محاضرة في نطاق تطبيق القانون الجنائي من حيث المكان (مبدأ إقليمية النص الجنائي)

محاضرة في نطاق تطبيق القانون الجنائي من حيث المكان (مبدأ إقليمية النص الجنائي)

نطاق تطبيق القانون الجنائي من حيث المكان (مبدأ إقليمية النص الجنائي)

نطاق تطبيق القانون الجنائي من حيث المكان (مبدأ إقليمية النص الجنائي)

تقديــم:

لا يخضع فعل الجاني بالضرورة لنص التجريم لمجرد وجود هذا الأخير وسريانه من حيث الزمان، وإنما يلزم فوق ذلك وقوع الفعل في نطاق السريان المكاني لنص التجريم، فإذا تبين أن الفعل بالنظر إلى مكان ارتكابه يخرج عن ذلك النطاق فلا مجال لتطبيق أحكام قانون العقوبات عليه.
بمعنى آخر أن للقاعدة الجنائية منطقة جغرافية محددة يكون لها فيها كل النفوذ والسلطان تسري على ما يرتكب عليها من جرائم بحيث تكون أحد مظاهر السيادة في الدولة وهو ما يعرف بمبدأ إقليمية النص الجنائي.
ولكن الأخذ بمبدأ الإقليمية لا يكفي لتحقيق الحماية الجنائية في الميدان الداخلي والخارجي للدولة، وهذا ما حدا بالمشرع الجزائري للأخذ بمبادئ أخرى لتكملة المبدأ الأصلي كي لا يفلت الجناة من لعقاب الذين يستغلون قصور المبدأ في مواجهتهم؛ وهذه المبادئ هي مبدأ شخصية النص الجنائي ومبدأ عينية النص ومبدأ عالمية النص.
وسوف نقوم بشرح هذه المبادئ وتحديد مجال تطبيقها، ولكن نخصص هذه المحاضرة فقط للمبدأ الأصلي وهو مبدأ إقليمية النص الجنائي ونترك المبادئ الاحتياطية لمحاضرة مستقلة.

أولا: تعريف مبدأ الإقليمية وتحديد دعائمه

1/ تعريف المبدأ

يقصد بمبدأ الإقليمية أن القانون الجنائي يبسط سلطانه على جميع الجرائم التي ترتكب على الإقليم الخاضع لسيادة الدولة سواء كان مرتكبها مواطنا أم أجنبيا، وسواء كان المجني عليه مواطنا أم أجنبيا، وسواء هدد الجاني بجريمته مصالح الدولة صاحبة السيادة على الإقليم أم نالت من مصلحة دولة أجنبية، وهذا هو الوجه الإيجابي لمبدأ الإقليمية.
أما الوجه السلبي فيتمثل في عدم تطبيق القانون الوطني على الجرائم التي ترتكب خارج حدود الإقليم حيث يصطدم بسيادة غيره من الدول التي تمنع بدورها تطبيق القوانين الأجنبية في إقليمها باعتباره أمرا يمس بسيادتها الوطنية.

2/ دعائم المبدأ:

لم تأت أهمية مبدأ الإقليمية من فراغ وإنما ثمة جملة من الدعائم بعضها ذات طبيعة فنية وعقابية والبعض الآخر له طبيعة دولية؛

أ/ الحجج ذات الطبيعة الفنية والعقابية:

فمن ناحية يقتضي حسن إدارة العدالة مباشرة الإجراءات الجزائية عن الجريمة في مكان وقوعها، إذ يسهل في ذلك المكان البحث عن الأدلة وتقديرها، ولا يغني عن ذلك إمكانية اتخاذ بعض الإجراءات في مكان آخر بموجب إنابة قضائية.
ومن ناحية ثانية فإن القضاء القائم في الإقليم الذي وقعت عليه الجريمة هو الأقدر على تقييم نطاق ما خلفته الجريمة من آثار ووزن العقوبة بناء على ذلك.
ومن ناحية ثالثة فإن تحقيق أغراض العقاب لاسيما غرضي الردع العام ولعدالة يتطلب تطبيق قانون العقوبات النافذ في مكان ارتكاب الجريمة.

ب/ الحجج ذات الطبيعة الدولية:

جوهر هذه الحجج هو استناد مبدأ الإقليمية على سيادة الدولة والمساواة القانونية بين الدول، فقانون العقوبات هو أوضح قوانين الدولة تعبيرا عن سيادتها لأنه يكشف عن وظيفتها في حفظ الأمن داخل حدودها، فضلا على أن ولاية قانون الإقليم تمنع التنازع بين سيادة أكثر من دولة، ولأنه من الأيسر تطبيق قانون العقوبات على إقليم الدولة بدلا من ربطه بأشخاص قد يتركون الإقليم وتتعذر ممارسة السيادة في مواجهتهم.

ثانيا: تحديد عناصر الإقليم

يتحدد مبدأ الإقليمية بثلاثة عناصر وهي الإقليم البري والبحري والجوي نوردهم تباعا ؛
تنص المادة الثالثة من قانون العقوبات على ما يلي " يطبق قانون العقوبات على كافة الجرائم التي ترتكب في أرضي الجمهورية".وتجدر الإشارة وأن مصطلح أراضي الجمهورية خاطئ في التشريع الجزائري والأصح هو إقليم الجمهورية على أساس أن الإقليم يمثل الإقليم البري وتحدده الحدود السياسية للدولة، والإقليم البحري ويشمل المياه الإقليمية للدولة، وأخيرا الإقليم الجوي وهو طبقات الجو التي تعلو الإقليم البري والبحري للدولة.
إلا أنه يجب تحديد مكان وقوع الجريمة للقول بإعمال سيادة الدولة على إقليمها وهو ما نصت عليه المادة 586 قانون الإجراءات الجزائية "تعد مرتكبة في الإقليم الجزائري كل جريمة يكون عمل من الأعمال المميزة لأحد أركانها المكونة لها قد تم في الجزائر" وهذا يعني أن مكان ارتكاب الجريمة هو المكان الذي يتحقق فيه الركن المادي، وطبعا لا يوجد إشكال إذا كان لركن المادي بأكمله تم في الجزائر، فالاختصاص يعود للسلطة القضائية للجزائر، كأن يضرب الجاني الضحية في قطر الجزائر فيسبب له جروحا فيها، إلا أنه في بعض الحالات قد لا يرتكب الجاني كل الفعل الإجرامي في الجزائر، كأن يضع للضحية السم في الجزائر فيموت في إقليم أجنبي، وعندها تعتبر الجريمة قد وقعت في الإقليمين معا، ورغم ذلك يجوز محاكمة الجاني في أحد الإقليمين لأن الركن المادي وقع في كليهما.

ثالثا: الجرائم التي تقع على ظهر السفن والطائرات

تجري معظم التشريعات المقارنة على اعتبار السفن والطائرات التابعة للدولة امتداد للإقليم الوطني، وتخضع الجرائم المرتكبة على متنها للقانون النافذ في ذلك الإقليم، ولكن تطبيق ذلك يختلف بالنسبة لكل منهما، كما أنه يختلف تبعا لنوع السفينة أو الطائرة، والمكان الذي تكون فيه عند ارتكاب الجريمة.

1/ الجرائم التي تقع على ظهر السفينة:

تنص المادة 590 ق إ ج "تختص الجهات القضائية الجزائرية بالنظر في الجنايات والجنح التي ترتكب في عرض البحر وعلى البواخر التي تحمل الراية الجزائرية أيا كانت جنسية مرتكبها، وكذلك الشأن بالنسبة للجنايات والجنح التي ترتكب في ميناء بحرية جزائرية على ظهر باخرة تجارية أجنبية".
ومن خلال نص المادة يتبين وأن قانون العقوبات الجزائري يطبق على الجنايات والجنح التي ترتكب على ظهر السفن في حالتين:
- حالة السفينة التي تحمل راية جزائرية وكانت متواجدة في عرض البحر، أي المياه الدولية التي لا تخضع لسيادة أي دولة.
- حالة السفينة التي تحمل راية أجنبية إذا كانت تبحر في المياه الإقليمية الجزائرية أو كانت راسية في ميناء جزائري.
ماعدا السفن الحربية لأنها امتداد لسيادة الدولة، أي يطبق قانون الدولة التي تنتمي إليها هذه السفينة.

2/ الجرائم التي تقع على ظهر الطائرة:

 تنص المادة 591 ق إ ج "تختص الجهات القضائية الجزائرية بنظر الجنايات والجنح التي ترتكب على متن طائرات جزائرية أيا كانت جنسية مرتكب الجريمة.
كما أنها تختص أيضا بنظر الجنايات أو الجنح التي ترتكب على متن طائرات أجنبية إذا كان الجاني أو المجني عليه جزائري الجنسية أو إذا هبطت الطائرة بالجزائر بعد وقوع الجناية أو الجنحة".
ويتضح من النص وأن قانون العقوبات الجزائري يطبق على الجنايات والجنح التي تقع على متن الطائرات في لحالات التالية: 
-  حالة الطائرة التي تحمل الراية الجزائرية ووقعت جريمة على متنها دون اعتبار لجنسية مرتكبها أو الأجواء التي تحلق فيها.
-  حالة الطائر التي تحمل الراية الأجنبية على أن يكون الجاني أو المجني عليه يحمل الجنسية الجزائرية، أو إذا هبطت الطائرة في أحد المطارات الجزائرية بعد ارتكاب الجريمة.
وتستثنى الطائرات الحربية لأنها امتداد لسيادة الدولة.

رابعا: الاستثناءات الواردة على مبدأ الإقليمية

يطبق مبدأ الإقليمية على كل شخص يرتكب عملا إجراميا على إقليم الدولة مهما تكن جنسيته، ولكن هذه القاعدة تجد لها بعض الاستثناءات على بعض الأشخاص الذين يتمتعون بالحصانة، وهذه الأخيرة يكون مصدرها إما القانون الداخلي أو القانون والعرف الدوليين.
فبالنسبة للأشخاص الذين يتمتعون بحصانة مصدرها القانون الداخلي؛
-  رئيس الدولة، ويجد مصدر حصانته في العرف الدستوري.
-  نواب البرلمان، وهم نواب المجلس الشعبي الوطني وأعضاء مجلس الأمة، ويجدون مصدر حصانتهم في الدستور، إلا أن هذه الحصانة ليست مطلقة بحيث يجوز للنيابة العامة بعد ارتكاب أحد النواب لجريمة ما أن تتقدم بطلب إلى مكتب المجلس الشعبي الوطني أو مكتب مجلس الأمة لرفع الحصانة التي تقرر بعضوية 3/2 من الأعضاء.
أما بالنسبة للأشخاص الذين يتمتعون بحصانة مصدرها القانون الدولي أو العرف الدولي فهم ؛
-  رؤساء الدول الأجنبية، فهم معفيون من المساءلة الجزائية أثناء إقامتهم في بلاد أخرى.
-  رجال السلك السياسي الأجنبي، وهم السفراء والقناصلة.
-  رجال القوات العسكرية الأجنبية، إذا كانوا متواجدين بإقليم دولة بناء على معاهدة ثنائية، وحصانتهم مرتبطة فقط بحدود الإقليم الذي يقيمون فيه.

المرجع:


  1. عبد الرحمان خلفي، محاضرات في القانون الجنائي العام، دراسة مقارنة، دار الهدى، الجزائر، سنة 2013، ص 66 إلى ص 71.
google-playkhamsatmostaqltradent