محاضرة في الخطأ غير العمدي

محاضرة في الخطأ غير العمدي

الخطأ غير العمدي

تقديم:

 تتميز الجريمة العمدية عن الجريمة غير العمدية في ركنها المعنوي، فبينما يتخذ الركن المعنوي في الجريمة العمدية صورة القصد الجنائي فإن الركن المعنوي في الجريمة غير العمدية يتخذ صورة الخطأ غير العمدي.
وينصرف أثر الخطأ غير العمدي إلى النتيجة الإجرامية التي يعاقب عليها القانون، فالخطأ لا يختلط بالإرادة إذ لا بد من توافر إرادة النشاط الإجرامي المنطوي على خطأ غير عمدي، فكل ما تتميز به الجريمة غير العمدية أن الجاني قد أراد النشاط لكنه لم يرد النتيجة بل وقعت بسبب خطئه غير العمدي.
وقد نالت الجرائم غير العمدية اهتماما كبيرا في المجتمع الحديث، فقد أدت مظاهر الحضارة الحديثة إلى إتباع كثير من الوسائل التي تقتضي الحرص في استعمالها، وترتب على ذلك كثرة وقوع الجرائم غير العمدية بنسبة تفوق الجرائم العمدية.
ويقتضي هذا الموضوع تعريف الخطأ غير العمدي وعلة العقاب عليه، مع تحديد عناصره، ثم صوره في قانون العقوبات الجزائري، وكذا أنواعه المتعارف عند الفقه.

أولا : تعريف الخطأ والعلة من العقاب عليه

1/ تعريف الخطأ غير العمدي:

لم يعرف المشرع الجزائري ماهو الخطأ غير العمدي، ولكن الفقه عرفه بأنه " عدم إتخاذ الجاني واجبات الحيطة والحذر لمنع النتيجة الضارة التي كان في وسعه توقعها وتجنبها " ويترتب على هذا النوع من الخطأ وقوع الجرائم غير العمدية، وينتفي في هذه الحالات القصد الجنائي، و توصف إرادة الجاني بأنها آثمة مع أنها لم تتجه لإحداث النتيجة الضارة لمجرد أنها لم تلتزم جانب الحيطة، ولا يمكن للجاني أن يتعذر بكونه لم يرد النتيجة الإجرامية للتنصل من المسؤولية، ذلك لأن إرادة المتهم وإن لم تتوقع النتيجة إلا أنها كان بإمكانها أن تتوقع بأن هذا السلوك سيؤدي إلى النتيجة الإجرامية فتتجنبه.
وأهم الجرائم غير العمدية الواردة في قانون العقوبات الجزائري القتل الخطأ المنصوص عليه بالمادة 288 قانون العقوبات، والجروح الخطأ المنصوص عليها بالمادتين 289 و 442 قانون عقوبات و الحريق غير العمدي المنصوص عليه بالمادة 450 من قانون عقوبات وغيرها.

2/ العلة من العقاب على الخطأ غير العمدي:

يعترض بعض الفقهاء على مبدأ تجريم الخطأ غير العمدي بدعوى أن الجاني في الجرائم غير العمدية لا تنصرف نيته إلى تحقيق الواقعة المحظورة، بل إنه في معظم الأحيان لا يتوقعها أصلا، ولا يخلو عقابه في تقديرهم من خروج على المبادئ الأساسية في التشريع الجنائي، ولذلك فهم يرون بالاكتفاء بالمسؤولية المدنية في أحوال غير العمدي.
وهذا الاعتراض – حسب بعض الفقه – ليس فاسدا من كل الوجوه، ولكنه لا يقتض بالضرورة نفي العقاب عن الخطأ تماما، وإنما يقتضي فحسب ألا يعامل الخطأ معاملة العمد باعتباره أقل منه جسامة، وهذا الأمر مسلم به وليس هناك من ينازع فيه.
ولا ينبغي التهوين مع ذلك من شأن الخطأ، فهو و إن لم يكن تحديا سافرا للقانون فهو على أي حال ينطوي على عصيان لأوامره ونواهيه، ويتمثل ذلك في إخلال الجاني بواجب الحيطة والحذر اللذان يفرضان عليه الالتزام بقدر معين من التدبر والحيطة.
ولما كانت المصالح التي يحميها القانون الجنائي يمكن المساس بها لا عن طريق العمد فحسب وإنما عن طريق الخطأ أيضا، فقد اضطر المشرع لمواجهة  هذا الخطر بالعقوبة الجزائية إيمانا منه بأن خاصية الردع التي تكمن فيه كفيلة بحمل الناس على أن يستحثوا قدرة التعقل والانتباه لديهم وأن يضبطوا سلوكهم في الحدود المشروعة.

ثانيا : عناصر الخطأ غير العمدي:

يمكن أن نستكشف من التعريف السابق للخطأ غير العمدي ثلاثة عناصر هامة وهي، أولها ان تتجه إرادة الفاعل إلى إتيان السلوك، وثانيها توقع النتيجة أو استطاعة توقعها، وثالثها عدم اتخاذ واجب الحيطة و الحذر الكافيين.

1/ إتجاه إرادة الجاني إلى إرتكاب السلوك:

وهذا شرط عام ولازم في الخطأ لزومه في العمد على السواء، لأنه من طبيعة الركن المعنوي ذاته، وإذا انتفى هذا الشرط تخلف الركن المعنوي من أساسه

2/ توقع النتيجة أو استطاعة توقعها:

يصادفنا في الخطأ غير العمدي فرضان ، أحدهما لا يتوقع فيه الجاني النتيجة الإجرامية مع أنه كان باستطاعته وكان واجبا عليه أن يتوقعها، والفرض الثاني أن يتوقع الجاني النتيجة الإجرامية ولكنه يعتمد على اتخاذ وسائل غير كافية لتجنبها.

أ/ حالة عدم توقع النتيجة الإجرامية:

فإن الإرادة تكون آثمة لأن الفاعل كان يجب عليه أن يتوقع النتيجة الضارة المترتبة على فعله، وبالتالي كان في استطاعته منع حدوثها، فمن يطلق النار في عرس يجب عليه أن يتوقع أن هذا الفعل يمكن أن يترتب عليه إصابة بعض المدعوين، وعدم توقعه لهذه النتيجة التي يمكن أن يتوقعها الشخص العادي المتوسط الحيطة والحذر يجعل الخطأ من جانبه ويترتب عليه المسؤولية الجزائية.

ب/ حالة توقع النتيجة الإجرامية وعدم اتجاه الإرادة إليها:

فالإرادة هنا آثمة كذلك ويمكن القول أنها أكثر إثما من الحالة الأولى، لأن الجاني قد توقع النتيجة ورغم ذلك أقدم على الفعل ولم يتخذ القدر الكافي من الحيطة والحذر اللذان يحولان دون وقوعها، ومثال على ذلك من يمشي بسيارته بسرعة كبيرة في شارع مزدحم متوقعا إصابة أحد المارة ولكنه يعتمد على مهارته في القيادة لتجنب حدوثها.

3/ عدم اتخاذ واجب الحيطة والحذر:

يورد المشرع واجبا على الأفراد يتضمن اتخاذ الحيطة والحذر،فيضع لوائح وقوانين يجب على الأفراد الالتزام بها، ومن ذلك قوانين ولوائح المرور، ففي هذه الأخيرة تحديد لأنماط من السلوك واجب إتباعها في قيادة السيارات، كذلك فإن قواعد العلوم المختلفة تفرض بعض الواجبات المفروض إتباعها في ممارسة مهن معينة كالطب والهندسة وغيرها، ويجب على من يمارسها أن يراعي هذه الواجبات، فتعقيم الأدوات الجراحية واجب تفرضه علوم الطب على من يمارس الجراحة.
كذلك هناك قواعد عامة تعارف عليها المجتمع في ممارسة أنواع السلوك المختلفة لأفراده والتي يعتبر الالتزام بها مراعاة لواجب الحيطة والحذر، وتحديد ما إذا كان الجاني قد التزم بهذه القواعد يرجع إلى معيار الرجل العادي في مثل نفس الظروف التي كان فيها الجاني.
ويتحقق الإخلال بواجب الحيطة والحذر حين يتخلى الشخص كلية عما هو مفروض عليه من التدبر والحيطة، أو حين ينزل عن الحد المطلوب، وهذا الإخلال من شأنه أن تصبح صورة السلوك الواقع مخالفة لصورة السلوك الواجب.
ولا ينبغي الخلط في هذا الصدد بين خطأ الشخص وما وقع منه من سلوك، فالسلوك هو جوهر الركن المادي أما الخطأ فيمثل الركن المعنوي، وفيه تكمن السببية النفسية للسلوك، فالشخص الذي يقطع شجرة قائمة على طريق عام فتسقط على بعض الناس فتصيبهم يرتكب جريمة غير عمدية، والسلوك الإجرامي هنا هو الفعل الذي أسقط الشجرة وأفضى إلى الإصابة، وهذا الفعل مجردا لا ينطوي على خطأ، إذ لا إثم في قطع الشجرة، أما الركن المعنوي فيتمثل في اتجاه الإرادة إلى الفعل دون اتخاذ التدابير اللازمة لمنع الضرر، أي في اتجاه الإرادة إليه مع الإخلال بواجب التدبر والحيطة، واقترن الإرادة بهذا الإخلال هو الذي يجعلها آثمة.

ثالثا: صور الخطأ غير العمدي

إن صور الخطأ غير العمدي متعددة، وهذا ما يستخلص من نص المادة 288 من قانون العقوبات التي تنص في جنحة القتل الخطأ على ما يلي "كل من قتل خطأ أو تسبب في ذلك برعونته أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله أو عدم مراعاته الأنظمة يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبغرامة  من 20.000.00 إلى 100.000.00 دج"
من خلال نص المادة المذكورة أعلاه نستنتج وأن صور الخطأ غير العمدي هي على النحو التالي :

1/ الرعونة:

يعني هذا التصرف سوء التقدير ونقص في الدراية والطيش، ومثال على ذلك المرأة التي ترمي جسما صلبا من النافذة فتصيب عابر سبيل، أو الصياد الذي يطلق النار على طائر في مكان آهل بالناس فيصيب أحد المارة.

2/ عدم الاحتياط:

يعني هذا التصرف عدم التبصر بعواقب الأمور رغم أن الجاني يدرك أنه قد يترتب على عمله نتائج ضارة ومع ذلك يقدم على نشاطه، ومثال على ذلك الشخص الذي يقود سيارته بسرعة فائقة في وسط مزدحم بالناس معتمدا على مهارته في تجنب النتيجة، ولكنه لا يفلح إذ يصطدم بأحد المارة في الطريق.

3/ الإهمال وعدم الانتباه:

يختلف هذا التصرف عن الذي قبله في كونه تصرف سلبي، بحيث يحدث الخطأ نتيجة موقف سلبي من طرف الجاني نتيجة لترك واجب أو نتيجةالامتناع عن تنفيذ أمر ما، ومثال على ذلك الممرضة التي تحقن المريض دون أن تجري عليه خبرة الحساسية، أو كمن يحفر حفرة أو يضع كومة من التراب دو ىوضع أية إشارة تدل على ذلك.

4/ عدم مراعاة الأنظمة:

هذه الصورة تشمل خطأ من نوع خاص نجد مصدره في القانون، ويرتب المسؤولية عما يقع بسببه من نتائج ضارة ولو لم يثبت على من ارتكبه أي نوع آخر من الخطأ.وتشمل عبارة الأنظمة، القوانين واللوائح التنظيمية بل وحتى أنظمة بعض المهن والحرف المنظمة، ونأخذ على سبيل المثال مخالفة قوانين الأمن العام وأنظمة السير و الأنظمة الصحية والبلدية والتعليمات الخاصة بالسلامة العامة، وكذا أنظمة الصحة والأمن في المصانع والمعامل و الورشات.يثور التساؤل في قانون العقوبات الجزائري بالذات حول صور الخطأ، هل وردت في نص المادة 288 قانون العقوبات على سبيل الحصر أم على سبيل الحصر أم على سبيل المثال؟
والرأي الغالب يجعل أن هذه الصور الممثلة في الرعونة وعدم الاحتياط والإهمال وعدم الإنتباه وعدم مراعاة الأنظمة قد وردت على سبيل الحصر، مما يتعين على القاضي عندما يحكم في جريمة غير عمدية أن يثبت وأن الخطأ غير العمدي يدخل ضمن الصور الواردة في نص المادة 288 قانون العقوبات دون أن يجتهد في إيجاد صورة أخرى خرقا لمبدأ الشرعية.

رابعا : أنواع الخطأ غير العمدي

يجزأ الخطأ غير العمدي إلى عدة تقسيمات ندرس منها تقسيمه إلى خطأ يسير وخطأ جسيم، وإلى خطأ جنائي وخطأ مدني، وإلى خطأ عادي وخطأ فني.

1/ الخطأ اليسير والخطأ الجسيم:

يتدرج الخطأ يسير وخطأ جسيم، وإن كان هذا التقسيم ليس ذو أهمية بالنسبة للمسؤولية المدنية إذ بمجرد حصول الضرر تقوم المسؤولية، ولا يهم إن ترتبت بناء على خطأ يسير أو خطأ جسيم، وعلى العكس من ذلك فهذا التقسيم له أهمية في المسؤولية الجزائية على أساس أن من الفقه من يشترط الخطأ الجسيم لقيام هذه المسؤولية، وإلا أن الرأي السائد لا يؤيد هذا الطرح ويجعل كلا الخطأين تقوم بهما المسؤولية الجزائية، وحتى أن المشرع الجزائري لم يميز بينهما في قانون العقوبات.

2/ الخطأ الجنائي والخطأ المدني:

على نفس الطرح المقدم سابقا، فإن من الفقه من يميز بين الخطأ الجنائي والخطأ المدني بالقول بوجوب أن يكون الخطأ الجنائي محددا وجسيما لقيام المسؤولية الجنائية على خلاف المسؤولية المدنية التي يكفي فيها أي خطأ مهما كان يسيرا أو غير محدد لقيامها، إلا أن الرأي الراجح يذهب إلى تقرير وحدة الخطأ في القانونين، وعدم اختلاف عناصره ودرجاته.

3/ الخطأ العادي والخطأ الفني:

الخطأ العادي هو الخطأ الذي يقع بسبب الإخلال بواجبات الحيطة والحذر العامة التي يلتزم بها الناس كافة، أما الخطأ الفني فهو ما يتعلق بالخروج على القواعد العلمية والفنية التي تحدد أصول مباشرة إحدى المهن مثل الطب و الصيدلة ومهنة المحاماة.
وقد ذهب رأي إلى عدم قيام المسؤولية بناء على الخطأ الفني حتى لا يؤدي ذلك إلى عرقلة التقدم العلمي، لعدم اطمئنان رجل الفن وتهديده الدائم بالمسؤولية عن أخطائه الفنية مما يعيقه عن التجديد والابتكار، وذهب رأي آخر إلى التمييز بين أخطاء الفنان وقيام مسؤولية فقط بالنسبة للخطأ الجسيم دون الخطأ اليسير، إلا أن الرأي الذي عليه غالبية الفقه، لا يميز بين أخطاء الفنان، ويقرر مسؤوليته عن أخطائه العادية والفنية سواء كان الخطأ يسيرا أو جسيما.
أما ما يدعيه بعض الفقه من الخشية من عرقلة  التقدم العلمي فليس لها أساس من الناحية القانونية لأن مسؤولية أهل الفن عن الخطأ الفني يتم تحديدها بالنظر إلى القواعد العلمية المستقرة إلتي تحددها أصول مباشرة مهنهم.

المرجع:


  1. عبد الرحمان خلفي، محاضرات في القانون الجنائي العام، دراسة مقارنة، دار الهدى، الجزائر، سنة 2013، ص 156 إلى ص 165.
google-playkhamsatmostaqltradent