اتفاقية التحكيم

اتفاقية التحكيم

اتفاقية التحكيم

تبنت الجزائر، بعد تردد كبير، تشريعا نوعيا في مسألة الاعتراف بالتحكيم التجاري الدولي والقبول به متجاوزة مرحلة غياب طويل عن نظام حديث النشأة ارتبط ارتباطا وثيقا بالتجارة الدولية. 

تستدعي الاعتبارات العملية إلى الاتفاق على اللجوء على التحكيم، وطرح النزاع على أشخاص أو مؤسسات محل ثقة الأطراف، ويجب أن يكون الاتفاق واضحا تتوافق فيه إرادة الطرفين ويكون هذا التوافق مصدر سلطة المحكمين، فالتراضي في اتفاقية التحكيم يقوم على إرادة الأطراف.

المطلب الأول: مفهوم اتفاقية التحكيم

اتفاقية التحكيم عقد رضائي يحدد ملامح العملية التحكيمية، لكن التشريعات المقارنة والاتفاقيات الدولية لم تتفق على تعريف دقيق لها (الفرع الأول)، وتأخذ اتفاقية التحكيم صورا مختلفة حسب وقت انعقادها قبل أو بعد نشوب النزاع (الفرع الثاني).

تتضمن اتفاقية التحكيم التعبير عن إرادتين أو أكثر، وتستلزم صحتها توافر شروط شكلية وأخرى موضوعية بالإضافة على بعض الشروط الخاصة التي تنبثق عن طبيعتها الخاصة والمتمثلة في كونها اتفاقا قضائيا (الفرع الثالث).

الفرع الأول: تعريف اتفاقية التحكيم

بالرجوع إلى تعريف المشرع الجزائري لاتفاق التحكيم ،فقد نص في المادة 1011 من قانون الإجراءات المدنية والإدارية: "اتفاق التحكيم هو الاتفاق الذي يقبل الأطراف بموجبه عرض نزاع سبق نشوؤه على التحكيم" ونص في المادة 1007: "شرط التحكيم هو الاتفاق الذي يلتزم بموجبه الأطراف في عقد متصل بحقوق متاحة بمفهوم المادة 1006 أعلاه، لعرض النزاعات التي قد تثار بشأن هذا العقد على التحكيم". لكنه عاد في الباب الخاص بالتحكيم التجاري الدولي وجمع بين المفهومين في تعريف واحد، حيث نصت المادة 1040 "تسري اتفاقية التحكيم على النزاعات القائمة والمستقبلية". أما بالرجوع إلى تعريفات الفقه لاتفاق التحكيم فقد عرفه البعض من الفقه بأنه "اتفاق الخصوم على عرض نزاع قائم أو نشأ بينهم على محكم أو هيئة تحكيمية ،بدل عرضه على مؤسسة قضائية رسمية أي تابعة للدولة". كما عرفه البعض الآخر بأنه: "وثيقة يتفق الأطراف بموجبها على عرض النزاع التي قد ينشأ بصدد تنفيذ هذا العقد أو تفسيره على المحكمين، وعندئذ يرد التحكيم على أي نزاع يحدث في المستقبل" وكما عرفه كذلك البعض من الفقه بأنه: "الاتفاق الذي يتم بين الطرفين بعد قيام النزاع بينهما لعرض هذا النزاع على التحكيم".

عموما تكثر التعريفات الخاصة بالتحكيم، وجميعها لا يخرج عن اعتباره اتفاقا بين الأطراف على حل النزاع القائم أو الذي سيقوم من قبل شخص أو أشخاص يتم اختياره أو اختيارهم لهذا الغرض.

واتفاقية التحكيم بهذا المنظور يأتي بعد حدوث النزاع أو قبله، ويكون جوهره عرض نزاع معين نشأ بين طرفيه على المحكم أو المحكمين.

نصت المادة السابعة من القانون النموذجي للحكيم التجاري الدولي: "اتفاق التحكيم هو اتفاق بين الطرفين على أن يحيلا إلى التحكيم جميع أو بعض النزاعات التي تنشأ أو قد تنشأ بينهما بشأن علاقة قانونية محددة، سواء أكانت هذه العلاقة تعاقدية أو غير تعاقدية، ويجوز ان يكون اتفاق التحكيم في شكل بند تحكيم وارد في عقد أو في شكل اتفاق منفصل". 

عرف الأستاذ ROBERT Jean اتفاق التحكيم التحكم بانه "اتفاق يتعهد بمقتضاه الطرفان بان يتم الفصل في النزاعات الناشئة بينهم عن طريق التحكيم، فما يميز هذا الاتفاق عن الاتفاقات الأخرى ،كونه اتفاقا اجرائيا، أي ذو طابع منهجي تابع دائما للاتفاق الموضوعي الأصلي الذي وجد من اجله". كما عرف بعض الفقهاء اتفاق التحكيم بأنه "الاتفاق الذي يتفق بموجبه طرفان أو أكثر على عرض المنازعات القائمة بينهم أو المحتمل قيامها والتي تمس بمصالح التجارة الدولية ،للفصل فيها من طرف محكم أو أكثر".

الفرع الثاني: صور اتفاقية التحكيم

تتفق جميع التعريفات الفقهية على أن اتفاق التحكيم أو اتفاقية التحكيم يشمل ما يسمى بشرط التحكيم وهو بند من بنود العقد (أولا)، وكذلك مشارطة التحكيم وهو الاتفاق المبرم مستقلا عن العقد الأصلي (ثانيا).

أولا: شرط التحكيم 

المقصود به إن يرد في شكل شرط في عقد من العقود يقضى بأن أي نزاع حول إعمال أو تفسير أو تنفيذ العقد أو أحد شروطه يتم تسويته عن طريق التحكيم وهذا بالطبع يقتضى أن تكون العلاقة عقدية وان يكون الشرط سابقا على قيام المنازعة.

كما يعرف شرط التحكيم هو الاتفاق الذي يرد عادة كبند من بنود العقد، يلتزم بمقتضاه أطراف العقد بعرض ما قد ينشأ من منازعات بخصوص هذا العقد، على محكم أو محكمين اختارهم الخصوم، وهذا بدلا من المحكمة المختصة بذلك. وقد نص المشرع الجزائري في قانون الإجراءات المدنية والإدارية على شرط التحكيم في المادة (1007) كما يلي: "شرط التحكيم هو الاتفاق الذي يلتزم بموجبه الأطراف في عقد متصل بحقوق متاحة بمفهوم المادة 1006 أعلاه ،لعرض النزاعات التي قد تثار بشأن هذا العقد على التحكيم".

ثانيا: مشارطة التحكيم

مشارطة التحكيم هي اتفاق بين الخصوم بعد وقوع نزاع معين قائم بينهم فعلا، يلتزمون بمقتضاه بعرض هذا النزاع على محكم أو محكمين للفصل فيه بدلا من المحكمة صاحبة الولاية والاختصاص.

وتنص المادة (1447) من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي على ما يلي: "اتفاق التحكيم هو الاتفاق الذي يلجأ بموجبه الأطراف لفض نزاع نشب بينهما فعلا إلى محكم يختارونه".

أما المشرع الجزائري في المادة (1011) من قانون الإجراءات المدنية والإدارية والتــي تنص: "اتفاق التحكيم هو الاتفاق الذي يقبل الأطراف بموجبه بعرض نزاع سبق نشوؤه على التحكيم." الملاحظ عمليا أن شرط التحكيم هو الأكثر شيوعا واستعمالا في مجال التجارة الدولية وبصفة خاصة العقود الدولية ذات الشكل النموذجي.

الفرع الثالث: شروط صحة اتفاق التحكيم

لكي تكون اتفاقية التحكيم صحيحة ترتب كل اثارها القانونية ويعترق بها محليا ودوليا ،يجب أن تتوفر فيها شروط شكلية (أولا) وشروط موضوعية (ثانيا).

أولا: الشروط الشكلية

اشترط المشرع المصري أن يكون اتفاق التحكيم مكتوبا، فيكون بذلك قد حذا حذو أحكام القانون النموذجي للاونسترال سنة 1985 والمعدل سنة 2006 الذي أدخل المفهوم الحديث للكتابة، وهي الكتابة الإلكترونية. فيجوز الإثبات بأي وسيلة كانت، واوصت التشريعات الأخرى بالأخذ بهذا المفهوم الحديث، وهذا ما أخذ به المشرع الجزائري في المادة (1040) من قانون الإجراءات المدنية والإدارية والتي جاء في نصها: "تسري اتفاقية التحكيم على النزاعات القائمة والمستقبلية .يجب من حيث الشكل، وتحت طائلة البطلان أن تبرم اتفاقية التحكيم كتابة أو بأية وسيلة أخري تجيز الإثبات بالكتابة.." ويقصد بعبارة "بأية وسيلة اتصال تجيز الإثبات بالكتابة" كل ما من شأنه أن يكشف عن إرادة الطرفين المتجهة للتحكيم، سواء كانت في مراسلات، برقيات، خطابات وسواء بالبريد العادي أو بأي وسيلة من وسائل الاتصال الحديثة: كالانترنت أو الفاكس أو غيرها. ونصت المادة 1012 ف 01 ق.إ.م.إ على: "يحصل الاتفاق على التحكيم كتابيا". 

لذا أوجب المشرع الجزائري أن يكون اتفاق التحكيم مكتوبا فيكون بذلك قد استنبط حكمه من أحكام القانون النموذجي، ورتب جزاء البطلان على تخلف الكتابة، ويستوي أن تكون الكتابة رسمية أو عرفية. والكتابة في هذه الحالة شرط للانعقاد والإثبات.

ثانيا: الشروط الموضوعية 

تنقسم هذه الشروط إلى شروط موضوعية عامة وشروط موضوعية خاصة:

أ- الشروط الموضوعية العامة

تتمثل هذه الشروط في أهلية الشخص للتحكيم سواء كان شخصا طبيعيا أو معنويا وقابلية المنازعة للتحكيم، وتحديد موضوع النزاع المعروض على التحكيم.

I – الأهلية: هي صلاحية الشخص لاكتساب الحقوق وتحمل الالتزامات ولا يمكن له مباشرة أي تصرف قانوني إلا بتوافر الأهلية اللازمة والتي تجيز له استعمال حقه أو منعه من استعماله والأهلية المعتد بها في إبرام التصرفات هي أهلية الأداء.  

فاتفاق التحكيم مثلا بالنسبة للأجانب يخضع لقانون الجنسية سواء كان للأشخاص الطبيعيين أو المعنويين.  لذا سنتعرف على أهلية كل من الشخص الطبيعي والمعنوي.

1- أهلية الشخص الطبيعي للتحكيم

إن أهلية الأشخاص الطبيعية للتحكيم يستوجب أن يكون لدى أطراف التحكيم أهلية التصرف، ويرجع في ذلك إلى قانون الدولة التي ينتمي إليها الأطراف وأهلية التصرف، لا تثبت إلا لمن يبلغ سن الرشد، ولم يكن محجورا عليه لجنون أو سفه أو غفلة، ومن ثم فإن أهلية التحكيم ترتبط بأهلية التقاضي، أما في ظل ق إ م إ فليس هناك نص وارد في هذا الشأن، ولكن يمكن أن نستشف هذا الشرط من خلال نص المادة (1006) في عبارة "يجوز لكل شخص...له مطلق التصرف". والشخص الطبيعي ليس له حق التصرف إلا إذا كان متمتعا بأهلية الأداء. 

2- أهلية الشخص المعنوي للتحكيم

ما يسري على الشخص الطبيعي، يسري على الشخص المعنوي بأن تكون له أهلية التصرف في الحقوق التي يكتسبها، ويجب على الشخص المعنوي أن يستوفى الشروط التي يتطلبها القانون لاكتساب الشخصية المعنوية، كإجراءات النشر في السجل التجاري للشركات التجارية كالتضامن والتوصية البسيطة التي نصت عليها المادة 561 القانون التجاري ، أما شركات المساهمة والتوصية بالأسهم وذات المسؤولية المحدودة فيلزم قيدها في السجل التجاري طبقا لنص المادة 549 من نفس القانون.

يتمتع الشخص المعنوي بالأهلية في الحدود التي يضعها عقد إنشائه أو التي يقررها القانون بموجب نص المادة 50 من القانون المدني، والشخص المعنوي يمكن أن يكون خاصا أو عاما. 

أما الأشخاص المعنوية الخاصة تخضع للقانون الخاص، كالشركات الوطنية والمؤسسات العمومية ذات الطابع الاقتصادي والتجاري. أما بالنسبة للشركات الأجنبية فإنها تخضع لقانون البلد الذي يوجد به مركزها الرئيسي والفعلي أو لقانون مقر فرع الشركة التي تمارس نشاطها في إقليم هذه الدولة، فإذا مارست نشاطها في الجزائر فهي تخضع للقانون الجزائري بما قضت به نص المادة 10 ف 3 و4 من القانون المدني. فالأشخاص المعنوية العامة الخاضعة لقانون العام اعتبرها قانون الاجراءات المدنية والادارية غير متمتعة بأهلية إبرام عقود التحكيـم بموجب نص المادة 442 ف1 على منع التحكيـم بالنسبة للدولة والجماعات المحلية والمؤسسات والدواوين العامة، أما بمقتضى قانون الاجراءات المدنية والادارية   الذي أبقت المادة 975 منه على هذا المنع كأصل عام بالنسبة لقضايا التي تكون فيها الدولة أو الولاية أو البلدية أو المؤسسات العامة ذات الطابع الإداري طرفا فيها، مما يعني أن اختصاص المحاكـم الإدارية هنا من النظام العام، حيث يمنع أشخاص القانون العام من إبرام عقود التحكيـم إلا في مادة الصفقات العمومية سواء كانت وطنية أو مبرمة مع متعاملين أجانب فيما يخص التحكيـم الداخلي.

أما خارج الصفقات العمومية فلا يجوز لهؤلاء الأشخاص طلب التحكيـم في غير علاقاتها الاقتصادية الدولية وذلك في الحالات الواردة في الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الجزائر. ويوقع عقود التحكيـم التي تبرمها الأشخاص المعنوية العامة الممثل القانوني لهؤلاء الأشخاص وهم حسب المادة 976 من قانون الاجراءات المدنية والادارية كما يلي:

1- الوزير أو الوزراء المعنيين بالقطاع إن كان التحكيـم متعلقا بالدولة.

2- الوالي إن تعلق التحكيـم بالولاية، أو رئيس المجلس الشعبي البلدي إن تعلق بالبلدية.

3- الممثل القانوني لمؤسسة أو ممثل السلطة الوصية التي تتبعها المؤسسة، إن كان التحكيـم متعلقا بمؤسسة عمومية ذات طابع إداري. 

وفي إطار الاتفاقيات الدولية لم يتضمن بروتوكول جنيف لسنة 1923 واتفاقية جنيف لسنة 1927 واتفاقية نيويورك لسنة 1958 أي نص يتعلق بأهلية الدول والأشخاص المعنوية العامة في اتفاق على التحكيم. ومع ذلك ذهب جانب من الفقه إلى أن نطاق تطبيق اتفاقية نيويورك يتسع ليشمل اتفاقات التحكيم التي تكون الأشخاص العامة طرفا فيها مستندين في ذلك إلى الفقرة الأولى من المادة الخامسة والتي حددت مجال تطبيق الاتفاقية "بالأحكام الصادرة في منازعات ناشئة عن علاقات بين أشخاص طبيعية أو أشخاص معنوية..."  وقد جاء اصطلاح الأشخاص المعنوية مطلقا من كل قيد. 

كما أكدت الاتفاقية الأوروبية لسنة 1961 بشأن التحكيم التجاري الدولي صراحة على أهلية الأشخاص المعنوية العامة للاتفاق على اللجوء إلى التحكيم حسب نص المادة الثانية، كما أنها نصت كذلك في الفقرة الثانية من نفس المادة: "يجوز لكل دولة عند التوقيع أو التصديق على الاتفاقية أو الانضمام إليها أن تقيد من هذه القدرة وفق الشروط المبينة في إعلانها".

II- قابلية النزاع للتحكيم: ترتبط أغلب التشريعات في جواز التحكيم أو عدم جوازه بالنسبة للمنازعات، بين قابلية هذه المنازعات للصلح أو عدم قابليتها له وإذا كان الأمر كذلك فجميع المنازعات التي يجوز فيها الصلح يجوز فيها التحكيم والعكس صحيح. 

1- بالنسبة لشخص الطبيعي

تنص المادة 1006 – ف- 1 من ق.إ.م.إ "يمكن لكل شخص اللجوء إلي التحكيم في الحقوق التي له مطلق التصرف فيها ولا يجوز التحكيم في المسائل المتعلقة بالنظام العام أو حالة الأشخاص وأهليتهم"... من خلال هذه المادة فيمكن لأي شخص اللجوء إلي التحكيم في كل الحقوق التي له مطلق التصرف فيها، ما عادا ما يتعلق بالمسائل الماسة بالنظام أو حالة الأشخاص وأهليتهم، تعتبر الحالة الشخصية للإنسان من النظام العام وكذا الأهلية فلا تخضع هذه المسائل للتعامل، وتنص م 45 من ق م ج على انه "ليس لأحد التنازل عن أهليته ولا لتغيير أحكامها". ومن خلال هذه المادة فيمكن لأي شخص اللجوء إلي التحكيم في كل الحقوق التي له مطلق التصرف فيها، ما عادا ما يتعلق بالمسائل الماسة بالنظام العام أو حالة الأشخاص وأهليتهم.

لكن السؤال المطروح هنا هل يجوز التحكيم في قانون المنافسة؟

القاعدة العامة: رغم أن قانون المنافسة من النظام العام إلى انه يجوز التحكيم فيه الاجتهادات الفقهية أجازت في حدود معينة

الاستثناء: هناك بعض الحالات لا يمكن إخضاعها للتحكيم منها:

- حالة التجميعات الاقتصادية

- إذا كانت اتفاقية التحكيم الصادرة عن اتفاق محظور في إطار تجمع احتكاري أو ضمن الممارسات المقيدة للمنافسة.

- التراخيص التي يمنحها مجلس المنافسة حسب المادة 9 والمادة 19 من الامر رقم 03-03 المتعلق بالمنافسة، لا يمكن أن تكون موضوعا لاتفاقية التحكيم.

- قمع الممارسات المنافية للمنافسة خاصة العقوبات المالية التي يصدرها مجلس المنافسة لا يمكن أن تدخل ضمن اختصاص الهيئة التحكيمية. هل يجوز التحكيم في حقوق الملكية الفكرية؟

رغم أن الملكية الفكرية من النظام العام إلا أنه يجوز التحكيم في جانبها المادي لها "أي في النزاعات المالية "، اما الجانب المعنوي مثل النزاع حول براءة الاختراع، حقوق المؤلف ففي هذه الجوانب لا يجوز فيها التحكيم.

2 - بالنسبة للشخص المعنوي

إن إقرار مبدأ جواز التحكيم في العلاقات الدولية بين أشخاص القانون العام وأشخاص القانون الخاص التي تدخل في اختصاصه والتي تنشأ عن عقود لا تتوفر لها الصفة الإدارية.  

لذا يكون شرط التحكيم الذي تبرمه الدولة صحيحا إذا ما كان مرتبط بعقد دولي واقتصر بطلان اتفاق الدولة والأشخاص المعنوية العامة على التحكيم على العلاقات الداخلية وحدها، فلا يجوز لها طلب التحكيم إلا في علاقاتها الاقتصادية الدولية أو في إطار الصفقات العمومية، وهذا ما قضت به نص المادة 1006 في فقرتها الأخيرة والتي تنص على أن: "ولا يجوز للأشخاص المعنوية العامة أن تطلب التحكيم ما عادا في علاقاتها الاقتصادية الدولية أو في إطار الصفقات العمومية".

ب- الشروط الموضوعية الخاصة 

تنص المادة 1039/3 من ق.إ.م.إ بأنه "...تكون اتفاقية التحكيم صحيحة من حيث الموضوع ،إذا استجابت للشروط التي يضعها إما القانون الذي اتفق الأطراف على اختياره أو القانون المنظم لموضوع النزاع او القانون الذي يراه المحكم ملائما...".

يتبين من النص أن اتفاق التحكيم يمكن أن يستمد من خلال ثلاث مصادر:

- القانون الذي اتفق الأطراف على اختياره.

- القانون المنظم لموضوع النزاع.

- القانون الذي يراه المحكم ملائما مثل أعراف التجارة الدولية " lex mercatoria ".

ج- تحديد مضمون اتفاقية التحكيم يتعين على الأطراف لتفادي أية إشكالات قانونية مستقبلية الحرص على تحرير اتفاقية التحكيم وتوضيح مجالها، لأن تفسيرها يكون تفسيرا ضيقا وذكر أهم البيانات التي وجب الحرص على تحديدها كشرط التحكيم، تعيين المحكمين وأسمائهم مع تحد كيفية تعيينهم موضوع نزاع التحكيم و أجاله، مكان التحكيم، لغة التحكيم والقانون الواجب التطبيق، وهو ما أكده مشرعنا الوطني بموجب نصي المادتين 1008 و1012 من ق إ م إ.

إذا تخلف شرط من هذه الشروط يترتب عليه البطلان وجاز الطعن عليه بدعوى البطلان المنصوص عليه في المواد 1008، 1012، 1040 من ق إ م إ ، وأجاز الطعن بالبطلان طبقا للمادة 1058 من ق إ م إ  التي تحيلنا إلى المادة 1056 منه المحددة لحالات الطعن بالبطلان ومن بين هذه الحالات نجد حالة فصل محكمة التحكيم بدون اتفاقية تحكيم أو بناء على اتفاقية باطلة أو انقضاء مدة الاتفاقية. 

المطلب الثاني: مبدأ استقلالية اتفاقية التحكيم والأثار المترتبة عن الاتفاقية

إن شرط التحكيم هو بند يرد ضمن بنود العقد الأصلي، يتم بمقتضاه حل النزاع الذي قد ينشأ مستقبلا من تنفيذ العقد الأصلي. والتساؤل الذي يثار ما مدى تأثر شرط التحكيم بالعقد الأصلي المبرم بين الطرفين في حالة بطلان أو فسخ هذا الأخير؟ (الفرع الأول).

يخضع اتفاق التحكيم للقانون الوطني إذا كان التحكيم وطنيا، ويخضع له إذا كان التحكيم دوليا يجري في الخارج إذا اتفق أطرافه على إخضاع هذا التحكيم لأحكامه. ولكن الإشكال يثور في حالة غياب الاتفاق. ما هو القانون الواجب التطبيق لمعرفة صحة اتفاق التحكيم؟ (الفرع الثاني).

الفرع الأول: مبدأ استقلالية اتفاقية التحكيم

لقد شغل هذا الموضوع الفكر القانوني في العالم لأنه إذا كان الطعن موجها ضد العقد الذي يتضمن شرطا تحكيميا بداخله فإن السؤال الذي شغل الفكر هو كيف تستطيع محكمة تحكيمية تستمد وجودها من شرط في عقد مطعون بصحته أن تنظر بصحة هذا العقد.

توصل الفكر القانوني إلى ابتكار نظرية استقلالية الشرط التحكيمي، التي تعتبر هذا الشرط مستقلا عن العقد المطعون فيه، وتجيز للمحكمة التحكيمية النظر بالنزاعات التي تدور حول صحة العقد الذي يتضمن الشرط التحكيمي.

رغم الجدل الذي كان قائما بين مؤيدي ومعارضي مبدأ الاستقلالية عن العقد الأصلي، إلا أن معظم القوانين التشريعية سواء الداخلية أو الدولية أو لوائح التحكيم أو قرارات التحكيم، عرفت تكريسا لهذا المبدأ، سواء بطريقة مباشرة وصريحة أو بطريقة ضمنية. ويرجع هذا إلى الرغبة في توحيد القواعد القانونية من أجل خدمة التحكيم التجاري والذي بدوره يخدم مصالح التجارة الدولية التي أصبح لها دور كبير في اقتصاد معظم الدول.  

كانت الأحكام القضائية الأساس الذي اعتمدت عليه أغلب هذه القوانين والأحكام ،نظرا لما رأت فيه من خدمة لاتفاق التحكيم ذاته واختصاص المحكمين، وبالتالي بلوغ الهدف المتوخى من نظام التحكيم ذاته واختصاص المحكمين بصفة عامة. وهذا بعد ما كان التطرق إلى هذه المسألة ضمنيا أو غير واضح، وإنما استخلص البعض من النصوص كما هو الحال في اتفاقية نيويورك لسنة 1958 بشأن الاعتراف وتنفيذ الأحكام التحكيمية الدولية فوق إقليم كل دولة متعاقدة في الاتفاقية.

إلا أن القوانين الوطنية والاتفاقية كرست مبدأ استقلال اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي:

أولا: تكريس مبدأ استقلالية اتفاقية التحكيم

كرست مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم محكمة النقض الفرنسية في ماي 1963، في القضية المعروفة ''GOSSET''، ورغم أن هذا المبدأ كرس في النصوص القانونية كما سنرى لاحقا. إلا أننا لا نجد تعريفا له من خلالها وهي مسألة تركت للفقه.

لقد أصبح مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم مقبولا في معظم التشريعات الداخلية ومنها التشريع الجزائري، وتضمنته معظم النظم التحكيمية للمؤسسات الدولية والتي كثيرا ما تحيل إليها اتفاقيات الاستثمار الثنائية، الجهوية والدولية.

أ/ الأساس القانوني لمبدأ استقلالية اتفاق التحكيم هناك من يرى أن أساس استقلالية اتفاق التحكيم بالنسبة للعقد الأصلي مبني على نظرية البطلان الجزئي للتصرفات القانونية المعروفة في فقه القانون المدني. ومفاد هذه الأخيرة أن التصرف القانوني يمكن أن يكون صحيحا رغم بطلان أحد شروطه أو أجزائه، فحسب أصحاب هذا الرأي، فإن العقد الواحد يمكن أن يكون باطلا في جزء منه وصحيحا في جزء آخر.

يمكن أن نجد أساسه في القواعد العامة في القانون المدني وبما يطلق عليها نظرية انقاص العقد ،إذ أخذ بها القانون المدني الجزائري في نص المادة 104 والتي جاء فيها: "إذا كان العقد في شق منه باطلا أو قابلا للإبطال، فهذا الشق وحده هو الذي يبطل، إلا إذا تبين أن العقد ما كان ليتم بغير الشق الذي وقع باطلا أو قابلا للإبطال فيبطل العقد كله''.

وقياسا على اتفاق التحكيم فإنه في حالة بطلان العقد الأصلي الذي يحوي شرط التحكيم ضمنه فإن العقد يبطل لوحده ويبقى شرط التحكيم صحيحا في حالة توفر شروطه كاتفاق مستقل والعكس صحيح. في حين أنه لا يمكننا تطبيق نظرية تحول العقد لأن هذه النظرية تفترض أن يكون العقد باطلا برمته لكي يتحول إلى عقد آخر، أما إذا كان في جزء منه باطلا وفي الجزء الآخر صحيح وكان هذا التصرف قابلا للانقسام فإنه ينتقص العقد ولا يتحول.

ب/ مدى تكريس مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم

رغم الجدل الذي كان قائما بين مؤيدي ومعارضي مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي، إلا أن معظم القوانين سواء الداخلية أو الدولية أو لوائح التحكيم وقرارات التحكيم، عرفت تكريسا لهذا المبدأ سواء بطريقة مباشرة وصريحة أو بطريقة ضمنية لا سيما في القوانين المقارنة مثل القانون الجزائري والاتفاقيات الدولية الثنائية أو متعددة الأطراف ذات الصلة بالتحكيم التجاري الدولي.

I/ في القانون المقارن

أشار المشرع الجزائري صراحة إلى هذا المبدأ لأول مرة ضمن المرسوم التشريعي رقم 93/09 المتضمن تعديل قانون الإجراءات المدنية، الذي يعتبر أول قانون تحكيم جزائري، حيث جاء في المادة 458 مكرر 1 في فقرتها الأخيرة: "لا يمكن الاحتجاج بعدم صحة اتفاقية التحكيم ،بسبب أن العقد الأساسي قد يكون غير صحيح".

نفس التعبير تقريبا رسخه المشرع الجزائري في المادة 1040 من القانون رقم 08-09، يمكن اعتبار مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم مكرسا في قانون التحكيم الجزائري، لكن قد يطرح التساؤل حول مدى أو بعد هذا التكريس؟ 

نرى بأن المسألة غير مطروحة في هذه الحالة، لأن اتفاق التحكيم جزء من العقد الأصلي (حالة شرط التحكيم) وزوال الجزء، حسب القواعد العامة، لا يؤدي بالضرورة إلى زوال الكل.

أما في مشارطة التحكيم ،وهي حالة العقد المنفصل المتعلق بحل المنازعات بواسطة التحكيم، فإن عدم تأثير العقد الأول على الثاني يؤدي حتما إلى عدم تأثير الثاني على الأول. المسألة الثانية المطروحة في هذا النص هي مسألة الأسباب الأخرى (غير البطلان) التي تؤثر في صحة العقد الأصلي، حيث ينتقد المشرع الجزائري على عدم تفصيل النص وإعطاء الحالات المختلفة مثلما ورد في بعض القوانين، وهو نقد مؤسس في رأينا يؤدي إلى قصور في التشريع الجزائري المتعلق بالتحكيم التجاري الدولي.

نشير هنا إلى أن إقرار مبدأ الاستقلالية جاء في الفصل الخاص بالتحكيم الدولي ولم يذكر في التحكيم الداخلي.

وضع القضاء الفرنسي حدا للجدل الذي كان قائما بشأن استقلالية اتفاق التحكيم سنة 1963 في قضية Gausset الشهيرة التي سبق ذكرها، فيمكن القول أن القضاء الفرنسي أخذ بمبدأ استقلالية اتفاق التحكيم بكل أبعاده. بحيث فصل فصلا تاما بين مصير العقد الأصلي واتفاق التحكيم، بغض النظر عن أية مستجدات يمكن أن تلحق بالعقد الأصلي تؤثر على وجوده أو صحته.

وأصبح المبدأ المذكور من الأمور المسلم بها في التحكيم الدولي فقد جاء في حكم آخر لمحكمة النقض الفرنسية: "أن اتفاق التحكيم في موضوع التحكيم الدولي يمثل استقلال تاما". وتواترت القرارات في هذا الاتجاه.

ويضيف أن المادة 1476 من قانون الإجراءات المدنية الفرنسي الجديد تنص على: "إذا إدعى أحد الأطراف عدم اختصاص المحكم في الفصل في النزاع، كان لهذا الأخير أن يفصل في صحة أو حدود اختصاصه". يبين هذا النص بصراحة أن المشرع الفرنسي أقر مبدأ الاختصاص بالاختصاص، وعليه فالمحكم غير ملزم بأن يعلق الفصل في موضوع النزاع، حيث يمكن له أن يقرر بنفسه إذا كان اتفاق شرط التحكيم مستقل أم لا عن العقد الأصلي، كذلك يذهب الفقيه DAVID .R إلى أن استقلالية اتفاق التحكيم عن العقد الأصلي الذي يتضمنه من الناحية العملية ،إذ طالما أن لهيئة التحكيم المكلفة بالفصل في النزاع موضوع الاتفاق التحكيمي سلطة الفصل في بطلان أو صحة العقد الأصلي المبرم بين الطرفين، غير أنه وحسب رأي الفقيه إن هذه المادة لا تبين صراحة قاعدة موضوعية ولا تكرس مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم.

II/ في الاتفاقيات الدولية

اختلفت الآراء ما إذا نصت اتفاقية واشنطن لسنة 1965 على مبدأ استقلالية شرط التحكيم عن العقد الأصلي أو لم تشر إليه أصلا، فيذهب أصحاب الرأي الأول إلى أن اتفاقية واشنطن أكدت على مبدأ استقلالية شرط التحكيم ولكن بصورة ضمنية. إذ اكتفت بالإشارة من خلال نص الفقرة الأولى من المادة 41 منها إلى أن هيئة التحكيم هي التي تحدد اختصاصها وهو ما يمكن إلحاقه بما جاء في اتفاقية جنيف لسنة 1961. إن هذا الاستنتاج مبالغ فيه لأن مبدأ "الاختصاص بالاختصاص" لا يلتقي مع مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم بالنسبة للعقد الأصلي إلا بشكل جزئي، لذا لا يمكن استنتاج تكريس الاتفاقية لهذا المبدأ رغم أنها لم تنص على ما يحول دون إعماله.

في حين يذهب أصحاب الرأي الثاني إلى إنكار ما جاء على لسان أصحاب الرأي الأول. حيث نصت الفقرة الأولى من المادة (41) من اتفاقية واشنطن على أنه: "هيئة التحكيم هي التي تحدد اختصاصها".  واستند بعض الفقهاء إلى نص هذه المادة لتبرير استقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلي، فهيئة التحكيم هي من تقرر ما إذا كان هناك اتفاق تحكيم أم لا، فهو لن يختص إلا بناء على وجود اتفاق صحيح.

ويرى الباحث أنه لا يمكن الاستناد إلى نص المادة السابقة للوصول إلى مبدأ استقلالية شرط التحكيم عن العقد الأصلي، لأن النص المذكور لم يأت بما يفيد باستقلالية شرط التحكيم، حيث أن النص تحدث فقط عن مبدأ اختصاص هيئة التحكيم، وهذا المبدأ يعتبر من المبادئ التي أصبحت مستقرة في التحكيم التجاري الدولي، وأن الأساس القانوني لمبدأ اختصاص المحكم لا يقوم على مبدأ استقلالية شرط التحكيم عن العقد الأصلي.

فالأساس القانوني لهذا المبدأ يقوم على أساس قانوني وهو اعتراف للمحكم بالنظر في اختصاصه. 

لم تشر اتفاقية نيويورك مباشرة لمبدأ استقلالية شرط التحكيم، واكتفت بالتأكيد على جواز رفض الاعتراف وتنفيذ الحكم بناء على طلب الخصم الذي يحتج عليه بالحكم إذا قدم هذا الخصم للسلطة المختصة في الدولة المطلوب منها الاعتراف والتنفيذ، الدليل على أن الاتفاق غير صحيح وفقا للقانون الذي أخضه له الأطراف، أو طبقا لقانون الدولة التي صدر فيه الحكم وفقا لما جاء في نص المادة الخامسة منها.

وذهب رأي آخر إلى القول بأن النص المذكور يستفاد منه إمكانية خضوع اتفاق التحكيم لقانون آخر غير ذلك الذي يخضع له العقد الأصلي، وبالتالي فتكون اتفاقية نيويورك قبلت ضمنا أن يكون لاتفاق التحكيم نظام قانوني مستقل عن العقد الأصلي، أي يمكن إدراجها في إطار الاتجاهات المؤيدة لفكرة استقلالية اتفاق التحكيم.

نحن نرى بأن اتفاقية نيويورك تركت للقوانين الوطنية أمر معالجة هذا الأمر ،ذلك أن اتفاقية نيويورك وغيرها من الاتفاقيات الخاصة بالتحكيم قللت اهتمامها باتفاق التحكيم كعقد يستلزم لانعقاده توافر شروط معينة، والسبب في ذلك أن هذه الشروط تستند في كل تشريع وطني إلى النظرية العامة في الالتزامات، و إلى نصوص خاصة ترتبك بالإجراءات أحيانا و بالنظام العام أحيانا أخرى، مما يتصور معه بلوغ التوحيد التشريعي في شأنها ولهذا تفضل الاتفاقيات ترك هذه المسائل للتشريعات الوطنية، ولقواعد القانون الدولي الخاص عندما يقع التنازع بينهما. 

لكن هذا لم يمنع بعض الفقهاء من الذهاب إلى القول بأن المادة الثانية من الاتفاقية المذكورة، و إن لم تكن صراحة قد تعرضت لمبدأ استقلالية اتفاق التحكيم ومختلف نتائجه القانونية، إلا أنها قد أعطته قوة لم تكن له من قبل، ذلك أن الاعتراف الوجوبي به دوليا على هدى تنظيم موحد عالميا يجعل من الممكن اعتبار القواعد التي استقرت أصلا في القضاء الفرنسي قاعدة دولية بالمعنى الصحيح. 

بمعنى أنها تعكس مبدأ مقبولا في الروابط بين مختلف الدول ،و ليس مجرد اجتهاد من قضاء وطني، وكذلك الحال بالنسبة للقواعد التي تؤكد مبدأ الإستقلالية والواردة في نظم هيئات التحكيم الدولية، إذ يمكن هذه أن تصير بدورها تطبيقات لقاعدة دولية توجب الإعتراف باتفاق التحكيم وليست فقط تنظيمات صادرة عن مؤسسات مهنية لا تملك قوة الإلتزام تجاه غير المتعاملين معها الذين يرتضون طواعية الخضوع لقواعدها.  

III/ مدى تكريس مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم على مستوى القضاء

 لعب القضاء دورا لا يستهان به من أجل تبني بعض الأنظمة القانونية لمبدأ استقلالية شرط التحكيم عن العقد الأصلي، وقد كان أول ظهور لمبدأ استقلالية شرط التحكيم في العقود التجارية الدولية من القضاء الهولندي، في الحكم الصادر بتاريخ 27 ديسمبر 1935، حيث تقرر "أنه في حالة تنازع الأطراف حول صحة أو بطلان العقد، فإن ذلك لا يمنع المحكم من الفصل في النزاع رغم احتمال عدم صحة العقد الوارد فيه شرط التحكيم".

كما أكدت محكمة النقض الفرنسية دعمها لاستقلال شرط التحكيم على صعيد التحكيم الدولي في قضية HECHT سنة 1972 مقررة أن "لاتفاق التحكيم استقلال قانوني كامل في مسائل التحكيم الدولي" ثم ردت محكمة النقض الفرنسية هذا المبدأ لقانون التحكيم الدولي، باعتباره من القواعد الموضوعية لهذا القانون ،وذلك في الحكم الذي أصدرته عام 1993 في قضية Dalico ومعنى هذا اتجاه القضاء الفرنسي إلى اعتبار مبدأ استقلال شرط التحكيم عن العقد الأصلي يطبق في مسائل التحكيم الدولي الخاص بغض النظر عن القانون واجب التطبيق على اتفاق التحكيم ، باعتباره من المبادئ العامة للتحكيم الدولي الخاص في رأي المحكمة، و قد أكدت محكمة النقض الفرنسية مبدأ استقلال شرط التحكيم في عدة أحكام تالية عام 2002.

أما القضاء المصري فقد انقسم إلى اتجاه مانع وآخر مجيز، فبالنسبة للإتجاه المانع فقد، استجاب له قضاء استئناف القاهرة بتاريخ 18/05/1983، حيث قضى باختصاص القضاء المصري في دعوى الحكومة المصرية ضد شركة وستلاند وضد غرفة التجارة الدولية في باريس على أساس انعدام شرط التحكيم، وتكرر ذلك في الأمر الصادر من رئيس محكمة جنوب القاهرة في 31/12/1983 بوقف إجراءات التحكيم إعمالا لنص المادة (506) من قانون المرافعات المدنية والتجارية التي تقضي بوقف التحكيم إذا عرضت أمام المحكمين مسائل أولية تخرج عن ولاية المحكمين. 

أما الإتجاه المجيز فكانت العبرة بالقانون الأجنبي الواجب التطبيق، وهذا ما أرساه قضاء النقض المصري في قضائه بتاريخ 26/04/1982، في قضية مبروك للتصدير والإستيراد ضد شركة كونتيننتال العربية للملاحة، وكان النزاع يتعلق بمشارطة إيجار لنقل حمولة، مع شرط تحكيم في لندن، رفضت محكمة الدرجة الأولى إعمال شرط التحكيم، ونقضت المحكمة هذا الحكم على أساس صحة شرط التحكيم رغم عدم تسمية المحكمين، وذلك على أساس أن الإتفاق يخضع للقانون الإنجليزي.

ثانيا: نطاق تطبيق مبدأ استقلالية اتفاق التحكيم

رغم وجود اعتراف شبه كامل، على الصعيدين الدولي والداخلي، بمبدأ استقلالية اتفاق التحكيم بالنسبة للعقد الأصلي، إلا أن ذلك لم يقضي على اختلاف كل من النظم  القانونية الداخلية والفقه في تحديد نطاق تطبيقه فهناك من يرى بأن هذا المبدأ مطلق ويطبق في كل الحالات دون استثناء، وهناك من يرى بأنه وإن كان يطبق في الكثير من الحالات، إلا ذلك لا يعني أنه لا يستبعد في حالات معينة.

1- حالة بطلان العقد 

قد يختلف الحكم  باختلاف نوع البطلان ، سواء كان بطلان نسبي أو بطلان مطلق.

أ- حالة البطلان المطلق 

إذا كان العقد الأصلي باطل لانعدام الرضا مثلا، فكيف يمكن أن نتصور أن هذا الإنعدام لا يمس شرط التحكيم باعتباره وارد في نفس العقد، أي وقت إبرام العقد الأصلي كان أحد الأطراف عديم الأهلية، وإذا قلنا بصحة اتفاق التحكيم أي خضوع النزاع إلى التحكيم فهل هذا يعني أن انعدام الأهلية لا يمس اتفاق التحكيم.

إذا تبين أن عدم الأهلية يمس العقد الأصلي واتفاق التحكيم على حد سواء فإنه من المفروض أن يلحق البطلان بالعقدين، ولكن باعتبار أن العقدين دوليين، فيجب أولا معرقة القانون الواجب التطبيق على أهلية الأطراف للحكم بانعدامها.

نعلم أنه في حالة البطلان المطلق فإن القضاء دوره ليس منشئ وإنما كاشف لحالة البطلان، وبالتالي فعليه إعادة الأطراف إلى الحالة التي كانا عليها قبل إبرام العقد، فماذا يمنع أن يطبق هذا في التحكيم، 

أي إعتبار المحكم مختصا بالفصل في موضوع بطلان العقد الأصلي، فلو تأكدت صحة الإدعاء ببطلان العقد الأصلي لإنعدام الأهلية، فدور المحكم في هذه الحالة لن يختلف كثيرا عن دور القاضي الوطني. أما محل اتفاق التحكيم فيجب أن ننظر إليه من جهتين، الجهة الأولى هي محل العقد الأصلي إن كان مشروعا كما سبق ذكره، لأنه مرتبط أساسا ب، ومن جهة ثانية محل اتفاق التحكيم في حد ذاته و هو موضوع النزاع، أو بصيغة أخرى مدى قابلية النزاع للتحكيم.

ب- حالة البطلان النسبي 

يتحقق البطلان النسبي إذا كان أحد طرفي العقد ناقص الأهلية أو كانت إرادته معيبة بأحد عيوب الإرادة، وهي الغلط، الإكراه، التدليس، الغبن والإستغلال. 

ففيما يتعلق بالغلط الواقع على صفة جوهرية للشيء أو الغلط في قيمة الشيء أو الغلط في الباعث ،فإن هذا النوع من الغلط يتعلق بالعقد الأصلي ولا يمتد لشرط التحكيم، لأن شرط التحكيم يختلف محله عن محل العقد الأصلي، على نحو لا يتصور معه وقوع المتعاقد في مثل أنواع الغلط السابقة، فمحل شرط التحكيم هو إخراج ولاية الفصل في النزاع من القاضي العادي إلى المحكم أو المحكمين، وهذا المحل هو محل إجرائي لا يمتد إليه الغلط في القيمة أو الغلط في الشيء أو الباعث أما الغلط في ذات المتعاقد أو في صفة من صفاته، بحيث أن المتعاقد الواقع في الغلط لم يكن ليقوم على التعاقد لو علم بحقيقة شخصية من تعاقد معه قبل العقد، في هذه الحالة فإن إمكانية إبطال العقد الأصلي تمتد إلى شرط التحكيم، على نحو ينفي مبدأ استقلالية بين اتفاق التحكيم والعقد الأصلي المدرج به. 

أما فيما يتعلق بالإكراه كعيب من عيوب الرضى فهو يقع على شخص المتعاقد، يهدف إلى بعث الرهبة في نفسه والتأثير عليه، ومنه إذا وقع الإكراه على شخص المتعاقد من أجل إبرام عقد معين فإن إبطال هذا العقد للإكراه يؤدي إلى بطلان شرط التحكيم المدرج به على نحو ينفي في هذه الحالة أيضا مبدأ إستقلالية اتفاق التحكيم، إلا إذا كان الإتفاق على شرط التحكيم بعد إبرام العقد الأصلي وزوال حالة الإكراه. أما فيما يتعلق بالتدليس المعيب للرضى، فهو استعمال طرق احتيالية لخديعة أحد المتعاقدين خديعة تدفعه إلى التعاقد، وعلى هذا النحو فإن بطلان العقد الأصلي للتدليس يؤدي إلى بطلان شرط اتفاق التحكيم المدرج به، مالم يكن هذا الأخير قد أبرم بعد إكتشاف حالة التدليس.

أما عيب الإستغلال والغبن فلا يمكن تصورها في اتفاق التحكيم لأن هذا الأخير ينشأ إلتزامات متعادلة بين الطرفين، فكل منهما يلتزم بعدم اللجوء إلى القضاء واللجوء إلى المحكم أو المحكمين على نحو لا يتصور معه وجود إختلال في الأداءات بين إلتزامات الطرفين. 

بينما يمكن تصور وجود هذه العيوب في العقد الأصلي، ومنه فإن بطلان العقد الأصلي لا يؤدي إلى بطلان اتفاق التحكيم وعليه فمبدأ إستقلال اتفاق التحكيم يظل قائما وصحيحا رغم إبطال العقد الأصلي.

2- حالة انعدام العقد الأصلي 

لم تفرق الفقرة الأولى من المادة 05 من اتفاقية جنيف، بين انعدام العقد الأصلي و إبطاله، وكذلك الفقرة الثانية من المادة 21 من نظام التحكيم CNUDCI، وكذلك الفقرة الرابعة من المادة 08 من نظام التحكيم لغرفة التجارة الدولية، وقد أقرت هذه النصوص أن اختصاص المحكم في أن يفصل في النزاع حتى في حالة انعدام العقد الأصلي. 

وقد ذهب بعض الفقه في تبرير هذا الموقف بالقول أنه إذا أغلق الباب أمام الأطراف في التراجع عن اللجوء إلى التحكيم بشأن بطلان العقد الأصلي، فإن عدم تطبيق مبدأ الإستقلالية عن العقد الأصلي في حالة إنعدام هذا الأخير يفتح المجال أمام الأطراف في التذرع بإنعدام العقد الأصلي بدلا من بطلانه، وبالتالي يجب صد هذا الباب كما هو الحال بالنسبة لحالة البطلان. 

3- حالة اتفاق الأطراف على عدم إعمال المبدأ طرحت مثلا حالة الفسخ الإتفاقي للعقد الأساسي بما فيه شرط التحكيم الذي ورد فيه وهي حالة لا علاقة لها بصحة أو بطلان العق، وذلك في القضية التي كان أحد أطرافها الشركة الوطنية "سوناطراك" ، وطرحت أمام هيئة تحكيم تحت مظلة غرفة التجارة الدولية بزيورخ ومسجلة تحت رقم 5651.

بعد تعديل العقد عدة مرات، وبتاريخ 25 جوان 1978، وقعّ الطرفان (سوناطراك والشركة الأجنبية) اتفاقا وديا على إنهاء العقد المؤرخ في 12/04/74، وكذا الملاحق : رقم 1 المؤرخ في 16/07/74 . ورقم 2 المؤرخ في 06/01/75  و رقم 3 المؤرخ في 30/09/75 و رقم 4 المؤرخ 76/10/13.

بعد ثمان سنوات من التوقيع على الملحق رقم 05 ورغم البنود التي تضمنها حسب ما تمت الإشارة إليه أعلاه قامت الشركة الأجنبية بتاريخ 02 جوان 1986، بتحريك إجراءات التحكيم ضد شركة سوناطراك. 

توصل المحكمون إلى القول بأن المادة الأولى من الملحق الخامس لم تكن واضحة ، لذا يجب تفسيرها بحثا عن إرادة الأطراف، وتستنتج بعد ذلك أن أحكام هذا النص تقتصر فقط على الفسخ الإتفاقي لبنود العقد الموضوعية. 

تجدر الإشارة أن المشرع الجزائري نص في المادة 1045 من ق.إ.م.إ ، على إمكانية تنازل الأطراف عن التمسك بعدم اختصاص القضاء العادي عند وجود اتفاق تحكيم متعلق بالمنازعة المثارة.

الفرع الثاني: أثار اتفاق التحكيم

يترتب على انعقاد اتفاق التحكيم أيا كانت الصورة التي تم عليها إحالته على التحكيم، انحسار ولاية القضاء وأن المحتكمين ملزمين بحدود ما تم الاتفاق عليه من حيث الموضوع والأشخاص.

1-عدم اختصاص المحاكم الوطنية: تنص المادة (13/1) من قانون التحكيم المصري على أنه: "يجب على المحكمة التي يرفع إليها نزاع يوجد بشأنه اتفاق التحكيم أن تحكم بعدم قبول الدعوى إذا دفع المدعى عليه بذلك قبل أبدائه أي طلب أو دفاع في الدعوى".

إن عدم اختصاص المحاكم الوطنية بالمنازعات المتفق بشأنها على التحكيم، مبدأ كرسته المعاهدات الدولية والتشريعات الوطنية.

أما في التشريع الجزائري نصت على ذلك المادة (1045) من قانون الإجراءات المدنية الإدارية والتي تنص "يكون القاضي غير مختص بالفصل في موضوع النزاع، إذا كانت الخصومة التحكيمية قائمة أو إذا تبين له وجود اتفاقية تحكيم على أن تثار من أحد الأطراف".

من خلال نص هذه المادة نستنتج أنه إذا توجه أحد الخصوم إلى القضاء وهناك إتفاقية تحكيم نفصل بين حالتين:

الحالة الأولى: إذا كانت الخصومة التحكيمية غير قائمة

ينظر القاضي في النزاع ويتوقف إذا أثار أحد الأطراف وجود اتفاقية تحكيم صحيحة ،حتى لو كان  في مرحلة التصدي للموضوع.

الحالة الثانية: إذا كانت الخصومة التحكيمية قائمة

إذا تبين للقاضي وجود خصومة تحكمية قائمة في نفس موضوع النزاع الذي عرض أمامه فإنه يعلن عدم اختصاصه ويحيل الآطراف للمحكمة التحكيمية.

2/ سلطات الهيئة التحكيمية

يستمد مبدأ إختصاص المحكم في الفصل في اختصاصه من مصادر عديدة سواء كانت معاهدات دولية، قوانين وطنية ومن لوائح التحكيم، إذ تنص العديد من القوانين الوطنية المعاصرة المنظمة للتحكيم على مبدأ اختصاص المحكم بالفصل في مسألة اختصاصه. أما اختصاص محكمة التحكيم بالفصل في اختصاصها فقد نص عليه المشرع الجزائري في قانون الإجراءات المدنية والإدارية حيث تنص المادة (1044) على أنه "تفصل محكمة التحكيم في الاختصاص الخاص بها ويجب إثارة الدفع بعدم الاختصاص قبل أي دفاع في الموضوع. تفصل محكمة التحكيم في اختصاصها بحكم أولي إلا إذا كان الدفع بعدم الاختصاص مرتبط بموضوع النزاع".

المرجع:

  1. د. محمد عيساوي، محاضرات في التحكيم التجاري الدولي، للسنة الثانية ماستر، تخصص قانون الأعمال، جامعة أكلي محند أولحاج بالبويرة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، الجزائر، السنة الجامعية: 2019/ 2020، ص40 إلى ص64.
google-playkhamsatmostaqltradent