محاضرات في مقياس فلسفة القانون

محاضرات في مقياس فلسفة القانون

محاضرات في مقياس فلسفة القانون

  • من إعداد الأستاذة خدام

مقدمة عامة

تعني الفلسفة وأصلها يوناني: "حب المعرفة، أو محبة الحكمة"، وتعني: "معرفة شاملة تطمح إلى تقديم تفسير شامل للعالم وللوجود الإنساني". فهي تساؤل بامتياز حول كافة أمور الحياة، أو هي خلق المفهومات وتحليلها. وهي التفكير الدائم وعرض الأفكار على الآخرين المعارضين لأفكارنا بهدف إثارة الجدل. 

فالمسألة مرتبطة بفكر كل فيلسوف أو كاتب، وعمر عملها من عمر الإنسان، إذ لها ارتباط بالنشاط الفكري الذي يصعب تحديده. واختلف بشأن أهدافها، فهناك من يرى أنها تبحث عن الحقيقة، وآخر عن الخير، وبنظر آخر تبحث عن الجمال، وعن معنى الحياة والسعادة. فكان يطلق عليها بأم العلوم لأنها كانت تمثل في آن العلوم الصحيحة والعلوم الإنسانية. 

وأما فلسفة القانون، فيقصد بها: "ذلك الجانب العلمي الذي يختص بدراسة موقف الفلسفة من الظاهرة القانونية وشرح معانيها ومضامينها المختلفة". وبمعنى آخر: "البحث في الموضوعات الأكثر أهمية في مجال القانون، وهي مجال واسع لبحث الموضوعات الأكثر أهمية في مجال القانون". 

ورغم أن فلسفة القانون تعنى بدراسة نطاق القانون، إلا أنه هناك اختلاف بينها وبين علم القانون، ومن بين هذه الاختلافات نذكر: 

- فلسفة القانون ليست فرعا من فروع القانون، بل هي فرع من فروع المعرفة.

- فلسفة القانون هي علم العموميات، ومعرفة الأصول الأولى والعلل التي تؤدي إلى الأشياء. أما علم القانون فهو علم الفروع.

- فالفيلسوف يدرس عموميات الظاهرة القانونية، مبادئها الكلية والأساسية. في حين أن رجل القانون يهتم بتفاصيل الجزيئات.

- تعنى فلسفة القانون بالجوانب العالمية والنواحي العامة للقانون، فهي تمتد إلى ما هو مشترك بين الأنظمة القانونية المختلفة. بيد أن علم القانون يقتصر على قانون وطني معين.

- فلسفة القانون غير محددة بزمان ولا مكان، في حين أنّ علم القانون يتحدد بزمان ومكان دولة معينة.

- آراء الفيلسوف تعبر عن وجهة نظره ورأيه الشخصي، فهي ذات نزعة ذاتية، ويبحث فيما عن ما يجب أن يكون عليه القانون. أما رجل القانون، فعليه أن يتقيد بالنزعة الموضوعية، وهو يبحث فيما هو عليه القانون.

في البداية أثير التساؤل والجدل حول ضرورة القانون من عدمه لتنظيم المجتمع، فظهر اتجاهان ،الأول: يرى ضرورة القانون، فهو وسيلة لتحقيق الانسجام الاجتماعي عن طريق كبح مشاعر الشر لدى الإنسان، لهذا فلابد من وجود نظام قانوني رادع لضبط هذه الطبيعة البشرية. أما الرأي الثاني:

فهو عكس الاتجاه الأول إذ يرى أن الإنسان بفطرته ينهج نحو الخير (فهو خير بطبيعته)، فلا يحتاج إلى قواعد قانونية تنظمه، فأصحاب المال والطبقية هم من يفرضون القانون لتبقى السيطرة في أيديهم. 

ثم تجاوز الجدل والتساؤل حول الحاجة إلى القانون من عدمها، فلا شك أن الواقع والزمن أثبتا حاجة المجتمع والإنسان إلى قانون ينظمه ويضبطه، ولكن المشكلة تكمن في من يضع القانون، ومن له شرعية الإلزام وفق القانون؟ 

لتتحول بعد ذلك اهتمامات فلسفة القانون ومواضيعها بالبحث في أصل القانون وغايته. 

والمقصود بأصل القانون، ماهيته وأساسه. وذلك بهدف التعرف على طبيعة القانون وأصل نشأته وأساسه، وتحليل جوهره لبيان ماهيته والعناصر التي يتكون منها. وذلك في محاولة للكشف عما إذا كان القانون ينشأ من ضمير الجماعة دون تدخل الإرادة الإنسانية في صنعه، أم أن الإرادة الإنسانية هي صانعة القانون، أم أنه من وحي الطبيعة والمثل العليا، أم من وحي البيئة الاجتماعية. 

وأما غاية القانون، فيقصد بها الأهداف والقيم التي يجب أن يتوخاها القانون ويسعى إلى تحقيقها. ورغم أن غالبية الفقهاء اتفقوا على أن هدف القانون هو تحقيق العدل، إلا أنهم اختلفوا حول مفهوم العدل ونوعه وطرق تحقيقه. 

وإنّ البحث في هذين الموضوعين تمخض عنه الأسس التالية:

1- الأساس الوضعي للقانون: ومعناه القانون مجموعة قواعد آمرة يضعها الحكام القابضون على السلطة في اتمع، وهي ما يطلق عليها بالوضعية القانونية الإرادية، شملتها المذاهب الشكلية.

2- الأساس الطبيعي للقانون: ومعناه القانون مجموعة مبادئ تتماشى مع طبيعة الأشياء ومع العقل، فهناك قانون يعلو على الحكام ومنه تستمد القوانين الوضعية صفة إلزامها. عرف بالقانون الطبيعي، ويندرج ضمن المدرسة المثالية.

3- الأساس الاجتماعي والواقعي للقانون: أي أن القانون وليد حاجة الجماعة، يولد تلقائيا في بيئة اتمع. وعالجته المدرسة التاريخية والمدرسة الواقعية. 

وهناك من ارتأى تقسيم فلسفة القانون إلى عدة مباحث هي: 

- الوجود القانوني: يهدف إلى تعريف القانون والبحث في أساس إلزامه وأصله.

- القيم القانونية: هي المبادئ والمثل التي تحكم القانون هل هي العدل أم الحرية أم الأمن والاستقرار.

- المعرفة القانونية: هي الوسائل التي يمكن التعرف على القانون هل بالعقل أم بالملاحظة أم التجربة أم أداة أخرى.

- علم الاجتماع القانوني: علاقة القانون بالمجتمع.

وفي الأخير، لا بد من التأكيد على أن فلسفة القانون لعبت دورا هاما في نشأة القانون وتطور قواعده، فالفكر القانوني الفلسفي حين انصرف إلى دراسة المشاكل النظرية الكبرى مستخلصا مبادئها الحقيقية قد أثر في التطور الوضعي للقانون وفي إقامته وتطبيقه تأثيرا كبيرا وحصل على نتائج أكثر فعالية.  

يتضح دورها وأهميتها في نطاق القانون بالتفصيل من خلال دراسة: 

  • القسم الأول: المذاهب الشكلية
  • القسم الثاني: المذاهب الموضوعية
  • القسم الثالث: المذاهب المختلطة

القسم الأول: المذاهب الشكلية (الأساس الوضعي للقانون) 

تهتم المذاهب الشكلية، بشكل القاعدة القانونية ومظهرها الخارجي، فهي تبحث في المختص بوضع القاعدة القانونية، وكيف تكتسب قوة إلزامها. 

وقد اتفقت جميعها من حيث المبدأ على أن القانون هو من وضع الدولة، أو من صنع المشرع، تصدر قواعده القانونية في صيغة الأمر والنهي، مقترنة بجزاء. فجعلت القانون معبرا عن إرادة الحاكم الذي يمتلك السلطة المطلقة والقوة، موجها إلى أفراد المجتمع الواجب عليهم تنفيذها وعدم الخروج عنها وإلا تعرضوا للجزاء الموقع من قبل السلطة المختصة. 

ولأن هذه المذاهب أعطت للإرادة الإنسانية (ممثلة في الحاكم أو الدولة) دور واختصاص وضع القانون، فإنه أطلق عليها بالوضعية القانونية الإرادية والتي تعني أن القانون هو من وضع إرادة إنسانية أي أنها منحت للقانون أساسا وضعيا. 

أهم المذاهب الشكلية نجد مذهب أوستن، مذهب هيجل، مذهب كلسن، أما مدرسة الشرح على المتن، فقد وضعت أسلوبا وطريقة في تفسير القواعد القانونية.

مذهب أوستن 

أوستن فيلسوف انجليزي، عمل أستاذا للقانون في النصف الأول من القرن 19. كان من مؤيدي فكرة القانون الوضعي أو ما أطلق عليه بالوضعية القانونية الإرادية، كونه يعتبر أن القانون هو إرادة أو مشيئة الحاكم أو الدولة تسري على الأفراد ولو جبرا. 

والحقيقة أن هذه الفكرة ليست بجديدة، وإنما اقتبس أوستن من نظريات فلاسفة اليونان الذين كانوا يرون أن القانون من فعل القوة. كما أنه تأثر على وجه الخصوص بالفقيه الإنجليزي "توماس هوبز" القائل بأن: "القانون ليس طلبا ولا نصيحة بل أمر صادر من شخص يمتلك السلطة والقوة إلى شخص آخر وجب عليه الطاعة والامتثال". 

وعلى هذا كون أوستن ثلاث أسس لمنهجه، نتجت عنه العديد من النتائج، كما وجهت إليها انتقادات. 

أولا: الأسس التي يقوم عليها مذهب أوستن 

عرف أوستن القانون على أنه: "مجموعة قواعد قانونية آمرة وناهية مقترنة بجزاء صادرة عن الحاكم لما يتمتع هبه من سلطة سياسية، موجهة إلى الطبقة المحكومة التي يتعين عليها الخضوع والطاعة".

وبناء على هذا التعريف يتضح أن الأسس التي يقوم عليها مذهبه هي ثلاثة أسس كالتالي: 

1- لا وجود لقانون إلا في وجود مجتمع سياسي 

في نظر أوستن المجتمع السياسي هو المجتمع المقسم إلى طبقتين: طبقة حاكمة وطبقة محكومة، فالمجتمع السياسي يستمد في تنظيمه إلى وجود هيئة عليا حاكمة تمتلك السيادة السياسية المطلقة. ولا يهمه إن كان نظام الحكم فيها ديمقراطيا أو استبداديا، جمهوريا أو ملكيا. كل ما يهم هو أن الحكام القابضون على السلطة يختصون بوضع القواعد القانونية، وأن يكون سلطانهم مطلقا، غير مقيد ولا محدود. 

أما الطبقة المحكومة، فيتوجب عليها تنفيذ واتباع ما صدر عن الطبقة الحاكمة، أي عليها الطاعة والامتثال والخضوع للأوامر والنواهي الصادرة عن الحاكم دون أن يكون لها حق التعبير عن رأيها ولا رفضها.  

2- صدور القاعدة القانونية في صيغة الأمر والنهي

يعتبر أوستن أن القانون ليس طلبا ولا نصيحة وإنما مجموعة قواعد قانونية آمرة ناهية موجهة إلى الأفراد المحكومين ليست لديهم حرية عدم التنفيذ والامتثال، وإنما هي واجبة الطاعة. مع الإشارة إلى أن الأمر والنهي قد يكون بصيغة صريحة وواضحة، كما قد يصدر بصيغة ضمنية، المهم أنه على الأفراد المحكومين إتباعها وعدم الخروج عنها.

3- اقتران القاعدة القانونية بجزاء

يرى أوستن أن صدور القاعدة القانونية بصيغة الأمر أو النهي لا يكفي، إذ لابد أن يتبعها جزاء، حتى يردع كل من يخالفها. 

ثانيا: النتائج المترتبة على مذهب أوستن 

ترتب عن الأسس المبينة أعلاه النتائج التالية: 

1- حصر مصادر القانون في التشريع فقط:

يعتبر أوستن التشريع مصدرا أساسيا ووحيدا للقانون، وألغى بقية المصادر الأخرى وفي مقدمتها العرف. وذلك لكون التشريع المصدر الأمثل الذي يعبر عن إرادة الحاكم ويجعلها واجبة التنفيذ. فهذه النتيجة تتماشى وتعكس الأسس التي يقوم عليها مذهبه. 

2- إنكار الصفة القانونية على قواعد القانون الدستوري:

لأن قواعد القانون الدستوري تنظم علاقة الدولة بالأفراد، وتبين شكل الدولة ونظام الحكم فيها، وسلطاتها واختصاصاتها وحدودها. كما أنها تتضمن حقوق وحريات الأفراد، فإذا بذلك تكون موجهة إلى الحاكم. ولأن هذا الأخير منحت له السلطة المطلقة في وضع القاعدة القانونية دون قيد ولا شرط، فإنه يمكنه مخالفتها كيفما ووقتما يشاء، كما لا يتصور معها أن يوقع الجزاء على نفسه. 

ولهذه الأسباب لا يعتبر أوستن قواعد القانون الدستوري قواعد قانونية، بل كيفها على أنها قواعد ذات قيمة إرشادية تطلق عليها بق واعد الأخلاق الوضعية. 

3- إنكار الصفة القانونية على قواعد القانون الدولي:

يقوم القانون الدولي العام والذي ينظم العلاقات فيما بين الدول على مبدأ: "جميع الدول متساوية في الحقوق والسيادة". وعلى هذا، لا توجد سلطة عليا فوق الدول تهيمن عليها، أو تفرض عليها أوامر ونواهي ولا أن توقع عليها جزاء حال مخالفتها للقواعد. ولأن هذا المفهوم لا ينطبق مع الفكرة التي يقوم عليها مذهب أوستن، فإنه ألغى صفة القانون على القانون الدولي العام، معتبرا أن قواعد هذا الأخير هي قواعد معاملات ومجاملات تراعيها الدول فيما بينها، ولا يترتب على مخالفتها أي جزاء. 

4- تفسير القانون وقت وضعه لا وقت تطبيقه:

لأن أوستن جعل القانون معبرا عن إرادة الحاكم الواجبة التنفيذ، فقد أخذ بوجوب التقيد في تفسير القاعدة القانونية بإرادة المشرع وقت وضع النص. وذلك حتى يتجه التفسير إلى الكشف عن إرادة الحاكم التي تضمنتها القواعد القانونية. دون تفسيره وقت تطبيقه لأن ذلك يستدعي الأخذ بعين الاعتبار الظروف المستجدة والتي تتغير مع مرور الوقت، والتفسير في هذه الحالة قد يخرج عما أراده الحاكم ولا يعبر عن نيته. 

ثالثا: الانتقادات الموجهة إلى مذهب أوستن 

رغم أن مذهب أوستن تميز ببساطته و وضوح أفكاره، إلا أن ذلك لم يمنع من توجيه له عدة انتقادات للأخطاء التي وقع فيها، وتكريسه مبدأ القوة والسلطان المطلق للحاكم دون اعتبار للأفراد، نوجز هذه الانتقادات فيما يلي:  

1- أخلط بين القانون والدولة: ذهب أوستن إلى اعتبار لا وجود لقانون إلا في وجود مجتمع سياسي، متجاهلا بذلك الحقائق التاريخية والواقعية والتي تثبت أن القانون ظاهرة اجتماعية، وقد نشأ في الأزمنة القديمة مع نشأة المجتمع في صورته البدائية قبل أن يكون مجتمعا سياسيا، بمعنى آخر لا يشترط أن يكون المجتمع سياسيا حتى نتحدث عن وجود القانون من عدمه.  

2- أخلط بين القانون والقوة: جعل أوستن القانون معبرا عن إرادة الحاكم، الذي منح له صلاحيات وسلطات مطلقة، غير محدودة ولا مقيدة، فارضا بذلك الجزاء على المحكومين دونه، وهذا من شأنه أن يدفع بالحاكم إلى الاستبداد والطغيان، كون القانون وسيلة لتنفيذ إرادته. وهكذا سخر القانون لخدمة الحاكم، عوضا أن يكون الحاكم في خدمة القانون. 

3- يؤخذ عليه أنه جعل التشريع مصدرا وحيدا للقانون وأغفل بقية المصادر الأخرى، ففي ظلال دول الحديثة يعتبر التشريع مصدرا أساسيا للقانون، ولكنه ليس بالمصدر الوحيد، إذ أخذت بتنوع المصادر وتعددها. وهذه المصادر من شأنها أن تسد الفراغ الذي قد يعتري التشريع.

فالسبب الرئيسي الذي دفع إلى اعتبار التشريع مصدرا وحيدا للقانون، يكمن في رغبته في أن يكون هذا القانون معبرا عن إرادة الحاكم، لضمان طاعتها والامتثال لها وطمس رغبة المحكومين الذين يقع عليهم واجب الخضوع. وهذا يتماشى مع أسسه، مغفلا بذلك الدور الهام قد تلعبه بقيت المصادر الأخرى وفي مقدمتها العرف، خاصة وأنه فيلسوف إنجليزي، وإنجلترا تعتد بمبادئ العرف، في نشأة القاعدة القانونية وتطورها.    

4- كذلك يؤخذ عليه إلغاءه الصفة القانونية على قواعد القانون الدستوري بحجة أنه لا وجود لسلطة عليا تعلو سلطة الحاكم فتضمن احترامه للقانون، وأن الحاكم يتمتع بالسلطة المطلقة تجعله فوق القانون، وتمكنه من التحلل من توقيع الجزاء عليه.

إلا أن هذه الموقف لم يلق قبولا، كون أن الدستور يعتبر أسمى القوانين، وقواعده ملزمة متضمنة قيود وشروط مفروضة على الحاكم، كما أن سلطة الأمة من شأنها أن تلعب دورا هاما في الإطاحة بالحاكم واستبداله وتوقيع الجزاء عليه. 

5- انتقاد آخر يضاف إلى جملة الانتقادات المذكورة، يخص إنكار أوستن للصفة القانونية على قواعد القانون الدولي العام لعدم وجود سلطة عليا داخل المجتمع الدولي تنظم العلاقات بين الدول وتكفل احترام هذه الأخيرة لقواعده، وتوقع الجزاء على الدولة التي تخالفها.

ومرة أخرى هذه الحجة تم ردها بداعي أن قواعد القانون الدولي العام قواعد قانونية بالمعنى الصحيح، لتوافر عنصر الإلزام، وذلك من خلال تواجد هيئات في المجتمع الدولي تعمل على كفالة قواعد القانون الدولي العام هذا من جهة، ومن جهة أخرى تملك توقيع الجزاء.

6- إن التقيد بتفسير القانون وقت وضعه لا وقت تطبيقه من شأنه أن يؤدي إلى عجز القاعدة القانونية وعدم مواكبتها للتطورات المستجدة.

مذهب هيجل 

هيجل فيلسوف ألماني، عمل كأستاذ في جامعة برلين، وهو أول من استعمل مصطلح فلسفة القانون ضمن كتاب: "فلسفة القانون" سنة 1821. وقد تأثر بشكل كبير ببيئته الاجتماعية ونزعته الذاتية والتي جاءت واضحة من خلال الأسس التي وضعها لمذهبه والذي تناول من خلاله شكل القاعدة القانونية، وذلك رغم مناداته بإعمال العقل والمنطق وضرورة التقيد بالفكر الموضوعي. 

أولا: الأسس التي يقوم عليها مذهب هيجل 

وضع هيجل أساسين لمذهبه أحدهما تناول من خلاله علاقة الدولة بأفراد مجتمعها، والثاني تضمن علاقة الدول فيما بينها، فجاءا على النحو التالي: 

1- الدولة سيدة نفسها في الداخل

يعتبر هيجل أن الدولة حقيقة واقعية موجودة، وكل ما هو موجود فهو معقول، ولهذا اعتبر أن القانون يستمد قوته وشرعيته من صدوره عن الدولة، معبرا عن إرادتها. فالدولة هي صاحبة السلطة والامتياز في وضع القانون. 

ومعنى أنها سيدة نفسها في الداخل أي البحث عن علاقتها مع أفرادها داخل إقليمها (نظامها الداخلي)، إذ يرى هيجل أنه على المستوى الداخلي يجب أن يخضع للدولة كل من يدخل في تكوينها (أي يتواجد داخلها)، فسيادة الدولة واحدة لا تتجزأ، ويجب أن تذوب في وحدتها جميع الاعتبارات ووجهات النظر المختلفة، وأن تتجسد هذه السيادة في شخص واحد يمتلك القوة والسلطة، فتمكنانه من التعبير بإرادته عن الإرادة العامة. 

ونظرا لأن الدولة (ممثلة بشخص الحاكم) هي صاحبة السلطة والسيادة وهي صانعة القانون، فإرادتها هي واجبة النفاذ، وعلى الأفراد الالتزام والخضوع لها. حيث أن المجتمع لا يصل إلى مرتبة الدولة إلا إذا رأى جميع أفرادها أن ثمة مصلحة مشتركة يجب أن تتجه إرادتهم إلى تحقيقها. أو بتعبير آخر إذا أراد الأفراد أن تتحقق حقوقهم وأن يتمتعوا بحرياتهم، فما عليهم إلا الذوبان داخل المجتمع والانصياع للدولة ضمن ما يسمى "وحدة الإرادات الفردية". 

والملاحظ هنا أن أوستن وهيجل يشتركان في النتيجة، ويختلفان في الأسلوب، بمعنى أنهما يقران للدولة ممثلة في شخص الحاكم بالصلاحيات والسلطان المطلق غير المقيد ولا المحدود، ويمنحانها امتياز وضع القانون، غير أن الاختلاف يكمن في أن أوستن جاء أسلوبه صارما، مباشرا وحادا لا نقاش فيه (يراجع أسس أوستن). أما هيجل فخاطب الأفراد بالأسلوب المرن لحملهم على تنفيذ إرادة الدولة وذلك من خلال اعتباره أن الدولة تجسد إرادة الفرد وحريته، وحقوق هذا الأخير وحرياته لا تتحقق إلا باندماجه في الدولة وخضوعه لها خضوعا تاما، لتغليب الصالح العام. 

2- الدولة سيدة نفسها في الخارج

إذا كان مفهوم الدولة سيدة نفسها في الداخل تعني علاقة الدولة بالأفراد، فإن مفهوم سيدة نفسها في الخارج يقصد به المستوى الدولي أو علاقات الدولة في الخارج، أو علاقات الدول فيما بينها. 

ولأن المجتمع الدولي يقوم على مبدأ: "جميع الدول متساوية في السيادة"، فإنه لا توجد سلطة أو إرادة فوق الدول، ولا توجد دولة واحدة تمنح لها صلاحية تنظيم العلاقات بين الدول، أو تختص بحل ما ينشأ بينها من منازعات، ولا حق لها في توقيع الجزاء.

ولأن جميع الدول متساوية وفي نفس المركز، يثار التساؤل كيف يمكن للدولة أن تكون سيدة بالخارج؟ 

من وجهة نظر هيجل، اعتبر أن الحرب هي الوسيلة الوحيدة والأمثل لتحديد من الدولة صاحبة السيادة والسلطان على بقية الدول الأخرى، وبالتالي تمكن الحرب الدولة من تنفيذ إرادتها في المجتمع الدولي، فتعتبر الدولة الأقوى. 

ثانيا: النتائج المترتبة عن مذهب هيجل 

ترتب عن مذهب هيجل جملة من النتائج منها ما تفرع عن الأساس الأول، والآخر نتج عن الأساس الثاني، نذكرها فيما يلي: 

1- اعتبار التشريع مصدرا وحيدا للقانون: يرى هيجل أن القانون يصدر معبرا عن إرادة الحاكم في الدولة، وتكون إرادته وواجبة النفاذ حصر مصادر القانون في التشريع وألغى بقية المصادر الأخرى على رأسها العرف. وهي نفس النتيجة التي ترتبت عن مذهب أوستن.

2- إنكار الصفة القانونية على قواعد القانون الدستوري: لأن هيجل يعترف بالسلطان والسيادة المطلقة غير المقيدة ولا المشروطة للحاكم، وأن إرادته هي العليا وواجبة النفاذ، فقد رفض الاعتراف بقواعد القانون الدستوري، لا بل وأنكرها إنكارا مطلقا.

يشترك أوستن وهيجل حول نقطة إنكار الصفة القانونية على القانون الدستوري، فكلاهما لا يعتبران قواعده قواعد قانونية، الاختلاف البسيط بينهما يكمن في أن أوستن اعتبر قواعد القانون الدستوري قواعد وضعية أخلاقية، إرشادية. أما هيجل، فقد أنكرها تماما لا يعتبرها لا قواعد قانونية ولا قواعد أخلاق أو توجيه. (تراجع التفاصيل في محاضرة أوستن) 

3- تفسير القانون وقت وضعه لا وقت تطبيقه (نفس الشيء وضع في محاضرة أوستن يرجع إليه).

4- إنكار الصفة القانونية على قواعد القانون الدولي العام: أراد هيجل أن تهيمن دولة واحدة على بقية الدول الأخرى حتى تكون إرادتها هي واجبة النفاذ على المستوى الدولي، فتقوم بتنظيم العلاقات بين الدول وحل النزاعات الناتجة بينها. لهذا، فإن مبدأ المساواة بين الدول في السيادة لا يتماشى مع أساسه الثاني، ما دفعه إلى إنكار الصفة القانونية على قواعد القانون الدولي العام طالما أن الحرب وسيلة لتحديد الدولة الأقوى، وهذا على خلاف أوستن الذي كيفها على أنها قواعد معاملات ومجاملات تراعيها الدول فيما بينها. (ارجع للمحاضرة) 

5- بالنسبة لهيجل الحرب عادلة ومشروعة، وتنتهي دائما لصالح الطرف الأقوى، فالدولة الأقوى والمتصدرة جديرة بالسيطرة على العلاقات الدولية، وإذا ما أرادت دولة أخرى أن تنتزع السيطرة والسيادة وتهيمن على المستوى الخارجي، فما عليها إلا إعلان الحرب والانتصار. وحال تعادل دولتين وخروجهما منتصرتين في الحرب ومتعادلتين من حيث القوة، فلابد من صراعهما وإعلانهما الحرب بينهما لترجيح الكفة للدولة المنتصرة. إذ لابد أن تحدد دولة واحدة فقط تكون سيدة في الخارج.

هذا ويعتبر أن النتيجة التي تنتهي إليها الحرب نوعا من القضاء الإلهي أو ما يشبه حكما من محكمة التاريخ، وأن الشعوب تلقت مصيرها. 

ثالثا: الانتقادات الموجهة إلى مذهب هيجل 

على غرار مذهب أوستن، وجهت لمذهب هيجل عدة انتقادات نذكرها فيما يلي: 

1- يعاب على هيجل أنه حصر القانون في التشريع دون سواه، وهذا أمر خاطئ لما تلعبه المصادر الأخرى من دور وأهمية، (مع الإشارة إلى أن هذا الحصر جاء ليتلاءم ويتماشى مع أسسه ونظرته لشكل القاعدة القانونية)، إذ أن الأجدر الأخذ بتنوع المصادر وتعددها. (لمزيد من التفاصيل يراجع حول هذه النقطة محاضرة أوستن).

للتنويه أخذ المشرع الجزائري بتنوع المصادر وذلك ما حدده ضمن المادة 01 من القانون المدني. 

2- أخلط بين القانون والقوة: منح هيجل السلطان المطلق للحاكم دون قيود ولا شروط، فجعله فوق القانون، إذ عوض أن يكون الحاكم في خدمة القانون، جعل القانون والقوة في خدمة الحاكم، وهذا ما يؤدي إلى استبداد الحاكم داخل الدولة وتحقيق مصالحه الشخصية على حساب المصلحة العامة. خاصة في ظل الأخذ بفكرة "وحدة الإرادات الفردية"، وتذويب الأفراد داخلها، وكذلك أمام إنكار الصفة القانونية للقانون الدستوري وإلغاء مصادر القانون. فهذا كله من شأنه أن يعزز طغيان الحاكم، وبالمقابل ضياع حقوق الأفراد وسلب حرياتهم.

3- حول إنكاره للقانون الدستوري يراجع محاضرة أوستن (نفس الشرح) مع الأخذ بعين الاعتبار أن هيجل لم يعترف بها مطلقا كما سبق ذكره، أما أوستن، فاعتبرها قواعد أخلاق.

4- يعاب عليه أنه اقتصر على تفسير القانون وقت وضعه لا وقت تطبيقه. (نفس شرح محاضرة أوستن)

5- حول إنكار صفة القانون الدولي العام كذلك نفس الشرح المكتوب في محاضرة أوستن، مع مراعاة أن أوستن اعتبر قواعده قواعد معاملات ومجاملات، أما هيجل، فلا يعترف بها مطلقا لأنه أعطى القوة والسيطرة لدولة واحدة ألا وهي المنتصرة في الحرب.

6- إن الاعتراف بمشروعية الحرب أمر غير منطقي ولا مقبول ولا معقول، لما يترتب عنه من خسائر مادية وأخرى بشرية وهو ما لا يخدم العلاقات الدولية بل يؤدي إلى اضطرابها وعدم استقرارها.

7- رغم أن هيجل له عديد المؤلفات التي تقوم على العقل والمنطق والموضوعية، إلا أنه عندما تطرق لشكل القاعدة القانونية طغت عليه نزعته الذاتية ما أوقعه في تناقض. فجاء تأثره واضحا ببيئته كونه ألماني، ويظهر ذلك خصوصا عندما عالج فكرة سيادة الدولة في الخارج وإقراره بمشروعية الحرب، تمجيدا منه للعرق الألماني وفي سيطرة ألمانيا على العالم.

مذهب كلسن

كلسن فيلسوف نمساوي، عمل أستاذا لفلسفة القانون بجامعة فيينا سنة 1917، كما عرف مذهبه بمذهب القانون البحث أو القانون الصافي، ذلك أنه حاول أن يعطي مفهوما جديدا للقانون مفاده أن: "علم القانون يجب أن يقتصر على دراسة السلوك الإنساني من حيث خضوعه للضوابط القانونية وحدها دون غيرها من الضوابط التي تدخل في العلوم الأخرى والتي لا يختص بدراستها رجل القانون". وعلى هذا جاءت أسس مذهب كلسن كالتالي: 

أولا: الأسس التي يقوم عليها مذهب كلسن

أسس كلسن مذهبه على أساسين وهما: 

1- استبعاد العناصر غير القانونية

يرى كلسن وجوب استبعاد كافة العناصر غير القانونية من نطاق القانون، ومنها العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والمبادئ المثالية والأخلاقية والدينية. فالقانون الصافي يجب أن يقتصر فقط على الضوابط القانونية. 

وذهب إلى القول أن رجل القانون عليه أن يقتصر على التعرف على القانون كما هو، والبحث عن صفة صدوره من الشخص صاحب الاختصاص، وأن القاعدة القانونية ملزمة ومقترنة بجزاء ومتبعة من كل الأفراد، وذلك دون أن يتصدى إلى تقييم مضمونها أو التعرض لأسباب نشأتها، ولا أن يبحث فيما إذا كان مضمون القانون عادلا أم غير عادل، متفقا مع المصلحة العامة أم لا. ولا تهمه بقية العوامل الأخرى لأنها لا تدخل في اختصاصه، فلكل عامل منها رجاله المتخصصون. 

2- وحدة القانون والدولة

على خلاف أوستن وهيجل اللذين يردان القانون إلى إرادة الدولة ومشيئتها بحيث تعتبر الأخيرة صانعة القانون، فإن كلسن أخلط بينهما (الدولة والقانون) خلطا تاما، إذ أنه وحد بين القانون والدولة وأدمجهما معا، معتبرا القانون هو الدولة، والدولة هي القانون. 

فبحسبه، يتكون القانون من عدة إرادات متسلسلة الدرجات في شكل هرمي، كل درجة أدنى تستمد شرعيتها وصلاحيتها وإلزاميتها من الدرجة التي تعلوها، وصولا إلى قمة الهرم. 

فالدولة عنده ليست شخصا معنويا وإنما هي مجموعة من القواعد القانونية، حددها على سبيل الحصر، شبيهة بالهرم التدرجي، تبتدء قاعدته بالأوامر الفردية، فالأحكام القضائية، فالعقود، فالتشريع، وصولا إلى قمة الهرم ممثلا بالدستور، وما يخرج عن الهرم وجب استبعاده. 

ثانيا: النتائج المترتبة على مذهب كلسن 

كما الأسس، ترتب عن مذهب كلسن نتيجتين وهما: 

1- عدم الوقوع في التناقض عند الأخذ بفكرة "وحدة القانون والدولة":

يعتبر كلسن أن القول بأن الدولة هي صانعة القانون، أو أن القانون يعبر عن إرادة الدولة يتناقض تماما مع القول بوجوب تقيد الدولة بأحكام القانون. غير أنه عند القول بأن الدولة هي النظام القانوني نفسه من شأنه أن يزيل هذا التناقض. 

2- رفض تقسيم القانون إلى قانون عام وقانون خاص:

القانون العام، هو القانون الذي يحكم العلاقات التي تكون الدولة طرفا فيها بصفتها صاحبة السيادة. أما القانون الخاص، فهو القانون الذي يحكم العلاقات بين الأفراد أو العلاقات التي تكون الدولة طرفا فيها ولكن ليس بصفتها صاحبة السيادة. 

فكلسن يعتبر أن التفرقة بين القانون العام والخاص لا يرجع أصلها إلى القانون الوضعي، بل يرجع إلى الرغبة في إعطاء الحكومة نوعا من الحرية إزاء التشريع، وإظهار علاقات القانون الخاص وكأنها بعيدة عن التيارات السياسية التي تسود علاقات القانون العام. 

وفي ظل نظرية القانون الصافي ليست هناك أي حاجة ولا فائدة من هذا التقسيم طالما أنها تقتصر على الضوابط القانونية فقط وتستبعد منه جميع العناصر الأخرى بما فيها العوامل السياسية. 

ثالثا: الانتقادات الموجهة إلى مذهب كلسن 

وجهت إلى مذهب كلسن عديد من الانتقادات نوجز منها على وجه الخصوص: 

1- انتقد مذهب كلسن بسبب التدرج الهرمي، حيث أنه جعل كل درجة دنيا تستمد شرعيتها وقوتها من الدرجة التي تعلوها وصولا إلى قمة الهرم ممثلا في الدستور، والمشكل يكمن هنا، من أين يستمد الدستور شرعيته؟

حاول كلسن تفادي هذا الانتقاد بالقول أن الضابط الأعلى الذي يستمد منه الدستور شرعيته يتمثل في قاعدة عليا تاريخية صادرة عن ثورة أو عن انقلاب. فإذا لم يكن لهذا الضابط الأعلى وجود حقيقي، فإنه يجب التسليم بوجوده على سبيل الافتراض، لأنه لا يتعدى أن يكون ضابطا شكليا. ومع ذلك ردت إجابته ولم يسلم بها. 

2- يعاب عليه أنه وحد بين القانون والدولة واعتبرها نفس الشيء، وهذا أمرا لا يمكن تقبله أو أخذه بعين الاعتبار لمخالفته للواقع، فالدولة لها كيان مستقل ومن شأنها أن تكون صانعة للقانون، والذي بدوره يقيدها ويلزمها على احترام المؤسسات والحقوق والحريات داخل المجتمع.

3- كذلك يؤخذ عليه أنه حدد الضوابط القانونية على سبيل الحصر، فلم يجعل ضمن التدرج الهرمي العرف رغم أهميته كمصدر من مصادر القانون، ودوره في إنشاء القاعدة القانونية.

حاول هنا كلسن دفع هذا النقد بالقول أن: "قوة العرف مستمدة من إجازة الدستور له". 

ولكنه لم ينجح، فقوله هذا يخالف الواقع، ذلك أن الدستور لا ينص على قوة العرف، بل أن هذا الأخير ينشؤ تلقائيا في المجتمع وينبع من الضمير الجماعي دون حاجة إلى إجازة المشرع له. 

4- يؤخذ على كلسن أنه اعتبر الأوامر الفردية ضابطا قانونيا تضمنه الهرم، في حين أن القاعدة القانونية تتميز بكونها عامة ومجردة تخاطب الأشخاص بصفاتهم لا بذواتهم.

5- يعاب عليه أنه استبعد جميع العناصر غير القانونية من نطاق القانون، كالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والمثل العليا، والقواعد الأخلاقية. في حين أن هذه الأخيرة تؤثر في نشأة القانون وتطوره.

6- تضمن الهرم الضوابط القانونية التي تحكم النظام الداخلي للدولة، في حين أغفل الحديث عن القواعد القانونية التي تحكم العلاقات بين الدولة وغيرها من الدول، فلم يتطرق مطلقا للقانون الدولي العام.

مدرسة الشرح على المتن 

ظهرت مدرسة الشرح على المتن في مطلع القرن 19 حوالي سنة 1808، وقد كان الباعث على ظهورها صدور عدد من التشريعات الفرنسية بشكل عام، وصدور القانون المدني الفرنسي المعروف بتقنين نابليون بشكل خاص. والذي كان يعتبر بين معاصريه بمثابة كتاب مقدس أخرج للناس لتحقيق العدالة بينهم. 

وتعتبر هذه المدرسة ثمرة آراء عدة رجال قانون تعاقبوا عليها، فأتت بطريقة جديدة أو أسلوبا جديدا في تفسير النص، أطلق عليها طريقة التقيد بالنص، أو طريقة الشرح على المتن، لأنهم كانوا يفسرون النص متنا متنا، أي نصا نصا حسب الترتيب الذي وردت عليه. 

ولهذا لم تعالج هذه المدرسة شكل القاعدة القانونية لكونها ظهرت عقب صدور تقنين نابليون ،فكان هدفها هو تفسير هذا التقنين ،أي أنها وضعت طريقة لشرح وتفسير القانون المدني الفرنسي ،فعرفت بالمدرسة التقليدية في تفسير النص. ولقد لاقت رواجا وانتشارا كبيرين، واستحسانا من قبل شراح القانون حتى أن القضاة كانوا يلتزمون بأسلوبها بطريقة آلية إلى أن ظهرت نقائصها ما جعلهم يدخلون عليها نوعا من المرونة.     

أولا: الأسس التي تقوم عليها مدرسة الشرح على المتن

للمدرسة أساسين رئيسيين وهما:

1- تقديس النصوص القانونية

تتبع مدرسة الشرح على المتن على أسلوب تفسير النصوص القانونية نصا نصا، ومعنى تقديسها أي احترامها وعدم المساس بها أو الخروج عنها, مشبهة إياها بالكتاب المقدس. 

والحقيقة أن سبب مناداة فقهاء المدرسة بتقديس النصوص القانونية راجع إلى انبهارهم واعتزازهم بتقنين نابليون أو ما يعرف بالقانون المدني الفرنسي لسنة 1804. فبعد أن كان إقليم فرنسا يخضع شماله لنظام قانوني مستمد أساسا من قواعد العرف، ويخضع جنوبه لنظام قانوني مستمد من القانون الروماني. تم توحيد التراب الفرنسي شماله وجنوبه بإخضاعهما معها إلى نظام قانوني موحد في عهد نابليون أطلق عليه بتقنين نابليون، والذي كان له صدى كبير في عالم القانون داخل فرنسا وخارجها. فاعتبره شراح القانون نتاجا عظيما لثمرة العقل البشري، وتقنينا كاملا ينبغي تقديسه واعتباره مصدرا وحيدا للقانون.  

2- التشريع مصدر وحيدا للقانون

اتفق أنصار المدرسة على جعل التشريع مصدرا وحيدا للقانون، وذلك لاعتزازهم وافتخارهم بتقنين نابليون، واعتبارهم له أنه تقنين كامل، عالج كل كبيرة وصغيرة وتضمن جميع الحلول للمشكلات.

ولهذا لا حاجة إلى اللجوء إلى مصادر أخرى بل الاكتفاء بالتشريع وعدم الخروج عن نصوصه. 

فما جاء عن الفقيه "ديمولومب" قوله: "إن شعاري وعقيدتي هي النصوص قبل كل شيء". وتبنى الفقيه "بونيه" في هذا الإطار: "إنني لا أعرف الحقوق المدنية وإنما أدرس قانون نابليون".  

ثانيا: النتائج المترتبة عن مدرسة الشرح على المتن 

يترتب على تقديس النصوص التشريعية، واعتبار التشريع مصدرا وحيدا للقانون النتائج التالية: 

1- احترام النصوص القانونية وعدم الخروج عنها:

تعتبر النصوص القانونية مقدسة لا يمكن المساس بها أو الخروج عن أحكامها، ويعتبرها فقهاء المدرسة متضمنة لجميع الحلول، ولهذا يتعين عند تفسير النصوص القانونية التقيد بالنص وبإرادة المشرع. كما يترتب عن هذا القول وجوب تقيد القاضي وتطبيقه للنصوص القانونية كما وردت، وأن يبحث عن الحل داخل التشريع دون الاعتماد على تفسيره أو على المصادر الأخرى. وفي حالة عجزه عن إيجاد الحل، فإن العيب والقصور ليس في التشريع وإنما على القاضي إعادة البحث من جديد للخروج بحل من داخل النصوص.    

2- الوقوف عند النية الحقيقة والمفترضة للمشرع دون الاعتداد بالنية الاحتمالية:

ذهبت المدرسة إلى ضرورة تفسير النص وفق نية المشرع، لأن التشريع يعبر عن إرادته. وللوقوف عند نية المشرع يجب أولا البحث عن نيته الحقيقة، وهذه الأخيرة تستنتج وتتضح من خلال عبارات النص الواضحة الصريحة، التي لا إبهام ولا غموض ولا نقص فيها. فإن لم توجد يمكن تفسير النص بالوقوف عند نية المشرع المفترضة، وهي تلك التي يكون المشرع قد قصدها وقت وضع النص. ويمكن الكشف عنها من خلال مقارنة النصوص التي تحكم الحالات المشابهة، أو عن طريق استخدام القياس أو بمفهوم المخالفة، أو من الروح العامة للتشريع، أو بالرجوع إلى المصادر التاريخية لتي استمدت منها النصوص. 

أما النية الاحتمالية، فإن المدرسة لا تعتد بها، أي أنها لا تأخذها بعين الاعتبار ولا تلجأ إليها عند تفسير النص، وذلك لأن الأخذ بالنية الاحتمالية يستدعي تفسير النص وقت تطبيقه، وهنا نكون أمام نية أجنبية عن المشرع، لأنها تمثل ما كان يمكن أن يقصده المشرع لو أعاد وضع النص من جديد في ظل الظروف المستجدة وما كان يمكن أن تتجه إليه إرادته وقت تطبيق النص.  

ولأن مدرسة الشرح على المتن تجعل القانون خاضعا لإرادة المشرع ومعبرا عنها، فإنها تأخذ بتفسير القانون وقت وضعه لا وقت تطبيقه. ولكي يفسر القانون وقت وضعه يجب الكشف عن نية المشرع الحقيقية وإلا البحث عن نيته المفترضة، فهما تمثلان إرادة المشرع وما قصده وقت وضع النص. 

أما تفسير القانون وقت تطبيقه، فلا تتبعه المدرسة، ولهذا استبعدت البحث عن النية الاحتمالية للمشرع، كون أن هذه الأخيرة تتضح بتفسير النص وقت تطبيقه، وبأخذ بعين الاعتبار تغير الظروف، فيحتمل أن يكون ذلك ما قد يتجه إليه المشرع لو كان في نفس الزمن والوقت، كما يحتمل أن تكون نية أجنبية عنه، أي لا يقصده المشرع. وهذا لا يتماشى مع الأسس التي تقوم عليها المدرسة.  

ثالثا: الانتقادات الموجهة إلى مدرسة الشرح على المتن 

سبقت الإشارة إلى أن مدرسة الشرح على المتن وضعت أسلوبا أو طريقة توضح من خلالها كيفية تفسير النصوص القانونية، وهي تنتمي إلى الوضعية الإرادية، لأنها جعلت القانون معبرا عن إرادة الحاكم وهو من صنعه. وهي الأخرى لم تسلم من الانتقادات أهمها:  

1- يعاب عليها أنها حصرت مصادر القانون في التشريع وحده وقد سبق وأن كان هذا الانتقاد موجها إلى كل من مذهب أوستن وهيجل، وثم توضيح أن اعتبار التشريع مصدرا وحيدا لا يكفي، وذلك لما لعبته المصادر الأخرى من دور في تفسير القانون وفي سد الفراغ الذي قد يعتريه.  

2- يعاب عليها أنها اعتبرت التشريع كاملا، لا يشوبه عيب أو نقص. وأرجعت القصور في شراح القانون والقضاة في حال عجزهم عن إيجاد الحل الذي يكمن في نظرها داخل التشريع. وهذا خطأ كبير، لأن من وضع التشريع إرادة إنسانية ومن شأن هذه الأخيرة أن تخطئ، فالتشريع أيضا قد يتخلله نقص أو غموض أو إبهام.  

3- تفسير القانون وقت وضعه لا وقت تطبيقه من شأنه أن يؤدي إلى عجز القاعدة القانونية وعدم مواكبتها للتطورات.

4- المغالاة في تقديس النصوص القانونية، وجعل القانون معبرا عن إرادة الحاكم الواجبة التطبيق، وعدم المساس بها أو الخروج عنها، من شأنه أن يؤدي إلى طغيان الحاكم واستبداده.

القسم الثاني: المذاهب الموضوعية

على عكس المذاهب الشكلية، لا تهتم المذاهب الموضوعية بالمظهر الخارجي للقاعدة القانونية وإنما تبحث في أصل ونشأة القانون. أي أنها تهتم بمعرفة كيف تكونت القاعدة القانونية وما هو أساسها، فهل هي من وحي المثل العليا؟ أم أنها من نبع البيئة الاجتماعية والواقع الملموس؟ 

فهي تنظر إلى جوهر القانون ومضمونه أو موضوعه، والمادة الأولية التي تتكون منها القاعدة القانونية. ولئن اهتم أنصار المذاهب الموضوعية بجوهر القاعدة القانونية، إلا أنهم اختلفوا بشأن مضمون هذا الجوهر أو أساسها، وعلى إثر هذا الاختلاف ظهرت مدرستين كبيرتين وعريقتين، متناقضتين ألا وهما: المدرسة المثالية والمدرسة الواقعية.   

المدرسة المثالية: الأساس الطبيعي للقانون 

سميت كذلك لأنها تأخذ بالمثل الأعلى المتمثل في العدل ،أساسا وجوهرا للقاعدة القانونية، وينتمي إليها مذهب القانون الطبيعي، الذي عرف عدة مراحل وتطورات، حيث أنه يضرب بجذوره من العصر اليوناني إلى غاية المادة الأولى من القانون المدني الجزائري، والتي حجز لنفسه من خلالها مكانة ضمن مصادر القانون. 

فلقد عرف الإنسان منذ القدم أن هناك قانونا أسمى من القوانين الوضعية، يتمثل في مجموعة قواعد أبدية، أزلية، خالدة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، أودعها ﷲ في الطبيعة ليستنبطها الإنسان بواسطة العقل، فهي لا تدين بوجودها لإرادة إنسانية. أطلق عليه بالقانون الطبيعي، وجعلوه أسمى من القانون الوضعي، واعتبروه مقياسا لمدى عدل وكمال القوانين الوضعية.

هذا المفهوم التقليدي للقانون الطبيعي عرف عدة مراحل وشهد عدة تطورات، ومع ذلك حافظ على مبدئه وفكرته الأساسية (أولا). إلى أن وصل إلى مرحلة كاد فيها أن يختفي تماما، ما استدعى أنصاره إلى إعادة إحيائه من جديد وهو ما عرف تحت تسمية: "حركة إحياء القانون الطبيعي"، أو الأساس الحديث للقانون الطبيعي (ثانيا).  

أولا: الأساس التقليدي الكلاسيكي للقانون الطبيعي

عرّف القانون الطبيعي في البداية على أنه: "مجموعة القواعد الكامنة في الطبيعة، أبدية أزلية، خالدة، لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولا تدين بوجودها لإرادة الإنسان، يكشف عنها العقل البشري، وهي تسمو على القانون الوضعي". 

تم الاحتفاظ بهذه الفكرة حول القانون الطبيعي لعدة فترات زمنية شهدت من خلالها عدة تقلبات، بين بوادر الظهور (عند اليونان) والانتشار (عند الرومان)، والتراجع (عند الكنسيين)، والاختفاء (في القرن 16)، ثم العودة والصعود (القرنين 17- 18)، فالتراجع (القرن 19 وظهور المذهب التاريخي). 

1- القانون الطبيعي في العصر اليوناني 

شكل العصر اليوناني اللبنة الأساسية والأولى لظهور فكرة القانون الطبيعي، إذ اعتمد فلاسفة اليونان على الملاحظة والتأمل، فتوصلوا إلى أن الكون يخضع ويسير وفقا لنظام تابث، الأمر الذي دفع بهم إلى الاعتقاد بوجود قانون أعلى يتضمن مجموعة قواعد خالدة ليست من صنع الإنسان وغير مكتوبة، ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وهذه القواعد تحكم الظواهر الطبيعية والعلاقات بين الناس على حد السواء. 

2- القانون الطبيعي في العصر الروماني

انتقلت فكرة القانون الطبيعي من اليونان إلى الرومان، الذين خلصوها من الطابع الفلسفي، وأضفوا عليها النزعة القانونية، بحيث أصبحت قواعده مصدرا للقانون، تطبق على كافة الشعوب. 

من أبرز فقهاء الرومان نذكر: "شيشرون" القائل: "بوجود عدل أعلى من النظم والقوانين الوضعية، وبوجود قانون ثابت خالد مرافق للطبيعة وللعقل القويم، ينطبق على كافة الناس. واعتبره القانون الحقيقي الذي لا يتغير من روما إلى أثنا ولا من اليوم إلى الغد". 

وعبّر عنه "جوستينيان" قائلا: "القانون الطبيعي هو السنن التي ألهمتها الطبيعة لجميع الكائنات الحية وأنه ليس مقصورا على الجنس البشري بل هو سائر على جميع الأحياء مما يحوم في الهواء أو يدب في الأرض أو يسبح في الماء". 

3- القانون الطبيعي في العصور الوسطى –عهد الكنيسة-

اصطبغت فكرة القانون الطبيعي بصبغة دينية في كنف الكنيسة المسيحية ورجالها. فثم إخضاع السلطان المدني للسلطان الديني وذلك بقصد تدعيم وتقوية سلطة الكنيسة. فانطلق رجالها من مبدأ أن قواعد القانون الطبيعي كامنة في الطبيعة، وأن هذه الأخيرة هي من صنع وخلق اﷲ، وبالتالي ما يوجد فيها عبارة عن رسائل موجهة من اﷲ لا يفهمها ولا يكتشفها إلا رجال الدين. 

كما اشتهرت هذه الفترة بتقسيم القديس "توماس الإكويني" القوانين إلى ثلاثة أنواع، بعضها فوق بعض. يعلوها القانون الإلهي والذي يمثل مشيئة اﷲ ويصل إلى الناس عن طريق الوحي، ولا يفهمه إلا رجال الدين، فهو مسألة إيمان واعتقاد لا مسألة عقل. يليه القانون الطبيعي ويشمل قواعد كامنة في الطبيعة التي يمكن للعقل الإنساني اكتشافها وإدراكها، يحدوه في ذلك الرغبة إلى الوصول إلى الكمال.

وفي المرتبة الأخيرة القانون الوضعي والذي يضعه الإنسان. مضيفا، أنه لا ينبغي للقواعد الطبيعية، ولا القواعد الوضعية أن تتعارض مع القانون الإلهي، وفي حالة ذلك لا تجب طاعتهما وإنما يغلب القانون الإلهي، حتى لا يكون هناك تهجم مباشر على الإيمان. كما لا يجب أن تتعارض قواعد القانون الوضعي مع قواعد القانون الطبيعي حتى تكون عادلة، ولكن إذا ما وجد هذا التعارض تعد القاعدة الوضعية غير عادلة ومع ذلك ترجح وتكون واجبة الطاعة لكونها مقترنة بجزاء وتغليبا للمصلحة العامة. 

4- القانون الطبيعي في العصر الحديث 

عرف القانون الطبيعي من القرن 16 إلى غاية القرن 19 عدة تطورات، وبقي خلال هذه المراحل محتفظا بأساسه التقليدي. 

أ- اختفاء القانون الطبيعي خلال القرن 16 بسبب ظهور فكرة سيادة الدولة 

بعدما اصطبغ القانون الطبيعي بصبغة دينية، وسيطرت الكنيسة، كانت هناك محاولة التفكير للإطاحة بسيادة الكنيسة وفصل الأمور المدنية عن الأمور الدينية. ومع بدأ تكوين الدول الحديثة، ظهر مبدأ سيادة الدولة. 

ومن أشهر من دعا إلى تمكين الدولة ومنحها السلطان المطلق لوضع القانون الوضعي خلال القرن 16، نجد كل من ميكيافلي الإيطالي وبودان الفرنسي. فميكيافلي صاحب كتاب "الأمير"، منح الحاكم السلطان المطلق، وأقر له باستعمال كل الوسائل في سبيل تعزيز هذه السلطة، إعمالا لمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، فهو من اشتهر بمقولته: "يجب على الحاكم أن يكون أسدا وثعلبا في نفس الوقت"، تعبيرا منه عن القوة والخداع. وفي نفس المعنى اتجه بودان القائل أن الحاكم يتمتع بسلطان مطلق يسمح له بأن يتحلل من القوانين التي يفرضها على عامة الشعب، ليجعل بذلك الحاكم فوق القانون، والقانون في خدمته". 

غير أن المغالاة في تصوير فكرة سيادة الدولة للإطاحة بسيادة الكنيسة، نتج عنه اختفاء فكرة القانون الطبيعي، كما أدى إلى طغيان الحاكم واستبداده، لتضيع معه حقوق الأفراد وتسلب حرياتهم، فعمت الفوضى وعدم الاستقرار. 

ب- عودة القانون الطبيعي وانتشاره خلال القرنين 17 و18 

من أجل العمل على ضمان حقوق الأفراد وتمتعهم بحرياتهم، ولوضع حد لطغيان الحاكم وتقييد سلطانه ،وكذلك لأجل تنظيم علاقة الدولة بغيرها من الدول بعدما سادت القوة في العلاقات الدولية. ظهرت الحاجة إلى العودة من جديد إلى فكرة القانون الطبيعي، فأصبح هذا الأخير أساسا للقانون الدولي العام، وأساسا للقانون الدستوري. الأمر الذي أدى إلى انتشار القانون الطبيعي ونجاحه نجاحا عظيما خلال القرنين 17 و18.

فمعنى القانون الطبيعي أساس للقانون الدولي العام، هو أن تراعى قواعده ومبادئه في تنظيم العلاقات بين الدول، ويرجع الفضل في إبراز فكرة القانون الطبيعي وجعلها أساسا للقانون الدولي العام إلى الفقيه الهولندي "جروسيوس" صاحب كتاب "قانون الحرب والسلم". ومن ضمن ما تضمنه هذا الأخير، تعريفا للقانون الطبيعي على أنه: "القواعد التي يوحي بها العقل القويم والتي بمقتضاها يمكن الحكم بأن عملا ما يعتبر ظالما أو عادلا تبعا لكونه مخالفا أو موافقا لمنطق العقل".

كما جاء فيه تعريف لسيادة الدولة بأنها: "تلك التي تكون أعمالها مستقلة عن كل سلطة عليا ولا يمكن أن تلغى من قبل أية إرادة بشرية." 

فجروسيوس نظم المجتمع الدولي سواء في فترة السلم أو فترة الحرب. فعن فترة السلم يرى أن كل دولة تتمتع بسيادة مستقلة، إلا أن الدول صاحبة السيادة يجب أن لا تتجاهل بعضها، إذ عليها أن تقبل بفكرة وجود مجتمع يحكمه قانون بالضرورة. وهذا القانون هو القانون الطبيعي. وأما بشأن فترة الحرب، فهو يعترف بشرعية الحرب لعدم وجود سلطة أعلى من الدول ذات السيادة لفض نزاعاتها. على شرط أن تكون هذه الحرب عادلة، مع العلم أنها تكون كذلك (أي تعتبر حربا عادلة) متى كانت ردا على عدم العدالة التي يحددها القانون الطبيعي. وبتعبير آخر متى كان هناك اعتداء على الحقوق الأساسية التي يعترف بها القانون الطبيعي للدولة ذات السيادة، يحق لهذه الأخيرة شنّ حرب لاسترجاع حقها، وتعتبر الحرب في هذه الحالة مشروعة. ومن أمثلة الحقوق الأساسية المعترف بها للدول من قبل القانون الطبيعي نذكر: الحق في المساواة، الحق في الاستقلال، الحق في تقرير المصير ،الحق في التجارة الدولية.  

رغم أن جروسيوس اعتبر أن القانون الطبيعي قانون مستخلص من الطبيعة ومن العقل، يسبق القوانين الوضعية ويعلو عليها. ومن ثمة فالعقل يفرض وجود حقوق لصيقة بالإنسان تولد معه، وهي مبدأ أساسيا من مبادئ القانون الطبيعي لا تستطيع القوانين الوضعية أن تتجاهله. إلا أنه تراجع في بعض مواقفه عن هذا الأساس، كمثلا عندما اعتبر الحرية من أهم الحقوق اللصيقة بالإنسان، ومع ذلك يمكن النزول عنها بموجب معاهدة أو عقد كما يمكن فقدانها نتيجة الهزيمة في الحرب أو الوقوع في الأسر. 

ومعنى القانون الطبيعي أساس للقانون الدستوري، اعتباره أساسا لتنظيم سلطان الدولة اتجاه الأفراد، ووسيلة لردع الحكام وعدم طغيانهم واستبدادهم، وكذلك جعله وسيلة لتقرير حقوق طبيعية للأفراد لا يجوز للحاكم المساس بها أو تجاهلها. 

فنتيجة لطغيان الحكام والمغالاة في تصوير فكرة سيادة الدولة خلال القرن 16، أصبح الأفراد يسيرون وفقا لغرائزهم وأهوائهم، ما أدى إلى الفوضى وعدم الاستقرار وسيطرة الأنانية، والغلبة للأقوى. ومن أجل إعادة التنظيم إلى حياتهم وضمان الأمن والاستقرار، اتفق الناس فيما بينهم على التنازل عن حرياتهم بالقدر اللازم الذي يضمن لهم حقوقهم وحرياتهم وينظم معاملاتهم. وهو ما أطلق عليه "العقد الاجتماعي". فاعتبر هذا الأخير أساس نشأة الدولة وأساس وجود المجتمع السياسي.

ورغم الاتفاق حول الفكرة الأساسية للعقد الاجتماعي، ومفادها أن: "المجتمع السياسي هو المجتمع الذي يتنازل فيه الفرد عن جزء من حريته مقابل أن يحافظ له الحاكم على الجزء المتبقي من هذه الحرية، ضامانا لحقوقه وحفاظا على الأمن والاستقرار داخل المجتمع"، إلا أن مسألة تحديد أطراف العقد وما يترتب عنه من آثار كانت محل خلاف. 

فالفيلسوف الإنجليزي "هوبز" يرى أن الحاكم ليس طرفا في العقد الاجتماعي، لأنه يتم بين أفراد المجتمع، وأن الأفراد يتنازلون عن حقوقهم وحرياتهمم بشكل كامل لصالح الحاكم الذي يتمتع بالسلطة المطلقة، وذلك ليضمن لهم حقوقهم، ويحقق لهم الأمن والنظام. ولأن التنازل كان كاملا، غير مشروط ولا مقيد، فلا رجعة فيه. وبالتالي يجب على الأفراد طاعة ما يصدره الحاكم، ولا يحق لهم مساءلته ولا استبداله حتى وإن استبد. والملاحظ أنه اعتمد على فكرة العقد الاجتماعي لتبرير ومنح السلطان المطلق للحاكم، لا لتقرير حقوق الأفراد وضمان حرياتهم، وذلك لكونه من داعمي النظام الملكي السائد في إنجلترا. 

وأما الفيلسوف "جون لوك"، فاعتبر أن طرفي العقد الاجتماعي هما الحاكم من جهة، والأفراد منجهة أخرى. بموجبه يتنازل الأفراد عن جزء من حرياتهم لصالح الحاكم، ويحتفظون بالجزء المتبقي، وهذا الأخير يسمح لهم بتنحية الحاكم واستبداله بآخر حال استبداده. ومع أن لوك انجليزي، إلا أنه نادى بتقييد سلطان الحاكم لتفادي طغيانه واستبداده. 

وبنظر الفيلسوف الفرنسي "جون جاك روسو" مؤلف كتاب "العقد الاجتماعي"، لا سلطان إلا للشعب، يتنازلون لبعضهم البعض عن حرياتهم الطبيعية المطلقة مقابل حريات مدنية محدودة، واعتبر الحاكم ممثلا باسم الشعب. بمعنى آخر أن الشعب هو صاحب السلطة والسيادة في المجتمع، ولأنه لا يمكن أن تمارس هذه السلطة من قبل جميع أفراد الشعب معا، فإنهم يقومون بتعيين حاكم وكيلا عنهم، يسعى إلى ضمان حقوقهم وحرياتهم، والحفاظ على الأمن والاستقرار داخل المجتمع، دون أن يتمتع بالسيادة والسلطة، والتي تظل للشعب ويحتفظ بها لعزل الحاكم حال إخلاله بالتزاماته. فروسو جعل العقد الاجتماعي وسيلة لإنكار حق الملوك في السيادة المطلقة الذي كان سائدا في فرنسا. 

وفي أواخر القرن 18، بلغت نظرية القانون الطبيعي أوج مجدها وأقصى نجاحها، وذلك بالتزامن مع قيام الثورة الفرنسية "تحت شعار الدفاع عن الحقوق والحريات الأساسية"، فأصبح القانون الطبيعي في كنفها مصدرا رسميا تضمن مبادئه الإعلان الرسمي لحقوق الإنسان والمواطن لعام 1789.  

ت- تراجع القانون الطبيعي بسبب الانتقادات التي وجهت إليه خلال القرن 19

ببروز المدرسة الواقعية، تعرض مذهب القانون الطبيعي إلى هجوم عنيف خلال القرن 19، ما أدى إلى إضعافه وتراجعه، ومن بين الانتقادات التي وجهت إليه، وخاصة من قبل أنصار المذهب التاريخي، نذكر ما يلي: 

1- يبني القانون الطبيعي فكرته على أساس الخلود والثبات، وهذا القول عارضه وبشدة أنصار المذهب التاريخي، فبحسبهم القواعد القانونية تتغير بتغير الزمان والمكان، لأن القانون هو وليد البيئة الاجتماعية، وهذا ما يثبته الواقع ويؤكده التاريخ، فمن غير المعقول أن يثبت القانون على حال واحدة، فهو يختلف من بلد لآخر، بل وفي نفس البلد من  زمن لآخر. 

2- يذهب أنصار القانون الطبيعي إلى القول أن قواعده تستنبط من الطبيعة بواسطة العقل البشري، وحول هذه المسألة رد أنصار المذهب التاريخي بالقول أنه طالما أن قواعد القانون الطبيعي يكتشفها العقل البشري، فمن المفروض أن لا تكون ثابتة، وإنما تختلف من شخص إلى آخر طالما أن العقول البشرية مختلفة (لكل شخص تفكيره ودرجة ذكائه ووعيه الذي يتميز به عن الآخر).

3- يرى أنصار المذهب التاريخي أن قواعد القانون الطبيعي يطغى عليها النزعة الفردية وهو ما لا يخدم الصالح العام.

4- يعتبر أنصار المذهب التاريخي أن لا فائدة عملية مرجوة من قواعد القانون الطبيعي، لكونها غير مقترنة بجزاء، وهو ما يجعل عدم احترامها والخروج عنها أمر لا شك فيه.

نتيجة لهذه الانتقادات تراجع القانون الطبيعي بشكل ملحوظ إلى درجة أنه كاد أن يختفي، الأمر الذي دفع بأنصاره إلى البحث عن مضمون جديد لإعادة إرجاعه مرة أخرى، أطلق عليه ب "حركة إحياء القانون الطبيعي".

ثانيا: الأساس الحديث للقانون الطبيعي (حركة إحياء القانون الطبيعي)

أدت الانتقادات الموجهة إلى مذهب القانون الطبيعي إلى إضعافه، وكاد أن يختفي، إلى أن ثم بعته من جديد مع نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، وفي سبيل ذلك ظهر اتجاهان: 

1- القانون الطبيعي ذو المضمون المتغير

بسبب الانتقاد الموجه للقانون الطبيعي من قبل أنصار المذهب التاريخي، الرافض لفكرة الثبات والخلود التي تميز بها لعدة عصور، حاول الفقيه الألماني "ستاملر" أن يجمع بين الثابت والمتغير في فكرة القانون الطبيعي. وذلك من منطلق أن جوهر القانون هو مثل أعلى يتمثل في العدل، والعدل في حد ذاته ثابت ومتغير في آن واحد، فهو خالد في فكرته ومتغير في مضمونه، ولهذا أطلق عليه "القانون الطبيعي ذو المضمون المتغير". 

وأيضا تبنى هذه الفكرة الفقيه الفرنسي "سالي" الذي ذهب إلى القول أن العدل وهو جوهر القانون الطبيعي، فكرته في ذاتها خالدة أبدية لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وجدت في ضمير الإنسان بالفطرة، وعلى مر العصور وستظل كذلك إلى الأبد ثابتة، ففكرة العدل هي الإطار الثابت للقانون الطبيعي. أمّا الذي يتغير، فهو مضمون هذا العدل وطريقة تحقيقه التي تختلف من مكان إلى مكان آخر، بل وفي نفس المكان من زمن إلى آخر، حسب الظروف المستجدة والمتغيرة وحسب الإمكانيات والوسائل المتوفرة. 

وبهذا يكون أنصار القانون الطبيعي ذو المضمون المتغير حاولوا اتخاذ موقف وسط، فمن جهة يحتفظون بأصل القانون الطبيعي القائم على أساس الثبات والخلود، ومن جهة أخرى، تفادي انتقاد أنصار المذهب التاريخي بالبحث عن التغيير. وهو ما دفعهم إلى اعتبار العدل، بما أنه جوهر القانون الطبيعي، ثابت ومتغير في آن واحد، فهو ثابت في فكرته، متغير في مضمونه. 

إلا أن هذه المحاولة لم تلق قبولا، فتعرض أنصاره إلى الانتقاد لكون فكرتهم تقضي على أساس القانون الطبيعي، فلا يمكن أن تجمع نفس الفكرة بين الثابت والمتغير معا، فإما أن تكون ثابتة أو متغيرة. وأصل القانون الطبيعي قواعد ثابتة خالدة. كما أن فكرة العدل تختلف من مكان إلى مكان آخر وفي نفس المكان من زمن إلى آخر، فما يعتبر عادلا في بدلا معين قد يعتبر ظالما في بلد آخر. 

2- مذهب جمهور الفقهاء المحدثين في اعتبار القانون الطبيعي موجه مثالي للعدل

يرى أنصار هذا المذهب وعلى رأسهم الفقيه "بلانيول" والفقيه "جوسران"، أن الواقع والمنطق يكذبان فكرة وجود قانون مثالي، يتضمن قواعد تضع حلولا عملية لكل المشاكل الحياتية، ومع ذلك يتميز بكونه ثابتا خالدا، لا يتغير، في حين أن مشاكل الحياة الاجتماعية لا تعرض بنفس الشكل في كل الجماعات وفي كل الأزمنة. ما يوقع أنصار الأساس التقليدي للقانون الطبيعي في تناقض ويعرضهم للانتقادات. 

ولخلق التوازن وتخليص القانون الطبيعي من الانتقادات ذات الأدلة والحجج القاطعة والواقعية، عمد أنصار جمهور الفقهاء المحدثين إلى التضييق من نطاق القانون الطبيعي، بمعنى حصر المبادئ المثالية للقانون الطبيعي، الخالدة، الثابتة، التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، تمثل الحد الأدنى للمثل الأعلى للعدل. 

وبهذا، وبعدما كان يعتبر القانون الطبيعي أسمى القوانين وقواعده واجبة التطبيق لتحقيق العدل، تم تحديد وظيفته عن طريق جعل قواعده الثابتة الخالدة، موجهة مثالية للعدل. أي أن قواعد القانون الطبيعي لا تضع حلولا عملية لمشاكل الحياة الاجتماعية (فهذه الحلول تضعها القوانين الوضعية)، بل إنها توجه المشرعين إلى هذه الحلول إذا ما أرادوا تحقيق العدل، فتعتبر أساسا ومثلا أعلى للتنظيم القانوني تستند إليه القوانين الوضعية في كل مكان وزمان.  ومن أمثلة مبادئ القانون الطبيعي نذكر: الحق في الحياة، عدم الإضرار بالغير، إعطاء كل ذي حق حقه، عدم التعسف في استعمال الحق.  

إن هذا المذهب الأخير لاقى قبولا وإجماعا لكونه حافظ على أصل القانون الطبيعي وما يتميز به من كونه عبارة عن مجموعة قواعد ثابتة أبدية لا تتغير بتغير الزمان والمكان، هي من وحي الطبيعة ويكتشفها العقل البشري، وتعتبر مثلا أعلى للعدل. والجديد الذي انفردت به أنها جعلت قواعد ومبادئ القانون الطبيعي موجه مثالي للعدل، أي أنها لا تضع حلولا لمشاكل الحياة وإنما توجه المشرعين الوضعيين نحو صياغة قواعد قانونية تتغير بتغير الزمان والمكان، تتضمن حلولا لهذه المشكلات وتحقق العدل. 

إذن، يمكن القول أن القانون الطبيعي أضحى أساسا للقانون الوضعي سواء في نشأة قواعده وتكوينها (لأن المشرع الوضعي عند صياغته للقاعدة القانونية عليه أن يحترم مبادئ القانون الطبيعي التي توجهه نحو تحقيق العدل)، أو في تكملة وسد ما يظهر عند تطبيقها من نقص أو قصور. وهو ما نصت عليه المادة الأولى من التقنين المدني الجزائري بجعلها مبادئ القانون الطبيعي مصدرا للقانون حيث ورد فيها بأن: "يسري القانون على جميع المسائل التي تتناولها نصوصه في لفظها أو في فحواها. وإذا لم يوجد نص تشريعي، حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم يوجد فبمقتضى العرف، فإذا لم يوجد فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة". 

المدرسة الواقعية (الأساس الاجتماعي والواقعي للقانون) 

المدرسة الواقعية من أعرق المدارس التي اهتمت بمضمون القاعدة القانونية، وتفسير القانون، وجاءت كرد فعل في مواجهة المدرسة المثالية. سميت كذلك لأنها تؤمن بالدليل العلمي والحقائق العلمية التي تلامس الواقع، وتستند على ما تثبته الملاحظة وتؤيده التجربة. ينتمي إليها ثلاثة مذاهب يرى أنصارها أن القانون ظاهرة اجتماعية، ولذلك فأساسه اجتماعي واقعي. ولكنهم اختلفوا حول هذا الواقع الاجتماعي على النحو التالي: 

- المذهب التاريخي الذي يرجع جوهر القاعدة القانونية إلى البيئة الاجتماعية، حيت أظهر علاقة القانون بالبيئة الاجتماعية ومدى ارتباطه وتأثره بها

- مذهب الغاية الاجتماعية والذي ظهر كرد فعل على المذهب التاريخي، ويرى أن أساس القانون غاية يسعى إلى تحقيقها بتدخل إرادية إنسانية واعية توجهه. 

- مذهب التضامن الاجتماعي الذي تبنى المنهج التجريبي الواقعي محاولا تطبيقه على الظواهر الاجتماعية بما فيها القانون، فأرجع أساس وجوهر القاعدة القانونية إلى تضامن الأفراد فيما بينهم وشعورهم بما هو عدل. 

المذهب التاريخي

ظهرت بوادر المذهب التاريخي منذ القرن الثامن عشر في فرنسا، إذ أظهر بعض الفقهاء والفلاسفة أثر البيئة والظروف المحيطة بها في اختلاف القوانين، إذ رأوا أن القوانين يجب أن تتناسب وطبيعة البلاد التي تصدر فيها. ومن أهم الفلاسفة الذين ربطوا القانون بالبيئة الاجتماعية الفقيه "منتيسكيو" في كتابه: "روح الشرائع". وكذلك الفقيه "بورتاليس" صاحب فكرة "القانون يوجد ويتطور آليا مع تقدم الزمن دون تدخل من الإرادة الإنسانية"، والتي تحولت فيما بعد إلى أساس من أسس المذهب التاريخي. وأيضا صاحب مقولة: "تتكون تقنيات الشعوب مع الزمن، فهي بحق لا تصنع". 

غير أن هذه الأفكار تبلورت وخرجت في مذهب واضح المعالم على يد الفقيه الألماني "سافيني"، أطلق عليه المذهب التاريخي، فجعل من مبادئه وأسسه بديلا للاعتراض على فكرة تقنين القوانين في ألمانيا كما فعل تقنين نابوليون في فرنسا. إذ يعتبر سافيني أن القانون هو مجموعة القواعد السائدة التي تسجلها المشاهدة وتعززها التجربة في مجتمع معين، وأن التجارب قد دلت أن القانون ليس واحد ثابتا ولكنه متغير في الزمان والمكان، يتأثر في ذلك بعوامل البيئة المختلفة والمتعددة ويساير تطورها واختلافها، مما يستبعد معه تثبيت نصوصه وقواعده في التقنين، فذلك يفضي إلى جموده وعدم مواكبته للتطور. 

أولا: الأسس التي يقوم عليها المذهب التاريخي 

يقوم الذهب التاريخي على ثلاثة أسس تتمثل في: 

1- إنكار وجود القانون الطبيعي: في منطق أنصار المذهب التاريخي، القانون ليس من وحي مثل عليا، فلا توجد قواعد ثابتة أبدية يكشف عنها العقل، بل القانون من صنع الزمن ونتائج التاريخ ،فهم لا يعترفون بوجود القانون الطبيعي وكانوا من أبرز منتقديه. 

2- القانون وليد حاجة الجماعة: يرى أنصار المذهب التاريخي بأن القانون وليد البيئة الاجتماعية وحدها، وأنه يتطور حسب ظروف كل مجتمع، لذا فهو يختلف من دولة إلى دولة أخرى، بل ويتغير في الدولة نفسها من جيل إلى جيل أخر، حسب تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية.

وأن الجماعة لا يحدها زمن معين أو جيل معين بل هي كالسلسلة تندرج في خلفياتها الأجيال وتتعاقب على مر الزمان، فيرتبط فيها الحاضر بالماضي، ويمهد الحاضر للمستقبل. ومن ثمة، فليس القانون ثمرة جيل معين من أجيال الجماعة وإنما هو ثمرة التطور التاريخي.

3- القانون ينشؤ ويتطور آليا تلقائيا: في منظور المذهب التاريخي أن القانون ينبعث من جهد جماعي مشترك تساهم فيه الأجيال المتعاقبة في دولة معينة، فهو يتكون ويتطور في تفاعل مستمر في الضمير الجماعي لكل أمة، وهو بذلك يتكون تكوينا ذاتيا آليا لا تخلقه ولا تضعه إرادة إنسانية أو تحوله عن الطريق المرسوم. 

ثانيا: النتائج المترتبة عن المذهب التاريخي  

يؤدي الأخذ بأسس المذهب التاريخي إلى النتائج التالية:

1- عدم تجميع القواعد القانونية في تقنين: تجميع القواعد القانونية في تقنينات ثابتة يعد عملا ضارا بها، لأن هذا التقنين من شأنه أن يؤدي إلى جمود القوانين وعدم تطورها، حيث تضفي عملية التقنين على القواعد القانونية نوعا من القدسية يجعل المشرع يتردد في تعديلها وتغييرها بما يلائم تطور الحياة في الجماعة، وبمرور الزمن تصبح هذه التقنينات بعيدة عن الواقع وغير ملائمة للمجتمع، فلا تواكب تطوره وما يستجد من ظروف.

2- حصر دور المشرع: القانون الذي يصدره المشرع ليس من وضعه ،لأن القانون يوجد نفسه ويتكون تلقائيا بطريقة آلية، كلما تغيرت الظروف وتطورت، إذ يقتصر دور المشرع على مراقبة تطور هذا القانون في ضمير الجماعة، ثم تسجيل هذا التطور في نصوص ينشرها على الناس، وبذلك تصبح وظيفته سلبية قاصرة على تسجيل مضمون الضمير الجماعي وتطوره على مر الزمن. (دوره لا يكمن في تكوين وإنشاء القاعدة القانونية ووضعها، وإنما ينحصر في تسجيل ما يخرج من الضمير الجماعي ،فالقانون هو من وحي البيئة الاجتماعية).

فعلى المشرع متابعة كل تطور جديد وتعديل نصوص القانون بما يتفق مع هذا التطور، ولعل هذا هو السبب في عداء المذهب التاريخي للتشريع بصفة عامة والتقنين بصفة خاصة، إذ يخشى أنصار المذهب أن يحول التشريع أو التقنين دون التطور التلقائي للقانون بتثبيته في نصوص جامدة تجعل القانون حبيس النصوص التشريعية وتمنعه من الاستجابة للتطور الحتمي للمجتمع، كما يخشون عدم قدرة المشرع على مواكبة الوتيرة السريعة للتطور. 

3- اعتبار العرف المصدر المثالي للقانون: لأن العرف لا يدون وينشأ في ضمير الجماعة ويتطور معها تلقائيا، ويعبر تعبيرا صادقا ومباشرا عن رغبات الجماعة وحاجاتها ومصالحها وظروفها الاجتماعية، فإنه في نظر مؤيدي المذهب التاريخي أفضل من التشريع، فهو يكفل تطور القواعد القانونية بطريقة طبيعية، بينما التشريع يقتصر على التعبير غير المباشر عن الضمير الجماعي.

4- تفسير القانون وقت تطبيقه لا وقت وضعه: يجب عند تفسير النصوص التشريعية التي وضعها المشرع أن لا يتجه البحث عن نية المشرع وقت وضع هذه النصوص، لأن هذه النية كانت وليدة الظروف التي أحاطت بها وتؤدي إلى جمود القاعدة القانونية وعدم مواكبتها للتطورات. بل يجب أن يتجه البحث إلى نية المشرع وقت تطبيق هذه النصوص التشريعية، بمعنى أنه يجب البحث عما كان يحتمل أن يقصده المشرع لو أنه أعاد وضع هذه النصوص التشريعية ذاتها من جديد في الظروف التي يراد تطبيقها فيها. وبهذا -وعلى عكس المذاهب الشكلية، وعلى وجه الخصوص مدرسة الشرح على المتن- يعتد المذهب التاريخي بالأخذ بالنية الاحتمالية للمشرع دون النية الحقيقية والمفترضة.

ثالثا: الانتقادات الموجهة إلى المذهب التاريخي

لقد أسهم المذهب التاريخي في الكشف عن وجود علاقة وارتباط بين القانون والبيئة الاجتماعية، كما أسهم في تبيان أن القانون ليس هو تعبير عن إرادة الحاكم بل هو نتاج المجتمع، وعلى المشرع أن لا يفرض على الجماعة قانونا لا يستجيب لحاجاتها ورغباتها وينبع من حقيقة مشاكلها. كما كان له دورا في إبراز أهمية العرف كمصدر من مصادر القانون بعد أن أغفلته المذاهب الأخرى معتمدة فقط على التشريع. 

إلا أن ذلك لا يمنع من تعداد بعض الأخطاء التي وقع فيها ومنها:  

- ربط القانون بالضمير الجماعي، فأغفل بذلك دور الإرادة الإنسانية وأنكر دور العقل في تطور القانون، فالقانون يجب أن يسعى إلى تحقيق غاية، وهذه الأخيرة تحتاج إلى تدخل إرادة إنسانية لبلوغها. فللمشرع دور في توجيه القانون واختيار أنسب القوانين. 

- بالغ المذهب التاريخي في ربط القانون بالبيئة الاجتماعية، فأخضع القواعد القانونية لقانون السببية التي تصلح وتحكم الظواهر الطبيعية، متجاهلا بذلك أن القانون من العلوم التقويمية لكونه يسعى إلى تقويم سلوك الأفراد، ويفترض أن يسعى إلى تحقيق غاية معينة بتدخل من إرادة إنسانية واعية. 

- معارضة المذهب التاريخي لحركة تجميع القوانين لا تلقى الإجماع، فللتقنين مزايا، فهو وسيلة لتوحيد القانون في مختلف أجزاء الدولة ،كما أنه يضفي على القواعد القانونية نوع من الثبات والاستقرار.

- المبالغة في اعتبار القانون وليد البيئة والظروف الخاصة بكل مجتمع، في حين أن الواقع أثبت أن هناك دولا اقتبست جل قوانينها أو جزءا منها من قوانين دول أخرى، رغم اختلاف بيئتها الاجتماعية.

- اعتبار العرف مصدرا وحيدا للقانون، فرغم أهميته ودوره إلا أن التشريع وبقية المصادر الأخرى لا يمكن إنكارها وإغفالها، فلا بد من فتح الباب أما تعدد المصادر واختلافها خاصة في ظل تفاقم المشاكل وكثرتها.

- القول برفض التقنين واعتباره عملا ضارا بالقاعدة القانونية مبالغ فيه، فلقد أظهر التشريع فعاليته ونجاعته في مواكبة التطورات من خلال تعديل القواعد القانونية، أو إلغاء بعضها، أو إدراج وإضافة أخرى تستجيب للظروف المستجدة. وخاصة مع ارتفاع نسبة السكان واختلاف حاجاتهم ورغباتهم، لا بد من تقنين موحد يسري على الجميع ويضبط سلوكهم وينظم معاملاتهم.

مذهب الغاية الاجتماعية 

ينتمي مذهب الغاية الاجتماعية إلى المدرسة الواقعية، نادى به الفقيه الألماني "إهرينج" كرد فعل مباشر على المنهج التاريخي، أبرزه في مؤلفاته أهمها: "الكفاح من أجل القانون" و"الغاية من القانون". 

ولهذا نجد أن هذا المذهب لا يقوم على أسس وإنما على فكرة كونه جاء مصححا للخطأ الذي وقع فيه أنصار المذهب التاريخي عندما ذهبوا إلى القول أن القانون يتطور أليا تلقائيا، دون تدخل إرادة إنسانية، وهو ما رفضه "اهرينج". 

أولا: الفكرة التي يقوم عليها مذهب الغاية الاجتماعية

يرى "إهرينج" أن القانون في تطور مستمر ولكنه ليس تطورا تلقائيا كما يزعم أنصار المذهب التاريخي، بل هو تطور يخضع إلى حد كبير لإرادة الإنسان. فالقانون ظاهرة اجتماعية، والظواهر الاجتماعية تختلف عن الظواهر الطبيعية من حيث خضوعها لقانون الغاية دون قانون السببية، فالظواهر الطبيعية كتعاقب الليل والنهار بسبب دوران الأرض، أو سقوط الأجسام من أعلى إلى أسفل بسبب الجاذبية، تحدث كلما توافرت أسبابها دون أن يكون لإرادة الإنسان دخل في حدوثها أو دفعها نحو تحقيق غاية معينة. ومن ثم، فهي تخضع لقانون السببية.  

أما الظواهر الاجتماعية، فلا تتم إلا بتدخل الإرادة البشرية تدفعها نحو تحقيق غاية معينة. ومن ثم، فهي تخضع لقانون الغاية. والقانون باعتباره ظاهرة اجتماعية، تلعب إرادة الإنسان دورا كبيرا وايجابيا في نشأته وتطوره، وقد يصل هذا الدور إلى درجة الكفاح واستخدام القوة والعنف، لتوجيه القانون نحو تحقيق الغاية المرجوة منه. ذلك أن التطور قد يؤدي إلى تغيير بعض النظم القانونية القائمة في المجتمع والتي يحرص المستفيدون منها على بقائها وعدم تغييرها، الأمر الذي يؤدي إلى قيام الصراع والكفاح بين هؤلاء المستفيدين وبين من يريدون تعديل هذه النظم، ويتوقف بقاء أو تغيير هذه النظم على نتيجة هذا الصراع والكفاح، بحيث إذا تغلب أنصار التعديل أو التغيير ظهرت نظم قانونية جديدة وأدى ذلك إلى تطور القانون، فالثورات الاجتماعية وحركات التحرير الكبرى التي شهدتها الإنسانية في عصورها المختلفة كانت تقوم دائما دفاعا عن مبادئ قانونية، وكفاحا من أجل تعديل أوضاع قانونية لم تكن تتفق مع الظروف الاجتماعية القائمة، فمثلا تحرير الفلاحين من الإقطاعيين، لم يتحقق إلا بعد كفاح طويل وتضحيات مريرة لتعديل وتغيير الأنظمة القانونية التي كانت سائدة. وعلى هذا النحو، فإن القانون في طبيعته وجوهره، وفقا لمذهب "إهرينج" ليس إلا ثمرة الغاية والكفاح. فالغاية هي حفظ المجتمع وأمنه واستقراه وتقدمه، والكفاح هو من أجل تحقيق هذه الغاية. ولذلك، فإن هذا المذهب يسمى بمذهب الغاية أو مذهب الكفاح. 

ثانيا: الانتقادات الموجهة إلى مذهب الغاية الاجتماعية 

رغم واقعية هذا المذهب في أن ابرز دور الإرادة الإنسانية في نشأة القانون وتطوره، كما أبرز خطأ المذهب التاريخي الذي ألبس القانون ثوب الآلية والتلقائية دون التوجيه الإنساني. إلا أن ما يعاب عليه هو:  

- جعل غاية القانون هي حفظ المجتمع وليس إقامة العدل. 

- كذلك يؤخذ عليه أنه جعل الكفاح أساس تطور القانون، وهذا تبرير لمنطق القوة حتى ولو لم تكن على حق، وتبرير لمنطق الغاية تبرر الوسيلة. 

- وأيضا يؤخذ عليه أنه أفرط في جعل تطور القواعد القانونية كلها رهنا على إرادة الإنسان وهذا ينافي الأعراف التي هي من مصادر القانون ولا تظهر فيه إرادة الإنسان بشكل جلي وواضح، وكذلك المجتمع ينشؤ القانون، وإذا ما طالب عن حقوقه، فإن مطالبه عادة ما تكون اجتماعية بحتة.

مذهب التضامن الاجتماعي 

لقد أسس الفقيه الفرنسي "دوجي" في أواخر القرن التاسع عشر مذهب التضامن الاجتماعي، ووضع القواعد التي يقوم عليها، إذ تجلى من خلالها تأثره بالنزعة العلمية التي تنطلق من الواقع وترتكز على الملاحظة والتجربة، وهذا التأثر جاء مع انتشار تطبيق المنهج التجريبي على العلوم الاجتماعية.

ومن هنا، أخذ دوجي بهذه الفكرة في تحديد نشأة وتطور القاعدة القانونية ليخرج مجموعة من الحقائق العلمية الواقعية التي يرى بأنها أساس القاعدة القانونية، أما ما عدى هذه الحقائق الملموسة، كالحقائق المثالية مثلا، فإنها حسية واهية لا يمكن الأخذ بها.  

أولا: الأسس التي يقوم عليها مذهب التضامن الاجتماعي

تأثر "دوجي" بالنزعة الواقعية العلمية الملموسة، فلم يعترف إلا بالحقائق التي تقوم على دليل علمي، تثبتها المشاهدة وتعززها التجربة. واستنادا لذلك أسس مذهبه على أساس التالية:  

1- تعايش الإنسان مع غيره من أفراد المجتمع: الإنسان قد عاش في الماضي كما يعيش الآن مع غيره في حياة اجتماعية، والمجتمع بالنسبة إليه يعتبر حقيقة واقعية. فالإنسان هو من جهة عضو في الجماعة بحيث لا يمكنه العيش بمفرده. ومن جهة أخرى، له كيان شخصي مستقل عن المجتمع، إذ له حاجاته الشخصية وميولاته واعتقاداته وأفكاره التي تميزه عن الآخرين. 

2- التضامن الذي ينشأ بين أفراد هذا المجتمع: يرى "دوجي" أن التضامن الاجتماعي: "هو الذي يجب أن يصمد فوق شدة الأقوياء وضعف الضعفاء، وفوق الفوارق الاجتماعية، فإنه العامل الذي يجمع الطبقتين في ظل دولة واحدة".

فالتضامن حقيقة علمية واقعية وليس مثلا أعلى ميتافيزيقيا، والإنسان يرتبط بأفراد المجتمع ارتباط تضامن، ذلك أن الفرد لا يمكن أن يفي كل حاجاته ومتطلباته بنفسه دون الحاجة إلى مساعدة من الآخرين.  ولقد ميز "دوجي" بين نوعين من التضامن:

 أ- التضامن بالاشتراك: الذي ينشأ عند تشابه حاجات أو رغبات الأفراد ويتطلب عندئذ تحقيقها تضامن الأفراد فيما بينهم من خلال تكاثف الجهود. فالحاجات المتشابهة والمصالح المشتركة بين الناس لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تضامن وتعاضد واشتراك، وهو ما يطلق عليه بالتضامن بالتشابه أو التضامن بالاشتراك.

ب - التضامن عن طريق تقسيم العمل: إن الناس متميزون ومتفاوتون في حاجاتهم وقدراتهم ،ولكل فرد مواهبه الخاصة التي تسمح له بتبادل المنافع المختلفة مع غيره من أفراد المجتمع. فينشؤ التضامن عن طريق تقسيم العمل عند اختلاف الأفراد في ميولهم واستعداداتهم، هذا ما يجعل كل فرد يتخصص في نشاط أو عمل معين يتضامن مع غيره من الأفراد من خلال تبادل الخدمات والسلع وبالتالي تبادل المنفعة ويزداد هذا النوع من التضامن مع تطور البنيان الاجتماعي.  

3- شعور الأفراد بما هو عدل: لقد عزز دوجي القاعدة القانونية بأساس آخر هو الشعور بالتضامن، غير أنه فيما بعد تبين له عدم كفاية الشعور بالتضامن الاجتماعي كأساس للقاعدة القانونية، لذلك عدّله إلى الشعور القائم عند الأفراد بما هو عدل وما هو غير عدل. ومن خلاله يميز ما بين الأفعال التي يجب القيام بها والأفعال التي وجب تركها والامتناع عنها، أي الحد الفاصل بين ما هو صالح وما هو طالح، ويتفرع على هذا الحد الاجتماعي قواعد اجتماعية تنظم الأفراد.

وعليه، فالقاعدة القانونية حسب "دوجي" ليست من صنع الدولة التي تعتمد على الإجبار لكفالة احترامها كما تنادي به المذاهب الشكلية والتي ترجع القانون إلى إرادة الدولة. ولا تلك القاعدة التي تخضع للمثل الأعلى كما يدعي أنصار القانون الطبيعي. بل هي القاعدة التي يشعر أفراد المجتمع أنها ضرورية للحفاظ على التضامن الاجتماعي وأنه من العدل استعمال قوة الجبر في الجماعة لكفالة احترامها والانصياع لها. 

ثانيا: الانتقادات الموجهة إلى مذهب التضامن الاجتماعي 

لقد وجهت لمذهب التضامن الاجتماعي جملة من الانتقادات تمثلت في:

- إن تطبيق المنهج العلمي التجريبي على الظاهرة الاجتماعية بما فيها القانون صعب ويستحيل في بعض الحالات، وهذا لأن الظواهر الاجتماعية هي ظواهر إرادية تخضع لقانون الغاية، فهي تتجه نحو تحقيق غاية معينة، ولا بد من تدخل الإرادة الإنسانية لتحقيقها. عكس الظواهر الطبيعية التي تخضع لمبدأ السببية، فيمكن إدراك النتيجة بالمشاهدة والتجربة كلما توافرت الأسباب اللازمة. وبالتالي يسهل تطبيق المنهج التجريبي الواقعي عليها.

- كما أن العلوم الاجتماعية تهدف إلى معرفة ما هو كائن وما يجب أن يكون، وهنا، فهي تخضع لمبدأ التنبؤ والتطلع والذي يخرج عن دائرة الملاحظة والتجريب. كما أن الظاهرة الاجتماعية تمتاز بالتشابه والتغيير المستمر هذا ما يجعل تطبيق المنهج التجريبي عليها شيء صعب وعسير. ومن ثمة، ففكرة "دوجي" فيما يخص تطبيق الملاحظة والتجربة على الظاهرة الاجتماعية لا يمكن الأخذ بها على إطلاقها. 

- لقد حملت فكرة دوجي نوعا من التناقض بسبب خروجه عن الأساس الواقعي التجريبي وذلك من خلال اعتماده على التضامن بين الأفراد كأساس للقاعدة القانونية وإغفاله للتنافس والتنازع بين الأفراد والذي يعتبر حقيقة واقعية ملموسة. ومن هنا، فقد خرج "دوجي" عن نزعته الواقعية باعتماده على النزعة المثالية وهذا من خلال ارتكازه على مثل أعلى تمثل في حقيقة التضامن بين الأفراد وترك حقيقة التنافس والتنازع. 

- كما أن التضامن بين الأفراد يكون في الخير ويكون أيضا في الشر، إلا أن "دوجي" اكتفى بالتضامن في الخير دون التضامن في الشر، فأعطى للتضامن قيمة مثالية، وفي هذا تعارض واضح مع منهجه الذي لا يقوم إلا على أساس علمي واقعي ويستبعد كل ما هو مثالي.

- جعل "دوجي" شعور الأفراد بالعدل أساس القاعدة القانونية، وهذا معناه تحكيم الأهواء الشخصية، والنزعة الذاتية والنزاعات الفردية (وهنا أيضا تناقض مع مبادئه وأفكاره كونه ينادي إلى ضرورة إعمال العقل والتقيد بالموضوعية، ومن تم جعل أساس القانون خاضعا للنزعة الذاتية ألا وهي الشعور النابع من الأفراد بما هو عدل). في حين أن القانون يجب أن يستند إلى الحقائق الموضوعية، والعدل كحقيقة ثابتة كما يفرضها العقل وليس كما يشعر به الأفراد، فالأفراد هم الذين يخضعون للعدل وليس العدل هو الذي يخضع للأفراد. 

رغم أن مذهب دوجي قد حمل مجموعة من الجوانب السلبية، إلا أنه أظهر أهمية الحقائق الواقعية المستمدة من الحياة الاجتماعية وأثرها في تكوين القاعدة القانونية، كما أعطى بعدا علميا مبنيا على أساس الملاحظة والتجربة في القانون.

القسم الثالث: المذاهب المختلطة (غير متوفر حاليا) 

author-img
elmizaine

تعليقات

تعليق واحد
إرسال تعليق
  • Mimma Limongi photo
    Mimma Limongi26 مارس 2022 في 10:59 ص

    مرحبًا يا أصدقاء ، اسمي الدكتورة روان حسين من مدينة الكويت ، أنا طبيبة جراح على يد محترف ، عمري 52 عامًا ، يرجى قراءة شهادات حياتي الحقيقية بعناية كيف استعدت حبي السابق في غضون ثلاثة أيام بعد صلاة تعويذة الحب ، أنا لدينا نوايا طيبة لمشاركة الأخبار السارة هنا وأنا أعلم أن هذه المعلومات ستساعد شخصًا ما على شفاء قلب مكسور واستعادة علاقة الحب المفقود في غضون ثلاثة أيام. قد تكون إقامتي متشابهة ، لقد كنت متزوجًا من حسين لسنوات حتى الآن في الشهر الماضي ، لقد انفصل عني ، لقد فعلت كل شيء لأجعله يعود ليحبني ، لكن كل ما فعلته كان عبثًا ، كنت أريده أن يعود كثيرًا لأنه كان لدينا طفلان صغيران معًا وأنا أحبه كثيرًا لدرجة أنني لا أستطيع بدونه ، سألته بكل شيء ، لقد وعدته لكنه رفض. شرحت مشكلتي لزملائي في العمل ، فهي أفضل صديق لي ونصحتني بالتواصل مع تعويذة حب دكتورة إغبينوفيا التي هي الوحيدة التي يمكن أن تساعدني ، لكنني من النوع الذي لا يؤمن أبدًا بوجود تعويذة الحب أو يمكنني العمل ، لم يكن لدي خيار سوى المحاولة ، لقد أرسلت رسالة doctorigbinovia93@gmail.com بريد إلكتروني و whatsapp +12162022709 و viber +12066713285. أخبرني دريغبينوفيا أنه يمكنه مساعدتي في استعادة زوجي ، ولا داعي للقلق من أن كل شيء سيكون على ما يرام قبل ثلاثة أيام عمل ، لقد اتبعت بعناية جميع تعليماته بشأن ما يجب القيام به في منزلي أثناء صلاة تعويذة الحب في منتصف الليل. بث الدكتور إغبينوفيا مقطعًا تعويديًا من الحب وبشكل مفاجئ ، كان اليوم الثاني حوالي الساعة 05:00 اتصل بي زوجي لقد فوجئت جدًا برفض زوجي الاتصال بي ولم يرسل لي رسالة نصية خلال الأسابيع الثلاثة الماضية ، وفجأة هو اتصل ليعتذر لي وقال إنه سيعود إلى المنزل لأنه يفتقد عائلته ، وكان متحمسًا للغاية لدرجة أنني قبلته مرة أخرى.

    حذف التعليق
    google-playkhamsatmostaqltradent