المصالحة كإجراء استثنائي لانقضاء الدعوى العمومية في جريمة الغش الجبائي بقلم د. بن بادة عبد الحليم د. شول بن شهرة

الصفحة الرئيسية

المصالحة كإجراء استثنائي لانقضاء الدعوى العمومية في جريمة الغش الجبائي

المصالحة كإجراء استثنائي لانقضاء الدعوى العمومية في جريمة الغش الجبائي

الملخص

 إن إجراء المصالحة في جريمة الغش الجبائي؛ يعتبر إجراء استثنائيا تلجأ إليه الإدارة الضريبية وتختص به دون غيرها، وذلك من أجل تحقيق الغاية التي من أجلها سنّت القوانين الجبائية، في استعادة الأموال التي حرمت منها الخزينة العمومية بأقل الأثمان وأقصر الطرق، حيث أنّ جوهر المصالحة يكمن في الحد من إجراءات المتابعة الجزائية للمتملصين من الوفاء بالتزاماتهم الجبائية مقابل قيام هؤلاء بتسديد المبالغ التي تهربوا من أدائها عن طريق جدولة تقوم الإدارة الجبائية المختصّة بضبطها من خلال رزنامة مفصّلة.
الكلمات المفتاحية: مصالحة، غش جبائي، دعوى جزائية جبائية، الإدارة الجبائية. 

Summary

 The process of reconciliation in the crime of fiscal fraud is considered as an exceptional action resorted by the tax administration with it exclusivity, In order to achieve the purpose for which the tax laws were enacted in the recovery of funds deprived of the public treasury at the lowest prices and the shortest way, whereas the essence of reconciliation lies In the reduction of the criminal follow-up procedures for the evaders to meet their tax obligations in for paying the sums they evaded through a schedule that the tax department is competent to control through a detailed calendar.
Keywor/ds: reconciliation, criminal fraud, criminal prosecution, tax administration

مقدمة

تعتبر الجباية من أهم مصادر تمويل الخزينة العمومية بعد العائدات البترولية في الجزائر، بل قد تجاوزتها في السنوات الأخيرة نظرا لانخفاض أسعار البترول وما ترتب عنه من تراجع كبير في تمويل الخزينة العمومية، حيث يلاحظ جليا اعتماد الدولة الجزائرية على الموارد الجبائية من أجل التغلب على الأزمة وتغطية العجز المسجل في العائدات البترولية؛ وقوانين المالية الأخيرة أبرز مثال على السياسة الجبائية الجديدة المنتهجة من قبل الدولة، تلك العائدات الجبائية لم تكن بمنأى عن التحايل والغش في تقديرها والتهرب من تسديدها، مما استوجب فرض العديد من الإجراءات الردعية لزجر كل من تسول له نفسه حرمان الخزينة العمومية من مصدر هام من مصادر تمويلها، إلاّ أنّ تلك الإجراءات الردعية لم تفي بالغرض المرجو من فرضها، حيث أنّ الغاية هي استرجاع أكبر قدر ممكن من الأموال المتهرب من تسديدها؛ وليس الزج بالمخالفين في السجون وإرهاق الخزينة بالمزيد من المصاريف للتكفل بهم طوال فترة حبسهم، لهذا جاءت المصالحة كإجراء أكثر فعالية يضمن استرداد الأموال المتهرب من أدائها بأقل التكاليف وأقصر الطرق كون الغاية من المصالحة هي وقف المتابعة الجزائية ضد أي شخص يقوم بالوفاء بالتزاماته الجبائية المفروضة عليه، لذا جاء هذا المقال من أجل تسليط الضوء على إجراء المصالحة في المادة الضريبية ودراسته من شتى جوانبه، عن طريق الإجابة على الإشكالية التالية: ما هو مفهوم المصالحة في جريمة الغش الجبائي؟ وما هي أحكامها؟
لدراسة هذه الإشكالية اعتمدنا على المنهج الوصفي للنصوص القانونية مع الاستعانة بالمنهج التحليلي الذي ساعدنا في تحليل النصوص القانونية؟.
أما الخطة التي رأيناها مناسبة لدراسة الموضوع، فكانت مقسمة لمبحثين يتضمن الأول دراسة مفهوم المصالحة، أما الثاني فتطرقنا فيه لأحكامها.

المبحث الأول: مفهوم المصالحة في التشريع الجزائري

لم يَحِدْ المشرع الجزائري عن بقية التشريعات، من حيث اعتماده لنفس القواعد العامة في انقضاء الدعوى العمومية المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجزائية الجزائري، إلاّ أنّه نص على بعض الاستثناءات الخاصّة بانقضاء الدعوى العمومية والتي فرضتها الطبيعة المميزة لبعض الجرائم والتي جريمة الغش الجبائي واحدة منها، حيث تتميز بطابعها الاقتصادي والمالي، لذا جاءت المصالحة كسبب خاص يؤدي إلى انقضاء الدعوى الجزائية في الجريمة الجبائية، كون المصالحة تكون بعد سداد المكلف بالضريبة للمستحقات المفروضة عليه وتنفيذ التزاماته الماليّة نحو إدارة الضرائب.
المصالحة إجراء تختص به إدارة الضرائب دون غيرها ويعتبر من صميم اختصاصاتها لا ينازعها فيه أحد، لهذا جاء هذا المبحث لتسليط الضوء على المفهوم العام للمصالحة من خلال التعريف بها (المطلب الأول) وتبيان جملة الخصائص التي تتميز بها (المطلب الثاني).

المطلب الأول: التعريف القضائي والفقهي والتشريعي للمصالحة

لا يفترض أن يكون إجراء المصالحة إلاّ في الجرائم التي خصّ فيها المشرع الإدارة حصرا بسلطة تحريك الدعوى العمومية في الجرائم التي تمس تلك الجريمة المرتكبة بمصالح مكلفة تلك الإدارة بحمايتها، حيث تكون الإدارة هي الوحيدة التي تملك السلطة التقديرية في مدى إمكانية اللجوء إلى المصالحة من أجل فض النزاع الجبائي ووقف إجراءات تحريك الدعوى العمومية أو رفض المصالحة مع المتهم والمضي قدماً في إجراءات تحريك الدعوى العمومية، ونظرا لصعوبة الاتفاق على تعريف جامع لمصلح المصالحة، فقد أوكلت مهمة تعريفه إلى الاجتهاد القضائي وأراء الفقهاء، فمثلاً نجد أنّ المشرع الجزائري لم يتطرق إلى تعريف المصالحة في المادة الجبائية، وإنما نصّ فقط على جواز اللجوء إليها واعتبارها سبباً في وقف الدعوى الجزائية الجبائية، وهو ما نصت عليه المادة 555 من قانون الضرائب الغير مباشرة في فقرتها الثانية على : "غير أن المصالحات أو الإعفاءات التي تقبل بها الإدارة لا ينبغي أن يكون من آثارها تخفيض الغرامة المحكوم بها على المخالف إلى رقم يقل عن مبلغ تعويض التأخير الذي يكون واجب الأداء ولو طبقت أحكام المادة 540 من هذا القانون"
تبقى هذه المادة هي الوحيدة في التشريع الجبائي الجزائري التي نصت صراحة على إمكانية اللجوء إلى إجراء المصالحة من أجل رفع النزاع وفض الخصومة بين إدارة الضرائب والمتهرّب من أداء الضريبة،  وبالتالي فلم نجد تعريفاً تشريعياً لمصطلح المصالحة في التشريع الجبائي الجزائري، عكس بعض التشريعات العربية الأخرى، حيث نجذ مثلاً أنّ المشرع الفلسطيني قد عرّف المصالحة بأنّها: "عقد ينهي الطرفان بمقتضاه نزاعاً قائماً بينهما أو يتوقّيان به نزاعاً محتملاً فيما يجوز التصالح فيه وذلك بأن ينزل كل منهما على وجه التقابل عن جزء من إدعائه"، وهو نفس التعريف الذي تضمنته المادة 2044 من القانون المدني الفرنسي.
أمّا المشرع الأردني فقد نص في المادة 647 من القانون الأردني لسنة 1976 على أنّ المصالحة عقد يرفع النزاع ويقطع الخصومة بين المتصالحين بالتراضي.
هذا بالنسبة لبعض التعريفات التشريعية التي تصدّت لمهمّة تعريف المصالحة في شكلها العام، أمّا بالنسبة لاجتهادات الفقه فقد تميّز هذا الأخير بكثرة التعريفات والتي لا يسع المقال هنا لسردها كلها وإنما نختص بذكر بعض منها فقط على سبيل التوضيح والمثال، ومنها تعريف الفقيه القانوني أحمد فتحي سرور بأنّها طريقة تؤدّي إلى إنهاء الدعوى الجنائية غير الطريق الطبيعي لإنهائها، أجازها القانون في نوع من الجرائم للحد من إطالة الإجراءات.
أمّا الفقيه علي زكي العرابي فقد عرّف المصالحة بأنّها تخلص المتهم من الدعوى الجنائية إذا دفع مبلغاً معيناً خلال مدّة معيّنة.
الفقيه أنور محمد صدقي قال هو الأخر من خلال تعريفه للمصالحة بأنّها في الأساس وسيلة من وسائل انقضاء الدعوى العمومية في حالة قيام كل من المدعي والمدّعى عليه بإجراء التصالح على قيمة المطالبة القائمة بينهما، أي هي عقد يرفع النزاع ويقطع الخصومة بين المتصالحين.
أمّا بالنسبة لتعريفات القضاء لإجراء المصالحة فسوف نستشهد بتعريف محكمة النقض المصرية والذي جاء فيه: "المصالحة هي بمثابة نزول الهيئة الإدارية المختصّة عن حقّها في تحريك الدعوى الجنائية مقابل المبلغ الذي قام عليه الصلح ويحدث أثره بقوة القانون "، وكتأكيد على ذلك رأينا بأنّه من الضروري تناول إحدى القضايا التي فصلت فيها محكمة النقض المصرية فيما يتعلق بالمصالحة والتي جاء نص حكمها بما يلي: "قضاة الحكم المطعون فيه بانقضاء الدعوى الجنائية بالصلح في جرائم تهرب المتهم من أداء الضريبة وعدم تقديم إقرارات الأرباح عن نشاطه التجاري من دون موافقة وزير المالية أو من ينوب عنه على التصالح خطأ".
وأضافت محكمة النقض المصرية في نفس القرار تحت رقم 22172، جلسة 03/03/2002، الغرفة الجنائية، "بأنه متى تصالح المتهم مع المفتش الفني المكلف بمكافحة التهرب الضريبي، وأنّ هذا التصالح لم يتضمّن موافقة وزير المالية أو من ينوب عنه على الصلح ومن ثمة لا يكون المطعون ضده قد تصالح مع مصلحة الضرائب تصالحاً قانونياً، فإنّ الحكم المطعون فيه يكون قد أخطأ في تطبيق القانون بما يعيبه وينقضه".
من خلال كل ذلك يمكن القول بأنّ المصالحة في المادة الجبائية هي وسيلة قانونية غير قضائية، تؤدّي إلى تخلي الإدارة الجبائية عن المتابعة أصلاً، وامّا إلى الاتفاق مع المخالف بعد صدور حكم ابتدائي بالإدانة على قطع الخصومة وانقضاء الدعوى مقابل دفع مبلغ مالي.
وبهذا كانت المصالحة في الجريمة الضريبية بأن يقوم المتهم بأداء المبالغ المستحقة عليه من طرف الإدارة الجبائية، ولا يعتبر صحيحا إلا من خلال تعبيره عن إرادة تنتج أثار قانونية بين المتهم والإدارة الجبائية، لينهي في الأخير الرابطة الإجرائية للخصومة الجزائية.
وهو ما قضت به كذلك المحكمة العليا في الجزائر من خلال قرارها الذي قضى بأنّ المصالحة الجمركية تؤدّي إلى انقضاء الدعوى العمومية.
وبالتالي فإنّ إجراء المصالحة يعتبر ضماناً لحقوق الإدارة وفقاً لما تملكه من سلطة تقديريّة في الموازنة بين المتابعة الجزائية أو إجراء المصالحة.
 وإجراء المصالحة له تأثير كبير على الدعوى العمومية الجبائية، فهو يضع حداً لها من خلال كونه سببا خاصاً لانقضائها.

المطلب الثاني: خصائص المصالحة

من خلال مختلف التعريفات التشريعية والفقهية والقضائية لإجراء المصالحة، يمكننا استخلاص واستنتاج جملة الخصائص التي يتميّز بها إجراء المصالحة، والتي لا تعدو أن تتجاوز خاصيتين اثنتين ألا وهما: خاصية اختصاص الإدارة به دون غيرها، وكذا كونه إجراء فعّال وذو جدوى إجرائيّة للإدارة، وهو ما سنناقشه بالتفصيل فيما يلي:
- الصلح أساس قانوني لسحب الاختصاص لصالح الإدارة الجبائية:
يبرز الدور الكبير الذي تم منحه للإدارة الجبائية من خلال العديد من الصلاحيات والسلطات التي تستأثر بها دون غيرها، بدءاً بمنحها صلاحيّة تحريك الدعوى الجزائية الجبائية حصرا من خلال إجراء رفع الشكوى، مرورا بتأسيس إدارة الضرائب كطرف أصيل في القضايا الجبائية، إنتهاء بمنحها صلاحية توقيف الدعوى الجزائية الجبائية وانقضائها عن طريق سلوك إجراء المصالحة وسحب الشكوى، وهو ما يعود بالأساس إلى التميّز الذي يكتنف القانون الجنائي الاقتصادي عن بقية القوانين.
والملاحظ كذلك هو أنّ المشرع الجبائي الجزائري ومن خلال اعترافه للإدارة الجبائيّة بجملة الامتيازات التي تختص بها في مجال إجراءات متابعة وانقضاء الدعوى الجزائية الجبائية؛ فهو لم يشرك معها أي سلطة في تلك الامتيازات ولم يجعلها مناصفة مع غيرها وانّما خصّها بها وحدها دون غيرها، ولا تستطيع أي سلطة أخرى لا تشريعية ولا حتى قضائية كالنيابة العامة ممارسة تلك الصلاحيات نيابة عن الإدارة الجبائية، وفي رأيينا أنّ السبب الأساسي والوحيد في اختصاص إدارة الجباية بتلك الخصائص إنّما يعود للطبيعة الخاصة لجريمة الغش الجبائي، فهي جريمة تقنية اقتصادية تتميّز بحركيّة سريعة لا يمكن لأي هيئة أو سلطة أخرى غير مختصّة بمتابعتها وملاحقة مرتكبيها إلاّ الإدارة المختصّة والعارفة بخبايا تلك الجريمة وكيفيات وآليات ارتكابها، لذا كانت الإدارة الجبائية هي الإدارة الوحيدة الخبيرة بمثل تلك المسائل الفنية.
كذلك سحب الاختصاصات لصالح الإدارة الجبائية لم يكن اعتباطاً، فقد جاء بسبب الحركيّة الاقتصاديّة الكبيرة التي يشهدها العالم، حيث عجز المشرع عن الاستمرار في التدخّل في النشاط الاقتصادي بنفس الوتيرة التي كان عليها إبّان الفترة الاشتراكيّة، إذ أبانت العولمة عن عجز المشرع ومن خلاله النيابة العامة في مسايرة مختلف الجرائم ولاسيما الاقتصادية منها، فلقد تطورت الجريمة الاقتصادية ونزعت عنها ثوب التقليدية، وارتدت لباس الحداثة والتطور والسرعة مستغلة النظام العالمي الجديد؛ الذي أملته العولمة وما وفّره من أدوات تكنولوجية بارعة، فقد أصبحت الجرائم ذات طابع فني وتقني يصعب على غير ذوي الاختصاص اكتشافها ومعرفتها، ليتنازل المشرع عن بعض من اختصاصاته الأصيلة لصالح الإدارة المختصة باعتبارها الأدرى بالجرائم والمخالفات المرتكبة في قطاعها، وهو النهج الذي سار عليه المشرع من خلال اعترافه للعديد من الإدارات ذات النشاط الاقتصادي ومن بينها إدارة الضرائب ببعض السلطات التي كانت إلى وقت قريب حكرا على السلطة التشريعية أو القضائية.
وفيما يلي نماذج عن بعض الإدارة المختصة التي خوّل لها المشرع صلاحية إجراء المصالحة في الجرائم التي تمس بالمصلحة التي تحميها.
1- إدارة الجمارك: منح المشرع الجزائري سلطة المصالحة لإدارة الجمارك من خلال نص المادة 265 من قانون الجمارك المعدّل والمتمم والتي نصت على: " يحال الأشخاص المتابعون بسبب ارتكاب مخالفة جمركية على الجهة القضائية المختصّة قصد محاكمتهم طبقا لأحكام هذا القانون.
غير أنه يرخّص لإدارة الجمارك بإجراء المصالحة مع الأشخاص المتابعين بسبب المخالفات الجمركية بناء على طلبهم…"
2- المخالفات الماسّة بقانون الصرف: باعتبار جرائم الصرف من الجرائم الاقتصاديّة فقد أخضعها المشرع الجزائري كذلك لاستثناء خاص وهو إجراء المصالحة، حيث نصّت المادة 09 من القانون المتعلق بقمع مخالفة التشريع والتنظيم الخاصين بالصرف وحركة رؤوس الأموال من والى الخارج على: "لا تتم المتابعة الجزائية في مخالفات التشريع والتنظيم الخاصين بالصرف وحركة رؤوس الأموال من  والى الخارج؛ إلاّ بناء على شكوى من الوزير المكلف بالمالية أو أحد ممثليه المؤهلين لذلك.
يمكن للوزير المكلف بالمالية أو أحد ممثّليه المذكورين أعلاه، إجراء المصالحة إذا كانت قيمة محل الجنحة تقل عن عشرة ملايين دينار جزائري (10.000.00 دج) أو تساويها.
لا يمكن إجراء المصالحة إذا تجاوزت قيمة محل الجنحة عشرة ملايين دينار جازئري (10.000.00 دج) إلاّ بناء على رأي مطابق تصدره لجنة المصالحة.
يحدد التنظيم تشكيلة لجنة المصالحة وتنظيمها وسيرها.
إذا لم تتم المصالحة في أجل ثلاثة (03) أشهر من يوم معاينة المخالفة يرسل الملف إلى وكيل الجمهورية المختص إقليميا".
3- المخالفات الماسة بقانون المنافسة والأسعار: نصّت المادة 06 من قانون المنافسة والأسعار على ما يلي: "تخضع مخالفات أحكام هذا القانون لاختصاص الجهات القضائية.
غير أنه يمكن للمدير الولائي المكلف بالتجارة أن يقبل من الأعوان الاقتصاديين المخالفين بمصالحة إذا كانت المخالفة المعاينة في حدود غارمة تقل أو تساوي مليون دينار جازئري (1.000.00 دج) استناداً إلى المحضر المعد من طرف الموظفين المؤهلين".
كل تلك النصوص تضمن الأساس القانون لسحب الاختصاصات لصالح الإدارة في مجال متابعة الجرائم الاقتصادية و إنهائها من خلال المصالحة.
- تحقيق الجدوى الإجرائية:
تعتبر المصالحة الطريقة المثلى لتحقيق جدوى إجرائية، إذ أنّه وكما هو معلوم فإنّ اللجوء إلى الطرق الإجرائية العادية المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجزائية يتطلب وقتاً ليس بالقصير، إبتداء بمرحلة البحث والتحري وجمع الاستدلالات، مرورا بمرحلة التحقيق، إنتهاء بصدور الحكم، هذا في حالة عدم سلوك أي الطرفين لطرق الطعن العادية وغير العادية، وهي الضمانات التي منحها المشرع الجزائري لطرفي النزاع من أجل تدارك هفوات القضاء وسوء تطبيق القانون من طرفهم، كل تلك الإجراءات والخطوات قد تتطلب في أغلب الأحيان وقتاً كبيرا يتنافى وطبيعة الجريمة الاقتصادية بشكل عام وجريمة الغش الجبائي بشكل خاص، لهذا كان انتهاج المشرع لإجراء المصالحة ذا جدوى إجرائية كبيرة، كونه يضع حداً للمتابعة القضائية بشكل نهائي ويقتصد الوقت والمال والجهد؛ الذي كان سوف يهدر في حالة تحريك الدعوى الجزائية الجبائية أو الاستمرار فيها، فغاية المشرع الجبائي الجزائري هي تحصيل المبالغ المالية المستحقة على عاتق المكلف بالضريبة وليست غايته متابعته قضائياً و سجنه، ففي حالة ما إذا طلب المتهم المتخلي عن التزاماته؛ أداء واجباته الجبائية تفادياً لتحريك الدعوى الجزائية الجبائية، يجب على إدارة الضرائب المضي قدماً معه في إجراء المصالحة، وذلك لأنّ الغاية التي سنّت من أجلها القوانين الجبائية قد تحققت بأقل الأثمان وأقصر المسافات.
كذلك يتميّز إجراء المصالحة كونه إجراء بات يحوز على قوّة الشيء المقضي به، وبالتالي فلا يحق للإدارة أن ترجع فيه أو أن تطلب إلغاءه، هذا من جهة الإدارة، أمّا بالنسبة للمخالف فسوف يتنازل عن الحقوق والضمانات التي منحها إياه القانون والمتمثلة في طرق الطعن العادية المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجزائيّة.

المبحث الثاني: أحكام المصالحة في التشريع الجبائي الجزائري

للمصالحة مجموعة من الأحكام التي تنظّمها فهي ليست إجراء استثنائي تلجأ إليه الإدارة بطلب من المتهم من أجل إيقاف إجراءات الدعوى الجزائية الجبائية، وانّما هي إجراء محاط بمجموعة من الشروط التي يجب توفّرها حتى تعتبر المصالحة صحيحة (المطلب الأول) ، وترتب أثارا ملزمة لطرفيها (المطلب الثاني) لهذا جاء هذا المبحث لمناقشة كل ذلك.

المطلب الأول: شروط المصالحة

لابدّ وأنّ لإجراء المصالحة مجموعة من الشروط التي بدون توفّرها يعتبر إجراء باطلاً وغير معتد به، ويمكن استنباط تلك الشروط من خلال التعريف الذي ساقه الأستاذ فارس السبتي والذي جاء فيه: "بأنّ إجراء المصالحة في الجرائم الضريبية إنما يكون بقيام المتّهم المخل بالتزاماته الضريبية بالوفاء بالمبالغ المستحقة عليه من طرف الإدارة الجبائية، مثل الحقوق والرسوم الجبائية الكاملة، ويشترط في المصالحة أن تتم بين المتهم بالغش الجبائي وبين الإدارة الجبائية المختصة وهو تعبير عن إرادة تنتج أثار قانونية ويهدف إلى انقضاء الأربطة الإجرائية للخصومة الجزائية"
من خلال التعريف السابق نستنتج أن للمصالحة شروط لا تستقيم بدون توفّرها ألا وهي:
1- صدوره من هيئة مختصة: لقد أوكل المشرع مهمّة إجراء المصالحة في المنازعات والدعاوى الجبائية إلى المدير الولائي للضرائب، وهو ما نصّت عليه المادة 305 من قانون الضرائب المباشرة والرسوم المماثلة، المعدلة بموجب المادة 20 من قانون المالية لسنة 1998 والتي أضافت الفقرة 05 و 06 لهذه المادة، حيث جاء فيها: "يستطيع مدير الضرائب للولاية سحب الشكوى في حالة الدفع الكلي للحقوق العادية والغرامات موضوع الملاحقات وبعد موافقة المدير العام للضرائب.
إنّ سحب الشكوى يوقف الدعوى العمومية طبقاً للمادة 06 من قانون الإجراءات الجزائية".
كذلك المادة 119 من قانون الرسوم على رقم الأعمال، المعدلة والمتممة بموجب المادة 40 من قانون المالية لسنة 1998 التي نصّت على: "يستطيع مدير الضرائب للولاية سحب الشكوى في حالة الدفع الكلي للحقوق العادية والغرامات موضوع الملاحقات وبعد موافقة المدير العام للضرائب.
إنّ سحب الشكوى يوقف الدعوى العمومية طبقاً للمادة 06 من قانون الإجراءات الجزائية".
من خلال نص المادتين سالفتي الذكر، نرى بأنّ المشرع الجبائي الجزائري قد حدّد الهيئة المختصّة التي تملك سلطة وصلاحية إجراء المصالحة في المادة الجبائية؛ ألا وهو المدير الولائي للضرائب والذي منحه المشرع حق سحب الشكوى، وتوقيف الدعوى الجزائية الجبائية في حالة ما إذا قام المكلف المخل بالتزاماته الجبائية؛ بدفع الحقوق العادية والغرامات موضوع الملاحقات وذلك طبعا بعد موافقة المدير العام للضرائب.
يلاحظ على أنّ المشرع لم ينص صراحة على مصطلح المصالحة في المواد سالفة الذكر وهو في رأيينا قصور يجب تداركه كون المصالحة صارت إجراء واقعاً معترفاً به، وما يعزز من رأينا هذا هو النص من قبل المشرع الجبائي على سحب الشكوى، حيث أنّ المعلوم بأنّ الشكوى توقف الدعوى الجزائية الجبائية إلى جانب المصالحة، وهي من الأسباب الخاصّة التي نصّت عليها المادة 06 من قانون الإجراءات الجزائية في الفقرة الثالثة والرابعة، حيث جاء فيها: "... تنقضي الدعوى العمومية في حالة سحب الشكوى إذا كانت شرطاً لازماً للمتابعة، كما يجوز أن تنقضي الدعوى العمومية بالمصالحة إذا كان القانون يجيزها صراحة ".
هذه المادة نصّت على إجراءين خاصين واستثنائيين لانقضاء الدعوى العمومية، ألا وهما سحب الشكوى والمصالحة، أي أنهما إجراءين متوازيان لهما نفس الدرجة ونفس الحجية ونفس الأثر في انقضاء الدعوى العمومية، لذا فإنّ من القصور والإغفال ذكر سحب الشكوى والتغاضي عن المصالحة في النصوص الجبائية سالفة الذكر كونهما إجراءين مستقلين عن بعضهما حسب نص المادة 06 من قانون الإجراءات الجزائية، ولو أنّ إجراء المصالحة في نهايته يؤدي إلى سحب الشكوى، لهذا كان على المشرع توضيح تلك العلاقة بين الإجراءين بالنص عليها صراحة في النصوص القانونية ذات الصلة باعتبار أنّ مبدأ الشرعية مبدأ قانوني أصيل يحمي من كثرة التأويلات للنصوص القانونية.
هذا بالنسبة للهيئة المختصة فيما يتعلق بإجراء المصالحة في المادة الجبائية، حيث يجب التذكير بأنّ نفس النهج سلكه المشرع الجزائري في القوانين الخاصّة الأخرى التي تنص على إجراء المصالحة، فمثلاً في المنازعات الجمركية تعتبر إدارة الجمارك هي الهيئة المختصة في إجراء المصالحة، أمّا بالنسبة لمخالفات التشريع المتعلق بالصرف وحركة رؤوس الأموال من والى الخارج، فإنّ الوزير المكلف بالمالية أو ممثله، هو من يختص بإجراء المصالحة دون غيره وهو ما نهجه المشرع كذلك في المخالفات الماسّة بقانون المنافسة والأسعار، حيث يختص المدير الولائي المكلف بالتجارة بمهمّة إجراء المصالحة مع الأعوان الاقتصاديين.
2- اتفاق الطرفين على المصالحة: إجراء المصالحة هو إجراء جوازي لإدارة الضرائب وليس وجوبي، أي لها كامل السلطة التقديرية في اللجوء إليه من عدمه، فليس لها الحق في أن تفرض مبلغ المصالحة على المكلف المخل بالتزاماته الجبائية، فهو مجبر بتأدية ما عليه من مستحقات لفائدة الإدارة الجبائية، أمّا في حالة ما إذا تم الاتفاق على إجراء المصالحة وتسوية الأمر ودياً، فللإدارة الجبائية السلطة التقديرية في اللجوء إلى إجراء المصالحة؛ من خلال جدولة المبالغ المستحقة على المكلف وضبطها في رزنامة منحها المشرع للمكلف بالضريبة من أجل دفع ما عليه من ديون، نظرا للصعوبات التي تعترضهم أثناء تسديد مستحقاتها بشرط دفع مسبق قيمته 50% من مبلغ الديون المستحقة والباقي يتم دفعة وفق الرزنامة التالية:
- مدة 06 أشهر للديون التي لا تفوق 50.000.000 دج.
- مدة 12 أشهر للديون عندما تتجاوز مبلغ 20.000.000 دج، وتقل عن 30.000.000 دج
- مدة 18 شهر للديون التي تفوق 30.000.000 دج.
وبالتالي فإنّ قيام قابض الضرائب بمنح رزنامة الدفع للسيد وكيل الجمهورية من أجل طلب تأجيل الدعوى الجبائية أو إلى قاضي التحقيق أو أمام جهات الحكم المختصّة ليتعيّن بعدها على النيابة العامة وقف تحريك الدعوى العمومية إن كانت على مستواها أو التماس التأجيل للفصل في القضية إن كانت على مستوى قاضي التحقيق أو جهات الحكم.
وفي حالة التصفية النهائيّة للدّين الجبائي المستحق في إطار الرزنامة الموضوعة، يتعيّن على المدير الولائي للضرائب سحب الشكوى وانقضاء الدعوى العمومية بصفة نهائية، وحيازة إجراء المصالحة على قوة القضية المقضية فيما يخص العقوبات.
يجب التنويه إلى أنّ إجراء المصالحة ليس حقاً يطالب به المتهم، وانّما يكون بناءاً على طلب منه؛ لتبقى السلطة التقديرية كاملة للإدارة الجبائية في الاستجابة له أو رفضه والاستمرار في إجراءات الدعوى العمومية الجبائية.
3- موافقة المدير العام لضارئب: اشترطت المادة 305 من قانون الضرائب المباشرة في فقرتها الخامسة والمادة 115 من قانون الرسوم على رقم الأعمال في فقرتها الخامسة؛ كذلك على شرط موافقة المدير العام للضرائب لإجراء المصالحة الذي يقوم به المدير الولائي للضرائب، حيث أنّه بدون موافقة المدير العام للضرائب، فإنّ إجراء المصالحة المتخذ من قبل المدير الولائي وقيامه بناء عليه بسحب الشكوى هو إجراء باطل وغير صحيح كون موافقة المدير العام للضرائب جاءت على سبيل الوجوب والإلزام.

المطلب الثاني: أثار المصالحة

في حالة مرور طرفي النزاع أي المتهم والإدارة الجبائيّة عبر طريق إجراء المصالحة من أجل فض النزاع بينهما، واستوفى كامل الشروط المنصوص عليها قانوناً فإنّه يبدأ مباشرة في ترتيب أثاره القانونية، سواء أكانت اتجاه طرفي المصالحة أو اتجاه الغير وهو ما سنتعرّض له بالمناقشة من خلال هذا المطلب:
1- أثار المصالحة بالنسبة لطرفيها: إنّ أوّل أثر ينتج عن إجراء المصالحة هو وقف إجراءات السير في الدعوى الجزائية الجبائية وانقضائها، ففي حالة لم تحرّك بتاتاً وتم إجراء المصالحة فإنّها تنقضي، أمّا في حالة تحريكها فسوف يتم إيقافها وإيقاف جميع الآثار الناتجة عن إجراءات التقاضي ووقف العقوبات المالية والتعويض والمصادرة، وذلك في حالة ما إذا دفع المتهم ما يترتب عليه من حقوق جبائية.
ولكن يبقى السؤال المطروح هو فيما يتعلق بجواز المصالحة بعد صدور حكم بالإدانة، فهل تجوز المصالحة في مثل هذه الحالة؟.
ذهب راي من الفقه إلى القول بوجوب التفريق بين الحكم الصادر في الجرائم الجبائية التي تكون عقوبتها الغرامة فقط، وبين الجرائم الجبائية التي تكون عقوبتها سالبة للحرية، حيث أنّ الأولى لا تضر بالمجتمع في حالة اللجوء فيها إلى إجراء المصالحة كون الغاية الأولى والأخيرة هي تحصيل المبالغ الجبائية المتهرب من أدائها، أمّا الجرائم الثانية فإنّ المصالحة فيها قد تضر بالنظام العام وتقلق الأمن العام، وبالتالي لا مفر من تسليط العقوبة المستحقة على الجاني، وليس من حق موظفي الضرائب اللجوء إلى الصلح في مثل تلك القضايا وترك المجرمين طلقاء دون ردع، أو مساعدتهم على نيل الحرية مع العلم أن التمييز أمر يتفق مع كون الصلح لا يسفر إلاّ عن أداء مبلغ الرسوم والحقوق المتملص منها.
ثاني أثر يترتب على إجراء المصالحة هو أنّ اللجوء إلى إجراء المصالحة قبل صدور حكم نهائي، ينتج عنه أداء المتهم للمستحقات الواقعة عليه من ضريبة، بالإضافة إلى الضريبة والضريبة الإضافية وتعويض يعادل ثلاثة أمثال الضريبة ويتم مضاعفتها كلما عاد إلى التهرب الضريبي.
أمّا في حالة الحكم النهائي البات الحائز على قوة الشيء المقضي فيه والذي استنفذ جميع طرق الطعن العادية وغير العادية، فلا يجوز فيها إجراء المصالحة وإنما يتعيّن تنفيذ الحكم لكونه حاصل على الصيغة التنفيذية.
2- أثار المصالحة بالنسبة للغير: لا تمتد أثار المصالحة في المادة الجبائية إلى الغير، وإنما تقتصر أثارها على طرفي المصالحة، مثلها مثل بقية العقود التي لا تنصرف أثارها للغير، وبالتالي فالمصالحة لا ينتفع بها ولا يضار منها الغير، والأصل أنّ المصالحة في المادة الجبائية الجزائية كما أسلفنا، لا تمتد للفاعلين الآخرين الذين ارتكبوا الجرم مع المتهم وإنما تقتصر فقط عليه أي المتهم وعلى الإدارة الجبائية.

خاتمة

لقد حاولنا جهد الإمكان وبما اتسعت له صفحات هذا المقال، دارسة إجراء المصالحة من كافة جوانبه، مبتدئين بتبيان مفهوم هذا الإجراء الذي يعتبر اللجوء إليه استثناء وليس أصلا، مبرزين شتى التعريفات التي تناولته سواء كانت تشريعية أو فقهية أو قضائية لنعرج بعدها لخصائص هذا الإجراء، منتهين بالأحكام الخاصة سواء من حيث الشروط أو الآثار التي تترتب عنه، لنصل إلى مجموعة من النتائج نذكر أبرزها:
- المصالحة في جريمة الغش الجبائي، هي إجراء استثنائي وليست أصل.
- المصالحة هي من اختصاص الإدارة الجبائية دون غيرها.
- المصالحة تهدف إلى وقف الدعوى الجزائية الجبائية وإنهائها من خلال قيام المتهرب من أداء التزاماته الضريبية بالوفاء بها.
أمّا التوصيات التي نقترحها من خلال دارستنا لهذا الموضوع، فهي تتمثل فيما يلي:
- تثمين إجراء المصالحة في فض المنازعات الجبائية، كونه إجارء أظهر فعاليته الكبيرة في استرداد الأموال المتهرب من أدائها.
- ضرورة النص على إجراء المصالحة صراحة ضمن نصوص القوانين الجبائية، بما لا يدع المجال مفتوحا أما التأويلات والمناقشات الفقهية.
- ندعو لتخصيص فرع في الإدارة الجبائية يختص بمعالجة قضايا المصالحة مع المتهربين من الوفاء بالتزاماتهم الضريبية.

المرجع


  1. د. بن بادة عبد الحليم د. شول بن شهرة، مجلة الاجتهاد للدراسات القانونية والاقتصادية، المجلد: 07، العدد 06، السنة 2018،
google-playkhamsatmostaqltradent