة لكيفية تسيير نشاطات الدول في ميدان استغلال واستعمال القضاء الخارجي والقمر والكواكب الأخرى وقد توصلت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إبرام اتفاقية تتعلق باستخدام القضاء الخارجي في 19 ديسمبر 1966. 

3- القانون الدولي للبيئة:

يتكون هذا القانون من مجموعة القواعد القانونية الهادفة إلى حماية البيئة الإنسانية من التلوث ،باعتبار أن هذا الأخير يهدد البشرية قاطبة والتلوث البيئي بمختلف أنواعه وألوانه يمس الجميع، مما يستدعي التضامن والتعاون لمواجهة مختلف التحديات البيئية التي تواجه البشرية سواء ما تعلق بالتلوث الجوي أو التلوث البري أو التلوث البحري، ووفق هذا عقدت عدة مؤتم ارت لكيفية مواجهة أخطار التلوث ومن أبرزها مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والنمو المنعقد في 13 جوان 1992، واتفاقية الأمم المتحدة حول المتغيرات المناخية في 9 ماي 1992، وآخرها مؤتمر الأمم المتحدة حول المناخ المنعقد في كوبنهاغن بالسويد في شهر ديسمبر 2009.

4- القانون الدولي الإنساني:  

وهو مجموعة القواعد القانونية التي تطبق في حالات الصراعات المسلحة بهدف حماية السكان المدنيين وتقديم المعونة للجرحى والمرضى، وقد ساهمت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في وضع القواعد المتعلقة بحماية حقوق الإنسان أثناء الحروب.

5- القانون الدولي الجوي: 

وهو قانون يتضمن القواعد القانونية الدولية التي تنظم الملاحة الجوية والطيران واستخدام الجو للأغراض السلمية، ومن أهم الاتفاقيات المؤسسة لهذا القانون اتفاقية شيكاغو عام 1944.  

6- القانون الدولي لحقوق الإنسان:

وهو قانون يتشكل من القواعد القانونية الدولية، التي تكفل حماية كرامة الإنسان وحقه في المواطنة عموما، وهو قانون قلل من احتكار الدولة لمعاملة مواطنيها مضيفا اهتمام المجتمع الدولي بتلك المعاملة سواء كان الإنسان فردا أو مندرجا في مجموعة. وقد عرفه د. محمد حافظ غانم بقوله: "بأنه تلك الحقوق التي يتمتع بها الإنسان لمجرد كونه إنسانا أي بشرا بصرف النظر عن جنسيته أو ديانته أو أصله وهي حقوق طبيعية سابقة على الإنسان والدولة".  

خامسا: تميز القانون الدولي العام عن غيره من القوانين

نحاول الإشارة في هذا السياق إلى القوانين التالية:   

1- تميزه عن القانون الدولي الخاص.  

2- تميزه عن المجاملات الدولية.  

3- تميزه عن الأخلاق الدولية. 

1- تميز القانون الدولي العام عن القانون الدولي الخاص:  

على الرغم من الصفة الدولية المشتركة فإن القانونين يتمي ازن عن بعضهما من حيث الموضوع الذي يعالجانه ومن حيث المكان الذي يطبقان فيه، حيث أن القانون الدولي العام ينظم العلاقات بين أشخاص القانون الدولي وعلى رأسها الدول خصوصا، حيث يحدد واجبات الدول والت ازماتها وكذلك يحدد طرق تسوية المنازعات بين هذه الدول، وٕإجمالا ينحصر اهتمام القانون الدولي العام بوضع الدولة على المستوى العالمي وفي الهيئات الدولية وعليه فمجال تطبيقه ينصب دائما على المستوى الدولي.

أما القانون الدولي الخاص فهو ذلك الفرع من فروع القانون الداخلي والذي يختص بحماية حقوق الأفراد في الدولة دون أن يكترث بالدول فهو الذي يحدد جنسية الأشخاص التابعين للدولة ومركز الأجانب فيها ويبين الحلول الواجبة الاتباع في مسائل التنازع الدولي للقوانين والاختصاص القضائي. فهذا القانون يتكون من مجموعة قواعد قانونية تنظم في الدولة علاقات المواطنين بغيرهم من الأجانب عندما تتضمن هذه العلاقات عنصرا أجنبيا يتصل بجنسية الأفراد ومحل إقامتهم أو موضع أملاكهم أو بالمكان الذي تعاقدوا فيه. وهذه القواعد هي التي تحدد القانون الذي يطبق على هذه العلاقات وتحدد المحكمة المختصة. 

2- تميز القانون الدولي العام عن المجاملات الدولية: 

المجاملات الدولية هي تصرفات مسلكية اعتادت الدول أن تأخذ بها وتعمل بموجبها في علاقاتها الخارجية بغية تحسين هذه العلاقات والحفاظ عليها ودون أن يترتب على الإخلال بها أو إهمالها أي التزام قانوني أو أخلاقي أو أية مسؤولية خارجية.

وتعرف كذلك بأنها عبارة عن مجموعة من العادات تسير عليها الدول على سبيل المجاملة لتسير العلاقات فيما بينها وذلك من دون أي التزام قانوني أو أخلاقي يقع عليها، ومن أمثلتها إعفاء الدبلوماسيين الأجانب من الضرائب، عدم التعرض لسفن الصيد في أثناء الحرب، تمتع رؤساء الدول السابقين بنفس الامتيازات التي كانت مقررة لهم قبل زوال صفة الرئاسة عنهم. 

والفرق الجوهري بين قواعد المجاملات الدولية وقواعد القانون الدولي يكمن في أن خرق قواعد القانون الدولي يعد عملا غير مشروعا ترتب عليه المسؤولية الدولية في حين أن عدم قيام الدولة بما يعتبر مجاملة دولية لا يعتبر عملا غير مشروعا ولا تترتب عنه المسؤولية الدولية، بل يعتبر عمل غير ودي والرد والعمل الوحيد الذي تستطيع الدولة المتضررة أن تقوم به هو معاملتها له بالمثل. 

ونظرا لأن قواعد المجاملات تنشأ من العرف والعادة فقد يحدث أن تتحول في كثير من الأحيان إلى قواعد قانونية. ومثال ذلك قواعد القانون الدولي الخاصة بالحصانات والامتيازات الدبل وماسية وقد يحدث العكس بأن تتحول قواعد القانون الدولي في بعض الأحيان إلى مجرد قاعدة من قواعد المجاملة عندما تفقد وصف الإلزام القانوني، ومثل ذلك التحية البحرية حيث كانت قاعدة قانونية وصارت مجرد مجاملة دولية.  

3 - تميز القانون الدولي العام عن قواعد الأخلاق الدولية: 

قواعد الأخلاق الدولية هي عبارة عن مجموعة من المبادئ السامية التي يفرضها الضمير العالمي على الدول لمراعاتها في سلوكها مع بعضها البعض، وذلك من غير إلزام قانوني من جانبها، ومن أمثلتها استعمال الرأفة في الحروب والتمسك بالإخلاص وصدق الوعود، وتجنب الكذب والخداع، وتقديم المساعدة الدولية وٕإن مخالفة هذه القواعد لا تعد مخالفة دولية، ومن ثم فهي لا ترتب مسؤولية دولية غير أن عدم مراعاة هذه القواعد قد يثير الرأي العام العالمي ضد الدولة المخلة أو المخالفة. 

وقواعد الأخلاق الدولية تحتل وتشغل مكانا وسطا بين المجاملات والقانون الدولي العام فالعامل المشترك بينها وبين المجاملات هو عدم وجود الصفة الإلزامية القانونية أما ما يقربها من القانون الدولي فهو إن مصالح الدول تفرض مراعاتها لأن الأستهتار أو الاستخفاف بها قد يعرض هذه المصالح للأخطار ويثير الرأي العام العالمي ضد الدولة المخلة أو المخالفة.

وقد تتحول قواعد الأخلاق الدولية إلى قواعد قانونية سواء كان ذلك عن طريق العرف الدولي أو الاتفاقات الدولية ومن أمثلة ذلك اتفاقية جنيف المتعلقة بمعاملة أسرى الحرب المعقود سنة 1949 والتي عدلت عدة مرات. 

سادسا: علاقة القانون الدولي العام بغيره

ونحاول الإشارة في هذا الصدد إلى:  

1- علاقته بالقانون الداخلي.  

2- علاقته بالعلاقات الدولية. 

1 - العلاقة بين القانون الدولي العام والقانون الداخلي

إن دراسة العلاقة بين القانون الدولي العام، والقانون الداخلي تقتضي التعرض للنظريتين اللتين حاولتا تحديد تلك العلاقة، وهما نظرية ازدواج القانونين التي تنكر أية اربطة بين القانونيين، واستندت الأخرى إلى فكرة وحدة القانون التي تقول بوجود صلة وثيقة بين القانونين وتوجب تغليب إحداهما على قواعد الآخر عند التعارض ونحاول التعرض لكلا النظريتين في الآتي:

أ- نظرية ازدواج القانونين (le Dualisme): تعتبر هذه النظرية أن القانون الدولي والقانون الداخلي نظامين متساوين مستقلين ومنفصلين كل منهما عن الآخر ولا تداخل بينهما وأهم أنصارها "تربيل وانزلوتي" وهذه النظرية امتداد نظري للفقه الإرادي الذي يؤسس القوة الإلزامية للقانون على رضا الدول ويبرر أنصار هذا الاتجاه إلى الاختلافات الكبرى بين القانونين ومنها:  

1- اختلاف المصادر والأسس وطريقة التكوين التي يرتكز عليهما كل منهما.  

2- اختلاف المخاطبين بقواعد القانونين.  

3- اختلاف الأشخاص أو الهيئات التي تشرف على تطبيق كل منهما.  

4- اختلاف طريقة الجزاء التي تطبق عند الإخلال بقواعد كل منهما.  

5- اختلاف نطاق الصلاحيات التي تقيد الصلاحيات بقاعدة قانونه الداخلي. 

ب- نظرية وحدة القانون: تعتبر هذه المدرسة امتدادا للنظريات الموضوعية التي تبحث في أساس القوة الإلزامية لقواعد القانون الدولي، وتعتبر هذه النظرية أن كلا القانونين كتلة قانونية واحدة غير قابلة للتجزئة. 

غير أن الكثير من الفقهاء يميلون إلى عدم ترجيح إحدى النظريتين المذكورتين على الأخرى، لأن كلاهما له سلبيات وٕإيجابيات فمن المبالغة القول بأن القانونين مستقلان تماما كلاهما عن الآخر. ذلك أن هناك مواطن التلاقي والتكامل وهناك مواطن الانفصال والاختلاف بين القانونين. 

وعليه نحاول الإشارة إلى مظاهر التباين والتكامل بين القانونين. 

1 - مظاهر التباين بين القانون الدولي والقانون الداخلي:  

- باستطاعة السلطة الحاكمة أن تلغي أو تعدل قاعدة قانونية داخلية ولكنها لا تستطيع أن تلغي أو تعدل قاعدة من قواعد القانون الدولي العام إلا إذا تم التغير برضا بقية الدول. 

- ليس باستطاعة القانون الدولي، إلغاء قاعدة داخلية متعارضة مع قواعده بل يتم ذلك بالطرق التشريعية الداخلية.

- أن صفتي الديمومة والإل ازم اللتين يتصف بهما النظام القضائي الوطني لم يعرفهما القضاء الدولي إلا منذ عهد قريب.

- هناك تفاوت كبير في الأهمية بين الأشخاص الذين يهتم بهم كل من القانونين الدولي و الداخلي.  

2 - مظاهر التكامل بين القانون الدولي والقانون الداخلي:  

هناك عدة مظاهر تكامل نلمسها في المظاهر التالية:  

نجد أن معظم تشريعات الدول الحديثة تشير إلى التزامها بالقانون الدولي والمواثيق والتشريعات الدولية، وتشير إلى ذلك خاصة في دساتيرها، بل وتحاول الدول بصورة عامة أن توفق بين قانونها الداخلي وقواعد القانون الدولي العام، بل أن بعض الدول عمدت إلى إدماج القانون الدولي في تشريعاتها الوطنية، فالمادة السادسة من دستور أمريكا تنص على أن "جميع المعاهدات التي أبرمتها أو ستبرمها الولايات المتحدة تعتبر القانون الأعلى لهذه الدولة وتنص المادة 32 من الدستور الجزائري الحالي:  

"أن المعاهدات التي يصادق عليها رئيس الجمهورية تسمو على القانون".  

أن القضاء الوطني يطبق بصورة عامة قواعد القانون الدولي إذا كانت لا تتناقض مع قوانينه الوطنية. 

إن القوانين الداخلية لبعض الدول تحتوي على الكثير من القواعد الدولية وتتضمن كذلك على تفسيرات وشرح لهذه القواعد مثل تحديد عرض البحر الإقليمي وبيان حقوق الأجانب وواجباتهم وتعيين الامتيازات والحصانات التي يتمتع بها المبعوثون الدبلوماسيون. 

سابعا: أساس الإلزام في القانون الدولي العام

إن أساس الإلزام على مستوى القوانين الداخلية للدول لا تثير إشكال لوجود سلطة عليا موجودة هي التي تصدر القوانين غير أن الصعوبات تثار على المستوى الدولي لغياب سلطة عليا تشرف على ذلك. فإذن من يفرض قواعد القانون الدولي على الدول المتساوية في السيادة، وما هو أساس القانون الدولي العام ومن يضفي صفة الإلزامية عليه؟ نحاول الإجابة على جملة هذه التساؤلات في الآتي:   

- أساس الإلزام في القانون الدولي العام:  

يقصد به أساس القانون الدولي العام الذي تستمد منه قواعد هذا القانون قوتها الإلزامية وقد اختلف الفقهاء في تحديد الأساس الذي تستمد منه هذه الصفة. وعليه، إن البحث في أساس الإلزام في القانون الدولي كان محل نقاش وبحث بين فقهاء القانون الدولي لكون أن قواعد القانون المذكور لا تفرضها سلطة عليا كما هو الشأن في داخل الدولة الواحدة. فإذن من يفرض قواعد القانون الدولي العام على الدول المتساوية في الحقوق والتي لا تخضع لسلطان أعلى من سلطانها ومن يضفي على قواعده صفة الإلزامية. 

وفي هذا الصدد فقد انقسم الفقهاء إلى فريقين فريق يقيم القانون الدولي العام على إرادة الدول ويسمى المذهب الوضعي أو الإرادي، وفريق ثاني يرى أن أساس القوة الإلزامية للقانون الدولي تكمن في عوامل موضوعية مادية مستقلة عن الإرادة الإنسانية ويسمى هذا بالمذهب الموضوعي وعليه نتناول الاتجاهين وفق الآتي: 

1 - المذهب الإرادي: يرى أنصار المذهب الإرادي أن أساس القوة الإلزامية للقانون الدولي العام هي إرادة الدول وحدها لا غير فكما أن القانون الذي يحكم الدولة ويطبق على كل أف اردها فكذلك على مستوى الدول يمكن للقوانين أن تطبق وتنظم العلاقات بين الدول.  

فكما أن القانون الداخلي هو وليد الإرادة المنفرد للدولة فكذلك القانون الدولي هو وليد الإرادة الجماعية للدول. ولقد نجم عن هذا المذهب نظريتين هما:

1- نظرية الإرادة المنفرد أو التحديد الذاتي.  

2- نظرية الإرادة المشتركة.

ونحاول التطرق لكلا النظريتين بإيجاز:

أ- نظرية التحديد الذاتي: من أهم القائلين بهذه النظرية الفقيه الألماني "جورج جلينك" وفحواها أن الدول ذات سيادة لا يمكن أن تخضع لإرادة أعلى من إرادتها وبانعدام هيئة عليا فإن إرادة الدولة هي مصدر الالتزام إذ أن الدولة تتقيد بمحض إرادتها بالقواعد الدولية إذا شاءت الدخول في علاقات مع الجماعة الدولية يؤخذ على هذه النظرية أنها تؤدي إلى عدم الاستقرار والاضطراب في العلاقات الدولية ذلك أنه بإمكان أية دولة أن تلتزم بقواعد القانون الدولي بمجرد إعلانها عزمها على التقيد بها، إذ أنه ما دام التزامها بقواعد هذا القانون ناشئا عن إرادتها وحدها فلها أن لا تلتزم بها في أي وقت تقتضي إرادتها أن لا تلتزم بها وفي هذا هدم للقانون من أساسه.

كذلك فقد وصفت النظرية كونها تستند إلى الإرادة المنفردة التي تتناقض مع مبدأ الإلزام إذ أن الدولة تظل طليقة الأيدي لتنصل من التزاماتها الدولية.

ب - نظرية الإرادة المشتركة: نادى بهذه النظرية الفقيه الألماني تربيل ويرى إن أتحاد إرادة الدول هو الأساس الذي تستمد منه قواعد القانون الدولي قوتها الإلزامية وانتقدت هذه النظرية على أساس أنه ما دام مبدأ الإلزام قائما على الإرادة الجماعية فما الذي يمنع الدول من عدم احترام وعدم التقيد بالقواعد التي ساهمت في إيجادها وعدم الالتزام بها. يضاف إلى هذا أن فكرة الإرادة الجماعية لا يمكن أن تفسر التزام الدول التي انضمت حديثا إلى الجماعة الدولية بقواعد القانون الدولي الناشئة عن هذه الإرادة التي لم تسهم في وجودها. 

2 - المذهب الموضوعي: إن النظريات القائلة بالمذهب الموضوعي تبحث عن أساس للقواعد الدولية خارج دائرة الإرادة الإنسانية، حيث أن أساس القانون وفقا لهذا المذهب تعينه عوامل خارجية عن الإرادة حيث أن هناك عوامل مستقلة عن الإرادة تخضع لها القواعد الدولية وتستمد منها قوتها الإلزامية. 

ويتفرع عن هذا المذهب النظريات التالية: 

أ- النظرية المجردة للقانون: تستند هذه النظرية إلى تدرج القوانين وتقول بها المدرسة النمساوية بزعامة "كلسن وفردروسن" وهي تقوم على اعتبار كل تنظيم قانوني يستند على هرم من القواعد فكل قاعدة قانونية لا تغير إلا باستنادها إلى قاعدة أخرى تعلوها، وذلك في تدرج هرمي يمتد من أسفل إلى أعلى للانتهاء إلى قاعدة أساسية افتراضية تسود وتسمو على جميع القواعد الأخرى وتكسبها قوتها الإلزامية. ويؤخذ على هذه النظرية أنها تقوم على مجرد افتراض نظري غير قابل للإثبات هذا فضلا على أنها لم تبين المصدر الذي تستمد منه القاعدة الأساسية وجودها وقوتها الإلزامية.

ب - نظرية التضامن الاجتماعي: يرجع الفضل في إيجاد هذه النظرية إلى الفقيه الفرنسي "ليون دوجي وجورج سل"، حيث يقول "دوجي" بأن أساس القوة الملزمة للقانون هو ضرورات التضامن الاجتماعي ذلك أن أفراد الجماعات البشرية في حاجة إلى التضامن الاجتماعي فيما بينهم مما يؤدي إلى وضع القوانين" أما الأستاذ "جورج سل" فيذهب إلى القول بأن القانون ليس إلا حدث اجتماعي قائم على ضرورات الحياة في المجتمع. ذلك أن الحدث الاجتماعي المتمثل في القيود التي تفرض نفسها فتشعر الجماعة الدولية بإلزامها نظرا لضرورتها للحفاظ على تلك الجماعة وبقائها، وعليه، فالقيود تتحول إلى قواعد قانونية متى ذاع الشعور بوجودها وهي تكتسب وصف الإلزام من ضرورة خضوع أفراد مجتمع معين لها للمحافظة على وجود هذا المجتمع.

ويعاب على هذه النظرية أن الأساس الذي تقدمه للقانون غامض وناقص إذ لا يمكن أن يكون أساس القانون في الحدث الاجتماعي وضرورة المحافظة على حياة الجماعة وبقائها لأن الجماعة الإنسانية سبقت القانون في الوجود لذا قد تصلح نظرية جورج سل لتبرير وجود القانون لكنها لا تصلح لتفسير أساسه الملزم. 

ج- نظرية المصلحة: وقد نادى بها من الفقهاء "هيجل وفحوى النظرية أن المصلحة التي تعتبر غالبا الأساس الأول لقيام العلاقات الدولية هي أيضا مصدر التزام الدول بالقواعد التي تنظم هذه العلاقات.

ويعاب على هذه النظرية بقولها بقيام القاعدة القانونية على أساس المصلحة لكون أن المصلحة قد تؤدي إلى خرق القوانين الدولية عندما تقتضى المصلحة ذلك وكذلك لكون المصلحة لا تصلح لأنها تتغير وتختلف تبعا للظروف والأهواء.

د - نظرية التوازن الدولي: هذه النظرية مثلتها السياسية الأوروبية عند وضع نصوص معاهدة وستفاليا لعام 1648 التي مفادها أن موازنة القوى بين الدول الأوروبية المتصارعة كفيل بضمان السلم العام ويعاب على هذه النظرية رغم أنها سادت المرحلة تاريخية محددة إلا أن النظرية تقوم على فكرة سياسية والسياسة لا تعرف الثبات والاستقرار والوضوح ومن جهة أخرى فإن فكرة التوازن تهم الدول الكبرى فقط وتحاول أن تفرض عليها احترام أوضاع سياسة راهنة دون أن تبالي بمصالح الدول الضعيفة. 

هـ - نظرية مبدأ الجنسيات: لقد كان هذا المبدأ مرجعا وسببا في قيام الوحدة الألمانية والإيطالية ومؤدي هذا المبدأ أن لكل شعب الحق في الحرية وبحق كل جنس من البشر في تكوين دولة مستقلة وأن مبدأ إقامة الدولة على اعتبارات الجنسيات هو الأكثر ضمانا لحسن العلاقات الدولية.

وقد نادى بهذه النظرية الفقيه الإيطالي "مانشيني MANCINI " ويعاب على هذه النظرية هو سكوتها عن الأسباب التي تجعل الدولة القائمة على وحدة الجنس أكثر تقييدا من غيرها بالقواعد القانونية الدولية، ذلك أن مسألة الالتزام تنصب على طبيعة العلاقات الدولية لا على صفة الدولة.  

وخلاصة القول: أن جملة النظريات والمذاهب التي حاولت إيجاد أساس القانون الدولي لم تسلم من النقد. ذلك أن كلا من هذه النظريات تشكو من ضعف في مضمونها ذلك أنها تركز على عنصر واحدا لتجعله أساس الإلزام في القانون الدولي غير أنه إذا أمعنا النظر في طبيعة القانون الدولي العام وأساس الإلزام نجده يستند إلى جملة العناصر مجتمعة التي جاءت بها النظريات والمذاهب الإرادية والاجتماعية ذلك أنه فعلا أن القانون الدولي هو وليد الحاجات الاجتماعية غير أن هذه الحاجة التي هي دافع لإيجاد مبادئ سلوك معينة إنما تحتاج الرضا الدول حتى تتحول المبادئ إلى قواعد قانونية ملزمة وهذا المنحى والاتجاه هو ما قررته محكمة العدل الدولية في قضية لوتيس lotus عام 1927 بتصريحها أن القانون الدولي ينظم العلاقات بين الدول وأن أساس القواعد الرابطة بين الدول هو إرادة نفس هذه الدول وهي الإرادة الحرة المبلورة في الاتفاقيات الدولية أو في العرف.

ثامنا: أهداف القانون الدولي العام

يثار التساؤل عند دراسة القانون الدولي العام عن الغاية التي يسعى إليها هذا القانون وهذا ما سنحاول الإجابة عليه في الآتي: 

إن أهمية التعاون الدولي في مجالات الحياة يستلزم إقامة علاقات منتظمة ودائمة بين الدول يسودها الاحترام المتبادل والأمن والاستقرار ولتحقيق كافة هذه الأمور يجب أن تتعاون الدول وتتفق على إيجاد قواعد قانونية تشكل مرجعية عليا تنطوي تحتها كافة الدول تلتزم بما تقرر من قواعد وأحكام وتلك هذه مهمة القانون الدولي الذي يسعى إلى تنظيم علاقات الدول في جو يسوده الوئام وحل النزاعات الدولية بما يخدم الأمن والسلم الدوليين، وهذا على اعتبار أن البشر كلهم سواسية ويتمتعون بكافة الحقوق والالتزامات أيا كانت جنسيتهم أو عنصرهم.

تاسعا: مصادر القانون الدولي العام 

تبدو أهمية معرفة وتحديد مصادر القانون الدولي العام عملا معتبرا وخطرا إذ يرتبط باستقرار وتعايش الشعوب والدول ولجوء هذه الأخيرة إلى الوسائل السلمية والقانونية حال نشوب النزاعات فيما بينها. وعليه، فإن وجود هذه المصادر قد يساهم في تنوير القضاء الدولي في تحديد القواعد القانونية الدولية الواجبة التطبيق على النزاعات الدولية. ذلك أن القاضي الدولي لا يستطيع الحكم على ضوء القوانين الوضعية التي يقرها الطرفان أو الأطراف المتنازعة وعليه، فمصادر القانون الدولي العام هي تلك التي تثبت في النصوص الوضعية. 

- تمهيد

ويميز الفقه، عموما بين المصادر المادية والمصادر الشكلية للقانون، والمصادر المادية هي المصادر المنشئة للقانون، أو المصادر الحقيقية له فهذه المصادر تبحث في العوامل غير القانونية التي تصنع القانون وبالتالي ليس لها أهمية من الناحية القانونية، إلا إذا كانت محل اتفاق إرادات الدول المنشئة للقانون الدولي والمخاطبة به في آن واحد. 

أما المصادر الشكلية التي تستمد منها القاعدة الدولية كيانها الخارجي أي تلك المصادر المتمثلة في الكيفيات التقنية لوضع القواعد القانونية وصحة هذه القواعد، وقد ورد أول ذكر وتحديد للمصادر الشكلية في المادة السابعة م7 من اتفاقية لاهاي الثانية المنعقدة في 18 أكتوبر من عام 1907 والمتعلقة بإنشاء محكمة دولية للغنائم فهذه المادة تحدد المصادر القانونية التي تستند إليها المحكمة. غير أن هذا النص لم يدخل حيز التطبيق بسبب عدم إنشاء المحكمة الدولية للغنائم ولهذا لم يبقى له من أهمية في دراسة القانون الدولي إلا فائدة تاريخية. 

وقد تضمن النظام الأساسي للمحكمة الدائمة العدل الدولي المؤرخ في 16 ديسمبر 1920 في المادة 38 المصادر التي تطبقها المحكمة غير أن المحكمة المذكورة اختفت مع زوال عصبة الأمم وبعدها جاء النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية التي حلت محل المحكمة السابقة وبعد إنشاء هيئة الأمم المتحدة ضم نظام محكمة العدل الدولية إلى الميثاق الأممي تبنت المادة 38 من هذا النظام نص المادة التي تحمل نفس الرقم في نظام المحكمة السابقة. 

والمادة تنص على ما يلي "إن مهمة المحكمة هي الفصل في المنازعات التي ترفع إليها وفقا لأحكام القانون الدولي وهي تطبق في هذا الشأن:  

أ‌- الاتفاقيات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترف بها صراحة من جانب الدول المتنازعة.  

ب‌- العرف الدولي المعتبر بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال.  

ج - مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدنة

د- أحكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم. ويعتبر هذا وذاك مصدرا احتياطيا القواعد القانون وذلك مع مراعاة أحكام المادة 59 التي تنص أنه لا يمكن للحكم قوة الإلزام إلا بالنسبة لمن صدر بينهم وفي حدود النزاع الذي فصل فيه.

- لا يترتب على النص المتقدم ذكره أي إخلال بما للمحكمة من سلطة الفصل في القضية وفقا لمبادئ العدل والإنصاف متى وافق أطراف الدعوى على ذلك.  

وأهم ما يمكن استخلاصه من نص المادة 38 ما يلي: 

1- تأتي قيمة النص في القانون الدولي من تضمينه في النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية وهو نظام ملحق بميثاق الأمم المتحدة وجزء لا يتجزأ منه (م 92 من الميثاق) ويعتبر جميع أعضاء الأمم المتحدة بحكم عضويتها أطرافا في النظام الأساسي للمحكمة.  

2- يلاحظ أن نص المادة 38 أشار إلى مجموعة من المصادر، ومن خلال المناقشات التي جرت بشأن تحضير مشروع المادة سنة 1920. فبالرغم من الخلافات التي وجدت بين أعضاء اللجنة حول هذا التقسيم فإن غالبية الأعضاء ويشاركهم في ذلك فقهاء القانون الدولي الحاليين بأن المقصود بهذا التقسيم ليس القصد منه إعطاء الصدارة أو الأولوية للمعاهدات والأعراف حتى الفقرة د أي على شكل نظام تدريجي وإنما المقصود بهذا التقسيم هو وضع نظام خاص للمحكمة في استعمال هذه الأدلة والوسائل لحل المنازعات المعروضة عليها.

غير أنه يلاحظ أن النتيجة المنطقية السالفة الذكر لم تعد تلقى القبول العام حيث نلاحظ بأن بعض المعاهدات الشارعة قد احتوت على مواد يمكن أن نستخلص منها إشارات غير مباشرة لتدرج في قواعد القانون الدولي العام حيث نصت المادة 102 من ميثاق الأمم المتحدة على ما يلي: "...إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقا لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي آخر يرتبطون به فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق. كذلك نجد أن غالبية الدول المشاركة في مؤتمر الأمم المتحدة القانون المعاهدات الذي انعقد في فينا عام 1969 رفضت إمكانية تعديل المعاهدة عن طريق العرف، ولم تجد هذه الإمكانية مكانا لها في النص النهائي الاتفاقية فينا لقانون المعاهدات لعام 1969. 

وعليه، أصبح من المستقر عليه أن المعاهدة لا يجوز أن تخالف بعض القواعد العرقية التي تكتسب صفة القاعدة الآمرة. حيث نصت المادة 53 من الاتفاقية على بطلان المعاهدة إذا كانت وقت إبرامها تتعارض مع قاعدة آمرة من القواعد العامة للقانون الدولي وكذلك نصت المادة 1/64 على انقضاء المعاهدة النافذة في حالة ظهور قاعدة آمرة جديدة من القواعد العامة للقانون الدولي تتعارض معها. وهكذا تبين لنا أن اتفاقية فيينا نصت على صدارة وأولوية القواعد الآمرة على القواعد القانونية الدولية الأخرى. 

ومن خلال ما سبق ذكره تبين أن القانون الدولي المعاصر يعرف فكرة التدرج بين مختلف مصادره يضاف إلى ذلك أن المادة نفسها تصف أحكام المحاكم ومذاهب كبار الفقهاء بأنها مصادر معاونة أو احتياطية أو مساعدة ويعني هذا أن المصادر الثلاثة الأولى هي مصادر أصلية أساسية للقانون الدولي (المعاهدات والعرف والمبادئ العامة للقانون). 

وتشترك هذه المصادر الأصلية في خاصية كبرى وهي أنها جميعا تصدر عن الدول التي تعد كما هو معروف أهم أشخاص القانون الدولي والتي تتمتع بشخصية قانونية كاملة.

google-playkhamsatmostaqltradent