حریة الإثبات الجنائي

 حریة الإثبات الجنائي

حریة الإثبات الجنائي

مـن أهـم مـا یمیـز نظریـة الإثبـات الجنـائي، هـو مبـدأ حریـة الإثبـات فـي المـواد الجزائیـة وتساند الأدلة، ومعنـاه أن أطـراف الـدعوى العمومیـة الحریـة فـي إقامـة الـدلیل فـي الإثبـات، وهـذه الحریة لا تكون متكاملة إلا إذا اقتنع بها القضاء.

والقاضي في ظل نظام حریة الإثبات الجنائي، لا یلزم بدلیل بعینه بل یسـمح لـه بقبـول أي دلیل، ویترك له وحـدة سـلطة تقـدیر القیمـة القانونیـة لكـل دلیـل، وٕإذا تعـددت الأدلـة أمـام القاضـي وتعارضـت فـلا تفاضـل بینهـا فـي ذاتهـا، وإٕنمـا تنعقـد الصـدارة لاحظاهـا بـالقبول لـدى القاضـي وأكثرها إقناعا له.

وهذه الحریة مردها أن الإثبات الجنائي، ینصب على مسائل قانونیة ونظرا لصعوبة إثباتها جعلها تسمى بحریة الإثبات، بأي وسیلة من وسائل الإثبات، ولا یستثنى من هذه القاعدة إلا ما استثني فیها بنص صریح، أي إلا إذا اشترط المشرع إثبات خاص، كالقید الوارد فـي جریمـة الزنـا أو السیاقة في حالة السكر.

وحریة الإثبات الجنائي لیست مطلقة، إنما مقیدة بمعاییر وشروط خاصة:

أولا - مشـروعیة الـدلیل

أي أن یسـتند الـدلیل إلـي المشـروعیة القانونیـة، الموضـوعیة منهـا والشكلیة، ویكون الدلیل باطلا، أي غیر مشـر وع، إذا استحصـل علیـه بالمخالفـة للقـانون، وٕإذا كان الدلیل الباطـل هـو الـدلیل الوحیـد فـلا یصـح الاسـتناد إلیـه فـي إدانـة المـتهم، وٕإلا كـان مشـوب بعیـب التسـبیب، فـإذا حصـل مـثلا علـى اعتـراف بنـاءا علـي إكـراه، فالـدلیل هنـا لـیس لـه أي وزن قانوني، وٕإذا شاب التفتیش عیب یبطله، فإنه یتناول جمیع الآثار المترتبة علیه مباشرة.

وفـد أخـذ المشـرع الجزائـري فـي المـدة 159 مـن قـانون الإجـراءات الجزائیـة بوضـع نظریـة الـبطلان الـذاتي عنـد مخالفـة القواعـد الأساسـیة لقـانون الإجـراءات الجزائیـة، إذا كـان الغـرض مـن الإجـراء هـو حمایـة المصـلحة العامـة أو مصـلحة المـتهم أو غیـره مـن الخصـوم فیكـون الإجـراء جوهریا، ویترتب علي عدم مراعاته البطلان.

أمـا إذا كـان الغـرض مـن الإجـراء هـو الإرشـاد والتوجیـه، فـلا بطـلان، إذا لـم یـراع هـذا الإجراء، وللتعرف على الأحكام الجوهریة یتعین الرجوع إلي علة التشریع، فالبطلان المطلق هو الذي یترتب علي مخالفة قاعدة أساسیة من قواعد القانون العام.

ثانیـا- عـدم مشـروعیة الاسـتعانة بـالأجهزة العلمیـة الحدیثـة

تقـوم الإجـراءات الجزائیـة علـي دعامات قویة تضمن للأفراد حریاتهم الشخصیة، وكرامتهم الإنسـانیة، فهـي تحـرم ممارسـة كافـة الأسالیب القهریة التي تهدف إلي انتزاع الاعترافات والأقوال من المتهمین خلال إجـراءات الـدعوى الجنائیة، فللمتهم الحریة الكاملة في إبداء أقواله بإرادتـه الحـرة، وأي قـول یثبـت أنـه صـدر تحـت وطأة من تلك الأسالیب یكون باطلا ولا یعتد به.

1/ عدم مشـروعیة الاسـتعانة بجهـاز الكشـف الكـذب

وهـذا الجهـاز یسـتعمل بحـدة فـي الولایـات المتحـدة الأمریكیـة، وهـو جهـاز یـربط بجسـم الإنسـان بـالقرب مـن منطقـة الأعصـاب، ویظهـر الكذب ویؤشر المؤشر علي ذلك.

ویتجه غالبیة الفقه إلي الوقوف بقوة في وجه استخدام أجهزة كشـف الكـذب ورفضـها، لأن هـذا الاسـتخدام لا یقـدم ضـمانات علمیـة أكیـدة، كمـا أن القـانون قـد كفـل للمـتهم حقوقـا للـدفاع لا یجوز المساس بها، ومنها حقه في الصمت وحریة الدفاع عن نفسه صادقا كان أم كاذبا.

كما أن استخدام هذا الجهاز یمثل إحدى صور الإكراه المعنوي، ثم أن هذا الإجراء یمـس كرامة الإنسان وحریته في التفكیر ورغبته في عدم الكشف عما یتحفظ به لذاته، فهو إجـراء غیـر مشروع ولا یجوز اللجوء إلیه عند مباشرة الإجراءات الجنائیـة سـواء رضـي المـتهم باسـتخدامه، أو لم یرضي بذلك.

2/ عـدم مشـروعیة اسـتخدام لأجهـزة العلمیـة الحدیثـة للتصـنت علـى المحادثـات التلفونیـة والأحادیث الشخصیة وتسجیلها

إن مبـدأ حریـة الاتصـالات الخاصـة بـالأفراد مـن المبـادئ الأساسـیة المتعلقـة بالنظـام العـام فـلا یجـوز الخـروج عنهـا، غیـر أن القـانون الجزائـري خـرج عـن هـذه القاعـدة اسـتثناءا فـي بعـض الحالات، متى كان لذلك فائدة في إظهار الحقیقة، علي اعتبار أن مصلحة المجتمع تعلـو علـى حقوق الأفراد المتعلقة بسریة اتصالاتهم.

وعلـي هـذا الأسـاس لا یجـوز التجسـس وفـتح المرسـلات والتصـنت علـى الهواتـف وتسـجیل المحادثـات والتصـویر، إلا بنـاءا علـى تـرخیص قـانوني، لأن القضـاء حـارس حقـوق النـاس وأن هذه الحقوق هي بالدرجة الأولى مسائل دستوریة لا یمكن مخالفتها.

وعلي هذا لا یجوز الرجوع في المرافعة إلـي وسـیلة الإثبـات ثبـت بطلانهـا، كمـا أنـه یمكـن أن یلاحـق المحـامي تأدیبـا إذا اسـتند علـي أدلـة إثبـات باطلـة، وكـان یعلـم بهـا، وهـذا كلـه عكـس أدلة النفي فیجوز عدم احترام المشروعیة.

3/ عدم مشـروعیة اسـتخدام العقـاقیر المخـدرة والتنـویم المغناطیسـي

مـا هـو جـدیر بالـذكر أن دساتیر معظم الدول تحرم ممارسة كافة أسالیب القهر والتعذیب مع المتهمین في القضایا الجنائیة لانتـزاع الاعترافـات والأقـوال سـواء اتخـذ ذلـك شـكل الاعتـداء المـادي أو التعـذیب النفسـي العقلـي غیر أن المشرع لم یفصح عن موقفه صراحة فیما یتعلق بمدى مشروعیة استخدام تلك الأسالیب.

ویتجه غالبیة الفقه إلي تحریم استخدام أي من هـذه الأسـالیب العلمیـة الحدیثـة، فـي مجـال الإثبـات الجنـائي للحصـول علـي اعترافـات أو أقـوال مـن المـتهم، إذ یعتبـرون تخـدیر المـتهم أو الشـاهد، بـأي عقـار مـن العقـاقیر ضـربا مـن ضـروب الإكـراه المـادي، ممـا تصـبح معـه كافـة الاعترافات والأقوال الناجمة عنه باطلة، ولو كانت صادقة، لأنها ولیدة إكراه.

كما أن المنوم مغناطیسا یعتبر من الوسائل غیر القانونیة، لأن التنویم المغناطیسي یؤدي إلـي حجـب الـذات الشـعوریة للنـائم مـع بقـاء ذاتـه اللاشـعوریة، وفـي ذلـك تعطیـل للمهـام الأساسـیة للوظـائف العلیـا لتفكیـر عقـل الإنسـان، فمثـل هـذه الطـرق تلغـي الإرادة الواعیـة لـدى الشـخص الخاضـع لهـا، وتسـلبه حریتـه فـي التصـرف فیسترسـل بـالإدلاء بـالأقوال وهـو عـاجز عـن السـیطرة علیها.

كما أن اسـتخدام هـذه الأسـالیب العلمیـة المسـتحدثة یعـد إهـدار لحـق المـتهم فـي الإجابـة أو عـدم الإجابـة علـي الأسـئلة التـي توجـه لـه، وهـي بـذلك تمـس حقـا شخصـیا لـه فـي أن یحـتفظ بمـا یشاء مـن معلومـات، بالإضـافة إلـى أن العلـم لـم یتوصـل بعـد بطریقـة قاطعـة وجازمـة إلـى صـحة النتائج المستمدة منها.

كما لا یجوز أن یستند الإثبات الجنائي على وسائل تأخذ من باطن الإنسان رغم انفه، أي تأخـذ قهـرا ، إلا إذا نـص القـانون علـى ذلـك صـراحة، ومثـال ذلـك أخـذ الـدم فـي حالـة السـیاقة مـع السكر، وهذا إن تعدت نسبة معینة من الكحول في الدم.

وفي فرنسـا لا یجـري اسـتعمال دم الإنسـان إلا بعـد المـرور علـي فحـص أولـي، وهـو الـنفخ فـي جهـاز خـاص یثبـت شـرب الكحـول، كمـا لا یجـوز أخـذ أي شـيء مـن بـاطن الإنسـان ومـن أمعائـه، وتسـمى فـي الفقـه الجنـائي بالأخیـذة أو التأخیـذة، وهـذه الوسـیلة ممنوعـة فـي الإثبـات الجنائي، إلا إذا وجد هناك نص صریح على ذلك في القانون، وهذا المبدأ یتناقض مع مبدأ عـدم تجـریم الـنفس، أي لا یجـوز للإنسـان أن یجـرم نفسـه بنفسـه، بـل خـول القـانون لهیئـة لهـا سـلطة الاتهام.

رابعا/ مشروعیة المتهم في الصمت والتجائه إلى الكذب

للمتهم دائما الحریة الكاملة في الكلام وفي الصمت، ومقتضى هذا المبدأ أن للتهم الحق في إبداء أقواله فـي حریـة تامـة ودون ضـغط أو إكراه أو تعذیب أو خدیعة، ویشمل ذلك، حق المتهم في الصمت والامتناع عن الإجابة عن كل أو بعض الأسئلة الموجه إلیه، دون أن یأخذ مسلكه هذا كدلیل أو قرینة ضده.

ولذلك فحق الصمت یعتبر من حقوق المقررة للمتهم، سواء نص علیه القانون أم لم ینص فلـیس هنـاك أي طریقـة مشـروعة لإخـراج المـتهم الـذي یرغـب فـي التـزام الصـمت عـن موقفـه، ولا یجوز بطبیعة الحال الالتجاء إلي الوسائل الإكراه المادي أو المعنوي لجعله یتكلم.

المرجع:

  1. د. نسيم بلحو، محاضرات في مقياس الإثبات الجنائي، ملقاة على طلبة السنة الأولى ماستر، تخصص قانون جنائي، جامعة محمد بوضياف بالمسيلة، قسم الحقوق، السنة الجامعية: 2017/2018، ص24 إلى ص27.

google-playkhamsatmostaqltradent