أهم المذاهب الفقهية بشأن أصل القانون

أهم المذاهب الفقهية بشأن أصل القانون 

أهم المذاهب الفقهية بشأن أصل القانون

ظهرت عدّة مذاهب فقهية في سبيل تحديد أصل القانون ولكل مذهب أسس خاصة يستند إليها، ويوجد اتجاهين فقهيين أساسيين وهما المذاهب الشكلية والمذاهب الموضوعية، ولكل مذهب من هذه المذاهب أراء فقهية تستند على أسس مختلفة، ونظرا لوجود انتقادات لكلا من المذهبين الشكلية والموضوعية ظهر مذهب أخر يمزج بين إيجابيات المذاهب الشكلية وإيجابيات المذاهب الموضوعية عرف بالذهب المختلط. 

I- المذاهب الشكلية: 

ويقصد بها تلك المذاهب التي تهتم بالجانب الشكلي للقانون، بمعنى أن القوة الإلزامية للقاعدة القانونية تنبثق من الجانب الشكلي من حيث صدورها من سلطة عليا.

تعتبر الشكلية الميزة الأساسية في القاعدة القانونية، وقد أيد العديد من الفقهاء والفلاسفة هذا الموقف فإن كانت تتفق في جوهرها ومبدأها إلا أنها تختلف في بعض الجزيئات، ومن أهم الفقهاء والفلاسفة المؤيدين للمدرسة الشكلية في تحديد القاعدة القانونية نذكر ما يلي:

أولاً: مذهب أوستن:

أوستن فيلسوف وأستاذ جامعي من جامعة لندن (انجليزي)، أسس مذهبه بالاعتماد على النظريات القديمة خاصة اليونانية أين يرون أن القانون هو فعل القوة.

بحيث يرى الفقيه أوستن أن القانون هو أمر ونهي يصدر من الحاكم استناد إلى السلطة السياسية وينفذها على جبرا على المحكومين ومقترنة بجزاء. 

1- أسس مذهب أوستن: يستند هذا المذهب على ثلاث أسس أساسية وتتمثل فيما يلي:

- وجود حكم سياسي: لا يقوم القانون عند أوستن إلا بوجود حاكم يخضع له الجميع ويتمتع الحاكم بالسيادة السياسية، مما يستوجب وجود نظام يقسم المجتمع إلى طبقتين طبقة حاكمة بيدها السلطة والقوة ولها الحق في الأمر والنهي سواء أكان هذا الحاكم فردًا أو على شكل هيئة ومهما كان نوع النظام السياسي المنتهج.

- وجود أمر ونهي (التكاليف): بمعنى ما يصدر من الهيئة الحاكمة أو الحاكم، وإما يكون أمر بالفعل أو نهي بعدم الفعل للمحكومين الذي يجب عليهم الطاعة والخضوع، فعند أوستن القانون ليس مجرد نصيحة تقدم للمجتمع وتترك لهم الحرية في الطاعة أو عدم الطاعة ولا يقتصر للهيئة الحاكمة الأمر أو النهي وإنما يرتبط بتوقيع الجزاء.

- توقيع الجزاء: يرى أستن أن القانون وضع من طرف السلطة الحاكمة أو من الحاكم نفسه ليكن مطاعًا ومطبقًا، وفي حالة عدم تطبيقه يجب توقيع الجزاء على المنتهك ويسمى بالجزاء القانوني توقعه السلطة الحاكمة التي لها قوة الجبر عند الخروج عن الطاعة أي هو الخروج عن القانون.

2- نقد مذهب "أوستن": 

- حصر التشريع كمصدر واحد للقانون باعتبارها تصدر من السلطة الحاكمة دون المصادر الأخرى رغم لدور الفعّال للعرف خاصة في تنظيم مجالات مختلفة في الحياة.

- اعتماد أوستن على إرادة الحاكم بشكل مطلق في وضع القواعد القانونية (القانون) وهذا يعنى استبعاد الظروف الاجتماعية التي تحيط بالمجتمع مما يؤدي إلى خلق الاستبداد والقهر والديكتاتورية وظهور طبقتين في المجتمع حاكمين ومحكومين.

- المزج بين القانون والقوة لدرجة تم إعطاء لسلطة الحاكمة الإرادة الكاملة في وضع القانون وله أن يفرض ما يشاء استنادا لإرادته الخاصة لدرجة أصبح القانون في خدمة الحاكم أين كان من المفروض أن يكون الحاكم هو من يخدم القانون ويسهر على تطبيقه ويتقيد بنصوصه.

- عدم تميز أوستن بين القانون والدولة بحيث يرى أن القانون لا يتحقق إلا بوجود نظام سياسي معين، غير أن الحقائق السياسية التاريخية تثبت أن الإنسان الأول كان منظم في مجتمع تسوده مجموعة من الأعراف ثم بعد ذلك أصبح مجتمع سياسي يعيش على شكل مدن (المدينة في المجتمعات الحضارات القديمة كأنها الدولة بمفهومها الحديث).

- يرى أوستن أن القانون هو من صنع الحاكم وبالتالي له السلطة المطلقة فيه ولا وجود لهيئة أعلى منه مما يعنى إمكانية مخالفته لهذه القوانين كما لا يمكن أن نتصور الحاكم يوقع الجزاء على نفسه عند مخالفتها وهذا ما يعنى إنكار الصفة القانونية للقانون الدستوري الذي يمكن من خلال قواعده فرض مراقبة على السلطة الحاكمة أو الحاكم.

- إنكار أوستن فكرة القانون الدولي بحيث يقول لا وجود لسلطة عليا فوق الدول ولا وجود لها في مجتمع دولي لعدم وجود سلطة عليا في المجتمع الدولي تضع هذه القواعد ذات طابع دولي وتفرض احترامها وتطبيقها على كل المجتمعات.

ثانيًا: مذهب الشرح على المتون

تسمية هذا المذهب لم تأتي على أحد الفقهاء أو أحد الفلاسفة نظرًا لكون هذا المذهب ناتج عن جهد وآراء مجموعة من الفقهاء في فترات تاريخية متعاقبة من فرنسا، فكان أسلوبهم في شرح القانون ومعناه يعتمد كلية على التقنين الذي وضعه نابليون في أوائل القرن 19م إثرى تجميع وتوحيد قواعد القانون الفرنسي دون أي نظرة نقدية فحسب رأيهم التقنين في غاية الدقة والتركيب والجمال لدرجة أصبح مقدس لا عيوب فيها.

1- أسس مذهب شرح على المتون: بناء هذا المذهب جاء على أساسين وهما تقديس النصوص التشريعية واعتبار التشريع هو المصدر الوحيد للقانون.

- تقديس النصوص التشريعية: بالرجوع إلى الأوضاع التي كانت تعيشها فرنسا من اختلافات بين الشمال والجنوب خاصة من جانب النصوص القانونية بحيث سادة في شمال فرنسا العرف والتقاليد أم في الجنوب فكان النظام القانوني السائد مستمد من النظام الروماني، وتوحيد القانون الفرنسي كان حلم فرنسا حققه نابليون في عهده ونظرا لمزايا هذا التقنين أصبح يُحترم لدرجة التقديس ويفسرون قواعده كتفسير الكتاب المقدس ولا ينتقد على الإطلاق لأن في نظرهم يخلوا من العيوب وفي حال ما عجز أحدهم على تفسير أو تطبيق أي نص منه فيرجع العيب إلى الشارح وليس إلى التقنين.

- اعتبار التشريع المصدر الوحيد للقانون: يعتبر هذا المذهب التشريع هو المصدر الوحيد للقانون مما يعني حصر النصوص القانونية في التقنين الموضوع من طرف المشرع أو التي يصدرها المشرع دون النظر إلى الظروف الأخرى التي تساهم في تكوين القواعد القانونية وتطويرها، وما على القاضي إلا التطبيق والتقيد بأحكامها ويمنع بشكل مطلق اللجوء إلى مصادر أخرى لأنها ليست بنفس المنزلة والمكانة.

2- نقد مذهب شرح على المتون:

- اعتماد على مصدر واحد للقانون وهو التشريع الذي وضع من طرف الحاكم،

- تقييد القاضي بتفسير النصوص ليصل إلى حل المشكلة دون الخروج عن النصوص المقدسة فلا اجتهاد من طرف الشارح أو القاضي فلا يمكن الخروج عن ما هو موضوع من طرف المشرع،

- يلتزم المفسر أثناء تفسير النصوص المقدسة بالبحث عن نية المشرع أي نية واضع التقنين فالعبرة من تفسيرها هو إيضاح إرادة ونية المشرع،

- تقديس النصوص التي هي من إرادة المشرع وإهمال إرادة الأفراد، 

- الاعتماد الكلي على التشريع الذي هو إرادة الحاكم أو السلطة مما يفتح مجال أكبر للاستبداد، 

- يقع اللوم على المفسر أو الشارح في حالة عدم وصوله إلى تقديم تفسير لأي نص لأن في نظرهم لا عيب في هذه النصوص المقدسة ولا في مشرعها.

ثالثًا: مذهب هيجل

هيجل هو فيلسوف ألماني وأستاذ جامعي له عدة مؤلفات من المنطق، تاريخ الفلسفة، فلسفة القانون ... كما أن مذهبه انتشر بصورة واسعة.

1- أسس مذهب هيجل: تقوم فلسفة هيجل على أن الدولة سيدة نفسها في الداخل وفي الخارج ويعتبر القانون هو إرادة الحاكم المعززة بالقوة.

- معنى الدولة سيدة نفسها في الداخل: يرى الفقيه هيجل أنه لا توجد سلطة تعلو سلطانها في الداخل فيجب أن يخضع لها كل من يدخل في تكوينها، وأن المجتمع لن يصل إلى مرتبة الدولة إلا إذا كان بين الأفراد مصلحة عامة مشتركة تتجه إرادتهم في تحقيقها، فتتحد إرادتهم وحرياتهم في إطار ما يسمى وحدة الإرادات الفردية بمعنى حرية الإنسان لا تتحقق إلا باندماجه في الدولة مما يقضي خضوعهم خضوعًا تاما لها بعد تنازل عنها لصالح المصلحة العامة. 

وسيادة الدولة تتجسد في شخص واحد له حق التعبير بإرادته الخاصة عن الإرادات الفردية العامة، وتكون إرادته هو القانون الواجب التطبيق وله كل القوة الضرورية لفرض تلك الإرادة.

- معنى الدولة سيدة نفسها في الخارج: عند هيجل جميع الدول متساوية في السيادة ولا توجد سلطة بشرية دولية تقوم بتنظيم العلاقات بين الدول خاصة ما يتعلق بفض النزاعات التي قد تنشأ بينهم، ويرى الفقيه هيجل أن الحرب والقوة هو الحاسم في فرض إرادة الدولة عن الدول الأخرى بمعنى أن الغلبة للأقوى فالحرب والقوة عنده عادلة ومشروعة تنتهي لصالح الدولة الجديرة بالنصر التي تسيطر على العلاقات الدولية. 

2- نقد مذهب هيجل:

- الاستناد إلى مصدر واحد للقانون وهو التشريع ولا يأخذ بالمصادر الأخرى خاصة العرف، كما لا يراعي الظروف الاجتماعية والعوامل الأخرى التي تساهم في تكوين القاعدة القانونية،

- توحيد ما بين إرادة الحاكم المعززة بالقوة والقانون مما يؤدي إلى الاستبداد المطلق خاصة أن إرادة الأفراد وحرياتهم تذوب في كيان الدولة وفي المقابل سيادة الدولة ممثلة في شخص واحد يعبر عن إرادته التي تتجسد في شكل قانون مما يعني قيام الأنظمة الاستبدادية لا محال.

- ينتج عن مذهب هيجل في العلاقات الدولية أسلوب السيطرة والقوة والحرب لفض النزاعات والبقاء للأقوى وهذا ما يؤدي حتمًا إلى اضطراب العلاقات الدولية وعدم استقرارها.

رابعًا: مذهب كلسن

كلسن فيلسوف نمساوي وأستاذ جامعي لفلسفة القانون ويعتبر كلسن اكبر مذاهب المؤيدة للمدرسة الشكلية حيث يقتصر دراسته للقانون على أساس الشك لوحده واعتماده على المظهر دون الجوهر حتى سمي مذهبه بمدرسة القانون البحت أو الصافي.     

1- أسس مذهب كلسن: يقوم مذهب كلسن على أساسين هما استبعاد العناصر غير القانونية ووحدة القانون والدولة.

- استبعاد العناصر غير القانونية: حسب  الفقيه كلسن يرى أن القانون البحت يستوجب استبعاد الضوابط غير القانونية حتى تلك التي ساهمت على نشأة القانون كالظروف الاجتماعية والاقتصادية واستبعاد دراسة مدى تحقيق غايته من حيث المحتوى والمضمون لأن هذا من اختصاص علم الاجتماع والسياسة وحتى التاريخ، أما القانون البحت يجب أن يقتصر في دراسته على القانون كما هو فقط والبحث عن صحة صدوره من الهيئة المختصة أو الشخص صاحب الاختصاص والتحقيق من مدى إتباعه الإجراءات كما حددته السلطة المختصة أو عدم إتباعه.

فالقانون حسب الفقيه كلسن هو مجموعة من الضوابط القانونية ويتكون من قواعد قانونية عامة والخاصة وحتى الأوامر الفردية، مما يعني توسيع من دائرة القواعد القانونية وتميزها بالشمولية.

- وحدة القانون والدولة: عند كلسن القانون هو الدولة والدولة هي القانون أي دمج تام بين القانون والدولة فلا يكتفي بالقول أن الدولة هي صانعة القانون وإنما يعتبرها هي القانون فلا وجود لشخص المعنوي للدولة عند كلسن وإنما يعتبر الدولة هي مجموعة من القواعد القانونية على شكل هرم في قمته دستور، التشريع العقود، الأحكام القضائية والأوامر الفردية والتي تشكل في مجمله انظام قانوني كامل وهو الدولة.

وعند كلسن يقوم هذا النظام القانوني على هيئات مركزية مختصة بالتعبير عن القواعد القانونية والحرص على تطبيقها وحتى الجبر إن لزم الأمر ذلك باستعمال القوة العمومية التي تمارسها الدولة أو القانون عن طريق هيئة مختصة في ذلك.

2- نقد مذهب كلسن:

- استبعاد القانون عن البيئة الاجتماعية والعوامل الأخرى التي تساهم نشأة وتطوير القانون كالعوامل الاقتصادية السياسية والأخلاق...

- وضع الفقيه كلسن هرم للقواعد القانونية إلا أنه أهمل العرف وكذا قواعد القانون الدولي التي تنظم العلاقات الدولية، ووضع الدستور في قمة الهرم دون وجود أي سند أعلى يستمد منه المشروعية، كما أن في قاعدة الهرم توجد الأوامر الفردية إلا أن الأصل في القواعد القانونية تتميز بخاصية مهمة وهي العمومية والتجريد فالقواعد القانونية تخاطب الأشخاص بصفاتهم وليس بذاتهم في حين الأوامر الفردية تخاطب الشخص بذاته (قرارات فردية)،

- اعترف كلسن بوحدة الدولة والقانون دون إدراج أي سند قانوني في ذلك، والأصل أن الدولة مستقلة عن القانون حيث أصبح من المسلم به أن الدساتير تنص على تقييد سلطة الدولة وإلزامها باحترام الحقوق والحريات الأساسية في المجتمع (المبادئ المكرسة دستوريا).   

II/ المذاهب الموضوعية

تهتم المذاهب الموضوعية بجوهر وموضوع القانون دون الجانب الشكلي أو المظهر الخارجي له، فهي تذهب إلى تحليل القاعدة القانونية فلسفيا واجتماعيا للكشف والتعرف على طبيعة نشأة القاعدة القانونية عكس المذاهب الشكلية التي لا تنظر إلى هذا الجانب.

تتفق المذاهب الموضوعية على جوهر القانون عمومًا من حيث الجانب الموضوعي إلا أنه هناك بعض الاختلافات فيما بين المدارس، فهناك من يقول أن أصل القانون أو القاعدة القانونية وفلسفتها تستمدها من المثالية في حين اتجه البعض الأخر الحقائق الواقعية الملموسة التي تسجلها المشاهدات والتجارب العلمية فظهرت مدرستين المدرسة المثالية والمدرسة الواقعية.

أولاً: المدرسة المثالية

أهم المذاهب التي تستند على فلسفة المدرسة المثالية مذهب القانون الطبيعي الذي يتميز بالثبات، لكن سرعان ما انتقدت هذه الميزة وظهرت حركة إحياء القانون الطبيعي على اتجاهين.

1- مذهب القانون الطبيعي: 

يقوم مذهب القانون الطبيعي على فلسفة المثل العليا السامية الثابتة وموحدة على اختلاف المكان أو الزمان تقوم المنطق والعقل لوضع القانون.

أ- مبادئ القانون الطبيعي: يقوم هذا الاتجاه على وجود قانون أسمى من القوانين الوضعية ويستند على مبادئ عدّة منها ما يلي:

- القانون الطبيعي ثابت لا يتغير ولا يزول وموحد بين مكان وأخر وبين زمان وأخر، 

- قواعده مثالية عاليا تعبر عن نزعة الإنسان إلى الكمال وأصلا هي ليست من صنع الإنسان،

- قواعده تستخلصها العقل السليم والمنطق،

- قواعده تفرض نفسها وتؤثر على القواعد القانونية الوضعية،

بالنظر إلى هذه المبادئ السامية التي يتميز بها مذهب القانون الطبيعي الذي اتجه نحو المثل العليا في تكوين القاعدة القانونية والعدالة الإنسانية كأساس للقانون وفي حقيقة الأمر ترجع جذوره إلى فلسفة اليونان والرومان وفي مختلف الأزمنة وأهم النظريات أكثر تأثر بهذا المذهب هي نظري العقد الاجتماعي، وما يزال إلى حد الآن يؤثر على القوانين الوضعية.

ب- تطور القانون الطبيعي: تأثر القانون الطبيعي باختلاف الأزمنة وتغيرها.

- عند اليونان: يرى فلاسفة اليونان أن القانون الطبيعي هو قانون واحد وموحد وأعلى من كل شيء وليس من صنع الإنسان وتم استخلاصه عن طريق التأمل في النظام الثابت للكون كما أنه خالد لا يزول، فالقانون الطبيعي أسمى حتى من إرادة الدولة أو الحاكم أوجده الله في الكون ليستخلصها الإنسان بعقله، وتعدّ قواعده كمقياس لمدى عدل وكمال القوانين الوضعية وكانت تسميته عند فلاسفة اليونان (سقراط، أفلاطون وأرسطو) الرواقية.

- عند الرومان: تأثر الفكر الروماني بالفكر الإغريقي أين اعتبروا أيضا القانون الطبيعي أعلى من القوانين الوضعية وسابق في الوجود ويعتقد بوجود عدل أعلى من النظم والقوانين الوضعية وبوجود قانون ثابت وخالد مرافق لطبيعة والعقل السليم وينطبق على كافة الناس على وجه الدوام ولا يتغير من أثينا إلى روما.

- في القرون الوسطى: أصبح القانون الطبيعي في القرون الوسطى ذات صبغة دينية نظرًا لسيطرة رجال الدين وانتشار المسيحية واعتبار القانون الطبيعي قانون خالد وثابت ومن صنع الله وخالق الطبيعة حتى يفرضون سيطرتهم على المجتمع، وتم تقسيم القانون إلى ثلاث درجات يعلوها القانون الإلهي ثم القانون الطبيعي وأخيرًا القانون الوضعي، فالأول هو مشيئة إلاهية ويصل إليه الإنسان عن طريق الوحي أما القانون الطبيعي فيستخلص عن طريق العقل السليم وإدراكه أما في الدرجة السفلى يوجد القانون الوضعي الذي هو من صنع الإنسان والذي يستمد مبادئه من القانون الطبيعي وحتى إن كان مخالف له يعتبر غير عادل إلا يطبق إذا كان في الصالح العام ولا يجب أن يخالف القانون الإلهي على الإطلاق.

- في العصر الحديث: بعد زوال الكنيسة والإقطاعية وظهور الدولة الحديثة على أساس سيادة الدولة، بحيث تم تأييد هذه الفكرة من طرف الفلاسفة والفقهاء مما أدى إلى اضمحلال وانكماش فكرة القانون الطبيعي وتم إعطاء للحاكم كل وسائل السيادة ودعم سلطته المطلقة ونتج عنه الطغيان واستبداد الحاكم والدولة على حساب حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية إلى جانب سيطرة القوة في تنظيم العلاقات الدولية هذا ما أدى في الأخير إلى إحياء وظهور مرة أخرى للقانون الطبيعي كما ندى الفقهاء بضرورة وضع القوانين ونصوص تصون حقوق الأفراد وحرياتهم بعيد عن استعداد الحاكم وإخضاع العلاقات الدولية إلى قواعد أساسها العدل والمساواة.

2- حركة إحياء القانون الطبيعي: 

قامت الفكرة الأولى للقانون الطبيعي على أنها قواعد ثابتة أبدية خالدة صالحة في كل زمان ومكان، إلا أن هذا انتقد من طرف حركة إحياء القانون الطبيعي وبالتالي ظهر اتجاهين على أساس أن القانون الطبيعي يتغير من حيث المضمون رغم اتفاق كلاهما على قواعد القانون الطبيعي المستخلص عن طريق العقل والمنطق.

الاتجاه الأول: يرى أصحاب هذا الاتجاه (الفيلسوف ستاملر والفيلسوف سالى الفرنسي) أن القانون الطبيعي خالد وأبدي وفالوقت نفسه متطور بمعنى أن الفكرة خالدة وأبدية لكن المضمون يتغير، فعلى سبيل المثال فكرة العدل في ذاتها خالدة وأبدية وجدت في ضمير الإنسان على مر العصور وستظل إلى الأبد ولا تتغير والمتغير فيه هو المضمون كطريقة تحقيقه مرهون بالبيئة الاجتماعية من زمان ومكان لأخر. كما أن التميز بين العدل والظلم يتوقف على الظروف المحيطة بالمجتمع فما هو عادلاً في مجتمع ما وفي زمن ما ليس بالضرورة أن يكون كذلك في مجتمع أخر لذلك عرف هذا الاتجاه بمذهب القانون الطبيعي ذو المضمون المتغير.

الاتجاه الثاني: يرى أصحاب هذا الاتجاه أنه هناك حد أدنى للمبادئ المثالية الثابتة والخالدة والمثل العليا للعدل والعدالة التي تتجسد خاصة على شكل مبادئ عامة كمبدأ عدم الإضرار بالغير، لكل ذي حق حقه إثراء على حساب الغير دون سبب مشروع ... فهي مبادئ تعبر عن المثالية للعدل وتستند إليها القوانين الوضعية في كل زمان ومكان، فالقانون الطبيعي لهذا الاتجاه لا يضع حلول قانونية للمشاكل والنزاعات بل يكتفي فقط بالتوجيه إلى الحلول العملية الموجودة في القوانين الوضعية، وبالتالي القانون الطبيعي هو مجموعة من الأصول والموجهات العامة للعدل والتي تعتبر أسس ومثل عليا للتنظيم القانوني، وعرف هذا الاتجاه بمذهب جمهور الفقهاء في اعتبار القانون الطبيعي موجه مثالي للعدل.

3- القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي: 

تعود فكرة العقد الاجتماعي إلى العهد اليوناني وقد استعمل هذه العبارة الفيلسوف أفلاطون في كتابه "الجمهورية" قائلا: "عندما يتصرف الناس بمحض نزواتهم فيتعدى الواحد منهم على الآخر، ويذوق الجميع مرارة الظلم والقهر، يتفق الكل بأن الطريقة الوحيدة لحسم النزاعات القائمة وضمان الأمن والسلامة للجميع تكمن في عقد اتفاق اجتماعي يميز بين الأعمال الإجرامية فيمنعها والأعمال الخيرية فينشرها. "وقد عرفت فكرة العقد الاجتماعي رواجا كبيرا في أواخر القرن 16، وأقبل عليها المفكرون ورجال القانون فألفوا منها صيغا ونماذج اجتماعية تهدف كلها إلى تنظيم المجتمع من الناحية السياسية ومن الناحية القانونية، ومن أنصار هذه النظرية:

- توماس هوبز: يعتبر الفيلسوف هوبز من أنصار المصلحة الذاتية للإنسان وسيطرة التفكير الأناني والطبيعة الشريرة للإنسان فهو في حالة حرب وفوضى، وهو ينظر إلى المجتمع على أنه مجتمع ذئاب مفترسة ينهش بعضها البعض ويفترس القوي فيها الضعيف، ومن أجل وضع حد لهذه الفوضى بدأ الإنسان يفكر في طريقة تمكنه في العيش في سلام واستقرار فاهتدى إلى فكرة العقد الاجتماعي الذي بموجبه يتنازل الأفراد عن كل حقوقهم وحرياتهم الشخصية لشخص أخر ليس طرف في العقد يختارونه من بينهم دون شروط وحتى يتمكن هذا الشخص من توفير الأمن والاستقرار والمحافظة عليه يجب أن يتمتع بسلطة مطلقة ولا يحق للشعب أن يثور ضده، واستناد على هذا نشأت ما يعرف بالسلطة السياسية.

- جون لوك: ينطلق الفيلسوف "لوك" من عهد حياة الفطر أن حياة البشر كانت تقوم على المساواة والسلام والحرية، غير أنهم أرادوا إنشاء مجتمع أكثر تنظيما وتحديدا للحقوق والحريات، وإنشاء هيئة تقوم بتنفيذ القانون الطبيعي، فقرروا إبرام عقد فيما بينهم يؤدي إلى ظهور سلطة تكون مهمتها تحقيق العدالة، ويكون الحاكم المختار من قبلهم مقيد حسب الاتفاق هذا يعني أنهم لم يتنازل على كل حقوقهم وإنما على الجزء الضروري لقيام السلطة والدولة.

- جون جاك روسو: يرى روسو أن حياة الأفراد الطبيعية الأولى كانت تتميز بالعدالة الطبيعية والمساواة والحرية، إلا أنه نتيجة اكتشاف الزراعة والاختراعات ظهرت الملكية الفردية الخاصة التي نتجت بسببها فوارق بين الأفراد فانهارت المساواة وتحولت حياتهم إلى مأساة وشقاء وازدادت بذلك الحروب والخلافات بسبب التنافس على الثروة، مما دفع إلى تبني فكرة العقد الاجتماعي أين يتنازل كل فرد عن حقوقه الطبيعية لصالح الجماعة وإبرام عقد بينهم للمحافظة على أموالهم والقضاء على الحروب. ويبيّن "روسو" كيفية إبرام العقد حيث يرى أن الأفراد يبرمونه مع أنفسهم بصفتهم أفراد منفصلين عن بعضهم، وباعتبارهم أفراد متحدين في الجماعة السياسية التي يرغبون في إقامتها.

ثانًيا: المدرسة الواقعية

تنظر هذه المدرسة إلى القانون من خلال الوقائع والحقائق والذي يقوم على أساس الملاحظة والتجربة ويعتمد على الأشياء المحسوسة وربطها بالمشاهدة والتجربة بمعنى عكس المدرسة المثالية، ومن بين المذاهب التي ظهرت في هذه المدرسة ما يلي:

1- المذهب التاريخي:

ظهرت بوارد هذا المذهب منذ القرن الثامن عشر في فرنسا، ومن أنصاره الفقيه "مونتسكيو" الذي يرى على تفسير أصل القانون يعود إلى الظروف الاجتماعية التي تؤثر في نشوء القواعد القانونية، فهو يرى بأن قوانين كل بلد تتأثر بطبيعة الدولة سواء من الجانب المحيط الاجتماعي (مدى ما وصل إليه من تقدم والتطور ونوع الحياة) أو حتى من الجانب البيئي (بجّوه البارد أو الحار أو المعتدل)، ومن أنصار المذهب التاريخي كذلك الفقيه "سافيني"، حيث ندى بضرورة إتباع هذا النهج وذلك بمناسبة اعتراضه على الدعوى إلى تقنيين القانون الألماني بحيث يرى أن القانون هو القواعد السائدة والتي تسجلها المشاهدة وتعززها التجربة في مجتمع معين.

فحسب أنصار هذا المذهب القانون ينشأ في ضمير الشعب، وينبع من روحه ويتطور تلقائيا تبعا لهذه الروح، ويسمى كذلك بمذهب التطور التاريخي لأن التجارب دلت أن القانون ليس واحد وليس ثابت فهو متغير من مكان وزمان ويتأثر بعوامل مختلفة ومتعددة خاصة الاجتماعية.

- أسس المذهب التاريخي: يستند المذهب التاريخي على ثلاث أسس أساسية، وهي:

أ‌- إنكار وجود القانون الطبيعي: يعتمد منطق المذهب التاريخي على رفض وجود القانون الطبيعي، بحيث يرى أن القانون ليس ثابت وليس أبدي ولا يستخلص عن طريق العقل وإنما هو من صنع الزمان ونتائج تاريخية. 

ب‌- القانون يتكون ويتطور أليا: بمعنى أن القانون هو نتيجة الجهد الجماعي المشترك وتساهم فيه كل الأجيال المتعاقبة في مجتمع معين، من خلال كل ذلك يمكن القول أن أصل القانون عند المذهب التاريخي يرتبط أساس بالدور الاجتماعي وصفته الاجتماعية وقد ساهمت هذه الظروف وبشكل كبير في كشف عن الارتباط الواضح بين القانون والبيئة التي ينشأ فيها القوانين بطريقة تلقائية، ويعتبر العرف الشكل الأصدق والأكمل للقانون الذي لا يمكن تسجيله حتى لا نوقف تطوره التلقائي.

ت‌- القانون وليد الحاجة الاجتماعية: يرى أنصار هذا المذهب أن القانون وليد حاجة الجماعة وما يتفاعل مع عوامل اجتماعية وفي أزمنة مختلفة فهو من صنع الزمن أو من نتاج التاريخ، فهو يتغير ويتطور حسب ظروف كل مجتمع، وهو يختلف من دولة إلى أخرى بل ويغير في الدولة نفسها من جيل إلى آخر حسب تغير مختلف الظروف التي تحيط بالمجتمع، وإن الجماعة لا يحدها زمن معين أو جيل معين بل هي كالسلسلة تتدرج في حلقاتها الأجيال وتتعاقب على مرور الزمن، فيرتبط فيها الحاضر بالماضي ويمهد الحاضر للمستقبل، وبذلك فإن القانون هو ثمرة التطور التاريخي.

- نقد المذهب التاريخي:

- المبالغة في دور الجماعة في تكوين القانون مما يؤدي إلى إهمال وإنكار دور العقل الإنساني وقدرته في تكوين القوانين،

- المبالغة في اعتبار البيئة الاجتماعية هي وليد القوانين، في حين أن هناك بعض الدول تأخذ جزء من قوانينها من الدول الأخرى حتى في اختلاف الظروف الاجتماعية،

- الجزم بأن القانون يتكون بشكل تلقائي وآلي مما يعني أن القانون يتطلب فترة زمنية طويلة نسبيا في حين أن المجتمعات الحديثة تتدخل فيها الإرادة الواعية عن طريق التشريع في حالة وجود تعارض بين المصالح خاصة إن كانت مصلحة عامة،

- اعتبار التشريع وتسجيل النصوص القانونية تجميدًا وتشويهًا في سير والتطور العادي للقانون، في حين أن هذا الأمر غير مطلق نظرا لإمكانية النصوص القانونية مسايرة التطور بتدخل السلطة المختصة في حالة الضرورة عن طريق التعديل أو حتى الإلغاء.

2- مذهب الغاية الاجتماعية: 

- أسس هذا المذهب على يد الفقيه الألماني إهرينج كرد فعل على ما جاء في الذهب التاريخي، فالقانون عند هذا الفقيه في تطور مستمر لكن ليس بشكل تلقائي وآلي وإنما يخضع وبشكل كبير لإرادة الإنسان فهو ظاهرة اجتماعية وليس طبيعية، والظواهر الاجتماعية لا تتم إلا عن طريق تدخل إرادة الإنسان من أجل تحقيق غاية معينة ومن ثم فهي تخضع لقانون الغاية.

يرى الفقيه إهرينج أن الظواهر الاجتماعية لا تتم إلا بتدخل الإرادة البشرية تدفعها نحو تحقيق غاية معينة فتدخل الإنسان في القانون وتغييره أو تطويره يمكن أن يكون حتى باستعمال القوة، خاصة في حالة وجود قوة تحرص على بقاء هذه النظم لوجود فائدة من جهتها، مما يؤدي إلى صراع قائم بين المستفيدين والمكافحين، فأغلب الثورات الاجتماعية وحركات التحرر الكبرى التي شاهدتها المجتمعات هي نتيجة عن مبادئ قانونية من أجل التغيير ووضع أنظمة جديدة تتناسب الأوضاع الاجتماعية وتحقيق غايتهم.

يقول الفقيه إهرينج أن القانون هو ثمرة الغاية والكفاح، وغاية القانون هو الحفاظ على أمن المجتمع وسلامته وتقدمه، ولا يكون الكفاح إلا من أجل هذه الغاية.

النقد الموجه لمذهب الغاية الاجتماعية:

- الإفراط في اعتبار القانون رهن الإرادة الفردية، 

- جعل الكفاح أساس تطور القوانين وتغيرها واستخدام القوة من أجل توجيه القانون نحو تحقيق الغاية، 

- جعل غاية القانون هو الحفاظ على المجتمع وليس إقامة العدل فيه، 

3- مذهب التضامن الاجتماعي:

أسس هذا المذهب الفقيه ليون دوجي في أواخر القرن التاسع عشر، حيث تأثر بفترة النزعة العلمية وانتشار المنهج العلمي التجريبي الذي ينطلق من الواقع، عن طريق الملاحظ والتجربة، بحيث أخذ الفقيه ليون دوجي الحقائق العلمية كأساس القاعدة القانونية واستبد الحقائق المثالية لاعتبارها حسية ووهمية والتي لا يمكن الأخذ بها في مجال التجربة العلمية مما دفعه إلى إنكار مجموعة من الأفكار القانونية خاصة الدولة والشخصية المعنوية، نظرية الحق ...

فقد أسس دوجي مذهبه على أساس حقائق واقعية ملموسة أولاها المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان مع أقاربه وثانيها التضامن الذي ينشأ بين أفراد هذا المجتمع ذلك أن الفرد لا يمكن أن يوفر لنفسه كل حاجاته  ومتطلباته اليومية دون الحاجة إلى مساعدة من الآخرين وهنا ينشأ التضامن الذي يزداد من حاجات الفرد كلما زاد تطور المجتمع.

- أنواع التضامن عند الفقيه ليون دوجي:

ففكرة التضامن الاجتماعي القائمة عند الفقيه ليون دوجي على أن الفرد لا يمكن أن يوفر لنفسه كل احتياجاته ومتطلباته اليومية إلا بالاعتماد على غيره، وبالتالي يرى نوعين من التضامن:

- التضامن بالاشتراك: يكون عند تشابك الحاجات وراغبات الأفراد مما يعني تكثيف الجهود فيما بينهم في سبيل تحقيقها.

- التضامن بتقسيم العمل: ينشأ عند اختلاف الأفراد في ميولهم واستعداداتهم مما يجعل كل فرد يتخصص في نشاط أو عمل معين دون أخر ويتضامن مع غيره من الأفراد وذلك بتبادل الخدمات والسلع وبالتالي تبادل المنفعة ويزداد هذا النوع من التضامن مع تطور والاجتماعي.

- قيام مذهب التضامن الاجتماعي:

استند الفقيه ليون دوجي في إنشاء مذهبه إلى الحقائق الواقعية المستمدة من الحياة الاجتماعية في تكوين وتطوير القانون وأعطى له بعد علمي مبني على أساس الملاحظة والتجربة، ويقول الفقيه أن وجود مجتمع يترتب عليه التضامن من أجل الحفاظ عليه وحمايته يستلزم الأمر وجود مجموعة من الضوابط والقواعد التي تنظم سلوك الأفراد عن طريق نشأة الحد الاجتماعي الذي يميز ما بين الأفعال التي يجب القيام بها والأفعال التي يجب تركها والامتناع عنها أي الحد الفاصل بين ما هو صالح وما هو طالح ويتفرع على هذا الحد الاجتماعي قواعد اجتماعية تنظم علاقات الأفراد في مجتمع متضامن.

ويرى أن إدراك الأفراد وشعورهم بالتضامن والعدل هو أساس تكوين القانون فالفقيه ينكر في القانون ما ذهب إليه مذهب القانون الطبيعي والمثالية، كما ينكر استعمال القوة والجبر من طرف الدولة حتى تفرض احترامه كما ذهب الذاهب الشكلية، وإنما يكتفي بوجود شعور من كافة الأفراد المكونين للجماعة في ضرورة احترام القانون لصيانة التضامن الاجتماعي، ومن العدل تسخير القوة والإجبار في الجماعة لكفالة احترامه لكن لين من الضروري في تكوينه ونشأته.

- النقد الموجه لمذهب التضامن الاجتماعي 

- تطبيق المذهب للمنهج العلمية التجريبي على الظاهرة الاجتماعية (القانون) صعب ويستحيل في بعض الحالات كما أن هذا المنهج يعطي نتائج قطعية بحيث تتحقق النتيجة كلما وجد السبب فإنه على خلاف من ذلك بالنسبة للعلوم الاجتماعية ومنها القانون فإنها تتسم بالنسبة لأنها تتميز بالمرونة والسرعة في التغيير، 

- لم يلتزم الفقيه بالمنهج الواقعي التجريبي عندما أقر أن أساس القاعدة القانونية هو الشعور بالتضامن بين الأفراد المجتمع الواحد أين اعتمد على قيمة مثالية وهو الشعور بالتضامن والعدل أساس تكوين القانون وهذا معناه تحكم الأهواء الشخصية مما يؤدي إلى الفوضى في حين أن القانون يجب أن يستند إلى الحقائق الموضوعية كحقيقة ثابتة كما يفرضها العقل وليس كما يشعر بها الأفراد،

- الاعتراف بوجود تضامن اجتماعي ايجابي للخير في المجتمع وإهمال التضامن السلبي في الشر، الذي هو حقيقة واقعية أين يمكن أن يكون التضامن حتى في فعل الشر وليس فقط في فعل الخير.

4- المذهب الفردي والمذهب الاشتراكي: 

- المذهب الفردي: 

يقوم المذهب الفردي على اعتبار أن الفرد هو الأساس وأنه ولد حرًا وما الجماعة إلا مجموعة من الأفراد وهدفها الحفاظ على حريات الأفراد، لكن ممارسة الحريات الفردية قد تؤدي للمساس بحريات الأفراد الآخرين لذلك وجد القانون من أجل الحفاظ على هذه الحقوق والحريات الفردية ولا يمكن للقانون أن يتدخل إلا بالقدر الذي يساعد على تحقيقها وحمايتها وليس تقييدها.

فالهدف من المذهب الفردي هو الحفاظ على حرية الفرد ومصلحته الخاصة وما الجماعة إلا نسيج صناعي يمارس كل فرد نشاطه فمن خلال تحقيق المصلحة الفردية تتحقق مصلحة الجماعة ومصلحة هذه الأخيرة ما هي إلا مصالح الأفراد وهي مجتمعة، أين يأخذ هذا المذهب بفكرة العدل الخاص أو التبادلي.

انعكس فكر هذا المذهب في الدول التي تقوم على الأنظمة الحرة أين فتح مجال للمبادرة الخاصة في المجال الاقتصادي وحرية الملكية مما يزيد التطور والابتكار والتي هي من مصلحة المجتمع، مما يعني منح الحرية الكاملة للفرد ويبقى للدولة دور التدخل في المرافق العامة المتمثلة أساسا في مرفق الأمن والدفاع والقضاء.

نقد المذهب الفردي:

- يعتبر المذهب الفردي الحقوق الفردية سابقة في الوجود في الجماعة إلا أنه لا يمكن أن يوجد حق دون أن يقابله واجب يفترض وجود من يلتزم به،

- المبالغة في تقديس الفرد على حساب الجماعة وتغليب مصلحته على مصلحة الجماعة،

- إهمال الخاصية الاجتماعية للإنسان عندما اعتبر المجتمع مجرد نسيج وجد من أجل تحقيق مصالح الفرد وبصورة مطلقة مما يزيد من بث الأنانية في نفوس الفرد وإهمال مصلحة الجماعة. 

- المذهب الاشتراكي: 

ما يعرف بالمذهب الاجتماعي أين يعتبر الفرد كائن اجتماعي يرتبط بغيره من الناس متضامن معهم في سبيل تحقيق مصالحهم (الجماعة) فعلى جميع الأفراد تسخير جهودهم في سبيل تحقيق الصالح العام المشترك ولا تتحقق مصالح الأفراد إلا في إطار مصالح الجماعة. 

ويعتبرون أن الفرد لا كيان له إلا في الجماعة فهو عضو وعنصر في الجماعة وما يصيب الجماعة يصيب آليا الفرد فالمذهب الاشتراكي يأخذ بفكرة العدل التوزيعي أو العدل العام الذي يهتم بتوزيع الأعباء والمنافع وباعتبار الفرد جزء من الجماعة.

فالمدرسة الاشتراكية ترى أن القانون وسيلة تأخذ به الطبقة البرجوازية الغنية لاستغلال الطبقة العاملة الفقيرة الكادحة خاصة من الجانب الاقتصادي وما الدولة إلا جهاز قانوني كامل توظفه البرجوازية لقمع الطبقة العاملة، فتطبيق نظرية الدولة عند الماركس يين ما هو إلا مرحلة انتقالية لتطبيق المجتمع الشيوعي كتمهيد لتطبيق مبدأ التنظيم الذاتي، إلا أنه سرعان ما انهارت هذه الايدولوجيا لظهور البيروقراطية وتسلط النظام.   

فعموما المذهب الاشتراكي الماركسي لا يعترف بوجود الحريات الفردية مما يعني تقليص سلطات الإرادة والحريات، كما ساهم النظام في زيادة تدخل الدولة خاصة في المجال الاقتصادي.  

نقد الذهب الاشتراكي:

- يعاب هذا المذهب في القضاء على الحريات الفردية خاصة منها الاقتصادية وحرمان الفرد من ممارسة النشاطات الفردية وإضعاف روح الابتكار والحرمان من الملكية ...

- رغم أن مبدأ المذهب يسعى للقضاء على الاستغلال (طبقة العمال خاصة) إلا أنه ومن جهة أخرى يساهم في استبعادها عن الحريات الفردية والحقوق الأخرى.

III المذهب المختلط: 

تتميز المذاهب السابقة سواء الشكلية أو الموضوعية في الغلو من ناحية دون ناحية أخرى، بحيث اكتفى المذهب الشكلي بالمظهر الخارجي للقاعدة القانونية والقوة الإلزامية التي تنبثق (صدورها) من السلطة العليا،  في حين المذاهب الموضوعية تقف عند جوهر القاعدة القانونية والمادة الأولية التي تتكون منها كالقيم والمثل العليا التي يكشفها العقل أو حقائق ووقائع ملموسة تؤيدها التجربة.

في حين الراجح كان الأخذ بعين الاعتبار الناحيتين معًا لذلك ظهر المذهب الثالث الذي يجمع بين أسس المذاهب الشكلية والموضوعية ويدمجهما في مذهب عرف بالمذهب المختلط والذي أسسه الفقيه فرنسوا جيني، بحيث أخذ من الشكلية عنصر أساسي فيها وهو تدوين النصوص القانونية التي تصدر خاصة من المشرع (التشريع)، أما في المذاهب الموضوعية فأخذ منها الحقائق الواقعية الاجتماعية التاريخية العقلية والمثالية التي تدخل في تكوين القانون.

- عناصر المذهب المختلط

يتضمن المذهب المختلط عنصرين أساسين، يتمثل الأول في عنصر العلم الذي هو مجموعة من الحقائق الواقعية الاجتماعية التاريخية العقلية والمثالية، والثاني هو الصياغة في القواعد القانونية. 

1- عنصر العلم: يتكون عنصر العلم من أربعة حقائق هي مستخلصة من المذاهب السابقة نظرًا أن علم القانون من العلوم الاجتماعية المعقدة فهو يحتاج الى التحليل ولا يقتصر فقط على المشاهدة والتجربة (واقعي) وإنما يحتاج إلى التفكير العقلي والمعرفة القائمة على التأمل (مثالي)، وتتمثل هذه الحقائق فيما يلي: 

- الحقائق الواقعية أو الطبيعية: ويقصد بها كافة الظروف التي تحيط بأفراد المجتمع طبيعية كانت أو معنوية في حياته السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الدينية والبيئية... 

- الحقائق التاريخية: وهي التطورات المختلفة التي مرت بها القواعد القانونية ونظمها والتي يمكن الاستفادة منها باعتبار التاريخ حقل لتجارب لحياة الإنسان وتراث مشترك بينهم.

- الحقائق العقلية: نظرا لدور العقل البشري في استنباط القواعد والحقوق الطبيعية وقدرته في إظهار صحتها ومساهمته في تكوين القواعد القانونية فهو حقيقة لا يمكن الاستغناء عنها.

- الحقائق المثالية: وهو الوجيه نحو الكمال في النصوص القانونية والارتقاء به للمثل العليا والتي تنبع من الإيمان والاعتقاد والإنسانية. 

2- عنصر الصياغة: يرى الفقيه فرنسوا جيني ضرورة وضع القانون في قالب وشكل معين، بمعنى تحريرها وتدوينها على شكل نصوص قانونية عن طريق الصياغة، فالصياغة فن تشريعي يحول الحقائق الواقعية، التاريخية، العقلية والمثالية التي تعدّ المادة الأولية فيها مع إتباع مجموعة من الإجراءات للوصول إلى قواعد عامة ومجردة صالحة التطبيق في الحياة العملية.

- نقد مذهب جيني:  

- الحقائق التي جمعها الفقيه ليست كلها علمية فالحقائق العقلية والمثالية لا يمكن تطبيق عليها عنصر المشاهدة والتجربة،

- صعوبة التمييز بين الحقائق العقلية والمثالية خاصة أن الحقائق المثالية هي التي تستخلص عن طريق العقل أومن الحقائق العقلية، وجهة أخرى صعوبة التمييز بين الحقائق الواقعية والتاريخية، فالحقائق التاريخية هي الحقائق التي اكتسبتها الجماعة على مر الأجيال وبالتالي أصبحت من الظروف المحيطة بالمجتمع مما يعني أنها من الحقائق الواقعية.

المرجع:

  1. أ. عياد، محاضرات في مقياس منهجية البحث في العلوم القانونية "فلسفة القانون"، جامعة عبد الرحمان ميرة – بجاية كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم التعليم الأساسي، السنة الأولى، الجزائر، السنة الجامعية: 2019/ 2020، ص6 إلى ص23.

google-playkhamsatmostaqltradent