مفهوم المحاكمة العادلة وعلاقتها بحقوق الإنسان

مفهوم المحاكمة العادلة وعلاقتها بحقوق الإنسان

مفهوم المحاكمة العادلة وعلاقتها بحقوق الإنسان

تمهيد

إن الحق في محاكمة عادلة يعتبر من بين أهم حقوق الإنسان لما له من أثر بالغ الأهمية في حماية باقي الحقوق ، وهذه الحقوق والضمانات كلما تعززت كلما كنا أمام ما يعرف باسم المحاكمة العادلة، وكلما ضاعت أو تلاشت كلما كنا أمام محاكمة معيبة تنتهك فيها حقوق الأفراد بغير وجه حق (1).
ونظرا للأهمية الحق في محاكمة عادلة كان لزاما علينا التطرق إلى تعريف المحاكمة العادلة في المطلب الأول أما المطلب الثاني فسنتناول فيه علاقة المحاكمة العادلة بحقوق الإنسان.

المطلب الأول: ماهية المحاكمة العادلة

لم يعتني الباحثون في المجال القانون الجنائي كثيرا بتحديد مفهوم معين للحق في المحاكمة العادلة وأولو الاهتمام فقط على تحديد ضماناته فقط ، الأمر الذي دفعنا إلى محاولة تسليط الضوء على تعريف هذا الحق في الفرع الأول و التكريس الفعلي للحق في المحاكمة العادلة في الفرع الثاني.

الفرع الأول: التعريف الحق في المحاكمة العادلة

المحاكمة لغة هي المخاصمة إلى الحاكم، واحتكموا إلى الحاكم وتحاكموا بمعنى قولهم في المثل : "في بيته يؤتى الحكم ..."(2)
و اصطلاحا الحق هو ميزة أو مصلحة معتبرة وجه الشارع النظر إليها لكونها ذات أهمية كبيرة فأفضى عليه إعتراف وبالتالي منحها الحماية القانونية اللازمة ووضع الجزاءات المختلفة التي تفرض عند إنتهاك هذه المصلحة وذلك لإعتبارها ذات قيمة إجتماعية كبيرة  (3).
المحاكمة تعرف إعتمادا على البعد الإجرائي بعتبارها مجموعة من الأعمال الإجرائية التي تتابع بنظام معين يفرضه القانون من أجل الفصل في النزاع، وهي تنشأ ابتدأ من المطالبة القضائية وتسير من خلال أعمال يقوم ببعضها الخصوم و ممثيلوهم ، ويقوم ببعضها القاضي وأعوانه ، وتنتهي عادة بصدور حكم في الموضوع المطالبة وقد تنتهي بغير هذا الحكم (4).
أما العدل فهو إحدى الفضائل التي تتلخص في إعطاء كل ذي حق حقه ، وهو بدلك يتضمن فكرة المساواة بمعناها العام إذ يتساوى كل ذي مصلحة بحقه و إفضاء ما يجب له (5).
و مصطلح العدل في مفهوم القانون يرتكز على الحقوق والضمانات الموضوعة لصالح الفرد بالمفهوم التجريدي له دون تعين لذاته و تمتعه بهذه الحقوق في الوقت والواقعة ذاتها التي ينص عليها القانون ، وأن العدل الحقيقي لا يمكن بلوغه على الإطلاق ومن تم وجب وضع آليات وميكانزمات أساسية لبلوغ العدل النسبي على الأقل (6).
وعليه يمكن القول بأن حق المتهم في محاكمة عادلة يعني "الإمكانية في مقاضاته بشأن الإتهام الجنائي الموجه إليه، أمام محكمة مستقلة محايدة  منشأة بحكم القانون قبل اتهامه طبقا لإجراءات علنية يتاح له من خلالها الدفاع عن نفسه مع تمكينه من مراجعة الحكم الصادر ضده من قبل قضاء أعلى درجة من المحكمة التي حكمت عليه"(7)
وعرفت أيضا : "المحاكمة التي تشتمل في الواقع حقوق المتهم من إحاطته علما بالتهمة إلى الإستعانة بمحام إلى عدم تعرضه لخطر العقاب أكثر من مرة إلى حق الطعن في الأحكام وفي التعويض في حالة إخفاق العدالة، وأن تكون المحكمة حيادية مستقلة لا تأثير عليها" (8).
وعرفت كذلك بأنها " مجموعة إجراءات التي تتولاها محكمة مستقلة، ومحايدة ومشكلة وفقا للقانون، وأن تتم بصورة علنية إلا ما اقتضته قواعد النظام العام، وأن يسودها مبدأ تكافؤ الخصوم" (9).

الفرع الثاني: التكريس الفعلي للحق في المحاكمة العادلة

جميع المواثيق الدولية تنص على أن تكون محاكمة المتهم محاكمة عادلة ومنها المادة 10 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حتى تكون محاكمة عادلة (10).
لا يكفي مجرد النص في الدستور أو القانون على الحق في المحاكمة العادلة، لابد زيادة على ذلك أن يلتزم القاضي بضرورة تكريس هذا الحق فعليا في الدعوى التي ينظرها ويفضل فيها، لأن الحق في محاكمة عادلة مقرر لمصلحة القانون ولمصلحة الفرد.
فهو مقرر لمصلحة القانون لأن تحقيق محاكمة عادلة يعتبر ضمانة أساسية من ضمانات تطبيق القانون، وبذلك يقوم بوظيفته الأساسية وهي تحقيق الاستقرار والمساواة والعدالة.
أما المصلحة المقررة للفرد فهي مقررة للخصوم في الدعوى عموما، وللمتهم خصوصا ذلك لأنها تعد إحدى الحقوق الأساسية للإنسان (11).
بالإضافة إلى وجوب أن يكون القاضي الذي يفصل بالدعوى مستقل وحيادي لا يخضع في عمله لأي سلطة أو جهة، وأن يكون عمله خالصا لإقرار الحق والعدل، خاضعا لما يمليه عليه القانون والضمير، وأن المحاكمة العادلة لا تتجسد في أرض الواقع إلا إذا كانت جلسات القضاء مفتوحة أمام الجميع ليمارس هؤلاء رقابة شعبية على القاضي تدفعه أكثر على تطبيق القانون ومرعاة حقوق الخصوم والمساواة بينهم (12).
كما يجب أن تتم الإجراءات بطريقة شفهية و بصوت مسموع مع احترام مبدأ الوجاهية سواء بين الخصوم ومع القاضي، وكذلك الأمر بالنسبة لسماع الشهود والخبراء وغيرهم، فهم يدلون بأقوالهم أمام القاضي مع تمكين الخصوم من مناقشة الشهود أثناء الجلسات (13).
ويقتضي الحق في المحاكمة العادلة أن تتم إجراءات المحاكمة بكفالة مبدأ سرعة الفصل أو ما يسمى بإنهاء المحاكمة خلال فترة معقولة، لا تسرع يخل بالحقوق، ولا بطء يعكر صفوة العدالة، فإذا كان المتهم قد تضرر بسبب وضعه موضع الاتهام مما يمس شرفه وسمعته، فإن الفصل في الدعوى يضع حدا لهذه المعاناة خاصة إذا ثبتت براءته (14).

المطلب الثاني: علاقة المحاكمة العادلة بحقوق الإنسان

لكي تكون المحاكمة عادلة يجب أن تقوم على وسائل قانونية سليمة وتتوفر فيها عناصر معينة، و ترسيخ هذه الوسائل القانونية السليمة والعناصر التي تقوم عليها المحاكمة العادلة لها  أهمية كبيرة في حماية حقوق الإنسان وهذا ما سنتناوله في الفرع الأول أما في الفرع الثاني سنتطرق إلى الحقوق التي ترتكز عليها الحماية الجزائية.

الفرع الأول: أهمية حماية حقوق الإنسان

تبدو أهمية هذه الحماية في أن النصوص الواردة في التشريعات تبقى مجرد نصوص نظرية، ما لم تقترن بوسائل تكفل حمايتها فعلا، غير أن الممارسة المطلقة لأوجه النشاط الإنساني قد تؤدي إلى الإخلال بأمن المجتمع، من هنا يفترض في تدخل السلطة أن يتم لصالح الحماية وليس ضدها (15).
ومن هنا تظهر أهمية حماية حقوق الإنسان والتي تتركز في ضرورة إيجاد الوسائل الفنية والإجرائية، التي تكفل التزام السلطة بعدم الاعتداء على حقوق الإنسان بحجة أمن المجتمع (16).
وأي مجتمع يؤمن حقوق الإنسان بشكل متوازن مع حقه في توقيع العقاب على من يعبث بأمنه، هو مجتمع الديمقراطية والتقدم، ومن جهة أخرى فإن إعطاء الإنسان الحقوق الكافية من شأنه أن يؤدي إلى إعادة اندماج ذلك الفرد في المجتمع مجددا، في حال صدور حكم بالإدانة.
وهكذا تتضح أهمية الحماية الجنائية لحقوق الإنسان كونها تعد أهم الضمانات المعروفة في عالم القانون لحماية الحريات العامة والحرية الشخصية بالذات، بما تقدمه من جزاءات أو عقوبات تنال شخص المعتدي على الحرية، وتكفي لردع غيره من النيل من حريات الآخرين، إذ ثمة تلازم بين نطاق تلك الحماية ومدى ديمقراطية نظام الحكم والعكس صحيح أيضا، فحماية حقوق الإنسان هي الاختبار الحقيقي لبيان فيما إذا كان النص التشريعي، المتعلق بحماية حقوق الإنسان ، يجد طريقة للتطبيق العملي.
والخلاصة أن أهمية الحماية ضرورية للإنسان في تأمين حقوقه التي تحرص عليها كل التشريعات والمواثيق الدولية والإقليمية المعنية بحقوق الإنسان، وهي ضرورية كذلك للمجتمع الذي يعيش فيه المدعى عليه من أجل تحقيق الردع بشقيه العام والخاص، بشرط أن يتم ذلك بصورة متوازنة ، بمعنى وإن كان من حق المجتمع إيقاع العقاب على من ينال من حريات الآخرين وعلى من يعبث بأمنه، فإن ذلك لا يجوز أن يكون على حساب حقوق الفرد الإنسانية (17).

الفرع الثاني: الحقوق التي ترتكز عليها الحماية الجزائية

سبق الكلام بأن الحماية الجزائية تعد إحدى أهم ضمانات حقوق الإنسان في مجال الحريات العامة والحرية الشخصية بالذات، وأن هناك حقوقا كثيرة للفرد، منها الحقوق السياسية والإجتماعية والفكرية، والاقتصادية، وما يهم من تلك الحقوق هي التي من الممكن أن تتعرض للانتهاك خلال الإجراءات الجزائية، سواء في مرحلة التحقيق أو مرحلة المحاكمة، في حال غياب الضمانات الواجب توافرها للإنسان في مرحلة الدعوى الجزائية (18).
فالحماية المطلوبة للإنسان عبر مراحل الدعوى الجزائية هي الحماية الجزائية والحقوق التي ترتكز عليها تلك الحماية، هي الحقوق المفروض احترامها وكفالة رعايتها أثناء سير الدعوى الجزائية، وبصورة أوضح هي الحقوق التي يترتب على عدم احترامها المساس بالحرية الشخصية للفرد.فحق الإنسان بسلامة الجسم والبدن، يفترض ألا يتم أخذ الاعتراف منه بطريق التعذيب أو الإكراه، وحقه بالدفاع يفترض أن تتاح له كل الفرص الممكنة لدحض التهمة الموجهة إليه أمام محكمة مستقلة ومحايدة ونزيهة، وحقه في حرمة المسكن يفترض أن يتم التفتيش وفق الضوابط التي نص عليها القانون، وحقه في الحرية والحياة، يفترض ألا يحاكم إلا وفق أحكام القانون، وحق الإنسان بالتقاضي يفترض أن يحاكم أمام قاضيه الطبيعي (19).
وبالنتيجة فإن كل حق للفرد يفترض توافر ضمانات معينة لذلك الحق وبعكس ذلك فإن الحماية تكون ناقصة ومبتورة.
وعليه يمكن إجمال الحقوق التي ترتكز عليها الحماية لحقوق الإنسان عبر مراحل الدعوى الجزائية ضمن تأمين المبادئ التالية (20) :
أولا : الأخذ بمبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، وعدم رجعية القوانين الجزائية فهذا المبدأ يفترض أن المتهم برئئ إلى أن تتم إدانته بحكم نهائي بات مبرما.
ثانيا : الحق في أن يحاكم الفرد خلال مدة معقولة أو الإفراج عنه خلال إجراءات المحاكمة ، مع مراعاة حق الدفاع، وأن يحاكم أمام محكمة مستقلة ونزيهة ومحايدة ، بما يضمن علنية المحاكمة، وشفوية المرافعة، وأن يحاكم أمام المحاكم العادية ( القاضي الطبيعي )
ثالثا : الحق في طعن جدي للفرد للدفاع عن حقوقه وحرياته، هذا الحق الذي يفترض لإسقاط موانع التقاضي.
رابعا : الحق بالمساواة أمام القانون وأمام القضاء ، هذا الحق الذي يفترض استقلال السلطة القضائية.
والخلاصة أن الحقوق التي ترتكز عليها الحماية لحقوق الإنسان، هي الحقوق التي يترتب على عدم مراعاتها المساس بالحرية الشخصية للإنسان (21).

التهميش

1-  رمضان غسمون، الحق في المحاكمة عادلة من  خلال التشريع الوطني الجزائري والتشريع الدولي، لا لمعية للنشر و التوزيع ، الطبعة الأولى ، سنة 2010، الجزائر ، ص 18.
2- أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم (ابن منظور )، لسان العرب، ج11، سنة 1301 ه، المطبعة الميرية، بولاق، مصر، ص 63.
3- عمر فخري عبد الرزاق الحديثي ، حق المتهم في محاكمة عادلة – دراسة مقارنة - ، دار الثقافة، الطبعة الثانية 2010، بغداد، ص 84.
4- أحمد فتحي سرور، الشرعية الدستورية وحقوق الإنسان في الإجراءات الجنائية ، المرجع السابق ، ص 185.
5- حسن كبيرة ، المذخل إلى القانون ، دار الطبع ، دار النشر الثقافة ، د ، ب ، ن، السنة 1954 ص 100 ، 102.
6- رمضان غسمون ، المرجع السابق ، ص 19.
7- د. حاتم بكار، حماية حق المتهم في محاكمة عادلة ، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1998، ص 49.
8- د. محمد محي الدين عوض، حقوق الإنسان في الإجراءات الجنائية، دون دار نشر، 1989، ص 455.
9- غلاي محمد، احترام أصل البراءة مطلب من متطلبات دولة القانون، مجلة دراسات قانونية، العدد 11، الجزائر ، ماي 2011، ص 79.
10- مختار سيدهم ، من الإجتهاد القضائي للغرفة الجنائية بالمحكمة العليا ، موفم للنشر ، السداسي 1 الجزائر 2017 ص294.
11- عبد الرزاق فخري الحديثي،  حق المتهم في المحاكمة العادلة، دار الثقافة للنشر والتوزيع الأردن 2005، ص84،85  ص 61.
12- د. عمار بوضياف، المحاكمة العادلة في النظام الجنائي الإسلامي والمواثيق الدولية، جسور للنشر والتوزيع 2010 ص32.
13- عوض محمد عوض، المبادئ العامة في قانون الإجراءات الجنائية، منشأة المعارف، الإسكندرية، 2003، ص609.
14- أحمد فتحي سرور، المرجع السابق ، ص609.
15- د.حسن علي، حماية حقوق الإنسان وضمانات الحرية في النظم السياسية المعاصرة ، وكالة المطبوعات ، الكويت، سنة 1982، ص 17.
16- د.عبد الحميد متولي، الحريات العامة نظرية تطورها وضماناته ومستقبلها، دار المعرف بمصر، 1975،ص 27.
17- د. محمد الطراونة، ضمانات حقوق الإنسان في الدعوى الجزائية، دار وائل للنشر، الطبعة الأولى 2003، الأدرن، ص 47.
18- د. حسن علي، المرجع السابق، ص 84.
19- د. حسين جميل، حقوق الإنسان في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة الثقافة القومية : (1) ، بيروت   ( شباط ) 1986، ص16.
20- فاروق الكيلاني، محاضرات في ق.أ.م.ج.أ والمقارن، الجزء الأول ، الطبعة الأولى، 1981، مطبعة النهضة المصرية ص64.
21- د. محمد الطراونة، مرجع سابق ، ص 49، 50.
google-playkhamsatmostaqltradent