التمييز بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي

التمييز بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي

التمييز بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي
ويتكون من فرعين:
الفرع الأول: عناصر الاختلاف بين الشريعة والقانون
الفرع الثاني: مميزات الشريعة على القانون

الفرع الأول: عناصر الاختلاف بين الشريعة والقانون

تختلف الشريعة عن القانون الوضعي من أربعة أوجه:
أولا- الشريعة الإسلامية من عند الله بينما القانون الوضعي مصدره الإنسان.
ثانيا- قواعد الشريعة شاملة بينما قواعد القانون ضيقة.
ثالثا- الجزاء في الشريعة دنيوي وأخروي، بينما في القانون دنيوي فقط.
رابعا- الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان بينما قواعد القانون مؤقتة في الزمان والمكان.

أولا- الشريعة الإسلامية من عند الله بينما القانون الوضعي مصدره الإنسان

لما كانت الشريعة الإسلامية تقوم على الوحي الإلهي فإنها منزهة من الجور والهوى عملا بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، ومن مظاهر هذا الظلم ما نصت عليه مختلف الدساتير في العالم بشأن عدم متابعة أعضاء البرلمان بسبب جريمة اقترفوها في حين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتشدد في مسألة المساواة بين الناس حتى أن أحد أمراء الغساسنة فر إلى الروم خوفا من القصاص، كما لا تعرف الشريعة الإسلامية أي مظهر تمييز رؤساء الدول في المحاكمة أو إعفاء الممثل الدبلوماسي من المتابعة في الدول المستقبلة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في مرض الموت قال وهو جالس على المنبر: "أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه ولا يخشى الشحناء من قبلي فإنها ليست من شأني ألا وإن أحبكم إلى من أخذ مني حقا إن كان له أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس، بل إن عمر رضى الله عنه ذهب – باجتهاده – إلى أكثر من ذلك لأنه كلما نهى عن شيء قال لبنيه: "لقد أمرت الناس اليوم بكذا، والله لو أوتي بمخالف منكم إلا ضاعفت له العقاب".أضف إلى ذلك ما يلاحظ من تمييز بين الأغنياء والفقراء في القوانين الجنائية عندما تنص على إمكانية الإفراج المؤقت بكفالة.وفي هذا الصدد يقول الدكتور رمضان علي السيد الشرنباصي: "أما الفقير فهو في أغلب الأحيان عاجز عن دفع الضمان فيظل رهين محبسه وقد يكون له أولاد يرعاهم يضيعون بحبسه وقد تقضي المحكمة ببراءته مما نسب إليه فتكون النتيجة أنه حبس لا لأنه أجرم بل لأنه عجز عن دفع الكفالة أو بتعبير آخر لأنه فقير"، أما الشريعة فهي بمنأى عن مثل هذه الإجراءات التعسفية لأنها لا تقبل أن يضار فقير بفقره.
كذلك نظرا لكون الشريعة من عند الله فإن المسلم لها مطيع دون حاجة إلى مؤسسات وإجراءات تضمن ذلك كما هو ساري في القانون الوضعي ذلك لأن المخاطب بالأحكام الشرعية يشعر بالمراقبة الإلهية.
قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا)، وعليه، فإن الشريعة لها من القداسة والرهبة ما يجعل المخاطبين بها ينصاعون لأوامرها ونواهيها فيقول تعالى بشأنهم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، فتطبيق الشريعة الإسلامية إذا يرتبط بالإيمان، وبالتالي فإنها تستحوذ على الضمير الفردي والجماعي، لذا كان الإقرار بالجرم مما تكرر كثيرا في التاريخ الإسلامي رغم أن الفاعلين كانوا على علم بقسوة العقوبة لأن المهم عندهم هو أن يتطهروا من الإثم، وفي الوقت الحاضر رغم عدم تطبيق الشريعة الإسلامية في معاملات الناس بصفة عامة إلا أنهم يكثر ارتيادهم مجالس الفقهاء والمفتين لمعرفة الأحكام الشرعية لتطبيقها على أرض الواقع ويستجيبون لنداء الشرع بخصوص الصدقات والزكاة، بينما يحاولون دوما الإفلات من الضرائب ويكثر التزوير والغش للتحايل على القانون بل أكثر من ذلك حتى فيما يخص إبرام عقد الزواج فإنهم يعقدونه بحضور إمام المسجد قبل اللجوء إلى ضابط الحالة المدنية رغم كون إبرام الزواج أمام السلطة الإدارية يستجيب لمقتضيات الشريعة الإسلامية، وعليه فإن سلطان الشريعة أقوى من سلطان القانون.

ثانيا- قواعد الشريعة شاملة بينما قواعد القانون ضيقة

إذا كان أساس الالتزام بقواعد التشريع الإسلامي هو عنصر الإيمان فإن المسلم يقيم للأخلاق وزنا في تصرفاته القانونية المختلفة بحيث يهتم بظاهر وباطن التصرف ولا يلح على حقه إذا كان ظاهره حلالا وباطنه حراما، فالمسلم لا يلجأ إلى الإيصاء بما جاوز ثلث التركة ويخفي نيته في شكل بيع صوري إضرارا بالورثة ولا يجوز له أن يقرض بفائدة ثم يحتال باعتبار نسبة الفائدة ثمنا لمبيع في عقد ثان، وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك قائلا: "إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء، فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار"، أما القانون فهو خال من مثل هذه المعاني ولا يعترف بالالتزام الأخلاقي، فلو سقط الدين مثلا بالتقادم فلا يمكن أن يعول على القانون لإنصاف الدائن، بينما في الشريعة لا يتحول الحرام إلى الحلال والحلال إلى الحرام، قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ)، ولذلك تطمئن القلوب لحكم الله ولا تطمئن بصفة عامة لقواعد القانون الوضعي لما فيها من الضيق والحرجن قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

ثالثا- الجزاء في الشريعة دنيوي وأخروي بينما في القانون دنيوي فقط

لا يعود احترام قواعد الشريعة الإسلامية إلى عنصر الإيمان فحسب بل إلى الخوف من سوء العاقبة في الدار الآخرة كذلك، قال تعالى: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ۚ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).
بناء على ذلك إذا وقع أحد في معصية فله جزاء في الدنيا كالحدود والقصاص والديه وإبطال التصرف وجزاء في الآخرة كما في قوله تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)، (وَمَنْ عَادَ – أي إلى الربا-  فَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
لذلك كان العض ممن اقترفوا الجرم مثل ماعز والغامدية رضي الله عنهما يلجؤون للقاضي لتطبق عليهم حدود الله حتى ينجوا من عذاب الآخرة لكن هذا لا يعني ّأن من لم يطبق عليه الحد بمنأى عن أن يغفر الله له لأن المولى تبارك وتعالى يقول: (لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا).
ولئن كانت رحمة الله واسعة، فإن ذلك لا يعني التمادي في الذنوب والمعاصي، بل لا بد من الندم والإقلاع عن الذنب بصفة نهائية والرجوع إلى الصواب.
أما القانون الوضعي لما كان الجزاء فيه دنيويا فقط فلا يتسع فيه عنصر الإلزام إذ يلجأ الفرد إلى مخالفته تحقيقا لمآربه كلما استطاع أن يفلت من سلطة القضاء، فلا مصلحة إذا من فصل الدين عن القانون لأن الوازع الديني يمكن من أن يأمن الإنسان على نفسه وماله وعرضه.

رابعا- الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان بينما قواعد القانون مؤقتة في الزمان والمكان

لما كانت الشريعة الإسلامية دعوة عالمية صلحت للاتباع من قبل سائر الأمم عبر الزمان والمكان لأنها مبنية على اعتبار الحكم والعلل التي هي من مدركات العقول لا تختلف باختلاف الأمم لكن هذا لا يعني أن الناس يحملون على اتباع أحوال أمة خاصة مثل أحوال العرب في زمان التشريع خاة وأن الفقهاء رحمهم الله قد وضعوا قاعدة عظيمة مفادها أنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، اما ما هو ثابت في الشريعة الإسلامية فلا يجوز البتة تعديه لأن الله أعلم بمصالح عباده ولا تعجز الفطرة الإنسانية عن معرفة حكم وعلل ذلك.
قال تعالى: (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ۚ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ)، (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
قد يقول قائل إن الشريعة الإسلامية لما تتصف بالقسوة في الحدود والقصاص فإنها لا تأخذ بعين الاعتبار البعد الإنساني وبالتالي فلا صلوحية لها في هذا الزمان.
غير أن هذا الزعم باطل باعتبار صاحبه يعالج المسائل بصفة سطحية بعكس الشريعة الإسلامية التي تأتي بحلول جذرية، إذ إنها تحارب الدوافع النفسية للمجرم مما يجعله يتجنب كبائر الإثم، ففي جريمة الزنا يكون الدافع النفسي لاقتراف هذه المعصية الكبرى هو الشعور باللذة حين إتيان امرأة محرمة، ولصرف العاصي عن ذلك وجبت مقابلة اللذة بالألم – الجلد -، وعليه يتكون شعور نفسي يمنع حتى التفكير في اقتراب الزنا، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى يعرف نفسية الإنسان فقرر ما يقومها وما يريحها في آن واحد لأن المتضرر من جريمة القتل مثلا يطمئن عند تطبيق حدود الله –القصاص- مما يخمد نار الثأر بل حتى نار الفتنة الكبرى.
ولئن اهتمت الشريعة الإسلامية بالمصلحة الجماعية بالدرجة الأولى لما توفره عقوباتها من شيوع الأخلاق الفاضلة والأمن على العرض والنفس والمال، إلا أنها لم تهمل مصالح الجاني أثناء المحاكمة إذ جرى العمل في عصري الرسالة والخلافة الراشدة على تلقين السارق ما يسقط عنه الحد إذا ثبتت الجريمة بالإقرار، فعن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقال: "ما أخاله سرق"، وفي هذا حث له على الرجوع في إقراره، وقد عمل عمر بن الخطاب رضى الله عنه بهذا إذ لما أتى بسارق قال له: "أسرقت؟ قل: لا. فقال: لا "فخلى سبيله".
بعد هذه العينة يمكن القول إن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان لأن فيها من المبادئ والأحكام والجزئيات ما يلائم الأفراد والجماعات وهو ما يفتقر إليه القانون الوضعي رغم أنه كثير التغير ولم يصل حتى الآن إلى ما قررته الشريعة منذ العصور الوسطى.

الفرع الثاني: مميزات الشريعة على القانون

يتضح بعد إجراء المقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي أن الشريعة تتسم بثلاث مميزات أساسية تتمثل في الكمال والسمو والدوام.

أولا- الكمال

وهو أمر منطقي لأن مصدرها الله المنزه من كل صفات النقص لأنه ضمنها جميع الأحكام التي تحقق هذه الميزة، ويتعلق الأمر بالأحكام الاعتقادية والتهذيبية والعملية التي ينبغي أن يمتثل لها المسلم دون مفاضلة بينها لأنها يكمل بعضها بعضا، لذلك جعل الله تعالى أحكام الشريعة الإسلامية غير قابلة للتجزئة indissociable فيقول: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)، (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ۖ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ۚ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ ۚ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ)، (كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ *** الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ)، (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ).
بناء على ذلك اتسمت الشريعة الإسلامية بفعالية معتبرة لا نجد لها مثيلا في أي نظام وضعي مادامت العقيدة والأخلاق تقوم التصرف، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله رجلا، سمحا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى"، كما أن الصلاة توجه المسلم خلقا ومعاملة، فيقول تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)، (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَر)، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ)، (وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا)، (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ)، (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ)، (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا)، وعليه لما كانت الصلاة دائمة عملا بقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا)، فإن المؤمن يتوخى الحذر في معاملاته سواء تعلق الأمر بالعقود أو غيرها ما دامت هذه المعاملات وثيقة الصلة بالجانب التعبدي لأنها ذكرت بعد الصلاة.

ثانيا- السمو

يعتبر السمو نتيجة للكمال لأن الشريعة تتضمن مبادئ وأحكاما ونظريات أرقى من مستوى المجتمع، ففي الوقت الذي نزلت فيه كانت الجاهلية سائدة والظلم مستفحلا، فوضعت أحكاما في منتهى التطور مما لم يصل إليه الفكر البشري آنذاك، ومن ذلك مبدأ "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص"، الذي ورد أصله في الشريعة الإسلامية في أكثر من آية، قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولً)، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا)، في حين أن المبدأ لم يعرف إلا سنة 1216 عندما منح الملك جون العهد الأكبر للشعب الإنجليزي، ثم انتقل إلى إعلان الحقوق في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1774 وقانون العقوبات النمساوي سنة 1787 وإعلان حقوق الإنسان والمواطن في فرنسا سنة 1789 المعتبر المثل الأعلى لمختلف الدول.
لسوء الحظ لم تهتد التشريعات المعاصرة لما هو مقرر في الشريعة الإسلامية مما فيه منافع للناس في مختلف فروع القانون ، فمثلا عندما يكون المريض لا يرجى شفاء دائه مع شعوره بضيق شديد لا يمكن للطبيب بناء على طلب المريض أن يضع حدا لحياته وفقا للتشريعات الجنائية الحالية، لكن الإمامين الشافعي في أحد قوليه وأحمد قد ذهبا منذ قرون مضت إلى أن رضاء المجني عليه يعفي من العقاب لأنه لما كان مقررا في القصاص أن ذوي الحقوق لهم أن يعفوا عن القصاص وبالتالي فلا عقوبة، فإن رضاء المجني عليه قبل أن يموت يعتبر بمثابة عفو، وبالتالي فلا عقاب يوقع على الطبيب إن خلص المريض من آلامه وفقا لهذا الرأي.
لكن تجدر الإشارة إلى أننا لا ندعم هذا الرأي، بل يجب عدم اليأس من رحمة الله لأن أمر المسلم كله خير، فعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذاك لأحد إلا المؤمن: إن أصابته سراء، شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر، فكان خيرا له"، وقد يصل التطور الطبي إلى إيجاد الدواء... وقد ذكرت رأي الشافعي وأحمد مع بناء حل قانوني على أساسه لأبين فقط بأن الفقه الإسلامي ثري بالنظريات والحلول، دحضا لما يذهب إليه معادو هذا الفقه العظيم...

ثالثا- الدوام

وتعتبر هذه الميزة نتيجة للكمال والسمو لأن الشريعة الإسلامية لا تضيق أحكامها ونظرياتها لتستجيب لكل مصالح الناس في الزمان والمكان، لا تستشف صفة الدوام من خلال مرونة التشريع الإسلامي باعتباره يضع المبادئ العامة في كثير من الأحيان فحسب، بل تلاحظ هذه المرونة حتى فيما هو قطعي كذلك عملا بمبدأ تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمنة والأمكنة والأعراف، ومن ذلك:
1- لما كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في المدينة اكتفى بالشاهد الواحد مع اليمين ليحكم للمدعي رغم أن الله تعالى يقول: (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ)، لكنه عندما كان في الشام يشترط الشاهدين لإصدار حكمه، ولما سئل عن ذلك قال وجدنا أهل الشام على غير ما هم عليه أهل المدينة.
2- من المقرر في الشريعة أن النهي عن المنكر واجب عملا بقوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، لكن هذا الواجب يتحول إلى الحرام إذا كان النهي عن منكر يفضي إلى منكر أشد.
3- عدم إقامة الحدود على تائب، وهو ما يستشف من حادثة وقعت زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء أحد الرجال عنده فقال يا رسول الله إني أصبت حدا من حدود الله فأقمه علي، فرد عليه الرسول الكريم: هل صليت معنا هذه الصلاة؟ فأجاب بالإيجاب، وحينئذ قال له عليه الصلاة والسلام لما رأي أنه تاب حقيقة: اذهب فإن الله قد غفر لك حدك.
4- أسقط عمر بن الخطاب رضي الله عنه حد قطع يد السارق في عام المجاعة.
يتبين من هذه الأمثلة وغيرها مما لم نذكره أن الشريعة كلها رحمة لأنها صادرة من خالق ذي رحمة دائمة بعباده، وعليه فلا يمكن أن يمارى في عنصر خلود هذه الشريعة.

المرجع:


  1. د. أعمر يحياوي، الخصائص العامة للشريعة الإسلامية، نموذج من الإعجاز التشريعي في القرآن الكريم، دار هومة، الجزائر، 2009، من ص51 إلى ص 65.
google-playkhamsatmostaqltradent