الشريعة الإسلامية ومفاهيم أخرى

الشريعة الإسلامية ومفاهيم أخرى

الشريعة الإسلامية والقانون الروماني
ويتكون من أربعة مطالب:
المطلب الأول: الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية الأخرى.
المطلب الثاني: الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي.
المطلب الثالث: الشريعة الإسلامية وعلم أصول الفقه.
المطلب الرابع: الشريعة الإسلامية والقانون الروماني.

المطلب الأول: الشريعة الإسلامية والشرائع السماوية الأخرى

لقد تعددت الشرائع السماوية عبر الزمان كما يخبرنا الله تعالى في القرآن الكريم، إذ يقول: (انَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)وفي آية أخرى يقول: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...)، لكن معرفة عدد هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مما هو متعذر لأن الله تعالى يقول: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)، ولئن أنزلت الشرائع السابقة على أقوام معينين بذواتهم عبر التاريخ، إلا أن الله تعالى أراد أن ينزل الشريعة الإسلامية للناس كافة.
وبالتالي فلا حاجة لشريعة بعدها كما يؤكده قوله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)، وتأسيسا على ذلك فإن الشريعة واجبة الإتباع هي الشريعة الإسلامية عملا بقوله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).
بناء على ما تقدم يمكن أن نجمل علاقة الشريعة الإسلامية بالشرائع السماوية التي سبقتها في النقاط الآتية:
1- وحدة المصدر وهو الله تعالى.
2- الدعوة لعبادة الله وحده لا شريك له والتحلي بمكارم الأخلاق ونبذ الرذيلة وصيانة النفس والعقل والعرض والمال، أما الخلاف فيمكن في الجزئيات فقط دون المساس بالأصول السابقة.
3- إن الشريعة الإسلامية قد نسخت الأحكام الواردة في الشرائع السماوية السابقة إذ يجب العمل بما ورد في الشريعة الإسلامية في مواجهة الرعايا المنتمين للشرائع السابقة من يهود ونصارى الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية، وهو ما يستفاد من قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا)، ويقول في آية أخرى: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا).
4- إن الشريعة الإسلامية مستقلة عن الشرائع السماوية السابقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعمل بالوحي المنزل عليه فيقول تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي)، (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ).
أما التشابه الموجود بين بعض أحكام الشريعة الإسلامية وأحكام الشرائع السماوية السابقة فيعني أن الله شرع أحكاما متماثلة في كلتا الحالتين كما في القصاص الذي نجده مسنونا في التوراة، فيقول تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)، وهو ما شرعه الله تعالى في الشريعة الإسلامية أيضا، إذ يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، وعليه، فعند تطبيق عقوبة القصاص نكون قد طبقنا الشريعة الإسلامية فحسب.
5- إن الأحكام الواردة في الشرائع السماوية السابقة والتي لم يقم دليل على إقرارها أو نفيها لا تعتبر جزءا من الشريعة الإسلامية حسب ما ذهب إليه جمهور الفقهاء الذين استدلوا على ذلك بقوله تعالى: (كُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).

المطلب الثاني: الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي

ويتكون من فرعين:
الفرع الأول: تعريف الفقه الإسلامي.
الفرع الثاني: علاقة الشريعة الإسلامية بالفقه الإسلامي

الفرع الأول: تعريف الفقه الإسلامي

يقصد بالفقه لغة الفهم والعلم بالشيء، كما في قوله تعالى: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ).
ثم استعملت كلمة الفقه في الاصطلاح للدلالة على الإحاطة بأمور الدين كلها سواء تعلق الأمر بالعقيدة أو الأخلاق أو الأحكام العملية، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).
لكن الوضع قد تغير فيما بعد إذ اصطلح الفقهاء وعلماء الأصول على تعريف الفقه بأنه: "العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية".
وعليه، فمن الضروري توضيح المصطلحات الواردة في هذا التعريف:
العلم: هو الفهم.
الأحكام الشرعية: هي خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الاقتضاء أو التخيير أو الوضع، وعلى ذلك تنقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين: أحكام تكليفية وأحكام وضعية.
فالحكم الشرعي التكليفي مقتضاه أن الشارع يجعل الشيء واجبا أو محرما أو مندوبا أو مكروها أو مباحا.
الواجب: هو ما طلب الشارع فعله من المكلف على وجه الإلزام كالصيام والصلاة والوفاء بالعقود وأداء الأمانة.
المحرم: هو ما طلب الشارع من المكلف الكف عنه على وجه الإلزام كتحريم الزنا وشرب الخمر والزواج بالمحارم والفوائد الربوية.
المندوب: هو ما طلب الشارع من المكلف فعله على وجه التفضيل، لا الإلزام كالإشهاد على عقد البيع أو الوصية للفقراء من الأقارب.
المكروه: هو ما طلب الشارع من المكلف تركه على وجه الترجيح لا الإلزام كالامتناع عن الأضحية مع القدرة والبيع في المسجد ورد الهبة دون مانع شرعي.
المباح: هو ما خير الشارع المكلف بين فعله وتركه كالقيام بتصرف شرعي ما من بيع وإجارة ومزارعة.
أما الحكم الشرعي الوضعي فمفاده أن يتحقق شيء ما إذا توفر سبب أو شرط أو مانع.
فجعل الله رؤية هلال رمضان سببا في الصوم وجعل ملكية العاقد للمعقود عليه شرطا لصحة البيع وجعل قتل المورث مانعا من الإرث.
أما العملية: فهي المتعلقة بأفعال المكلفين من عبادات ومعاملات كوجوب الصلاة والزكاة وتحريم الاعتداء على المال والدم والعرض.
وبهذا يخرج عن دائرة الفقه ما يختص بالعقيدة والأخلاق.
أما المستنبطة: فيراد منها المتوصل إليها عن طريق الاستدلال أو إعمال الأدلة، والأدلة نوعان:
أدلة إجمالية: وهي مصادر التشريع الإسلامي المتمثلة في القرآن والسنة والإجماع والقياس والتي نرجع إليها لاستقاء الأحكام الشرعية.
وأدلة  تفصيلية: وهي الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة التي ترشدنا بإعمال العقل والاجتهاد إلى معرفة أحكام أفعال المكلفين من عبادات ومعاملات، فعندما يقول الله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ)، نعلم أن الصلاة والزكاة واجبتان.
وعندما يقول: (وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) فهذا يقتضي وجوب الإحسان إلى الوالدين، وقوله: (وَلَا تَجَسَّسُوا) يفيد تحريم التجسس، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، يقتضي الكف عن إتيانها لأنها حرام، كذلك عندما نهى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن أن يبيع الرجل على بيع أخيه، أو يخطب على خطبة أخيه، فيدل على أن الرجل الذي يبيع على بيع أخيه أو يخطب على خطبة أخيه قد وقع في الحرام.

الفرع الثاني: علاقة الشريعة بالفقه

سبق الذكر أن الشريعة الإسلامية تنظم كل مجالات الحياة ما دامت تشمل الأحكام الاعتقادية والأخلاقية والعملية، كما أشرنا إلى أن الفقه يتعلق بالأحكام العملية فقط والمتمثلة في أحكام العبادات والمعاملات وعليه، فإن الفقه مستغرق في الشريعة، وبالتالي فالشريعة أعم وأشمل من الفقه.
إن الفقه كعلم بالأحكام الشرعية العملية، يعتمد على نصوص الشريعة المتمثلة في القرآن والسنة وعلى المصادر الأخرى التي اعترفت لها الشريعة بالحجية والاعتبار كالإجماع والقياس.
إن الشريعة الإسلامية كوحي إلهي والمتمثلة في القرآن والسنة لا يجوز مخالفة الأحكام القطعية التي تتضمنها والتي أراد الله أن يتفق المسلمون بشأنها في كل زمان ومكان سواء تعلق الأمر بالأحكام الاعتقادية أو التهذيبية أو العملية، ومن ذلك قوله تعالي: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، وقوله: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا)، وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"، كل هذه الأحكام تجب مراعاتها مهما اختلف الزمان والمكان ولا يجوز البتة مخالفتها بدعوى حل الضرائب محل الزكاة أو استعمال الواقي (préservatif) أو عدم تبديل الشريك (ne pas changer de partenaire) للوقاية من مرض السيدا أو استعمال كلمة فائدة أو بيع عندما يتعلق الأمر بالربا أو كما فعل اليهود عندما حرم الله عليهم شحوم الميتة والبقر والغنم "جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه"، وهو ما استنكره النبي عليه الصلاة والسلام في قوله: "قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه"، والرسول عليه الصلاة والسلام إنما قال ذلك عندما قيل له: "يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟"، وعليه لا مجال للتحايل أو ادعاء الاجتهاد عندما يكون النص قطعيا، ومن يفعل ذلك فقد تعدى حدود الله فليحذر نفسه لأن الله تعالى يقول: (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ).
أما ما عدا ذلك أي ما يندرج في إطار الاجتهاد والرأي، حيث لا يوجد نص أصلا أو يوجد نص، لكنه يحتمل التأويل، ففي هذه الحالة فالمجال مفتوح للفقهاء لاستنباط الأحكام الشرعية بإعمال العقل والاستدلال، ومما لا شك فيه أنه لا مناص من الاختلاف بينهم في حكمهم على الأشياء، فمثلا اختلفوا بشأن توليه المرأة الإمامة الكبرى والوزارة والقضاء، واختلفوا بخصوص قتل المرتد عن الإسلام... إلخ، وإذا كان المسلمون لا يحل لهم مخالفة الأحكام الفقهية التي لها طابع التشريع أو الوحي الإلهي كما أسلفنا، فإنهم في هذه الحالة غير ملزمين برأي هذا الفقيه أو ذاك إذا كان هناك رأي آخر ذو دليل أقوى، هذا من الناحية النظرية، لكن الفقهاء المسلمين مهما اختلفوا فإن آراءهم تبقى محل تقدير المسلمين كافة.

المطلب الثالث: الشريعة الإسلامية وعلم أصول الفقه

ويتكون من فرعين:
الفرع الأول: تعريف علم أصول الفقه
الفرع الثاني: علاقة الشريعة بعلم أصول الفقه

الفرع الأول: تعريف علم أصول الفقه

أصول الفقه مصطلح مركب، وللإحاطة بهه ينبغي معرفة العناصر التي يتركب منها، فما دمنا قد تطرقنا إلى تعريف الفقه فيما سبق، بقي لنا نتعرض لماهية الأصول، فالأصول جمع أصل، وهو ما يبنى عليه الشيء لغة ما في الاصطلاح الشرعي، فيقصد بعلم أصول الفقه "العلم بالقواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية"، فالمصطلحات الواردة في هذا التعريف ليست غريبة علينا كما أشرنا عدا ما يتعلق بالقواعد والبحوث.
تتمثل هذه القواعد في تلك الأدلة الكلية وما يثبت بها من الأحكام الكلية والتي يضعها علماء الأصول مثل الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، العام يستغرق كل أفراده، المطلق يدل على شائع في جنسه وغيرها، فالأمر دليل كلي، والوجوب حكم كلي وهكذا.
فهذه القواعد الكلية يستعين بها الفقهاء في تفسير النصوص أو عندما يجتهدون آراءهم لمعرفة الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين من عبادات ومعاملات، ففي قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)، ورد النص في صيغة الأمر، وللتوصل إلى تقرير حكم الصلاة وحكم الزكاة، يرجع الفقيه إلى القاعدة الأصولية التي تقول بأن "الأمر للوجوب"، وعليه يحكم بأن الصلاة والزكاة واجبتان إذا تحققت شرائطهما الأخرى، كذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، يحكم الفقيه بأن الوفاء بالعقد واجب استنادا إلى قاعدة "الأمر للوجوب" فالآية التي استند إليها الفقيه هي الدليل التفصيلي أو الجزئي، والحكم الذي توصل إليه هو حكم جزئي.وفي قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ)،( وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)، يتوصل الفقيه إلى استنباط الحكم الشرعي العملي من دليله التفصيلي أو الجزئي استنادا إلى ما وضعه الأصوليون من قواعد علمية، ويتعلق الأمر في هذا السياق بقاعدة "النهي للتحريم"، وعليه يستنتج أن كلا من أكل أموال الناس بالباطل ويدخل في ذلك القمار والربا وتطفيف الميزان، وإتيان الفواحش من زنا وغيره، يعتبر من المحرمات.
وفي قوله: (فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)، يستعين الفقيه بقاعدة "العام يستغرق جميع أفراده" ليحكم بما يأتي:
- يجب صيام شهر رمضان على كل من رأى هلال رمضان،
- يجب على كل امرأة أن تعتد ثلاثة قروء متى تحققت فيها صفة "مطلقة".
وفي قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ)، (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ)، (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ)، يستنبط الفقيه الأحكام الشرعية العملية للمكلفين من أدلتها التفصيلية أو الجزئية بناء على القاعدة الأصولية التي مفادها أن "المطلق شائع في جنسه"، فيصدر الأحكام التالية:
- لفظ "دين" المطلوب كتابته يقصد به مطلق الدين أو أي دين سواء كان مقداره قليلا أو كثيرا،
- لفظ "فاحشة" في قوله تعالى هي أية فاحشة سواء كانت بالقول أو بالفعل،
- لفظ "ولد" في الآية جاء مطلقا فيستوي أن يكون ذكرا أو أنثى.
بناء على ما تقدم يمكن إجراء المقارنة بين علم الفقه وعلم أصول الفقه كما يلي:
1- يبحث علماء الأصول في الأدلة الكلية وما يثبت بها من أحكام كلية، بينما يبحث الفقهاء في الأدلة الجزئية وما يثبت بها من أحكام جزئية.
2- تتوقف الأحكام الجزئية التي يستنبطها الفقيه من الأدلة الجزئية على القواعد الكلية التي يضعها الأصولي، والعكس غير صحيح.
3- إن المستفتي أو العامي عندما يطلب الفتوى، يتعين عليه أن يعرف دليل الفقيه أو المفتي عند إصدار الحكم الشرعي، بينما لا تهمه القاعدة الأصولية التي يستند إليها الفقيه.

الفرع الثاني: علاقة الشريعة بعلم أصول الفقه

ما دامت الشريعة الإسلامية آخر دين سماوي، فهي واجبة الاتباع عبر الزمان والمكان، كما يؤكده قوله تعالى: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وتتأكد هذه الحقيقة عند دراسة آيات القرآن الكريم إذ تتضمن ما هو قطعي وما هو ظني، بل سكت الشارع الحكيم عن أمور أخرى، وعليه يتسع صدر الشريعة لمواجهة كل ما استجد من أحداث ووقائع سواء في الحاضر أو المستقبل، وهذه المرونة تجعلها صالحة لكل زمان ومكان باعتبار أن علم أصول الفقه قد وضع القواعد الكلية التي تحقق هدفين أساسيين، يتمثل الهدف الأول في إحاطة القطعيات بقواعد وأصول تمنع كل انحراف عن أحكام الله تعالى، فعندما وضع الأصوليون قاعدتي الأمر للوجوب والنهي للتحريم مثلا فإن ذلك يعتبر بمثابة حماية لحدود الله وتعظيم لحرماته، يقول تعالى: (وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)، (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، أما الهدف الثاني فيكمن في استجابة بحوث الأصوليين والقواعد العلمية التي وضعوها سواء في مجال القياس أو المصالح المرسلة وغير ذلك لظروف كل عصر ومصر خدمة لمصالح الناس ومراعاة لوضعياتهم المختلفة دون الخروج عن الأحكام العامة التي وضعها الشارع.
هكذا يعتبر علم أصول الفقه روح الشريعة الإسلامية ما دام يزود الباحث بالقواعد التي تضمن ديمومتها وصلاحيتها عبر الزمان والمكان.

المطلب الرابع: الشريعة الإسلامية والقانون الروماني

ويتكون من فرعين:
الفرع الأول: فكرة تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني
الفرع الثاني: دحض هذه الفكرة

الفرع الأول: فكرة تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني

أثيرت مسألة تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني باعتبار احتكاك النظامين في الأقاليم الشرقية (مثل الشام ومصر) للإمبراطورية الرومانية ما دام المسلمون قد فتحوا هذه الأقاليم واستتبت لهم الأمور فيها، وفي هذا الصدد يقول أحد المستشرقين ويتعلق الأمر بالإنجليزي شيلدون آموس Scheldon amos : "القانون المحمدي ليس سوى قانون جستنيان في لباس عربي"، ومما استندوا إليه لإثبات دعواهم ما يلي:
1- انتقلت قواعد القانون الروماني إلى الشريعة الإسلامية لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عارفا بهذا القانون.
2- استقى الفقهاء المسلمون وخاصة الإمام الشافعي والإمام الأوزاعي أحكام القانون الروماني إلى الفقه الإسلامي بالاحتكاك بالمدارس المنتشرة في الإمبراطورية الرومانية الشرقية ولاسيما المعهد الروماني ببيروت، كما استفادوا من الكتب القانونية الرومانية الموجودة بمكتبة الإسكندرية.
3- ترجمة الكتاب السوري الروماني الذي يعتبر تجميعا للقانون الروماني إلى اللغة السريانية وما ترتب عن ذلك من انتقال قواعد القانون الروماني إلى الشريعة الإسلامية.
4- بعد الفتح الإسلامي انتشر الفقهاء المسلمون في البلاد المفتوحة مما ساعدهم على الاطلاع على القانون الروماني عن طريق عارفيه وأضحوا يطبقونه على رعايا هذه الأقاليم الذين ألفوه من قبل رعاية لمصالحهم.
5- تسربت بعض الأحكام ونظم الجاهلية والتلمود المتأصلة في القانون الروماني إلى الشريعة الإسلامية لاعتبارين اثنين، يتمثل الاعتبار الأول في كون الشريعة الإسلامية قد أقرت بعض نظم العرب في الجاهلية، أما الاعتبار الثاني فيكمن في استقاء الفقهاء المسلمين بعض أحكام التلمود إلى الفقه الإسلامي.
6- إن التشابه الموجود بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني لدليل على تأثرها به ما دامت هي اللاحقة له.

الفرع الثاني: دحض هذه الفكرة

إن الحجج السابقة لا يقوم أي دليل لإثباتها، ويمكن الرد عليها بدحضها واحدة تلو الأخرى كما يأتي:
1- إن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ في بيئة عربية أصيلة ولم يتسن له الاطلاع على القانون الروماني لسببين: أولهما – أنه كان ملازما لمكة ولم يخرج منها إلا مرتين إلى بلاد الشام وما مكث بها إلا قليلا، أما ثانيهما – فهو أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعرف القراءة ولا الكتابة كما يخبرنا بذلك القرآن الكريم، فيقول تعالى: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ)، (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ).
2- أما فضل المدارس الرومانية على الفقه الإسلامي فمجرد وهم، لأن هذه المدارس كلها قد أغلقت بموجب دستور جستنيان المؤرخ في 16 ديسمبر 533م أي قبل الفتح الإسلامي بكثير، وقد استثنيت من الغلق ثلاث مدارس وهي مدارس روما والقسطنطينية وبيروت بالنسبة لروما لم يفتحها المسلمون، أما فتح القسطنطينية سنة 1493 فكان متأخرا كثيرا وفي هذه الفترة قد تكونت المذاهب الفقهية بزمان طويل، وفيما يخص معهد بيروت فقد قضى عليه على إثر زلزال ضرب مدينة بيروت كلها سنة 551م.
وبصدد الكتب القانونية الموجودة في مكتبة الإسكندرية، نستغرب لأمر المستشرقين لأنهم يزعمون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب لعمرو بن العاص والي مصر يأمره بحرق تلك الكتب، لأنه إن كانت توافق سنة الله ورسوله، فكتاب الله وسنة رسوله يغنيان عنها، وإن كانت تخالفهما فحرقها يعتبر تقربا إلى الله، لكن حجتهم هذه المقامة لضرب المسلمين، تنقلب عليهم لأنهم يعترفون بأنفسهم أن المسلمين ليسوا بحاجة للقانون الروماني.
ولو فرضنا جدلا بوجود تلك الكتب، فإنه لن يعقل أن يطلع عليها المسلمون، لأنهم عند فتح مصر لم يكونوا يعرفون اللاتينية ولم تترجم إلى العربية، من جهة أخرى فمن المشكوك فيه أن تكون في تلك المكتبة كتب في القانون الروماني، لأن هذا القانون لم يكن مطبقا على الأجانب، بل كان مقتصرا على الرومان.ومما يثبت كذلك أن فقهاء الإسلام لا علاقة لهم بالقانون الروماني هو أن جانبا منهم ينتمون لمدرسة أهل الحديث ومنهم الإمام الأوزاعي رحمه الله الذي اعتبره المستشرقون ممن تأثروا بالقانون الروماني، فلو كان ذلك صحيحا لأمكن أن يكون من أصحاب مدرسة أهل الرأي.
3- أما عن ترجمة الكتاب السوري الروماني إلى اللغة السريانية كما يذهب إلى ذلك المستشرق الإيطالي كاروزي CARUSI، فحجة لا يمكن أن يعول عليها، لأن المستشرق الإيطالي نالينو NALLINO  يقول إن هذا الكتاب لم يترجم إلا في أواخر القرن الثامن الميلادي وفي هذا الوقت قد تكونت الشريعة الإسلامية، إذ ظهرت مذاهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، وحين تمت هذه الترجمة لم يكن العرب عارفين باللغة السريانية ولم يترجم الكتاب المذكور إلى العربية إلا في سنة 1100م، صحيح أن العهد العباسي قد شهد حركة واسعة في الترجمة،  لكن في مجال الفلسفة اليونانية والآداب الفارسية ولم يثبت أنهم ترجموا كتابا واحدا في القانون الروماني رغم تدوينه في مدونات رسمية من قبل جستنيان، ولم تترجم مدونة جستنيان إلى العربية إلا منذ بضع سنين من قبل الأستاذ عبد العزيز فهمي رحمه الله، أما الكتاب السوري الروماني فليس تجميعا لقواعد القانون الروماني، بل للأعراف المعمول بها عهدئذ في بلاد الشام، كما أن ترجمته إلى السريانية كانت جزئية إذ ترجمت منه ثلاثة فصول فقط.
4- وفيما يخص انتشار الفقهاء المسلمين في الأقاليم الرومانية وتأثرهم بالقانون الروماني فهو زعم باطل لأنه كما أسلفنا اهتم المسلمون بترجمة ما ينفعهم من العلوم فقط كالفلسفة اليونانية والآداب الفارسية ولم يثبت تاريخيا أن ترجم العرب القانون الروماني، لأنهم علموا أن كتاب الله وسنة رسوله يغنيانهم عن هذا القانون خاصة وأنهم يرددون قوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ۝ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا ۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)، فكيف يشغف الفقهاء الثقاة أمثال الأوزاعي والشافعي بقانون يقوم على التمييز العنصري في حين أن كتاب الله حافل بآيات في المساواة وكرامة بني الإنسان وإعطاء كل ذي حق حقه، يقول تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلً).
بناء على ذلك لا يجرؤ فقهاء المسلمين أو قضاتهم على تطبيق القانون الروماني على العلائق القانونية ويهجرون قول الله في أكثر من آية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلً).
يمكن للفقهاء والمفتين والقضاة إعمال الأعراف السليمة على العلاقات القانونية بين الأفراد مما ألفوه قبل الفتح الإسلامي شريطة ألا يتعارض ذلك مع الأصول العامة للشريعة الإسلامية، وهو ما يوجد له سند في القرآن الكريم عملا بقوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، وما هذا إلا دليل على عظمة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان، لأن من أسسها دفع الحرج عن الناس والتيسير عليهم كما يؤكده قوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ)، وهكذا يكون هؤلاء الفقهاء قد اهتدوا إلى حكم الشريعة الإسلامية وليس إلى ما يمليه القانون الروماني المألوف، لأن كما أشرنا من قبل فإن إقرار واقعة قوم معينين لا يعني تطبيق شريعة هؤلاء القوم، بل تطبيق الشريعة الإسلامية فحسب، فالصيام كتب على من قبلنا وكذلك القصاص، لكن عندما نصوم نحن المسلمين أو نطبق القصاص، نكون قد طبقنا الإسلام وليس شريعة عيسى أو موسى عليهما الصلاة والسلام.
5- كذلك تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني عن طريق بعض نظم الجاهلية المتأصلة في هذا القانون لا يقوى أمام الحقائق الثابتة، فيرى المستشرق الإيطالي نالينو NALLINO أنه لا يوجد دليل على انتقال شيء من القانون الروماني إلى العرب، حقا لقد كانت علاقة العرب بالرومان ضعيفة جدا، لأن التجار العرب عندما كانوا يتجهون إلى أقاليم الإمبراطورية (بلاد الشام) لم تكن لهم الحرية المطلقة في التنقل بل عين لهم الرومان أماكن محددة لا يمكنهم تجاوزها ويتعلق الأمر على وجه الخصوص بأسواق العقبة وغزة وبصرى، أضف إلى ذلك أن الأمية كانت متفشية في الأوساط العربية مما لا يسمح بالاطلاع على القانون الروماني مكتوبا.
- أما بالنسبة لتأصل كتاب التلمود اليهودي في القانون الروماني، فهو مما لا يخطر على بال، لأن شراح القانون الروماني بعد القرن الثالث الميلادي كانوا يؤصلون لبعض نظمة الأصل اليهودي، كما لم يستق الفقهاء المسلمون القواعد من التلمود، لأن الشريعة اليهودية تختلف اختلافا جوهريا عن الشريعة الإسلامية وللتدليل على ذلك نسوق الأمثلة التالية:
- عقد الزواج عند اليهود يستجيب لأشكال وطقوس خاصة، إذ يجب النطق بعبارات خاصة، وكتابة العقد باللغة العبرية، وإقامة صلاة دينية، ولا ينعقد العقد في أيام الأعياد والسبوت، أما في الشريعة الإسلامية فلا أثر لشيء من ذلك في عقد الزواج ويكتفي بالتراضي بين الزوجين ووجود شاهدين.
- تعدد الزوجات عند اليهود غير محدد، بينما في الفقه الإسلامي محدد بأربع.
- ليس للمرأة في الشريعة اليهودية التصرف في مالها، بينما في الشريعة الإسلامية لها كل الحرية فيما اكتسبته.
- الطلاق عند اليهود يكون باتباع أشكال خاصة مثل  كتابته باللغة العبرية وعدم إيقاعه في أيام الأعياد والسبوت، بينما في الشريعة الإسلامية غير معلق على شرط معين.
- الوصية في التلمود لا تجوز لأجنبي إلا عند عدم وجود ابن ذكر، بينما في الشريعة الإسلامية تجوز في حدود الثلث ولا أثر لإرادة الورثة في ذلك.
- تنتقل التركة في الشريعة اليهودية مثقلة بالديون، بينما في الشريعة الإسلامية لا تركة إلا بعد سداد الديون.
- الرضاع ليس سببا في منع الزواج في التلمود، بينما يحرم الزواج بسبب الرضاع في الشريعة الإسلامية.
6- صحيح أنه يوجد تشابه في بعض النظم بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني لكن هذا لا يعني أن الفقهاء المسلمين قد تأثروا بمدونة جستنيان، لأن الفكر الإنساني يتشابه عندما يصل إلى درجة معينة من النضج، وهو ما يقره المستشرقون أنفسهم عندما يلتقون مع رجال القانون في أن مبادئ القانون الطبيعي تلهم العقل البشري مهما اختلف الزمان والمكان، وعلى هذا الأساس تشابهت في المبادئ العامة كل من قانون حمورابي في بابل (القرن 19 ق. م)، وقانون سولون في أثينا (القرن 6 ق.م)، وقانون الألواح الاثني عشر في روما (سنة 450 ق.م)، وقوانين مانو في الهند، كل هذه القوانين كانت مقطوعة الصلة فيما بينها ولم يقل أحد بتأثير أحدها على الآخر، إذا رغم الابتعاد الزماني والمكاني اتجهت الفطرة الإنسانية إلى سن قواعد متشابهة مما يتصل بالعدالة والإنصاف، وهل يجرؤ أحد أن يقول إن فقهاء الإسلام عاجزين عن الإتيان بمثل ما أتى به غيرهم من علم ومبادئ إن المستشرقين أنفسهم يقرون بأن الفقهاء المسلمين اختلفوا في طريقة استنباط الأحكام عن فقهاء الرومان، لأن الأولين وضعو ما يسمى بعلم أصول الفقه.
أكثر من ذلك فإن هؤلاء المستشرقين ليسوا أهلا للفصل في أمور قانونية، لأنهم عديمو الصلة بهذا العلم بما أنهم مختصون في التاريخ أو الأدب أو الفلسفة ما عدا الأستاذ لامبيرLAMBERT  ناظر مدرسة الحقوق قديما بمصر، لكنه لا يعتبر مستشرقا حقا، لأنه لم يكن عارفا باللغة العربية.كفانا إذا من الادعاءات المزيفة لهؤلاء المغرضين الذين ما يريدون إلا التشكيك في شريعة الإسلام دون علم ولا حجة ومثل ما يزعمون (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ).

المرجع:


  1. د. أعمر يحياوي، الخصائص العامة للشريعة الإسلامية، نموذج من الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم، دار هومة، الجزائر، 2009، من ص15 إلى ص 38.
google-playkhamsatmostaqltradent