دور المدارس الفقهية في تطوير قانون العقوبات

دور المدارس الفقهية في تطوير قانون العقوبات

دور المدارس الفقهية في تطوير قانون العقوبات

تقديــم:

يجب أن ينظر إلى قانون العقوبات بصفة عامة على كونه تطبيق لنظريات وفلسفة محددة، ومنه لا يعد الاشتغال بهذه الأخيرة عبارة عن ترف نظري كما يظن البعض، بل الهدف الأساسي منها هو الكشف عن سياسة التجريم والغاية من توقيع العقاب وإقرار المسؤولية الجنائية وتحديد أساسها وأخيرا اختيار مدى فعالية العقوبات الجنائية المقررة.
وقد ساهمت فلسفة القانون الجنائي في إثراء حركة الفقه وتوجيه وتطوير التشريعات الجنائية وكذا الفكر القانوني، وتتمثل هذه الأخيرة في المدرسة التقليدية والمدرسة الوضعية والإتحاد الدولي لقانون العقوبات ومدرسة الدفاع الاجتماعي، ونحاول أن نبرز أهم الأفكار التي تحدثت عنها هذه المدارس.

أولا: المدرسة التقليدية

ظهرت هذه المدرسة تحت لواء المفكر الإيطالي سيزاري بيكاريا صاحب مؤلف الجرائم والعقوبات des délits et des peines والمفكر الفرنسي مونتسيكو صاحب كتاب روح القوانين l’esprit des lois  والمفكر جون جاك روسو صاحب كتاب العقد الاجتماعي le contrat social .
ولقد ناضل هؤلاء ضد صور التعذيب والعقوبات القاسية التي كانت سائدة في تلك الفترة، بحيث لم تكن هناك نصوص جزائية معينة تحدد فيها الأفعال المجرمة، وكذا مقدار العقوبة المقرر لها، بل كان شيء يخضع لسلطان الحاكم هو الذي يقرر متى يحمل الفعل الوصف الجزائي، ثم يختار له العقوبة في ذات اللحظة دون أن تكون محددة سلفا، وكان من أبرز ما نادى به رواد هذه المدرسة النقاط التالية:
- تقرير مبدأ الشرعية، أي لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.
- ارتباط العقوبة بجسامة الفعل الواقع بصرف النظر عن شخصية الجاني، ودون تمييز بين المجرم المبتدئ والمجرم المحترف.
-ارتباط المسؤولية الجنائية بحرية الاختيار التي يتمتع بها الجاني، فالإنسان إما مسؤول مسؤولية كاملة وإما عديم المسؤولية.
- اعتبار وظيفة العقوبة هي الردع والزجر، أي ردع الجاني عن تكرار فعله وزجره غيره عن اقتراف مثل هذه الجريمة.
- اعتبار المنفعة هي هدف كل عقوبة، أي أن ما يبرر العقاب هو منفعته وضرورته.
وفي تطور لاحق لفكر المدرسة التقليدية ظهر التقليديون الجدد الذين ثاروا على المغالاة التي تميز به الفكر الأول ونادوا بتجسيد أفكارهم المتمثلة في:
- نسبية حرية الاختيار، بحيث إذا ارتكب شخص لفعل ما فلا يخضع تلقائيا للعقوبة ، لكون حرية الاختيار لديه ليست مطلقة، إذ يختلف كل إنسان عن الآخر في الظروف والميول والعوامل الوراثية، مما يتعين وضع العقوبة بين حدين حد أقصى وحد أدنى يتمتع بينهما القاضي بسلطة تقديرية تسمح له بتفريد العقوبة المناسبة لكل مجرم، وأسفر ذلك إقرار التشريعات لنظام الظروف المخففة والظروف المشددة للعقوبة.
- للعقوبة هدفين، الأول تحقيق المنفعة الاجتماعية التي نادى بها المفكرون الأوائل، والثاني تحقيق العدالة عن طريق عدم العقاب إلا بما لا يتجاوز ما تفرضه العدالة ولا بأكثر ما تقتضيه المنفعة.
إلا أن المدرسة التقليدية في ثوبها الأصلي والجديد تعرضت لانتقادات لاذعة نتيجة لاعترافها بالمسؤولية المخففة، وما نتج عن ذلك من انتشار للعقوبات قصيرة المدة التي تسمح باختلاط المجرمين المبتدئين مع غيرهم من المحترفين، كما أن هذه المدرسة أهملت إصلاح الجاني وإعادة تأهيله مرة أخرى،وقد انعكس هذا كله على زيادة معدل الجريمة بشكل كبير.

ثانيا: المدرسة الوضعية

ظهرت هذه المدرسة على أنقاض المدرسة التقليدية مرتكزة على الانتقادات التي وجهت إليها، وروادها هم: سيزاري لومبروزو صاحب كتاب الإنسان المجرم l’homme criminelle والمفكر إنريكو فيري صاحب كتاب علم الاجتماع الجنائي La sociologie criminelle  والمفكر بارون جارو فالو صاحب كتاب علم الإجرام  La criminologie.
وما تتميز به المدرسة الوضعية هو اعتمادها على المناهج العلمية لدراسة الظاهرة الإجرامية باعتبارها حقيقة واقعية اجتماعية، وإنكار حرية الاختيار واعتناق فكر الجبرية واهتمامها بشخص الجاني، ويمكن إيجاز هذه الملامح فيما يلي:
- حتمية الجريمة، ذلك لأن المجرم ليس حرا في ارتكابها بل هو مدفوع إليها جبرا بفعل عوامل شخصية (عضوية ونفسية) وأخرى خارجية (بيئية اجتماعية).
- جعل مناط المسؤولية الجنائية هو الخطورة الإجرامية المقدرة بناء على شخصية المجرم بدلا من المسؤولية القائمة على حرية الاختيار.
- إقرار التدابير الاحترازية ( تدابير الأمن ) بدلا من العقوبة في علاج الظاهرة الإجرامية، وتستند في ذلك عي فكرة الوقاية خير من العلاج والعلاج خير من العقاب، وقد تكون التدابير الاحترازية وقائية محصنة وسابقة على الجريمة، وقد تكون علاجية عقابية إذ تفترض وقوع الجريمة بالفعل وهذا هو الغالب في الأخذ بها.وما يعاب على المدرسة الوضعية هو اهتمامها بشخص المجرم دون أن تهتم بالجريمة، كما اهتمت بالردع الخاص على حساب الردع العام والعدالة، وأنكرت على نحو مطلق حرية الاختيار، ولم تقيم الدليل على حتمية التصرفات الإنسانية.

ثالثا: الإتحاد الدولي لقانون العقوبات

تأسس الإتحاد الدولي لقانون العقوبات سنة 1889 على يد كل من الأستاذة "هامل" و "بران" وليست: ويعد هذا الاتجاه من التيارات التوفيقية بين أفكار المدرسة التقليدية والمدرسة الوضعية، وأهم النقاط التي ناد بها نبرزها فيما يلي:
- الاهتمام بتفريد العقوبة، أي لابد من الأخذ بعين الاعتبار – عند توقيع العقوبة – ظروف الجاني وأحواله وطبيعته وشخصيته وذلك بهدف إصلاحه.
- التوفيق بين تدابير الأمن وضمانات الحرية الفردية، ومنه لا يجوز توقيع أي تدبير من تدابير الأمن إلا بنص قانوني وألا يصدر هذا التدبير إلا بموجب حكم قضائي ضمانا لمبدأ الفصل بين السلطات والوظائف.
- ثلاثية الغاية عند التنفيذ العقابي، وتتمثل أولا في توجيه إنذار للمجرم المبتدئ، وثانيا الإصلاح لمن يرجى إصلاحه وإعادة تأهيله وثالثا الإبعاد لمن لا يؤمل إصلاحه.
وقد لاق برنامج الإتحاد الدولي لقانون العقوبات تأييدا فقهيا واسعا لكونه نجح في التوفيق بين المدرستين التقليدية والوضعية، فهو أكثر واقعية وشمولية.

رابعا: مدرسة الدفاع الاجتماعي

تهتم هذه المدرسة أو الحركة بفن مكافحة الإجرام بالوسائل الملائمة لذلك، ومن روادها فيليبو قراماتيكا صاحب كتاب مبادئ الدفاع الشرعي Principes de défense sociale  إلا أن هذا المفكر اتسم بالمغالاة والتطرف مما جعل مفكر آخر يعيد الدعوى إليها منتهجا في ذلك فكرا معتدلا، وهو المفكر الفرنسي مارك أنسل صاحب كتاب الدفاع الاجتماعي الحديث La défense sociale nouvelle.
ويراد بالدفاع الاجتماعي حماية المجتمع والفرد من الإجرام، وتتحقق حماية المجتمع بمواجهة الظروف التي من شأنها أن تغري بالأقدام على الجريمة والقضاء على تأثيرها الضار، أما حماية الفرد الذي أجرم فتتحقق بتهذيبه وتقدير المعاملة المناسبة له بغرض إصلاحه وتأهيله لإعادة إدماجه في المجتمع في كنف الحياة الشريفة واللائقة بالكرامة الإنسانية.
كما دعت هذه المدرسة إلى هجر تعبير الجريمة والقول بدلا منه الفعل أللاجتماعي وإلغاء تعبير العقوبة والقول بدله تدابير الدفاع الاجتماعي.الحقيقة أن حركة الدفاع الاجتماعي تمتاز بأخذها باتجاهات إنسانية أخلاقية عالية تسمو بمستوى القانون الجنائي إلى أعلى المراتب، كما تتسم بطابع مثالي يهدف إلى تطهير النظم الاجتماعية من الأفكار القديمة التي لا تواكب التقدم العلمي، وتبعث آفاق وتدابير غير مسبوقة في مجال مكافحة الجريمة وتمثل تنويرا لمفهوم قانون العقوبات لم يحن بعد أوان الاعتراف به.

المرجع:


  1. عبد الرحمان خلفي، محاضرات في القانون الجنائي العام، دراسة مقارنة، دار الهدى، الجزائر، سنة 2013، ص 19 إلى ص 23.
google-playkhamsatmostaqltradent