المحاضرة 1: انقضاء الالتزام (انقضاء الالتزام بتنفيذه – الوفاء)

انقضاء الالتزام (انقضاء الالتزام بتنفيذه – الوفاء)

انقضاء الالتزام

تمهيد:

الالتزام أو الحق الشخصي مآله الانقضاء، إذ لا يمكن للحق الشخصي أو الالتزام أن يكون أبديا ولانقضاء أسبابا يمكن تصنيفها كالآتي:
- فقد ينقضي الالتزام بتنفيذه، وفي هذه الحالة نجد سبب الانقضاء الوفاء.
- وقد ينقضي الالتزام عن طريق الوفاء بشيء آخر يقوم مقام الوفاء الأصلي ، وأسباب الانقضاء هنا هي الوفاء، والتجديد، و الإنابة في الوفاء، والمقاصة واتحاد الذمة.
- وقد ينقضي الالتزام دون الوفاء به أصلا ونجد في هذه الحالة الإبراء و استحالة التنفيذ والتقادم المسقط.

المبحث الأول: انقضاء الالتزام بتنفيذه – الوفاء (م 258 إلى 284 مدني)

للإحاطة بالوفاء، يجب تعريفه ثم بيان أطرافه وأخيرا محله.

المطلب الأول: تعريف الوفاء وأطرافه

الفرع الأول: تعريف الوفاء

الوفاء بالالتزام هو نفسه التنفيذ العيني للالتزام، والوفاء بهذا تصرف قانوني، بل هو عقد بين الدائن والمدين على إنهاء الالتزام عن طريق هذا التنفيذ العيني، ويجب في الوفاء، باعتباره تصرف قانوني، أن تتوفر في من يقوم به أهلية التصرف وأن تكون إرادته غير مشوبة بعيب من عيوب الإرادة المعروفة.
وإذا كان الوفاء يترتب عليه أن تبرأ ذمة المدين من الدين بصفة نهائية، فإنه أحيانا قد يتولى هذا الوفاء أجنبي، مما يترتب عليه انقضاء دين الدائن، لكن يبقى المدين مدينا لهذا الأجنبي، على اعتبار أن الأخير يحل محل الدائن في دينه الذي كان له تجاه المدين، ولهذا السبب تجب التفرقة بين الوفاء البسيط والوفاء مع الحلول.

الفرع الثاني – أطراف الوفاء

للوفاء طرفان هما الموفى والموفى له.

أولا – الموفى

أ) شروط الموفى:
يشترط في الموفى – متى كان الوفاء عبارة عن نقل ملكية شيء – أن يكون مالكا للشيء الذي يوفي به، وإلا جاز للدائن أن يبطل ذلك الوفاء قياسا على حق المشتري في إبطال بيع ملك الغير وفق ما نصت عليه (م: 397 مدني)، كما يشترط في الموفى أن يكون أهلا لإبرام التصرف (باعتبار الوفاء تصرف قانوني) وإلا كان وفاؤه باطلا أو موقوفا بحسب الأحوال.
ب) صفات الموفى:
الوفاء قد يكون من المدين أو شخص أخر له مصلحة في الوفاء، كما قد يكون من شخص ليست له أية مصلحة فيه.
1- الوفاء من المدين:
الوفاء كأصل عام يتم من المدين، أو من نائبه (سواء كانت نيابة اتفاقية (كوكيل أو مصرف) أو قانونية (كولي أو وصي عن القاصر والمحجور عليه)).
2- الوفاء من شخص له مصلحة في الوفاء:
والأشخاص الذين تكون لهم مصلحة في الوفاء بدين المدين هم المدين المتضامن، والمدين في دين غير قابل للانقسام، وكفيل المدين (سواء كانت الكفالة شخصية أو عينية)، والحائز لعقار مرهون.
3- الوفاء من شخص لا مصلحة له في الوفاء:
والوفاء من هذا الشخص قد يكون ما قام به تبرعا للمدين، أو فضالة وليس لدائن هنا رفض هذا الوفاء، إلا أن يكون دين المدين من فئة الالتزامات التي تراعى فيها شخصية المتعاقد، على أن المدين يمكنه الاعتراض على الوفاء الصادر من الموفي، ومتى أبلغ به الدائن، كان لهذا الأخير إما رفض الوفاء أيضا، أو قبوله وبذلك تبرأ ذمة المدين.

ثانيا – الموفى له:

أ) شروط الموفى له:
يشترط في الموفى له أن يكون أهلا لإبرام التصرف، وهذا على اعتبار أن الوفاء يترتب عليه انقضاء الدين وهذا الأخير من أعمال التصرف كما أنه يشترط في الموفى له أن يكون ذا صفة في الاستيفاء، كما سنبينه حالا.
ب) صفات الموفى له:
قد يتم الوفاء للدائن أو لنائبه أو لشخص أخر غير الدائن.
1- الوفاء للدائن أو لنائبه:
الأصل في الوفاء أن يتم للدائن ذاته، لكن يجوز أيضا الوفاء لنائبه (سواء كانت نيابته اتفاقية (كوكيل بقبض الدين) أو قانونية (كحال الولي والوصي والقيم) أو قضائية (كوكيل التفليسة ...)).
2- الوفاء لغير الدائن:
يكون الوفاء صحيحا متى تم لشخص آخر غير الدائن أو نائبه، وهذا متى أقر الدائن ذلك الوفاء، وفي هذه الحالة يصبح ذلك الإقرار بمثابة توكيل بقبض الدين، وحتى في غياب الإقرار، يكون الوفاء صحيحا لكن بشرط أن يعود ذلك الوفاء بالمنفعة على الدائن وفي حدود تلك المنفعة فقط، وتتصور هذه الحالة فيمن يوفي لدائن الدائن مثلا.
ويكون الوفاء صحيحا إذا ما تم لشخص يظهر أمام الغير على أنه الدائن، وهذا ما يحدث فيمن ينفذ وصية بإعطاء مبلغ إلى الموصى له ثم يظهر فيما بعد أن الوصية باطلة أو تم الرجوع فيها، وكمن يوفي بدينه إلى وارث معين، ثم يتبين أنه محجوب بغيره، أو كمن بوفي لمحال إليه (في حوالة الحق) ثم يظهر أن الحوالة باطلة، على أن صحة الوفاء للدائن الظاهر مشروطة بكون الموفي ذاته حسن النية، أي لا يعلم بأنه يوفي لغير الدائن.

المطلب الثاني: محل الوفاء

يكون الوفاء بالشيء أصلا، سواء كان عبارة عن نقل ملكية شيء معين بذاته أو بنوعه أو كان عبارة عن التزام بالقيام بعمل أو الامتناع عنه، فلا يجبر الدائن على قبول شيء أخر غير مستحق ولو كان أعلى قيمة، كما لا يجبر المدين على الوفاء بشيء آخر ولو كان أقل منه قيمة، وإذا وجب الوفاء بالشيء المستحق فإنه يجب الوفاء به كاملا غير منقوص، إذ لا يجبر الدائن على قبول وفاء جزئي، وهذا كله ما لم ينص الاتفاق أو القانون على الوفاء الجزئي (كما يحصل في المقاصة، والوفاء بجزء الدين غير المتنازع فيه).
هذا ويشمل الوفاء بالدين ملحقاته أيضا، أي نفقات الدين (كالطابع والرسوم ومصاريف الكيل أو العد أو الوزن ونفقات شحن الشيء المستحق ...)

المطلب الثالث: زمان ومكان الوفاء

الأصل أن يتم الوفاء بالدين بمجرد ترتبه في ذمة المدين إلا أن يتعلق الأمر بالتزام مضاف إلى أجل، على أن المشرع أعطى السلطة التقديرية للقاضي في أن يمنح المدين حسن النية أجلا للوفاء على ّأن لا يتجاوز هذا الأجل سنة واحدة، ويطلق على هذا الأجل بنظرة المسيرة.
أما مكان الوفاء بالدين فإن القاعدة العامة تقضي أن الدين مطلوب وليس محمول، أي يتوجب على الدائن أن يسعى وراء مدينه للحصول على الدين وبالتالي يكون الوفاء في موطن المدين، أما إن كان محل الوفاء شيئا معينا بالذات، فالأصل أن يتم الوفاء به في المكان الذي وجد فيه وقت نشوء الالتزام.المطلب الرابع : عوارض الوفاء
قد تعترض المدين حين إرادته الوفاء بالدين صعوبات تتمثل إما في رفض الدائن لذلك الوفاء (لاعتقاد الدائن مثلا أنه لا يستوفي حقه كاملا، أو أن الموفي به لا يتفق مع المواصفات المتعلقة بجودته ...) أو في استحالة الوفاء للدائن (كأن يتوفى الدائن ويترك ورثة ولا يعلم المدين من هم )، أو أن لدين يتنازعه عدة دائنين ...) في مثل هذه الحالة وضع المشرع بين يدي المدين سلوك طريق ما يسمى بالعرض الحقيقي والإيداع.
فيلتزم المدين أولا بعرض وفائه للدين (أي كامل الشيء المستحق وملحقاته) في المكان والزمان المحددين، ومتى رفض الدائن هذا الوفاء، سجل المدين عليه ذلك الرفض بإعلان رسمي على يد محضر قضائي مثلا، ويعد مثل ذلك الإعلان إعذار للدائن، يترتب عليه نقل تبعة هلاك الشيء محل الوفاء إليه (متى كانت قبله على المدين) مع حق المدين في تعويض الضرر الذي يصيبه جراء ذلك الرفض وتلي مرحلة الإعذار مرحلة العرض الحقيقي للدين عن طريق إحضار محل الوفاء فعلا (تقودا كان أو شيئا آخر) فيحرر عنه محضر عرض بمعرفة كاتب الجهة القضائية المختصة ويذكر فيه رفض الدائن للعرض الحقيقي، ويترتب على رفض العرض الحقيقي حق المدين في مباشرة إجراءات الإيداع، أي إيداع الشيء محل الوفاء قلم كتاب المحكمة أو من يعينه القضاء ليتسلم الشيء محل الوفاء، على أنه لا تبرأ ذمة المدين بهذا الإيداع إلا أن يستصدر حكما من القضاء – بموجب دعوى قضائية – بصحة العرض والإيداع، إذ أن ذلك الحكم يكون بمثابة وفاء من المدين.

المطلب الخامس: آثار الوفاء

يترتب على الوفاء بالدين انقضاء التزام المدين وكذا الضمانات التي كانت تضمن الوفاء بالدين، على أن إشكالا قد يظهر في الحالة التي يكون على نفس المدين عدة ديون من طبيعة واحدة ومستحقه كلها لنفس الدائن، فأي الديون يعتبر قد انقضى بالوفاء السابق ؟ إشكالا آخر يبقى قائما في الحالة التي يتم فيها الوفاء لا من المدين، بل من شخص آخر ، فما مصير المدين الموفى عنه وكذا الموفي ذاته ؟

أولا – تعيين جهة الدفع (أو حالة تعدد الديون التي من جنس واحد ولدائن واحد)

يقصد بهذه الحالة أن تعدد ديون المدين التي في ذمته وتكون كلها من طبيعة واحدة ( كمبالغ نقدية ) لدائن واحد، غير أن ما يوفيه المدين لا يكفي لانقضاء جميع تلك الديون بل واحدا فيها أو أكثر، وتظهر أهمية هذه الحالة حينما تكون بعض الديون مضمونة دون غيرها أو أن بعضها يسري عليها الفوائد – متى أقر القانون ذلك – دون غيرها.
أعطى المشرع للمدين الحق في أن يعين جهة الدفع، أي يبين أي الديون تنقضي أولا، والمدين سيراعي طبعا مصلحته في ذلك التعيين، إذ أنه سيختار الديون الأشد كلفة عليه لكي تنقضي أولا (كدين مضمون بتأمين معين، أو دين تقادمه طويل ...)
على أن اختيار المدين ليس مطلقا، فهو لا يستطيع أن يخالف الاتفاق – متى كان هناك اتفاق – على التعيين، كما لا يستطيع أن يجزء وفاءه للدين.
ومتى لم يقم المدين بذلك التعيين، فإن القانون هو الذي يتولى تعيين جهة الدفع متبعا في ذلك لترتيب الآتي : فيجب البدء بالدين الذي حل أجله، ومتى كانت كلها حالة، وجب تقديم الدين الأشد كلفة على المدين بحسب ما يقرره القضاء كذلك (كدين ينتج فوائد، ودين تقادمه طويل، ودين ثابت في سند تنفيذي، ودين مقترن بشرط جزائي ..) ومتى تساوت في الكلفة – وفي غياب النص القانوني – فإن بعض القوانين تمنح الدائن تعيين جهة الدفع، أو تعطي الأولوية للدين الذي نشأ أولا، ومتى نشأت كلها في نفس الوقت وجب الوفاء بكلها بحسب نسبة كل دين، مما يترتب عليه الوفاء الجزئي لكل دين.

ثانيا – الوفاء مع الحلول

سبق أن عرفنا أن الوفاء قد يتم من شخص أخر غير المدين أو نائبه، وأن هذا الشخص قد تكون له مصلحة في الوفاء وقد لا تكون له أية مصلحة فيه.
ومثل هذا الوفاء يكون في مصلحة الدائن، لأنه بذلك يستوفي حقه، ثم هو في مصلحة المدين لأن الذي وفى عنه قد يكون أيسر في المعاملة من دائنه الموفى له.
ومتى حصل الوفاء من شخص أخر غير المدين أو نائبه فإن دين الدائن ينقضي دون دين المدين، إذ يحل الموفي محل الدائن في حقوق هذا الأخير تجاه المدين، ومثل هذا الحلول قد يكون بنص القانون أو بنص الاتفاق، وفي غيابهما، يكون دائما للموفي – ما لم يكن متبرعا – أن يرجع على المدين الذي وفى عنه بدعوى شخصية، قد تكون دعوى مبنية على الوكالة (متى وكل المدين الموفي بالوفاء) أو بدعوى الفضالة (متى تولى الموفي الوفاء دون علم المدين مثلا) أو بدعوى الإثراء بلا سبب (كأن يكون المدين قد نهى الموفي عن الوفاء للدائن) ورجوع الموفي بالدعوى الشخصية يكون بدين جديد ترتب للموفي في ذمة المدين، أي لا علاقة لهذا الدين بدين المدين تجاه دائنه.
أما لو رجع الموفي على المدين بدعوى الحلول فإن أساس ذلك يكمن، كما سبق أن أشرنا، في نص القانون أو نص الاتفاق، ذلك أن الحلول يعد استثناءا من الأصل العام الذي هو انقضاء دين المدين بالوفاء، بينما في الحلول يبقى ذلك الدين قائما.

أ) الحلول القانوني:

ونص المشرع على خمس حالات يكون فيها هذا الحلول وهي أن ينص القانون على مثل هذا الحلول، وأن يكون الموفي ملتزما بالدين مع المدين (وهذا ما يتصور في المدين المتضامن والمدين في دين غير قابل للانقسام)، أو ملتزما بالوفاء عن المدين (وهذا ككفيل شخصي أو عيني للمدين)، أو أن يكون الموفي ذاته دائنا لذات المدين وقام بالوفاء للدائن الذي يتقدمه بما للدائن الموفى له من تأمين عيني (كرهن رسمي أو حيازي أو اختصاص أو امتياز) وبذلك يحل محله في ذلك التأمين العيني، أو أن يكون الموفى قد اشترى عقارا مرهونا ودفع ثمن العقار لا إلى بائعه، بل إلى الدائن المرتهن ليحل بالتالي محله في ذلك الضمان ويضمن بالتالي استيفاء حقه قبل غيره في حالة تعدد الدائنين المرتهنين المتأخرين عنه مرتبة.

ب) الحلول الإتفاقي:

ومثل هذا الحلول جائز بحيث قد يحصل باتفاق يجمع الدائن والموفي ولو بغير رضا المدين، لكن يشترط فقط أن يقع الاتفاق إما قبل الوفاء أو معه، لا بعده، وهذا كله درءا للتحايل إضرارا بحقوق دائنين آخرين، كما أن هذا الحلول قد يتم باتفاق الموفي مع المدين ذاته لكن هذا مشروط بأن يقترض المدين مبلغا ماليا ليسدد به دين الدائن ويذكر ذلك كله في عقد القرض وحين الوفاء، وبهذه الكيفية يحل المقرض محل الدائن الذي استوفى حقه من مبلغ القرض.

ج) آثار الحلول:

يترتب على الحلول بنوعيه أن ينتقل الدين إلى الموفي الذي حل محل الدائن، مع كل ما كان يميز ذلك الدين من خصائص وتوابع وضمانات (كالتأمينات العينية والشخصية التي كانت تكفل الحق ، وكذا الدعاوى التي يملكها الدائن تجاه المدين (كدعوى الفسخ، والدعوى البولصية)) على أنه تنتقل إلى الموفي أيضا الدفوع التي من حق المدين التمسك بها تجاه الموفي (كالبطلان والقابلية للإبطال، وككون الدين معلق على شرط أو مضاف إلى أجل، أو كون الدين قد انقضى لسبب ما كالوفاء أو الإبراء أو المقاصة ...) وحلول الموفي محل الدائن يكون بقدر ما وفاه من دين الدائن، فإن وفاه جزئيا فقط لم يكن للموفي أن يزاحم الدائن عند اقتضاء الجزء المتبقي من المدين،بل يتقدم الدائن عليه في مثل هذه الحالة، وخلاف هذا الحكم يكون في حالة ما إذا وفى الجزء المتبقي موف ثان، إذ هنا لا أفضلية لأحدهما على الآخر عند رجوعهما على المدين، بل يقتسمان ماله قسمة الغرماء ونفس هذا المركز الأدنى في معاملة الموفي من مركز الدائن الأصلي، نجده في حالة ما إذا كان الموفي حائزا لعقار مرهون ضمانا لدين الدائن، فوفى دين الدائن وبالتالي حل محله، غير أن الموفي هنا لا يستطيع الرجوع على باقي الحائزين لبقية العقارات المرهونة ضمانا لدين الدائن إلا بمقدار نصيبه في ما يحوزه من العقار المرهون.

المرجع:


  1. أ. دربال عبد الرزاق، الوجيز في أحكام الالتزام في القانون المدني الجزائري، دار العلوم للنشر والتوزيع، الجزائر، 2004، من ص 77 إلى ص 89.
google-playkhamsatmostaqltradent