ماهية القانون الدولي

ماهية القانون الدولي 

ماهية القانون الدولي

لقد عرف القانون الدولي العام تطورا كبيرا في العصر الحديث، وذلك من حيث موضوعاته وأشخاصه، وكانت معاهدة وستفاليا عام 1648 نقطة الإنطلاق في تاريخ القانون الدولي، فقد وضعت حدا لسيطرة البابا والإمبراطور وأسست لميلاد الدول الأوروبية، وبالتالي ميلاد القانون الدولي.

وكانت الحرب العالمية الأولى نقطة بارزة في تطور القانون الدولي فالخسارة المادية والبشرية لتلك الحرب والدمار التي خلفته، جعلت الفاعلين في العلاقة الدولية يعيدون النظر في الأفكار والقيم التي تحكم بينهم. 

- المبحث الأول: مفهوم القانون الدولي العام 

- المبحث الثاني: القوة الإلزامية لقواعد القانون الدولي العام 

المبحث الأول: مفهوم القانون الدولي العام   

يتميز القانون الدولي العام المعاصر بمراعاته للأبعاد الإنسانية والاجتماعية في أحكامه وأتسع نطاق اهتمامه ليشمل الإنسان، وهو ما ظهر من خلال القانون الدولي لحقوق الإنسان الذي نظم و قنن كل الحقوق المتعلقة بالفرد أيا كان أصله أو دينه أو جنسه، وقد شملت حقوق الإنسان كل ما من شأنه زيادة رفاهيته و زدهاره سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.

أقسم هذا المبحث إلى أربعة مطالب: 

  • المطلب الأول: تعريف القانون الدولي العام
  • المطلب الثاني: فروع القانون الدولي العام
  • المطلب الثالث: علاقة القانون الدولي بالقانون الداخلي 
  • المطلب الرابع: التطور التاريخي للقانون الدولي العام

المطلب الأول: تعريف القانون الدولي العام                          

إن أول من أستخدم مصطلح قانون الدولي العام هو الفقيه الإنجليزي في كتابه "مقدمة في مبادئ الأخلاق و التشريع" عام 1780 و قد استلهم ذلك من العبارة اللاتينية ومعناه قانون بين الدول.

وقبل مجيء عرف القانون الدولي العام بعدة تعابير منها :"قانون الشعوب" و "قانون الحرب و السلم" و "قانون العلاقات الدولية" ،"قانون السياسة الخارجية" إلى غير ذلك من التسميات الدالة على العلاقة التي تربط أشخاص القانون الدولي وهي كلها لها نفس المغزى لقد أنقسم الفقهاء في تعريف القانون الدولي إلى عدة مذاهب نوردها كالتالي: 

الفرع الأول: المذهب التقليدي

عرف أنصار هذا المذهب القانون الدولي على أنه مجموعة، القواعد القانونية التي تنظم العلاقات بين الدول، ويعني حقوق و واجبات الدول، ذلك لأن المجتمع الدولي عندما نشأ كان بظهور الدول القومية بأوروبا في القرن السابع عشر، واقتصر فقط على الدول كشخص دولي وحيد للقانون الدولي العام. 

وعرف الفقيه "غروسيوس" القانون الدولي العام على أنه القانون الذي يحكم العلاقات بين الدول ثم تلت ذلك عدة تعاريف منها: تعريف الفقيه "أوبنهايم" الذي عرفه بأنه مجموعة القواعد العرفية والاتفاقية التي تعتبرها الدول ملزمة لها في علاقاتها المتبادلة، وعرف الفقيه "غوشي" القانون الدولي العام على أنه مجموعة القواعد التي تحقق حقوق الدول وواجباتها في علاقاتها المتبادلة.

لم تعد هذه التعاريف تصلح بعد تطور القانون الدولي الحديث وتعددت أشخاصه وتعدت الدولة إلى المنظمات الدولية والإقليمية وكذا الفرد، فقد تغيرت أهداف القانون الدولي إذ أنه جنح إلى الاهتمام بمسألة حقوق الإنسان كما سبق بيانه.

الفرع الثاني: المذهب الموضوعي 

على عكس أنصار المذهب التقليدي يرى أنصار المذهب الموضوعي أن الفرد هو أساس القانون الدولي، وأنه هو الشخص الوحيد وكان أول من دعا إلى ذلك الفقيه الفرنسي "دوجي" الذي ينكر الشخصية القانونية للدولة ولا يعترف بها، ويجعل من الفرد الشخص الوحيد للقانون الدولي العام.

لا يمكن بأية حال من الأحوال الأخذ برأي أصحاب هذا المذهب، ذلك أنهم ينكرون الشخصية القانونية للدولة، ويلغون كل دور للدولة والمنظمات، ويلغون كل دور للدولة والمنظمات الدولية في العلاقات الدولية وهذا أمر لا يستساغ ولا يقبل البتة، فالدولة هي الشخص الرئيسي في علاقات الدول فيما بينها، دون إغفال الدول المتنامي للمنظمات الدولية.

الفرع الثالث: الاتجاه الحديث

بعد قصور المذهبين التقليدي والموضوعي في إعطاء تعريف شامل للقانون الوطني جاءت مجموعة من الفقهاء وحاولوا استدراك ذلك من خلال محاولة تعريف، وانقسموا بدورهم إلى عدة فئات:

أولا: الفئة الأولى: اعتبر أنصار هذا الرأي أن الدولة هي الشخص الرئيسي للقانون الدولي وقاد هذا الرأي الفقيه "ستروب"، والذي أعطى تعريفا للقانون الدولي جاء فيه "هو مجموعة القواعد القانونية التي تتضمن حقوق وواجبات الدول وغيرها من أشخاص القانون الدولي العام".

ثانيا: الفئة الثانية: من رواد هذا الرأي الفقيه "بازدفون"، والذين يعتبرون القانون الدولي أنه مجموعة من القواعد القانونية التي تلزم الدول المستقلة والمنظمات الدولية في علاقاتها المتبادلة، وهم يستبعدون الفرد تماما من أن يكون من أشخاص القانون الدولي العام.

لقد أخذت التعريفات بعين الاعتبار مراحل تطور المجتمع الدولي وتوسعه ليشمل فئات أخرى فضلا عن الدولة كشخص أساسي للقانون الدولي العام، فتم اكتساب هذه الصفة من طرف المنظمات الدولية والإقليمية  والفرد كذلك.

ثالثا: الفئة الثالثة: كان أهم رواد هذه الفئة الفقيه "باستيد" وقد أعطوا للفرد حيزا ضيقا إلى جانب المنظمات الدولية، و قد عرف "باستيد" القانون الدولي بأنه مجموعة القواعد القانونية المطبقة في المجتمع الدولي سواء أكان في العلاقات بين الدول ذات السيادة أو بين المنظمات الدولية و الإقليمية فبين الدول في علاقاتها المتبادلة أو في علاقاتها بين الدول.

ورغم ذلك تضاربت أراء الفقهاء في تحديد تسمية القانون الدولي العام فمنهم من اعتبره قانون ينظم العلاقات المتبادلة بين الدول أي قانون العلاقات الدولية ومنهم الفقيه Paul Fauchille، إذ يقول أن القانون الدولي العام هو قانون العلاقات الدولية، ويتولى تنظيم العلاقات الدولية الناشئة بين أشخاصه و يرى فقهاء آخرون على أن القانون الدولي يرتكز أساسا على فكرة المجتمع الدولي وليس العلاقات الدولية وهو مذاهب إليه الفقيه  Leon Deguit الذي يرى بأن القانون الدولي هو قانون المجتمع الدولي، وهو تعريف جنح إليه كثير من فقهاء القانون الدولي ومنهم الدكتور صلاح الدين عامر الذي عرفه بأنه : "القانون الدولي العام هو مجموعة القواعد القانونية التي تحكم و تنظم المجتمع الدولي وما يقوم في إطاره من علاقات بين أشخاصه المختلفة". 

إن تعريف الدكتور صلاح الدين عامر للقانون الدولي العام تضمن التطور الحاصل إذا لم تعد الدولة الشخص الدولي الوحيد الفاعل في المجتمع الدولي، فبرزت المنظمات الدولية صارت شخصيا قانونيا مخاطبا بأحكام القانون الدولي العام فهي تساهم في تكوين قواعده فضلا عن دورها في حماية حقوق أفراد المجتمع الدولي ورعاية العلاقات المتبادلة بينها كما ظهر معطى جديد في نطاق القانون يتمثل في اكتساب الفرد للشخصية القانونية.

حيث زاد الاهتمام بالفرد في إطار أسسته القوانين دوليا ووطنيا وقد تطرقت غالبية قواعد القانون الدولي إلى وضعية الفرد في العلاقات الدولية.

المطلب الثاني: فروع القانون الدولي العام 

بعد بروز القانون الدولي العام على الساحة الدولية، وبداية تنظيمه للعلاقات بين أعضاء المجتمع الدولي من دول ومنظمات دولية، وامتداده لرعاية حق الفرد ثم بالتالي اتساع مجال دائرة الروابط القانونية التي يحكمها القانون الدولي، وقد كانت النتيجة الحتمية لذلك أن أصبح القانون الدولي يمتد إلى مجالات كانت في الماضي حكرا على القانون الداخلي.

وتتمثل الفروع التقليدية للقانون الدولي العام والتي استقر عليها الفقه والعمل الدوليان فيما يلي: 

1- قانون التنظيم الدولي:

يمكن القول أن هذا القانون عرف بداية جد متباطئة، ثم بدأ يعرف تطورا متسارعا حتى صار الآن فرعا متكاملا من فروع القانون الدولي، وبدأ يأخذ طابعه المميز الذي يجعله يتميز عن باقي فروع القانون الدولي. 

إن ظهور المنظمات الدولية هو ما جعل قانون التنظيم الدولي يعرف النور، وكانت تلك فقط في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بظهور عصبة الأمم ثم منظمة الأمم المتحدة كأهم منظمتين دوليتين ما جعل أعضاء المجتمع الدولي يقرون بضرورة تنامي التعاون الدولي بينهم في إطار القانون الدولي، وإقامة نوع من النظام الدولي يشتمل على قواعد تحكم إنشاء المنظمات الدولية وتحديدي أهدافها التي تنشأ من أجلها كما تحكم العلاقات القانونية بين المنظمات الدولية والدول وآليات التنسيق بينها.

2- القانون الدول الاقتصادي:

بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت رغبة لدى الدول في ضرورة إنشاء قانون اقتصادي دولي يستجيب للحاجة الملحة لتنظيم العلاقات الاقتصادية بين دول العالم وضبطها، فكانت هذه الرغبة إدراكا لما للمجال الاقتصادي من أهمية بالغة في تحقيق السلام بين الدول، وهدفا أساسيا لتنظيم المجتمع الدولي الحديث.

ودخلت الدول في مرحلة التنفيذ، و كرست هذا التوجه في أرض الواقع فقد سعت إلى تنظيم العلاقات الاقتصادية الدولية وأسفرت هذه الجهود إلى عقد مؤتمر "بريتون وودز" عام 1944، و التي وضعت الأسس الخاصة بتنظيم العلاقات المالية والنقدية وثم من خلال هذا المؤتمر إنشاء منظمتين دوليتين في هذا المجال وهما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ثم الاتفاق العام للتعريفات الجمركية "جات" الذي صار ساري المفعول عام 1948.

وبما أن أشخاص القانون الدولي العام، ومنه القانون الدولي الاقتصادي لم يعد يقتصر على الدول فقط، فقد ظهر أشخاص طبيعيون وإعتباريون آخرون ومشروعات اقتصادية دولية، مما جعل تعريف الاقتصاد الدولي يكون كالتالي: "هو مجموعة القواعد القانونية اتلي تحكم العلاقات الاقتصادية بين الدول فيما بينها وبين المنظمات الدولية، وكذلك التي تنشأ بين المؤسسات التي تسهم في التنمية الإقتصادية في استثمارات أجنبية. لقد أثرت نشأة هذا الفرع من فروع القانون الدولي على حركة التبادل الإقتصادي بين الشعوب و دول العالم، مما أدى إلى ظهور مجموعة من القواعد الاقتصادية تسمى "النظام الاقتصادي الدول" والذي يعرف بأنه "مجموعة المبادئ والقواعد والقواعد القانونية التي تنظم التبادل الإقتصادي الدولي".

إن من أهم أسباب قيام الحرب العالمية الثانية كانت الدوافع الإقتصادية، لذلك فإن ميثاق الأمم المتحدة نص في المادة الأولى الفقرة 3 على أنه من مقاصد الأمم المتحدة تحقيق التعاون الدولي في سبيل حل المسائل الدولية العالقة ذات الصبغة الإقتصادية، وخص لذلك الفصل التاسع كاملا.

3- القانون الدبلوماسي:

من أهم مظاهر سيادة الدولة هي ممارستها لعلاقات دبلوماسية وإقامة علاقات ودية مع الدول الأخرى وهو يتجلى في صلب العلاقات الخارجية، كل هذا يدخل في هذا المجال يسمى بالقانون الدبلوماسي، فقواعد هذا القانون تنظم العلاقات الدبلوماسية وهي من أقدم قواعد القانون الدولي العام، وذلك ما لما ينشأ من علاقات بين الدول والمنظمات الدولية فيما بينها. 

إن المقصود بمصطلح الدبلوماسية هي السياسة الخارجية للدولة من أجل العمل على تحقيق مصالحها، أو السياسة الخارجية للدولة من أجل العمل عل تحقيق مصالحها، أو السياسة الخارجية للمنظمات الدولية في سبيل تحقيق الهدف الذي أنشئت من أجله. كما أن المقصود بالعلاقات الدبلوماسية هو على العموم كل ما يقوم على اتصالات بين الدول والمنظمات الدولية تكون ودية، وكل ما استقر العمل به على أن تمارس هذه الأخيرة السياسة الخارجية لكل منها.

4- القانون الدولي الجوي:

يضم هذا القانون القواعد القانونية التي تنظم استعمال الفضاء الخارجي لأغراض المواصلات الدولية، ودور المنظمات الدولية في التوفيق بين المصالح الدولية ومصلحة المجتمع الوطني.

5- القانون الدولي البحري:

يهم هذا الفرع من القانون الدولي بالمسائل القانونية الخاصة بوسائل النقل البحري أو استغلال المواد البحرية واستخدام المناطق البحرية لتخزين الأسلحة النووية أو لإجراء التجارب الخاصة بتطويرها فضلا عن العمل على الحفاظ على البيئة البحرية وحمايتها من التلوث.

6- قانون القضاء الدولي:

يضم القواعد الخاصة بأنواع المحاكم الدولية وطريقة تشكيلها واختصاصاتها، والإجراءات المتبعة فيها.

7- القضاء الدولي الإداري:

يهتم هذا القانون بالوظيفة العامة الدولية والعلاقات القانونية للموظفين الدوليين.

8- القضاء الجنائي الدولي:  

ينضم هذا القانون الجرائم الدولية وإجراءات المحاكمة والعقوبات المقررة لتلك الجرائم. 

9- القانون الدولي لحقوق الإنسان: 

يهتم هذا القانون بالقواعد المنظمة لمسائل حقوق الإنسان، وكل ما يكفل الكرامة الإنسانية في وقت السلم.

10- القانون الدولي الإنساني:  

يضم كل القواعد العرفية والاتفاقية الخاصة لحماية المتضررين خلال النزاعات المسلحة من الأضرار التي تلحق بالإنسان والأعيان المدنية العقارية والمنقولة والتي ليس لها علاقة مباشرة بالعمليات العسكرية، كما يحمي هذا القانون الأشخاص غير المشتركين في القتال وينظم قواعد قانونية لذلك.

المطلب الثالث: علاقة القانون الدولي بالقانون الداخلي 

انقسم الفقه الدولي حول علاقة القانون الدولي بالقانون الداخلي الى رأيين تجليا في نظريتين، نظرية تنادي بوحدة القانونيين ونظرية ثانية تنادي بازدواجية القانونيين.

الفرع الأول: نظرية وحدة القانون 

يرى أنصار هذه النظرية أن جميع القواعد القانونية تابعة لبعضها البعض وكان من أهم رواد هذه النظرية الفقيه النمساوي "كلسن" ، وقد اختلف أنصار هذه النظرية في القانون الذي تسمو قواعده القانونية على جميع القواعد القانونية الأخرى من حيث السمو والإلزامية.

فقد ذهب فريق من الفقهاء إلى أن القاعدة الأساسية العامة مثبتة في القانون الداخلي، ودستور الدولة، لأن الدولة هي التي تحدد بإرادتها التزاماتها الدولية وبالتالي فهم ينادون بأولوية القانون الداخلي، أما الفريق الثاني من فقهاء القانون الدولي يرون أن القاعدة الأساسية مثبتة في القانون الدولي العام وهو بالتالي يسمو على كافة النظم القانونية الأخرى، فهو المنظم الوحيد للمجتمع الدولي وبالتالي تسود قواعده القانونية بقية القوانين من حيث الإلزامية والنفوذ.

وقد ربط أنصار هذا التوجه بين إقرار الدول بسيادة قواعد القانون الدولي وضرورة تضمينها في دساتير الدول، وهنا يكرس الجفاء بين المجالين الدستوري و الدولي، لذلك لا بد من التقليل من هذا الطرح و محاولة إيجاد تقارب بين القانون الوطني والقانون الدولي في قوانينها المادية دون شرط أن تتضمن في القانون الأساسي للدولة فالقانون الداخلي لا يتفرع عن القانون الدولي لأنه ذلك لا ينسجم مع المنطق التاريخي كون القانون الداخلي سبق في الوجود من القانون الدولي.

الفرع الثاني: نظرية ازدواجية القوانين 

لقد نادى بنظرية إزدواجية القوانين الفقهاء الألمان والإيطاليون، و قد رأو أن القانونيين يشكلان نظامين متساويين ومستقلين غير قابلين للإندماج ولهم في ذلك إعتبارين هما: 

أولا: من حيث المبدأ

إن القانون الداخلي والقانون الدولي يختلفان من حيث المصادر، فالأول مصدره الإرادة المنفردة للدولة أما المصدر الثاني فهي الإرادة المشتركة للدول والمنظمات الدولية، كذلك هناك اختلاف جوهري أخر وهو اختلاف الأشخاص المخاطبين بالقانونيين.

ثانيا: من حيث الواقع 

يتجلى أول اختلاف في النظامين، فالنظامين القانونيين يختلفان جذريا، فأما النظام القانوني الداخلي يحتوي على سلطات ثلاث هي: السلطة التنفيذية، والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، بينما في النظام القانوني الدولي هناك بعض القصور خاصة فيما يتعلق بالسلطة التنفيذية التي تسهر تطبيق القوانين.

كما يظهر هناك اختلاف أخر فيما يتعلق بالقوة الإلزامية للقوانين الداخلية إذ يكفل ذلك على إشراف سلطات تنفيذية وقضائية في القانون الداخلي بينما يصعب كثيرا بالنسبة للقانون الداخلي إضفاء للقوة الإلزامية على القرارات الصادرة عن الهيئات الدولية، وإن كان ذلك يكون بنسب متفاوتة وتدخل في ذلك الاعتبارات السياسية.

على الدولة بمناسبة إنشائها للقواعد القانونية أن تراعي احترام ما ألتزمت به ، فإن لم تفعل لا يترتب عن ذلك بطلانا، بل يبقى القانون الداخلي نافذا وبالتالي يقع على عاتق الدولة تبعا للمسؤولية المدنية على ما التزمت به دوليا هذا من الجانب الموضوعي.

أما من الناحية الشكلية فإن القواعد القانونية الدولية لا يمكنها أن تكتسب وصف الإلزام في دائرة القانون الداخلي إلا إذا تحولت إلى قواعد قانونية داخلية وفقا للإجراءات المتبعة في إصدار القانون الداخلي، كذلك الحال بالنسبة لقواعد القانون الداخلي لا يمكنها أن تكون ملزمة إلا إذا تحولت إلى قواعد  دولية وفقا للإجراءات المتبعة لإصدار القواعد القانونية.

إن قيام أي تنازل بين قواعد القانون الدولي والداخلي تحل بصفة آلية مع وجود الإحالة التي تبين فقط الإختصاص بينهما. لكن ما يؤخذ عن هذه النظرية فهو فصلها التام بين مصادر القواعد القانونية لكل من القانون الدولي والقانون الداخلي، كون أن المصادر القانونية واحدة وهدفها واحد لأن القانون في الحالتين ما هو إلا ظاهرة إجماعي ومصادره الشكلية تتشابه في التطبيقات الواقعية للدول لم تأخذ بأي النظريتين على إطلاقها وقد فرضت الضرورة علو القانون الدولي على القانون الداخلي ومن الأمثلة على ذلك قضية "لوتينقا"

أين حاولت الحكومة المكسيكية معاقبة مواطنا أمريكيا مستندة إلى قواعد القانون الدولي وضمانات العدالة تسمو على القانون الداخلي المكسيكي أما على المستوى القضائي فقد أكدت المحاكم الدولية مبدأ علو القانون الدولي على القانون الداخلي ومثال ذلك قضية "الاباما" الجريمة والتي استعملت في تدمير سفن الملاحة الأمريكية وقد قضت المحكمة الدولية على أساس القاعدة التي تنص على أنه لا يجوز لأية دولة أن تحتج بتشريعها الداخلي لتحد من التزاماتها الدولية.

المطلب الرابع: التطور التاريخي للقانون الدولي العام

يتسم القانون الدولي العام بكونه حديث النشأة بمفهومه الحديث فالعصور القديمة لم تشهر سوى علاقات محدودة بين الملوك والإقطاعيات ولم تعرف علاقات بين الشعوب كذلك لم تكن تعرف الدولة ككيان سياسي بمفهومه الحديث ولم تظهر الدول إلا بعد تفكك الإمبراطورية الرومانية في القرن السادس عشر والتي بدأت في التطور إلى غاية تشكل المجتمع الدولي بمفهومه الحديث.

الفرع الأول: الإرهاصات الأولى للقانون الدولي العام 

بعد الإمبراطوريات القديمة بدأت العلاقات الدولية والقواعد المنظمة لها تأخذ اتجاهات جديدة يمكن إبرازها كما يلي:

أولا: معاهدة ويستفاليا 1648

أنهت معاهدة ويستيفاليا حرب الثلاثين عاما التي كانت بين مؤيدي الكنيسة ومعارضيها من الدول الأوروبية، و تم فتح صفحة جديدة في العلاقات الدولية، وكان ذلك أول تدوين لقواعد القانون الدولي، ومهد ذلك لقيام الدول الأوروبية الحديثة بعد انحلال الإمبراطورية الجرمانية و تجزئتها إلى دول مستقلة. لقد أرست معاهدة ويستفاليا الأسس التالية: 

- إنشاء العائلة الدولية المتشكلة من الدول المستقلة ذات السيادة التي يمكنها الدخول في علاقات دولية وتشترك  في وضع قواعد القانون الدولي لكن إقتصر ذلك على الدول الأوروبية المسيحية، ثم اتسعت لتشمل دولا غير مسيحية مثل الصين التي انضمت عام 1844 واليابان عام 1845 و تركيا عام 1856 ثم تلتها الدول المستقلة الأخرى.

- إقرار مبدأ المساواة بين الدول الأوروبية المسيحية و زوال سلطة البابا وفكرة سيطرة رئيس عليها وبالتالي بروز فكرة السيادة والمساواة بين الدول. 

- تبني فكرة التوازن الدولي للمحافظة على السلم في أوروبا بمعنى منح توسع الدول على حساب دول أخرى وهذا ضمنيا منع الحروب التي مزقت أوروبا خلال القرون الماضية.

- إرساء نظام السفارات الدائمة مكان السفارات المؤقتة وتوثيق الروابط بين الدول و تعزيز مبدأ التشاور في المسائل الدولية، وعقد المؤتمرات الدولية لذلك وأهمها مؤتمر "فيينا" عام 1815 عقب هزيمة نابليون ومؤتمرات لاهاي عام 1899 و 1907 التي نظمت القواعد الخاصة بالحروب والحياد ووضع القواعد الخاصة بتسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية.

ثانيا: تأثير الثورة الفرنسية 

كان لمبادئ الثورة الفرنسية تأثير كبير على مبادئ القانون الدولي، فهي جاءت بالحرية الفكرية وتأسيس الدولة على دساتير تحترم القانون، ورغم طابع تلك الثورة الوطني إلا أنها ألهمت بقيت الدول وأعطيت للثورة الفرنسية أهمية كبيرة ودعاية وسط الشعوب الأوروبية التي سبقت حملة نابليون العسكرية على الدول التي عارضت مبادئها.

ثالثا: مؤتمر فيينا 1815 

اتسم هذا المؤتمر بالرجعية إذ حاول منظموه إرجاع الملكية الى عروشها وتقسيم أوروبا وفقا لرغبات الدول المشاركة في هذا المؤتمر، وفعلا أعاد الملكية الروسية والنمساوية وضم دولتي النرويج والسويد الى إتحاد فعلي وضم بلجيكا الى هولندا بغية الحد من التوسع الفرنسي، وقد أرسى هذا المؤتمر قواعد الملاحة في الأنهار الدولية.

رابعا: التحالف المقدس

اجتمع قيصر روسيا وملوك النمسا وروسيا و إنجلترا عام 1815 ، وذلك لتأسيس ما يسمى بالتحالف المقدس للوقوف ضد المبادئ التي جاءت به الثورة الفرنسية، وحفاظا على القواعد التي جاء بها مؤتمر فيينا لعام 1815 وأقر المجتمعون على ضرورة تطبيق المبادئ المسيحية في علاقاتها الداخلية والخارجية، وقد انضم إليهم ملك فرنسا و نصبت هذه الدول نفسها وصيا على الدول الأوروبية في حل منازعاتها والحفاظ على الأنظمة الملكية بأوروبا.

خامسا: حركة القوميات 

عرفت بداية القرن 19 انتشار مبدأ القوميات والذي يرتكز على أن لكل أمة الحق في تقرير مصيرها، وعرفت تلك الفترة "بفترة تقرير المصير القومي"، وتحت هذا المبدأ انفصلت بلجيكا عن هولندا عام 1831، واليونان عن تركيا عام 1932 ،وتمت الوحدة بين ألمانيا وايطاليا ،وباستقلال عديد الدول زاد عدد أعضاء المجتمع الدولي من الدول المستقلة ذات السيادة والجيوش، الأمر الذي استدعى وجود قواعد تنظيم العلاقات بينها وقت السلم كما في وقت الحرب وشهدت هذه الفترة قبول الدول الأوربية دخول دول غير أوروبية في أحلافها وبداية الخلال ومكان يعرف بالحلف المقدس ،فدخلت الصين عام1844 إلى الحلف الأوربي ثم اليابان عام 1853 ،بعد تم قبول عضوية الدولة العثمانية والذي كان الغرض منه تقييدها لمجموعة من الاتفاقيات.

وبمقتضى معاهدة باريس والتي نصت مادتها السابقة على قبول عضوية الإمبراطورية العثمانية إلى المجتمع  الدولي، لكن بعدها مباشرة تم إعلان الحرب علينا من طرف روسيا انتهت بشروط استسلام قاسية ضد تركيا وقد تبنت بعدها الدول الأوروبية أسلوب المعاهدات لتلاقي نشوب الحروب بينها، وكان ابرزها الاتفاقية النمساوية الألمانية عام 1879 وعصية الإمبراطوريات عام 1881 بين روسيا وبروسيا والنمسا ،ومعاهدة 1892 بين فرنسا وروسيا.

سادسا: القضاء الدولي

كان للقضاء الدولي دور كبير في تقدم القانون الدولي إلى الأمام، فكانت الدول التي قبلت الخضوع في نزاعاتها إلى أحكام هيئة المحكمين دور هام في إرساء قواعد قانونية دولية جديدة، كما أن نشأة محكمة العدل الدولية الدائمة التابعة لعصبة الأمم أدى إلى تأسيس القضاء الدولي، فنظامها الأساسي تم الإبقاء عليه والحافة  لميثاق الأمم المتحدة لاحقا ومنها نشأت محكمة العدل الدولية التابعة لمنضمة الأمم المتحدة عام 1945.                                      

المبحث الثاني: القوة الإلزامية لقواعد القانون الدولي

على عكس النطاق الوطني، فإن المجتمع الدولي ليس به سلطة عليا أو مشروع  دولي يقوم بالسهر على تطبيق، القوانين وفرض منطق تساوي كل الدول منها كان حجمها وقوتها السياسة والعسكرية أمام القانون الدولي لأجل ذلك دائما ما يثور جدال حول الأساس القانوني الذي تستشهد منه قواعد القانونية الدولي قوتها الإلزامية وقد قسم فقه الدولي في ذلك إلى عدة مدراس لتفسير مصر القوة الإلزامية لقواعد القانون الدولي إلى المدرسة الإرادية والموضوعية.

المطلب الأول: المدرسة الإرادية La volontarisme    

يرى رواد هذه المدرسة أن إلزامية قواعد، لقانون الدولي إلى إرادة الدول وذلك استشهاد إلى مفهوم العقد الاجتماعي الذي يرى أن القانون هو تجسيد لرغبة دولية تجعل الدول تعيش في المجتمع سياسي معين يعني ذلك كله ان القانون الدولي ما هو إلا نتاج إرادة الدول، سواء أكانت منفردة أم جماعية، وسواء أكان التعبير عنها صراحة في الاتفاقيات الدولية، والمعاهدات أو يستخلص من السلوك الدول متمثلا في العرف الدولي.

الفرع الأول: نظرية الإرادة المنفردة

لقد كانت من أهم رواد هذه النظرية الفقيه الألماني جيلينك من خلال كتابته التقيد الذاتي ومفاده أن القانون الدولي العام يستمد إرادته من الإرادة المنفردة  لكل دولة على أساس انه لا توجد سلطة عليا تفرض احترام قواعد القانون الدولي فالدولة ذات السيادة لا تستطيع أن تخضع لغير إرادتها ولكنها تستطيع أن تقيد إرادتها بنفسها استنادا إلى سلطتها فلدولة إذا أرادت أن تنشئ علاقات مع الدول الأخرى تقيد نقسها بقواعد القانون الدولي العام أن القانون الدولي العام لا يفرض على الدول بواسطة أي نظام يعلو على إرادتها بل أن هذا هو جزء من نظامها القانوني الخارجي، فهي مجموعة  القانونية تضعها الدول بمحض إرادتها لتنظم علاقتها مع غيرها من الدول، والتي التزمت بالتقيد بها بمحض إرادتها، ووفق هذه النظرية يكون الالتزام بقواعد القانون الدولي العام.

نقد النظرية:

تعرضت هذه النظرية إلى انتقادات عديدة من طرف الفقه الدولي كان أهمها على الخصوص:

- إذا كان الالتزام بقواعد القانون الدولي مرده إرادة الدولة وحدها يعني ذلك أنها تستطيع ومتى شاءت إن تتنصل من ذلك الالتزام.

- لا تتفق هذه النظرية مع المبادئ التي يقوم عليها القانون العام فلا يعقل أن يقوم الالتزام مستمد من الإرادة المنفردة للدول والتي هي من المفترض إن تخضع لها وتلتزم بها.

- هذه النظرية حين تطبيقها قد تعطى نتائج عكسية، فاشترط التزام الدول بأحكام القانون الدولي بإرادتها المنفردة ممكن يؤدي إلى فقدان القانون الدولي لقوته الإلزامية كلما امتنعت دولة ما عن الالتزام ببعض قواعده.

- تخلوا هذه النظرية من أية ضمانات قانونية تجبر الدول على الالتزام بقواعده القانون الدولي، فقد تتحلل منه بحجة السيادة.

الفرع الثاني: نظرية الإرادة المشتركة 

وقد نادي بهذه النظرية الفقيه الألماني، فهو يرى أن إرادة دولة وحدها لا تكفي للالتزام بقواعد القانون الدولي العام، لذلك وجب اجتماع إرادة عدة دول من أجل اكتساب القاعدة القانونية الدولية الصفة الإلزامية في مواجهة جميع الدول، ويرى أنصار هذه النظرية أن الالتزام بقواعد القانون الدولي لا يكون إلا إذا صدر عن أكبر عدد من إرادات الدول، وبالتالي يمكن بعدها مواجهة بقية الدول بالصفة الإلزامية لقواعد القانون الدولي دون استثناء.

نقد النظرية:

- إذا كان مبدأ الالتزام بقواعد القانون الدولي يستمد صفة الإلزام من اجتماع إرادات الدول، فما الذي يمنع الدول نفسها في تكوين إرادة لعدم احترامها وعدم التقيد بها متى شاءت.

- هناك دول حديثة الاستقلال انضمت حديثا للمجتمع الدولي، قد تلتزم بقواعد القانون الدولي العام دون أن تكون شاركت بإرادتها في تكوين الإرادة المشتركة للدول بإضفاء الصفة الإلزامية لتلك القواعد القانونية.

الفرع الثالث: نظرية العقد شريعة المتعاقدين 

بعد النقد الموجه للنظريتين السابقتين، حاول بعض الفقهاء جعل أساس الالتزام بقواعد القانون الدولي العام بنوع أخر من أنواع التعبير عن الإرادة ألا و هو العقد و قد نادي بهذه النظرية الفقيه النمساوي الذي يرى أنه لكل نظام قانوني قاعدة أساسية تنظم أحكامه وتمنحها القوة الإلزامية، فكلسن يرى أن القواعد القانونية تكون على شكل هرمي تخضع فيه القاعدة الأدنى للقاعدة الأعلى هي "العقد شريعة المتعاقدين".

وهي الفكرة التي تنطلق منها هذه النظرية "العقد شريعة المتعاقدين" وهو أساس التزام الدول بقواعد القانون الدولي العام، لأن ذلك يلزم الدول باحترام قواعد الاتفاقيات الدولية التي عقدتها بمحض إرادتها، وبالتالي يمكن إضفاء الصفة الإجرامية على قواعدها.

نقد النظرية:

لم تسلم هذه النظرية من النقد كبقية النظريات من النقد الموجه لها من فقهاء القانون الدولي، وقد تلخصت جملة الانتقادات فيما يلي: 

- لا تعتبر العقود والاتفاقيات الدولية المصدر الوحيد من مصادر القانون الدولي العام لذلك لا يمكن الاعتماد عليها لتبرير أساس الإلزام متجاهلين بقية المصادر الأخرى التي لا تقوم على مفهوم التعاقد، كالعرف والاجتهاد والمبادئ العامة للقانون.

- يقترن مبدأ "العقد شريعة المتعاقدين" بوجود مبادئ أخرى مرتبطة به و مكملة له أحيانا كحسن النية في التعاقد، ومشروعية التعاقد، لذلك لا يمكن الاستناد على هذا المبدأ إذا كان محل التعاقد مثلا غير مشروع أو كان أحد أطراف العقد سيء النية. 

نظرية العقد بحسب منظرها كلسن:

تقوم على أساس تسلسل هرمي مقلوب لقواعدها القانونية، وهذا تصور خيالي على يبين بصفة دقيقة المصدر الأساسي الذي تستمد منه القواعد القانونية القوة الإلزامية ونظام تطبيقها.

المطلب الثاني: المدرسة الموضوعية L’obectivisme

بعكس رواد المدرسة الإرادية فإن أصحاب المدرسة الموضوعية يرون أن أساس الالتزام في قواعد القانون الدولي يرجع إلى عوامل خارجة عن نطاق الدول، ولهذا يجب البحث عن الأسس المستقلة عن إرادتها والتي يجعلها ملزمة بأحكام القانون الدولي العام.

الفرع الأول: نظرية القوة 

هي فكرة قديمة يونانية رومانية تجعل من القوة أساس أحكام قواعد القانون الدولي، وقد تبناها في القرن السابع عشر الفقيه  spinozaالهولندي، حيث قال "يحق للدول فعل كل ما تستطيع فعله، وليس للاتفاقيات الدولية التي تعقدها أي قيمة إذ ما تعارضت مع مصالحها"، لقد جعل رواد هذه النظرية القوة أساسا لأحكام القانون الدولي، والدولة في نظرهم هي سلطة مطلقة لا تخضع لسلطة أخرى، وهي تسير وفقا لما تمليه عليها مصالحها، فإذا تعارضت مصالحها مع مصالح دول أخرى لا مجال لتسويتها إلا باستعمال القوة.

ووفقا لهذه النظرية فإن اللجوء إلى الحرب يعد مظهرا من مظاهر التعبير عن سيادة الدولة وإرادتها، وبالتالي فإن التزامها بأي معاهدة يكون مرهونا ومرتبطا بقدر القوة التي تملكها بالمقارنة مع الدول الأطراف التي تعاقدت معها، فتوازي القوى بين الدول المتعاقدة يعني احترام المعاهدة، واختلال موازين القوة يعني عدم احترام تلك المعاهدة من طرف الدول الأقوى.

نقد النظرية: 

- إذا كانت هذه النظرية تعكس فعلا الواقع الدولي المبني على أساس القوة في العلاقات الدولية إلا أنه لا يمكن الاعتماد عليها في تأسيس قواعد القانون الدولي العام التي يمكن أن تعتمد على أسس أخرى سلمية وبعيدة عن مفهوم القوة.

- تتعارض هذه النظرية تماما مع غاية القانون الذي يقوم أساسا على فكرة العدالة ورعاية الحقوق والمساواة في التمتع بالسيادة دون النظر إلى حجم الدولة أو قدرتها وإمكانياتها العسكرية، إضافة إلى أن القانون الدولي يحظر استعمال القوة في العلاقات الدولية.

إن هذه النظرية يمكنها أن تصلح عل أساسا قانونيا لالتزام الدول بأحكام القانون الدولي في علاقاتها المتبادلة، لأن القوة محظورة في العلاقات الدولية وهي تتنافي مع مبادئ القانون السامية.

الفرع الثاني: نظرية المصلحة

مؤدى نظرية المصلحة أن أساس قيام العلاقات الدولية هي "المصلحة" وهي مصدر التزام الدول بالقواعد القانونية التي bieder وبيدر higuel تنظم تلك العلاقات وقد نادي بهذه النظرية الفقيهان واللذان يريان إن المصلحة هي أساس قيام أية علاقة بين الدول وبالتالي تشكل مصدرا للالتزام في الاتفاقيات الدولية.

نقد النظرية:

- إن المصلحة تتغير وفقا للظروف والمعطيات التي تحكم علاقات الدول فيما بينها وهي ليست مقياسا واضحا يمكن أن تتبناه الدول، وبالتالي فهي لاستصلح أن تكون نظرية يعتد بها في مسالة الالتزام بقواعد القانون الدولي.

- قد تتعارض المصلحة مع المبادئ العامة للقانون الدولي ومقاصده السامية، كما أن تحديد معيار المصلحة أمر من الصعوبة بما كان. 

- إن تغير سياسات الدول وظروفها قد يؤثر على المصلحة فيصبح صديق الأمس عدو اليوم والعكس صحيح.

- عدم ثبات مصالح الدول على حال مما يجعل الدول تلتزم اتفاقا مادام يحقق مصلحتها ومتى رأت عكس ذلك تنصلت من التزامها القائم على شرط المصلحة.

الفرع الثالث: نظرية القانون الطبيعي 

كان أهم رواد هذه النظرية والمنادين بها الفقيه الهولندي "غروسيوس" مؤسس القانون الطبيعي، حيث قام بتعريف القانون الطبيعي بأنه القاعدة التي يوحى به العقل القويم، والتي بمقتضاها يمكن الحكم على عمل معين بأنه فعل عادل أو فعل ظالم تبعا لكونه موافقا أو مخالفا للعقل القويم، منطلقا من كون الله تعالى خالق الطبيعة ومسيرها وهو الآمر الناهي فيها.

يعتبر فقهاء مدرسة القانون الطبيعي أنه التشريع النموذجي والمثالي الذي يستجيب لكل وضع من الأوضاع الدولية، وأنه يصلح ليكون أساسا لتنظيم العلاقات بين الدول.

وبالتالي يقتصر الدول فقط على تحويل قواعد القانون الطبيعي إلى قانون يضفي عليها الالتزام. 

نقد النظرية: 

لم تسلم هذه النظرية من نقد عديد فقهاء القانون الدولي العام، إذ قالوا أنها تخلط بين فكرة القانون الطبيعي القائم على وجود مجموعة من القواعد الخالدة والقيم المثلى التي تؤدي إلى تحقيق العدالة وبين القانون الوضعي القائم على أساس التأقلم مع مختلف التطورات الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية والثقافية في أي مجتمع فالقانون الطبيعي ليس القانون الأنسب لكل زمان ولكل مكان، بل هو القاعدة العليا والمثال الأسمى الذي يستعين به كل مشرع وتسير به كل القوانين الوضعية حتى تصل إلى تحقيق العدالة.

الفرع الثالث: نظرية التضامن الاجتماعي 

يعتبر الفقيه الفرنسي"دوجي" أول من تزعم هذه النظرية رفقة فقهاء آخرون أبرزهم "سال" وتعرف بالنظرية الاجتماعية، ويرى أنصارها أن القانون ليس تعبيرا عن الإرادة بل هو نتاج المجتمع الذي يفرض نفسه على المخاطبين بأحكامه فالقانون سواء أكان داخليا أو دوليا ما هو إلا قواعد السلوك الاجتماعي أملاها الواقع الاجتماعي ذاته، وأي أساس القوة الملزمة للقانون "داخلي أو خارجي" هو التضامن المنشئ للقواعد القانونية، كون القانون أسبق في الوجود من الدولة.

ويرى دوجي أن التضامن الاجتماعي لا ينحصر على تنظيم العلاقات بين الأفراد فقط و إنما يتعداه إلى تنظيم العلاقات بين الدول كذلك، لضرورته للحفاظ على استقرار المجتمع الدولي وديمومته، لذلك يكون التضامن بين الدول حتمي لا مناص منه ما يجعله سببا وجيها للالتزام بالقواعد التي تحكم هذا المجتمع والامتثال لها طوعا ولهذا رأى "دوجي" أن هذه النظرية تصلح لتكون أساسا لالتزام كافة الدول باحترام قواعد القانون الدولي.

نقد النظرية: 

كغيرها من النظريات فإن نظرية التضامن الاجتماعي لم تسلم من النقد رغم أنها تقوم على أسس صحيحة في غالبيتها، فأساس القانون الدولي ليس التضامن الاجتماعي ولا ضرورة الحفاظ على المجتمع الدولي لأن نشأة الأخير سبقت بكثير نشأة القانون الدولي، لذلك فهذه النظرية تصلح  لتكون سببا لنشأة القانون الدولي وليس كأساس للالتزام بقواعده.

إذن فإذا كانت هذه النظرية تصلح لتبرير وجود القانون الدولي فهي لا تصلح لتفسير أساسه الملزم، كما أن فكرة التضامن الاجتماعي فكرة غامضة غير غامضة غير محددة المعالم، فهي تخلط بين حتمية التعايش بين أفراد المجتمع الدولي وبين صفة الإلزام لقواعد القانون الدولي الذي يحكم هذا المجتمع الدولي. 

لكن رغم كل هذه الانتقادات تبقى هذه النظرية الأكثر حجة من غيرها من النظريات في تبرير أسس الالتزام بقواعد القانون الدولي العام. 

المطلب الثالث: القواعد الآمرة في القانون الدولي وعلاقته بالقانون الوطني 

الفرع الأول: القواعد الآمرة في القانون الدولي 

لا توجد هناك سلطة عليا تعلو على إرادة الدول و تفرض قواعد القانون الدولي جبرا عند الحاجة بين أعضاء المجتمع الدولي لكن هناك مجموعة من المبادئ والقواعد التي تحكم سلوك وتصرفات الدول والمنظمات الدولية التي في مجموعها كونت قواعد القانون الدولي العام، مع ذلك يبقى مبدأ سيادة الدول ما زال يضفي على قواعد القانون الدولي صفة الرضائية، فلا يمكن تصور استمرار القاعدة الدولية إلا إذا استمر الرضا بحكمها وعليه لا يوجد قواعد فوق إرادة الدول واستمرار القاعدة الدولية مرهون برضا الدول.

يتم الخلط كثيرا بين تكوين القاعدة القانونية وطبيعة القاعدة القانونية ودرجة إلزامها، صحيح أن القاعدة الدولية لا يزال مصدرها رضائي، ولكن بعد تكوينها يمكن أن تتنوع من حيث خطابها وموضوعها إلى درجة إلزامها. فالرضائية لها علاقة بتكوين القاعدة القانونية أيا كانت طبيعتها، ثم إذا تكونت تلك القاعدة تحدد نفس  الإرادة (الرضا) درجة إلزامها وذلك بالنظر إلى علاقتها بأسس المجتمع الذي تسود فيه  ينشا في المجتمع عدد كبير من المبادئ العليا والأسس الجوهرية التي يحرص المجتمع على ضمان احترامها باعتبارها من ضروريات وجوده واستمرار سلامته وهو ما يعرف بالنظام العام والمجتمع الدولي كمجتمع منظم يعرف هذا النوع من القواعد والأحكام حيث وردت الإشارة إليه في المادة 53 من اتفاقية "فيينا" لقانون المعاهدات  باطلة بطلانا مطلقا إذا كانت وقت ابرماها تتعارض مع قواعد آمرة من القواعد القانون الدولي، ولأغراض هذه الاتفاقية تعتبر قاعدة أمرة من قواعد القانون الدولي كل قاعدة تقبلتها الجماعة الدولية في مجموعها وتعترف بها باعتبارها قاعدة لا يجوز لا يجوز الإخلال بها ولا يمكن تعديلها إلا بقاعدة لاحقة من قواعد القانون الدولي العام لها ذات الصفة.

إن فكرة النظام العام فكرة غير ثابتة، وتتغير حسب المجتمع لكن لا تنعدم في حياة أي مجتمع منظم القواعد الآمرة شديدة الارتباط بفكرة النظام العام بل هي كلمات من النظام العام ومصادر هذا النوع من القواعد هي مصادر القاعدة الدولية ذاتها أي العرف والمعاهدات ومبادئ القانون. 

هناك معياران لتحديد القواعد الآمرة في القانون الدولي: 

- المعيار اللفظي: ويعني وجود لفظ أو صياغة لفظية تدل على القاعدة القانونية في المعاهدات الدولية لاستخدام الكلمات الآتية: يحرم، يحظر، يمنع ....، إلا أن هذا المعيار ليس دقيقا دائما بسبب وجود الأعراف الدولية غير المكتوبة وهي مصدرها من مصادر القانون الدولي.

- المعيار الموضوعي: ويمكن تحديد القواعد الآمرة من خلاله على أساس أنها تلك القواعد التي تهدف إلى حماية مصالح المجتمع الدولي والنظام العام الدولي.

إن هذه القواعد ذات صلة بالنظام العام، فلا يمكن تحديدها إلا بإعطاء مفهوم لهذا المصطلح، ومع ذلك يمكن القول أن القواعد الآمرة في القانون هي تلك القواعد التي تعكس الأسس العامة الأساسية في مجتمع منظم ولا يتصور بقاؤه دون مراعاة هذه الأسس، مع كونها قواعد اجتماعية فهي قابلة للتعديل حسب تطور أي مجتمع ومراعاة لمتطلبات هذا التطور في كل المجالات، وكذا نظرية إلى ما جوهري مثل تحريم الرق، وحرية أعالي البحار ومبدأ المساواة بين الدول، هذا فضلا عن القواعد التي تمس بحقوق الدول والقواعد الخاصة بحماية الأجانب، والمبادئ الأساسية في ميثاق الأمم المتحدة.

كما حدد القانون الدولي كذلك القواعد المكملة وهي تلك القواعد التي تترك مجالا لحرية الأطراف في اختيار تنظيم يناسبها، مثلا في حالة رسم الحدود البحرية في حالة الشواطئ المقابلة وفي حالة عدم الاتفاق يكون خط الوسط هو الحد كما هو الحال بين الدول المشاطئة للبحر الأحمر كذلك الأمر في تحديد مصادر القانون الدولي حيث يمكن لأطراف النزاع استبعاد المصادر الأصلية والحكم بمقتضى مبادئ العدل والإنصاف.

المطلب الثاني: العلاقة بين القانون الدولي والقانون الوطني 

كانت الأولوية بين القانون الدولي والقانون الوطني هي النقطة الأساسية التي أثارت الخلاف بين الفقهاء، ومشكلة تنازع تواجد القضاء الوطني، ولكل نظرية تبريرات وحجج ونتائج.

الفرع الأول: نظرية إزدواج القانون 

يرى رواد هذه النظرية أن كلا من القانون الدولي والقانون الوطني منفصلان ويختلفان عن بعضهما تماما سواء من حيث الجوهر أو الأساس أو الأشخاص أو المصدر فمن حيث المصدر فإن مصادر القانون الوطني هي عبارة عن مجموعة من القواعد التي تضعها السلطات الوطنية ذات الإختصاص، أعراف نشأ داخل المجتمع، في حين فإن مصادر القانون الدولي هي اتفاقيات أو معاهدات تعقدها الدول فيما بينها أو أعراف نشأـ نتيجة المعاملات الدولية، أما بالنسبة للأشخاص فإن أشخاص القانون الدولي هم الدول والمنظمات الدولية أما أشخاص القانون الدولي فهم الأفراد الطبيعيون.

ويترتب عن الاختلاف بين القانون الدولي والقانون الوطني النتائج التالية: 

- انتفاء التنازع بين القوانين بسبب اختلاف دائرة نفاذ كليهما.

- التزام القاضي الوطني بتطبيق القاعدة الوطنية في حالة التعارض مع القاعدة القانونية الدولية ولو أن ذلك يرتب المسؤولية الدولية على دولته، وذلك لأن القاضي الوطني يستمد سلطاته من وسلطاته من القانون الوطني لدولته.

- لا يمكن للقاعدة الوطنية في النظامين أن تطبق في النظام الآخر إلا وفقا لإجراءات معينة وخاصة.

ويرى أنصار هذه النظرية أن الاستقلال بين القانونيين لا يعني انعدام الصلة بينهما، وإنما يمكن أن يكون هناك اتصال عن طريق الإحالة أو الاستقبال فالإحالة تعني إحالة أحد القانونيين مسألة ما إلى القانون القانون الأخر تخص قضية ما تدخل في صلب اختصاصه، فمثلا قد يحيل القانون الدولي إلى القانون الوطني مسألة تحديد حقوق الأجانب ثم يترك تفسير من يكون أجنبيا إلى القانون الوطني، أو قد يحيل القانون الداخلي إلى القانون الدولي قضية ما يكون البت فيها من صميم اختصاص، مثل مسائل الحصانات الدبلوماسية.

ثم ترك للقانون الدولي مسألة تحديد الأشخاص الذين يجوز لهم التمتع بهذه الحصانة والاستقلالية يعني أن يقتبس أحد القانونيين أحكاما من الأخر ليمكنه من أن تطبيقها في مجاله الخاص، مثلا اقتباس القانون الدولي مبدأ حسن النية في مجال المعاهدات من القانون الداخلي، واقتباس مبدأ حصانة السفن البحرية في القانون الداخلي من القانون الدولي.

نقد النظرية:

تعرضت هذه النظرية إلى عدة انتقادات أهمها: 

- تتجاهل هذه النظرية حقيقة القاعدة القانونية بين القاعدة ووسائل التعبير عنها. 

- اختلاف مصدر القاعدة القانونية لا يمكن أن يكون سببا لاختلافها.

- لا بد من عدم الخلط بين القاعدة القانونية ووسائل التعبير عنها فمصادر القاعدة في القانونيين هو الدولة. 

- إن اختلاف المخاطبين بأحكام القاعدة القانونية لا يعني تغيير صفة القاعدة ففي القانون الداخلي هناك قواعد موجهة للأفراد وبعضها موجهة للدولة.

- إن اعتبار القاعدة القانونية معدومة بالنسبة لأحد النظامين وموجودة في نفس الوقت في النظام الأخر أمر غير منطقي ولا يعني الاستقلال وإنما يؤكد تدخل أحد القانونيين في الأخر بإلغاء أحكامه المعارضة له.

المرجع:

  1. د. شكيرين ديلمي، محاضرات في القانون الدولي العام، جامعة الجيلالي بونعامة، كلية الحقوق والعلوم السياسية – قسم الحقوق، الجزائر، السنة الدراسية 2021- 2022، من ص4 إلى ص40. 

google-playkhamsatmostaqltradent